إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الخميس، 5 مارس 2020

الابتلاء بالأسقام


الابتلاء بالأسقام
الحمد لله حمدًا يليق بجميل فضله وعميم جوده وسابغ إحسانه، والصلاة والسلام والبركة على خيرته من خلقه ومصطفاه من عباده وخليله وكليمه نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، أما بعد:
فليس للمؤمنِ مندوحةٌ عن التّفقُّه في سنن الابتلاء، وأنّ الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، وأنّ أمرَ المؤمن كلَّه خير، فالحكيم سبحانه يبتلي عباده حتى يستخلص خُلاصتهم لخُلاصة كرامته. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ عِظَم الجزاء مع عظم البلاء، وإنّ الله تعالى إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط". وهذا صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله تعالى. وكم من عبوديةٍ يحبها الله غرسها وأصلحها في قلب عبده بسبب مصيبة في دنياه. وحسبُكَ داءً أن تَصِحّ وتَسْلما.
وعن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له". فعليك براحلتَي الشكر والصبر -باركك الله تعالى-.
إن الحياةُ كلُها ابتلاء لقياس صلاحية الإنسان لسكنى الجنة أم لا، فالجنة هي لأحباب الله المؤمنين الصادقين الصابرين، فإذا ضعف أحدهم بخطيئة في دار الامتحان؛ ابتلاه ربه بتكديرٍ يرفأُ شقّ ثوبِ إيمانه، وبمصيبةٍ ترفعُ درجته، وتكفّر خطيئته، وتُنَبِّه قلبَه من غفلته. ففي كل عثرة في حياتك، ‏ومنعطفٍ من عمرك، ‏وخيبةِ أملٍ فيمن حولك؛ ‏اهتف بنفسك: هذا ابتلاءٌ من ربك: (لننظر كيف تعملون) فتأملها جيدًا، فإن في طيّ المحنِ مِنحًا، وأتونُ الكَيْرِ يَفْرُزُ صِدقَ اللجينِ من زيف النحاس، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وكل أمرٍ قرّبك من ربك فهو خير، وكما قيل: يا بن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك. فتفاءل بالله وأحسن الظن به، واعلم أنه أشدّ من المصيبة انتظارها. وكثيرًا ما تكون النهايةُ عبارةً عن بداية جديدة، فالمتفائلُ يجعلها دَرَجًا لمجده، والمتشائم يُصيُّرُها قبرًا لهِمّته. ومن أجمل ما كتبه ابن القيم رحمه الله عبارة تستحق الوقوف الطويل في محراب تأملها: "يا بن آدم، كلٌّ يريدك لنفسه، إلا الله، فإنه يريدك لنفسك".
وكم لله من لُطْفٍ خفيٍّ ...  يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ
وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ...  فَفَرَّجَ كُرْبَة َ القَلْبِ الشَّجِيِّ
وكم أمرٍ تساءُ به صباحًا ... وَتَأْتِيْكَ المَسَرَّة ُ بالعَشِيِّ
إذا ضاقت بك الأحوال يومًا ...  فَثِقْ بالواحِدِ الفَرْدِ العَلِيِّ
 ومن أنواع الابتلاء الأمراض والأسقام التي يقدرها الله على من رحم من عباده، فالمريضُ المؤمنُ المدنف، ساكنُ النفس، لاهجٌ بحمد ربه بإِنعامه عليه بهذا البلاء! ولكنّ غير الواثقين بربهم لا يعلمون حقائق كنوز الرضى وذخائرَ الثقة. إنه يقرأ في منشور فلاحه وصفًا للمرضيِّ عنهم: (العابدون الحامدون السائحون) ويتدبر قول ربه: (والله يحب الصابرين) فتهفو نفسه الواثقة لمزيد من اليقين حتى يكون الخبر كالمعاينة. وكم من مريض أو مكروب أو مضرور يفتح الله له بابًا لمناجاته والأنس به حال كربه ومرضه، حتى إذا زال كرْبُه؛ فَقَدَ معه كثيرًا من موارد ذلك الأنس والسرور والمناجاة.
والمؤمن يرى الأمراض نعمًا لا عذابًا، هو لا يطلبُها بل يسألُ ربّه العافية، لكن إن نزلت به صبر ورضي وشكر. فأسقامُ الجسد على ثلاثة أنحاء:
فمنها العارض ومن أعظمه الحُمّى -أمُّ مِلْدَمٍ -فهي تدخل كل عضو وتفورُ في كل مفصل، فهي كفارة طيّبة للخطيئات.
 الثاني: أمراضٌ ملازمة تحل معه وترتحل، لا تفارقه في فراشه ولا طعامه ولا لذته ولا عبادته كالسكَر والضغط والعاهة ونحو ذلك من الأسقام التي يسمُّونها: الدائمة، فهي نِعْمَ الصَّاحبُ والرفيقُ في الطريق للآخرة، فالجسدُ يتأقلمُ ويتعايش معها على طول السنين، فلا يتأذى بها كشِدَة العارض النازل، مع ذلك فهي تنظّفُ صحيفته وتُنقّيها على مرّ الأيام من الذنوب، حتى إذا وافى العبدُ ربَّه إذْ الكثيرُ من خطاياه قد زالت بسبب تلك الأسقام في دنياه.
والثالث: الأسقام المُفضيةُ للوفاة بإذن الله تعالى، فمنها ما هو شهادةٌ لصاحبها، ومنها دون ذلك، وكلها خير ونعمة لمن احتسب الأجر ورضي بالله ربًّا مدبِرًا، وحمدَهُ على كل حال، وشكره على كل فضل. وبالجملة: فالمؤمن يعلم أنّ المصيبة كفارة للسيئات ورفعة للدرجات، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة. وقال إبراهيم المقري وقد رفسته بغلته فكسرت رجله: "لولا مصائب الدنيا؛ قدمنا على الله مفاليس".
والمرضُ لا يُقرّبُ الأجلَ، ولا الصحةُ تدفعُهُ، إنما هي أسبابٌ مجرّدة، أما المُسَبِّبُ الخَلّاقُ الذي يُنزل الداء ويرفعُهُ ويُحيي ويُميت فهو الله وحده، فالمؤمن يبذل السبب وقلبه معلّق بالله تعالى. حتى من أصيب بمرض خطير كالسرطان فهو بين إحدى الحسنيين؛ شفاء أو شهادة بإذن الله، لأنّه إن لم يدخل فيه بالنص كالطاعون والمبطون ومريض ذات الجنب؛ فهو داخل بالمعنى للعلل التي ذكرها العلماء في توصيفهم لأمراض الشهادة.
ومن رحمة الله بعبده أن تأتيه رسلُ ربه كالأمراض الخطيرة، فتُلمحُ له بقرب رحيله إليه، فيستعد للقاء الله ويشتاق بتوبة وعمل، ويتخفّف من كدر الدنيا لراحة الآخرة، وينفض عن ظهره أوزار الخطايا ومظالم العباد، إنما الفاجعة بموت الفجأة للمفرطين الغافلين، والله المستعان.
إن المؤمن يفرح بالله ويرضى بقضائه، وإن السعيدَ من ولد آدم هو من كان عظيمَ الإيمان راسخَ اليقين رخيَّ البال بالقناعة، وهي الحياة الطيبة، والمؤمن ينتظر من الله أجر صبره وحمده، فعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس، يخرُّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخَصاصة -أي من الجوع، وهم أصحاب الصفة - حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين. فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: "لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى، لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة". رواه الترمذي وصححه.
والله تبارك وتعالى يبتلي أولياءه حتى إذا ضاقت أمورهم فرّجها برحمته، وإن تعسّرت أحوالهم يسّرها بفضله، وإن أظلمت نفوسهم نوّرها بهُداه، وإن انقطعت سُبُلهم وصلها بإحسانه، فهو طبيب عباده يبتليهم ليرفع درجتهم ويطهّرهم، وفرجه لهم عند حاجتهم أقرب إليهم من رمش عيونهم، فليس مع الله ضيعة. وغمسةٌ في الجنة تُنسي شقاء الدنيا كله!
يا صاحب الهم إن الهم منفرج... أبشر بخير فإن الفارج الله
وإذا بُليت فثق بالله وارض به.... إن الذي يكشف البلوى هو الله
والله ما لك غير الله من أحد... فحسبك الله في كل لك الله
فالبلاء إن نزل معه الصبر والرضا فهو رحمة ونعمة، فإن قابله بجزع وتسخّطٍ فهو عذاب إلى عذاب. فكلُّ مصيبة ليست في الدين فهي نعمة في الحقيقة.
 وأولياء الله مهما اشتدت بهم البلايا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، وبالجملة؛ فالمبتلى في دنياه إن رُزِق الثقة فلا عليه ما يفوتُه من الحطام، ولْيعلم أنّ الفرج أقرب له من مارِنِ أنفه، وكفى بالإيمان حظًّا، "ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم".
فاشدُد يديك بحبل الله معتصمًا  ...  فإنّه الركن إن خانتك أركانُ
وليس على المؤمن أن يتمنى البلاء، بل عليه أن يسألَ الله العافية، فإن نزل بلاء صَبَرَ ورضيَ وحمد وشكر، فهو متوكل على ربه وراضٍ عنه قبل وقوع البلاء وأثنائه وبعد زواله، لا تزيده الابتلاءاتُ إلا يقينًا، ولا المصيباتُ إلا صبرًا، ولا المسرات إلا شكرًا وزُهدًا، وهو على الدوام يسأل ربَّه عونَهُ وتوفيقه وحفظه، والله لا يخلف وعده بإجابة من دعاه. وفي دعائكَ ربّك: لا تنس: اليقين.
وليس كلّ من ظنّ بنفسه الصبر والرضى وقت السعة والرخاء يكون كذلك وقت الضيق والشدة، فالنيّة قُلّبٌ، والعزائم تنفسخ، والعقل يعزُب، والعزيمة تخور، والنفس تضعف، إن لم يكن الله تعالى معه بلطفه وحفظه. فاستودِعْ نفسَك ومن تحبّ من لا تضيع لديه الودائع، وذلك الله وحده.
 ولمّا بثّ الله الخلائق اختار لك هذا الزمان وهذا المكان ليكونا محل الابتلاء الإلهي لك، فكن خيرَ ذاكرِ صابر حامد شاكر تائب مستغفر. واعلم أنّ للمؤمن بحرٌ لا تكدره مصائب الزمان، إنه بحر الرضى بالله تعالى، فاغمِسْ كلَّ همّ لك في بحر الرضى بالله، حينها تنطفئ نيران المصيبة ببرد السلام. فليس مرادُهُ أن يُعذِّب، ولكن يَبتلي ليُهَذّب.
دعِ المقاديرَ تجري في أعَنّتِها  ...   ولا تبيتنّ إلا خالي البالِ
ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها   ...  يغيّر الله من حالٍ إلى حالِ
 واعلم أنّ قدرَك إنْ لم تذهب إليه؛ جاء إليك. فكن لله، وبالله، ومع الله، وإلى الله؛ فهو الغاية وما سواه هباء، وهو الباقي وما سواه فناء، وهو الحقُّ وما سواهُ باطل، قال سبحانه: (وأن إلى ربك المنتهى) وقال: (وأن إلى ربك الرجعى) فمهما سلكتَ من دروب الحياة خيرًا أو شرًّا، سرورًا أو حزنًا، صحة أو سقمًا، شوقًا أو خوفًا؛ فإليه وحدهُ المنتهى.
وبعد؛ فاتق الله يا عبد الله، واحمد الله تعالى واشكره كثيرًا على أن فضّلك على غيرك تفضيلًا بالعلم به والفرح به والأنس به في وقتٍ ترى فيه من يفرّ من الله حال شدته وكربته، فلا يفزع للصلاة والدعاء، بل لسفر أو لهو أو مسكر (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).
ويامن ابتلاك الله بسقم في جسدك عليك بالتالي:
أولًا: الرضى بمُرّ القضاء، فمن آمن بالله ربًّا؛ رضي بمقاديره عليه، وتيقّنَ أنّه يتقلّب في قدرته وحكمته ورحمته ولطفه، وأنّه منتظر للفرجِ في الدنيا وللأجر في الآخرة.
ثانيًا: الإلحاحُ على الله تعالى في الدعاء، فهو من أنزل الداءَ وهو وحده القادر على رفعه. قال تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله). والتوحيد والتوكّل والدعاء هي أعظم علاج بإذن الله، قال ربنا: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه عما سواه.
ثالثًا: الرقيةُ الشرعية بالقرآن وبما صح من أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى عن القرآن: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعا من خشية الله) فكيف بلحم ودم وروح. واعلم أن القرآن شفاءٌ لكل مرض بلا استثناء: جسديًّا كالحمى والسرطان أو روحيّا كالعين والسحر. ولكن لا بد أن تتيقّن من أنّ القرآن شفاء، لا أن تأخذه على سبيل التجربة، والله تعالى قد قال في كتابه: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) فقد وصفه بالشفاء المُوجِب للعافية بإذن الله، ولم يصفه بالدواء الذي قد ينفع وقد لا ينفع، فالقرآن كله شفاء، وبعضُ آياته أبلغُ في الشفاء كالفاتحةِ وآيةِ الكرسي والمعوِّذات.
والأفضلُ والأكمل أن يرقيَ المريضُ نفسَه فهي أبلغ وأقوى وأخلص. ومن صفات السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب أنهم "لا يسترقون". أي لا يطلبون الرقية من غيرهم بل يرقون أنفسهم.
رابعًا: على المؤمن أن يأخذ بأسباب الشفاء من الأدوية المباحة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "عباد الله تداووا ولا تداووا بحرام).
 وفي الأمراض الوبائية ينبغي اتخاذ الأسباب التي أمر بها الشرع، فمن كان في البلد المطعون فلا يخرج منه فرارا منه، ومن كان خارجَه فلا يدخله، مع التوكل التام على الله تعالى في كل الأمور.
ولا بد للمؤمن في كل أمره من حراسة كنز إيمانه ويقينه وتعلقه بربه تبارك وتعالى، والدنيا بلا إيمان خراب بلقع، مهما تعطّفت ملذاتها، واشمخرّ ترفها، أما الإيمان فهو السبيل الوحيدُ الموصل لطيب العيش وسكينة الأبد وسعادة الخلود. وتذكّر أن الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل. وإنّ الدنيا بطمعها وشدتها فانية نافدة، أما الذي عند الله من أجرٍ ورضوانٍ وجنة وكذلك من نار وعذاب؛ فهو الباقي الذي لا نفاد له، (ما عندكم ينفد وما عند الله باق).
تَفنى اللَذاذَةُ مِمَّن نالَ صَفوَتَها ...  مِنَ الحَرام وَيبقى الإثم وَالعارُ
تُبقي عواقِبُ سُوءٍ في مَغَبَّتِها ... لا خَيرَ في لَذة مِن بَعدِها النارُ
إبراهيم الدميجي