الوسطية
دين المسلمين
الحمد لله وبعد: قال الله تعالى: (وكذلك
جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا﴾ أي عدولاً خياراً,
لأنهم الشهداء على الأمم, بل هم شهداء نوح عليه السلام حينما يكذّبه غدًا قومُه بنفيهم
تبليغه رسالة ربه, ورسولهم صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم. فهم موصوفون بالوسط بمعنى
الخيار العدول, فكذلك نهجهم بين الغلاة والجفاة, فهم في موضوع الربوبية وسط بين الملاحدة
النفاة, وبين الحلولية والاتحادية, وفي الأنبياء بين مكذبيهم ومؤلهيهم, هكذا اضطرد
منهجهم في العقيدة والأحكام والتعاملات, والأخلاق والسلوك, فإذا رأيت طرفي نقيض فثَمّ
حق في الوسط, يمثّله أهله من صادقي الاتّباع.
قال تقي الدين رحمه الله في رسالته الجامعة
المانعة (الواسطية) واصفاً منهج أهل السنة والجماعة: «هم الوسط في فرق الأمة كما أن
الأمة هي الوسط في الأمم, فهم الوسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية
وأهل التمثيل المشبهة, وهم وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية, وفي
باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم, وفي باب أسماء الإيمان والدين
بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين الروافض والخوارج».
فردود الأفعال غالبًا لا تتّسم بالانضباط
والموضوعية, بل يسوقها الانفعال ويقودها الغضب, فلا تتوقف في رد ما تراه باطلاً عند
منطقة الحقّ, بل تتجاوزها إلى الطرف الآخر المخالف, وكلا طرفي قصد الأمور ذميم, وعلى
سبيل المثال لما خرجت الوعيدية (الخوارج والمعتزلة) قابلتهم الوعدية (المرجئة), وكذا
الجبرية ضد القدرية (النفاة), والتعطيل في مقابل التمثيل, والنصب مقابل الرفض, والغلو
(المعاصر) في التكفير مقابل الإرجاء (المعاصر), والافتئات ضد السلطان مقابل التهالك
عليه.. وهكذا.
هذا وإن أول نزاع في الإسلام كان قد وقع
في مسألة الوعد والوعيد. وقد اشتمل الوحي بشقيه القرآن الكريم والسنة النبوية, على
نصوص الوعد والوعيد, وأهل التوفيق والسعادة هم أهل السنة والجماعة الذين أعملوها جميعاً
ولم يكذبوا بشيء منها, (كلٌّ من عند ربنا).
ومن تطبيقاتهم العملية لهذا المنهج السلفي
المستقيم لتحقيق الوسطية والخيرية حديث الإمام الزهري رحمه الله؛ فقد حدّث الزهري بحديث
الرجل الذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار بعد موته ويذرّوا رماده.. الحديث متفق علي
صحته, ثم أردفه بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة.. الذي رواه مسلم, ثم قال رحمه
الله مبيناً سبب روايته للحديثين في مجلس واحد: «لئلا يتكل رجل, ولا ييأس رجل». قال
الإمام النووي رحمه الله معلقاً: معناه؛ لمّا ذكر الحديث الأول, وما فيه من سعة الرحمة
وعظم الرجاء, فضمّ إليه حديث الهرّة الذي فيه من التخويف ضد ذلك؛ ليجتمع الخوف والرجاء..
وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء.
هذا وإن ومن أشد ما جوبهت به الدعوة السلفية
رميها بالتكفير بإطلاق, من قبل المرجئة أو ممن تأثر بهم, والمتتبع لتدوينات كثير
من منتسبة السنة يفزع لرواج هذه الشبهة عليهم, وهذا من غربة العلم الأصيل والله
المستعان, قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:
ونبرأ من دين الخوارج
إذ غلوا بتكفيرهم بالذنب كل موحد
وظنوه ديناً من سفاهة
رأيهم وتشديدهم في الدين أي تشدد
ومن كل دين خالف
الحق والهدى وليس على نهج النبي محمد
وحينما قيل للشيخ حمد بن ناصر بن معمر
رحمه الله: إنكم تكفرون الناس بالمعاصي, قال: «ليس هذا من قولنا بل هذا قول الخوارج
الذين يكفرون بالذنوب, ولم نكفر أحداً بعمل المعاصي, بل نكفر من فعل المكفرات كالشرك
بالله أن يعبد معه غيره...»
فباب التكفير غليظ, كما أن
باب الإرجاء سرب مهلك, فالمكفرات محددة في الشرع, ولها ضوابط وشروط وموانع, فلا
نتوقف عن تكفير من قام كفره وبلغته الحجة الرسالية, كما لا نتخوض التكفير بلا ضابط
ولا علم, وكل
ذلك بدلائل الشريعة لا بالهوى والتعصب.
ملاك القول: أن كل عمل فلشيطان منه حظان لا يبالي بأيهما فاز, إما
تخذيل عن طاعة فيقع العبد في التقصير, أو تنطع فيها فيركب قلائص الغلو. وكلا طرفي
قصد الأمور ذميم.
ومضة: أحيانًا نظن أننا ننصر قضية ما ونعلي شأنها، بينما نحن في الحقيقة نظلمها
ونحط منها! وذلك بعرضها بشكل ضعيف مع تسطيح الردود على ما يورد عليها.
إبراهيم الدميجي
6/ 10/ 1435
aldumaiji@gmail.com