(ولا
تنازعوا فتفشلوا)
محدّداتٌ تأصيليّة شرعيّة لنبذِ
أسبابِ التفرّقِ السّلفي
آمل من كل من همّ بقراءة أحرف هذه الرسالة أن يقرأها
بتجرّد وإنصاف لا بتعصّب واعتساف، فالتعصب يُعمي والاعتساف يُعشي والإنصاف يوصل
للهدى بإذن ربنا.
وأن يُبقي لحسن الظن موقعًا من قلبه النبيل، وأن يتذكّر
الموقف غدًا بين يدي علام الغيوب قبل أن يغلق الرهن فلا يجد له فِكاكًا.. فاعرض ما
فيه – يا رعاك الله - على الوحي المنزَّل، فما وافقه فعضّ عليه ولو عُوديت لأجله،
وما خالفه فلا عليك أن تطويه مستغفرًا لكاتبه وناصحًا..
شاكرًا فضلك
سلفًا بقراءته في وقت طاردت أشغاله الدقائق، وأفرغت أشتاتُ الآمال حقائبَ الأعمار،
وما ثَمَّ إلا محضُ توفيق الله أو الهلكة! فرحماك ربي وغفرانك. إن أريد إلا
الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
سائلًا ربي أن
يسلك بي وبك جادّة أهل السنة والجماعة، وألا يزيغنا بمضلّات الفتن، وقد كتبتُ
حروفي موقنًا أن المِداد أبقى من العمر وقد يكون أوفى من الولد، إن كتب الله له
توفيقًا.. فالله وحده المسؤول أن يجعلها لي وللقارئ من الباقيات الصالحات والأعمال
المتقبلات والعلم النافع والأسباب الموصلة لرحمته ورضوانه، إنه هو البر الرحيم.
(تمهيد)
الحمد لله الرحمن الرحيم، أمر بالاعتصام بحبله
والاجتماع، ونهى عن الفرقة والتنازع والضياع، جعل أُخوّة الدِّين من الدِّين، وأمر
بالموالاة فيه في كل حين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق وقدّر،
وملك ودبّر، وشرع ويسّر، فله جميل الحمد مقدّمه والمؤخر، وأشهد أن محمداً عبد الله
ورسوله النبيّ الخاتم والمصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين
ومن تتبعهم بإحسان، أما بعد:
فإن مما يكلم
فؤادَ الناظر لحال المسلمين في هذا الزمان ويحيّر لبّه؛ ما يراه من اجتماع أصناف
الأذى في الدين والدنيا على أمتنا المحمدية؛ من جهل وفرقة وتشريد وتجويع وحرب
عقيدة وبدع وشرك وتنصير وإلحاد وغزو فكري وعسكري واحتلال مقدّسات وترويع آمنين وتهجير
سكان وذبح أبرياء.. وقُلْ ما شئت من ألوان الذل والهوان التي شربتها الأمة حتى غصّت
بها وحشرج حلقها كارهًا لها! ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن
كثير) فهل بعد هذا الليل من آخر؟! وهل بعد ذا التفرّق في الدين والدنيا من وئام
واجتماع؟! لعلّه.
إن الأمة في هذا الزمن الذي استدارت على قصعتها أيدي
الكفرة والفجرة، ورُميت من نبالٍ عديدة، وانكسرت على كاهلها النصال على النصال؛
لهي حقيقةٌ فورًا بنبذ أسباب التفرّق وتحصيل طرائق الاجتماع (واعتصموا بحبل الله
جميعًا ولا تفرقوا)
يا تُرى أين الخلل؟ يا أصحابنا: أليس كتاب الله وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم بيننا؟ ألم يقل الله تعالى عند نزاعنا: (فردوه إلى
الله) متى ننبذ حظوظ النفس الأمارة لهتاف النفس المطمئنة (والله خير وأبقى)؟!
ومن يطلب الدنيا يُرَجّيْ
نوالها ... فقد خاب سعياً وهو للغبن مُرمِلا
إن داء الأمّة منها، كامنٌ في جوفها، ودواؤها في يدها
إن رامت عافية وشفاءً، فمصيبتنا في أنفسنا أعظم من مصيبتنا بأيدي أعدائنا، ولو
اعتصمنا بحبل الله حقًّا ما أدالهم الله علينا، لكننا خَذَلْنا دينَنا فخُذلنا،
ولو عُدنا لرحابه ورياضه كما أُمرنا لعادت لنا عزتنا وشموخنا.
أن الأدواء في جسد الأمة كثيرة ومتشعّبة، قد أعيت من
يداويها جملة، ولكن مع فرْزِ كلّ داء وتحجيمه واحتوائه وتوصيفه وتوصيف علاجه نكون
قد أصلحنا عضوًا من أعضاء جسدنا المنهك بأمراضه، وبنينا لبنةً في بناء خيريّتنا
التي أمرنا الله بها وحثنا عليها ووعدنا بمددٍ ومعونة من لدنه "وليمكنن لهم
دينهم الذي ارتضى لهم"
لقد أصبح التنابز بالألقاب بين بعض أهل الديانة سائغًا
شائعًا! فمن حذّر من البدع أو فِتَنِ الخروج على الحاكم المسلم وصموه بكذا وكذا وأنه
مداهنٌ للسلطان، ومن أنكر المنكرات وبذل جهده في الدعوة الى الله بالإحسان وسعى
لجودة عمله وترتيبه وصفوه بالحركيّة والحزبية، ومن نادى بالجهاد في سبيل الله
والاحتساب على الظالمين الفجرة وصموه بالتكفير والغلوّ. (هو سمّاكم المسلمين) (وكونوا
عباد الله اخوانا)
يا لَلعجب! لقد
ناب بعض قومنا عن الشيطان في تثبيطه عن الخير، فأين الخلل إذن؟ إن الخلل يكمن في
غلوّ فئةٍ ما في أمر من أمور الدين وحصر الدين – عمليًّا – عليه، وإسقاط ما عداه
ولو بلسان الحال واللزوم.
فنجد مثلًا من
يحصر الدين ومسائل العلم النازلة في طاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه، والزيادة
على ذلك بتسويغ منكراته واعتبار شهواته هِدايات! ويشدّ كتائب حملاته المصميّة
على إخوته الدعاة وهدم صروح الدعوة إلى الله وإجهاضها.
وفي المقابل نرى من قبع متتبعًا عثرات ولاته وزلات
أُمرائه والاشتغال بنشرِها والتشغيبِ عليهم بها عند العامة والخاصة، مع الإغضاء عن
حسناته واستصغارها، والطعن في نيّته بها، واتّهامه بولاء غير أهل الإسلام ونحو
ذلك، فيبتدئون الشبر وينتهون به ميلًا - إن انتهوا! -.
وفي الجانب
الثالث نرى من حصر فتاوى الجهاد ونوازله على من كان في جبهات القتال، قد غضّ طرْفه
عن تمكّنهم العلمي وتأصيلهم الشرعي وسِنّهم المعتبر بالتجارب والنضج وزكاتهم وورعهم،
بل حتى عن معرفة أشخاصهم! وبإزاء هذا النفخ الباطل نراه يُزري بلا مبالاة بمن شابت
لحاهم في رياض العلم والتعليم، ورميِ كلّ من لم ينفر أو تكلم في ضوابط الجهاد
وتحرَّز في مسالك التكفير والحكم بالارتداد: بالقعود والركون إلى الظالمين
والطواغيت، هذا إن سلم من وصمهم بالارتداد عن الملة!
إذن فإذا أردنا
تصحيح المسار فلنبدأ بأنفسنا، ولنقم لله تعالى بتهذيب النفوس مما علق بها من مسائل
شبهات استبطنتها شهوات رَغَبٍ ورَهَبٍ، والله مع المتقين.
ولا بد لكل من تسنّم أمر قِيَادٍ أن يُحسن النصح للناس
وأن يترفّق بهم وأن يُجهد نفسه لإيصالهم شاطئ الفلاح والسعادة في دار الحسنى
والزيادة، وأن يترسّم خطى نبيّه صلى الله عليه وسلم في شأنه كله عامّة وفي ما أوكل
إليه من ثقة الناس خاصة، والرائد لا يكذب أهله والحادب لا يخذل قومه، وكلٌّ مسؤول
عما استُرعي.
وخيرًا نفعل إن أصغينا إلى مواعظ القرآن ونصائح الزمان،
ففي كُرور الأيام عِبَرٌ، وفي تدبّر الأحداث على ضياء القرآن هدى ونور ورشد.
والحكيم الناصح هو من تنبه لانحسار الحياة عنه شيئاً فشيئاً، فما هي إلا أيام –
وإن طالت يسيرًا – حتى تطويه كما طوت أسلافه، ولن يتبقى له منها سوى صالحات القُرَبِ..
فاللهم رحمتك وتوفيقك وغفرانك.
يا إخوتاه: لابد من المصارحة وكشف المسألة وإجلاء الأمور
المختلفة المسببة لهذه القطيعة الفظيعة بين أهل الجسد الواحد والصف الواحد
والمعتقد الواحد! لابد من الاعتراف بالمشكلة، فهو أول خطوة لحلّها.
ومن أسباب غُثائية أمتنا في هذا الزمان: تشاحنُ وافتراقُ
من تأكّدَ عليهم التَّحابُّ والاجتماع! فتفكّكت العُرى الجامعة فأمست أمتنا
"ولكنكم غثاء كغثاء السيل". (1)
هذا وإن كثيرًا من طلبة العلم – مع تمكّنهم - قد عزف عن
الحديث في هذه القطيعة المخجلة بين طلبة العلم والدعاة بسبب ما يكتنف المجاهر
بخلاف طائفة معينه من هجوم السفهاء عليه واتهامه بأقذع مقذوفات الكَلِمِ ورميه
بسهام البهتان المصميّة. وفي الموطأ (2) مرفوعًا: "إن من شر الناس من اتقاه
الناس لشره" أي قبيح كلامه.
ذلك أن كل فصيل أو فئة - مهما كان صوابُ مُقدَّميها
وفضلُهم وورعُهم - فلابد من وجود أتْبَاعٍ رعاعٍ يصعب أو يستحيل تهذيبهم، يطيرون
مع كل مطيّر سُوءٍ ومُوقِدِ فتنة، فبعضهم يُؤتى من جهله، وبعضهم من سوء طويّته، وإن
كان الأول قد يُخطَمُ بالعلم فمن لك بالثاني الذي كمنتْ بين طيّات أعكانِ هواه
دغائلُ الحسد وغوائل الكبرياء وقروح الظلم؟! نَظَرَ لنفسه فإذا هو خامل الذكر فحسد
أخاه نبيهَ الصِّيت حين برّز عليه بأمرٍ هو محضُ فضل الكريم سبحانه، ولم يُحصّل
بحسده وبغيه سوى حصدِ الريح، وقَبْضِ اللا شيء، ولات حين الذي يرجو! (أم يحسدون
الناس على ما آتاهم الله من فضله)
وليس هذا الذي حسده لأجله بشيء إزاء حقائق العلم
والإيمان، فالأمر الحقيق بالغبطة غدًا هو رضى الرحمن (انظر كيف فضّلنا بعضهم على
بعض وللأخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلًا)
وإنما
المُعَوّل على التوفيق والقبول وحسن العاقبة، وكم من صالح ناصح في أعين الناس
ساقطٍ في درك الخذلان عند رحيله لربه، فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وأحسن
عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
أقول: إذا كان مَنَ مسّ طرَف طائفة بتلميحٍ لم يسلم
منهم، فكيف بمن حرّك على نفسه أعشاش الدبابير من مختلف الفئات والجهات جمعاء؟! ولكن:
(فسيكفيكهم الله وهو العزيز الحكيم) (ما على الرسول الا البلاغ) ومن كان مع الله
كان الله معه، ومن كان الله معه فمعه القوة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام،
والهادي الذي لا يضلّ. ولكن عليك بتحقيق (وإن تصبروا وتتقوا) حتى يوفى لك موعود: (
لا يضركم كيدهم شيئًا).
وذلك في ذات الإله وأن يشأ ...
يبارك علو أوصالِ شلوٍ مُمزّعِ
والعلم أمانة،
والكلمة أمانة، والنّصحُ أمانة، والتجربة أمانة.. ولكل أمانة غدًا طالب!
ولقد مضى قرابة ربع قرن وأنا مراقبٌ لهذه التيارات
الثائرة، متابعٌ لكثير من تدويناتهم وأدبياتهم وقالاتهم ومقالاتهم، وقد كتبت لك –
يا رعى الله قلبك - ثمرة ذلك التأمل في هذه الحروف المنثورة بجهد المقلّ وعجزِ
الضعيف ومأدبةِ المُمْلِق، فاجلُ رغوة اللبن الصريح بزبدته، وخذها وجبةً فكرية
وتجربة دعوية وقواعد شرعية، لك غنمها وثمرتها وليس عليك شيء من غرمها وتبعتها.
هي كلمات
اجتهدت أن أقيّدها بما أرانيه ربي حقًّا، ولا أدّعيه حقًّا مطلقًا، فلا عليك أن
تدع منه ما تراه للحق مخالفًا.
ويا قومي! إن الخطب جلل، والقضية خطيرة، فالفُرقة لا
يرضاها سوى مرضى القلوب، والحلّ عند النزاع هو الرجوع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم.
مؤلمٌ ومبكي ومخجل ومخُزي حينما يكون هذا التراشق
والتحريش بين الدعاة وهم يرون تساقط الأغرار في وحول الشكّ وانجرافهم مع تيار
الإلحاد وتلقّف التيارات المنحرفة الغالية لهم، وبدلًا من أن يُعتنى بهم في محاضن
تربوية هادفة جادّة من لدن الدعاة وطلبة العلم نراهم يسيرون حيارى بلا هادٍ يدلّهم
ولا ناصح يرشدهم ولا قدوة تأخذ بقلوبهم للصراط المستقيم، والسبب أن كثيرًا من الدعاة
– على قلّتهم - مشغولون ببعضهم، فهذا يأكل لحم أخيه ويأتدم ببهتانه، وذاك مشغول
بالمدافعة عن عرضه وحراسة ميدانه، وثالث أُصيب بالإحباط في مسيرة دعوته، ورابع وقف
بين بقيّتهم وبين الشباب المتلهّف للهدى فأخذ بحُجُزهم عنهم ودفعِهم على ظهورهم
لساح الحيرة والشك والضلال! وحسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا.
إنا لننثر الملح على جراحنا بالكلام حول هذا الأمر،
ولكن لا بدّ من مجابهة الأمر بشجاعة ونصح وصراحة وشفقة؛ لعل الله أن يهيئ القلوب
للاجتماع على البر والتعاون على الخير.
ومن المبكيات المروّعات ما جرى في إحدى المدراس حين أراد
أحد الأساتذة أن يُقيم منشطًا في تعظيم قدر الصلاة وعظم شأنها، فأتاه من الطلاب من
سأله بلهفة أن يُحيل ذلك المنشط للحديث عن وجود الله! – نعم عن وجود الله - لأن
هناك همسٌ بين بعض الطلاب بالتصريح بالإلحاد المطلق. فهل بقي للدعاة عذرٌ في إضاعة
جهدهم في هدم بعضهم؟ يا للعار معشر دعاتنا، يا للعار!
ويتفاقم الأمر حين يسكت من لا يحلُّ له السكوت خوفًا من
طعن الألسن لعرضه. فيا أخي: تفكّر وامضِ بعلم وحلم وعزم وحسن أدب، وقبل ذلك بإخلاصٍ
لوجه من لا يبقى إلا وجهه، وكُن أمّةً كأبيك إبراهيم حتى لو كنت على الحق وحدك،
ومن كان في سبيل الله تلفُه كان الله تعالى خَلَفُهُ.
وما هي إلا ساعة ثم تنقضي ...
ويذهب هذا كله ويزولُ
وإني لا أعلم في زماننا عالمًا ولا داعيًا ولا مجاهدًا
مهما علا كعب قدره وسما فضل جهده إلا وقد رمي بأحد هذه التهم والألقاب أو ما
شابهها وقاربها، وما نقص ذلك من قدرهم من شيء، فالعبرة بحقائق الأمور لا بالتنابز
بالألقاب من لدن من لا حياء يردعه ولا عقل يحكمه ولا ورع يكبحه.
فالعبرة إذن إنما هي بالحقائق والمعاني لا المسميات
والمباني، فالمعتزلة يَعدّون أنفسهم أهل التوحيد ويجعلونه أصل الأصول عندهم، مع
أنه في حقيقته نفي صفات الله تعالى وتحريف القرآن! وكذا ابن تومرت بالمغرب إذ سمّى
دولته المنحرفة الضالة بدولة الموحدين، مع أنه من أبعد الناس عن صفاء التوحيد
وطهارته.. فلا تغترّ بدندنة المتمادحين بأمور لم يوفوها حقّها.
وبطبيعة حال الغلاة نقمتهم على مخالفيهم ووصمهم بما
اسطاعوا من تهم التسطيح والتلبيس وسوء القصد، ولا عَجَب فالنفوس مجبولة على النفرة
مما يمنعها هواها.
يا قوم، إن الأمر اليوم يبتدئ بكونه خلافًا بين اثنين،
وبعد جيل يكون بين فئتين، ومن يدري كيف يكون بعد أجيال! "ومن سن في الإسلام
سنة سيئة فعليه وزرها"
قد يبعث الأمرَ العظيمَ صغيرُه ...
حتى تظلُّ له الدماءُ تصبَّبُ
ومع التشظّي
والتفرّق والنزاع والانتصار لحزبٍ سوى المؤمنين تنبثق آراء مخترعة جديدة في داخل
المنهج الواحد، فتكبر حتى تكون علامةً فارقةً بين أهل ذلك المنهج الواحد، فتؤول
الى تفرقته وتشظِّي أهله من جديد، وهكذا دواليك.. وهذا مضطرد في الفرق المخالفة
للحق، وكلما كانت بُنْيتُها ثوريّة وسلوك قادتها انفعالي كان التشرذم إليها أسرع
من السيل حال نزوله من الجبل، واعتبره بمناهج الخوارج وتفرّقهم وانبثاق مناهج من
أرحام مناهج سوى منهاج القرآن العظيم. "واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا
تفرّقوا"
وبربّك لو أن كل هذا الجهد الضائع لهؤلاء من أهل السنة قد
اجتمع على تبصير الناس وتفقيههم في المعتقد والأعمال والعبادات والرقائق والأخلاق
وكانوا قدوات سبّاقة للخيرات.. ألن يقترب الناس من ربهم أكثر؟ بلى، ولكن كتب الله
خلاف ذلك والحمد له على كل حال وهو الحكيم الخبير.
وما كنت راغبًا في هذا الحديث لأسباب كُثُر وإن
تلجلج بين حنايا الصدر زمنًا، ولكني جُررتُ له جرًّا لمَّا رأيت كثرة السائلين
الحيارى والخائضين في سابلته بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وسأجمل عرض بعض الفِقَرِ لشدة وضوحها واشتهارها
وتعاورها بين الألسُن وقلة الإيرادات عليها أو عدمها بالكليةً.
إن وفّق الله
بها وهدى فهذا الذي أبغيه، وإن كانت الأخرى فالله يتولى الصالحين ويتوب على
التائبين (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة)
كم من همومٍ أحرقتْ كبدي
التي ... بجوانحي لكنني أتجلّدُ
أوّاهُ دمعي لا تَبُحْ سرّي
الذي ... أكننتُهُ قلباً حزيناً يكمدُ
لكنّما اللّوعاتُ حينَ
أوارُها ... تجثوا على القلبِ القويّ فيهمدُ
تتهشّمُ الأضلاعُ من رجعِ
الصّدَى ... من أنَّةٍ مكلومةٍ تتردَّدُ
يا مقلتي ما عدتُ أقوى
صابراً ... جودي ببحرٍ زاخرٍ يتجدّدُ
بحرٌ خِضَمٌّ سُخِّنَتْ
أمواجُهُ ... من نار كبدي والضلوعُ تُقَدَّدُ
يا لائمي زدتَ الجروحَ
بمُهجتي ... أرفق بمن فيه الهموم تجسّدُ
ظنَّ الرفيقُ وقد رآني
ضاحكاً ... أنَّ السُّرورَ بمهجتي يتوقَّدُ
أو ما درى المسرورُ أن
بخافقي ... همٌّ ثقيلٌ جاثمٌ يتنهّدُ
قد قلتُ ذلك والمنيرُ بدربه ... ليلٌ
طويلٌ والدُّجَى يتمدّدُ
(مرجعيات)
لا بد لنا في البداية من محكمات مجمع عليها ويُرجع إليها
عند الخلاف، وكلها راجعة إلى مرجعيّة الوحي، وهي:
التوحيد، واتّباع السُّنة، والإجماع، والاجتماع، وأخوة
الإسلام، وحفظ حق العلماء مع عدم عصمة فرد بعينه.
فهذه محكمات لا
تقبل المساومة، ومن رام الوصول فعليه بالأصول.. وسأذكرها بإيجاز.
(مرجعيّة الوحي)
من لم يثق في الوحي ثقة مطلقة فلا ترجُه، وهذه مسألة في
غاية الخطر، فمصادر التلقّي في زماننا متنوّعة المنابع مختلفة المشارب، وكلها
كَدَرٌ ومرض إلا ينبوع الوحي فهو الحياة.
فالذي خلقنا هو العالِم بما يصلُح لنا ويُصلحُنا، وقد
فعل بالوحي المنزّل إن كنا نعقِل.
ولكل اجتماع نزاع، ولابد لكل نزاع من فصل، ولا يمكن هذا
الفصل إلا بمرجعيّة يسلّم بها الطرفين، فأهل العقل المادّي مختلفون، وكذلك أصحاب
الحسّ والذوق والرؤى..
أما أهل الإسلام فقد جعل الله لهم مرجعيّة جامعة مانعة:
(يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلًا) والرد إلى الله يكون
بتحكيم كتابه والرد إلى الرسول يكون بتحكيم سنّته، والآي والأحاديث في هذا مشهورة معلومة.
وتأمل كلام المؤمن الورع الحكيم المجرب سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه في الفتنة، فقد دعاه بعض الناس للخروج معهم، فأبى عليهم وقال:
"لا، إلا أن تعطوني سيفًا له عينان بصيرتان، ولسان ينطق بالكافر فأقتله،
وبالمؤمن فأكفّ عنه، وضرب لهم سعد مثلاً – وهو الذي يعنينا في هذا المقام - فقال:
مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة، - أي البيضاء الواضحة - فبيناهم كذلك
يسيرون هاجت ريح عجاجة، فضلوا الطريق، فقال بعضهم: الطريق ذات اليمين، فأخذوا فيه
فتاهوا وضلوا، وقال آخرون: الطريق ذات الشمال، فأخذوا فيه فتاهوا وضلوا، وقال
آخرون: كنا على الطريق حيث هاجت الريح، فنُنيخ، فأناخوا وأصبحوا، فذهبت الريح
وتبيّن الطريق"(4)
إذن فلنعد بالأمة إلى ما كانت عليه قبل هذا الافتراق
والتنازع والتراشق وانشغال بعضنا ببعض. والأمر قريب المنال والزمان، فعودوا بنا
اليه - يرحمكم الله -.
وقد ذُكِر عن علي رضي الله عنه أنه
قال:" العلم نقطة كثّرها الجاهلون " (5) أي أنّ أصل العلم الذي فقههُ الصحابة رضي الله عنهم قليل، وهو فقه
الكتاب وفقه أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعماله، فشقّق الناس بعدها وتشدّقوا
وأوغلوا وغالوا. فبركة العلم في صفائه من كدر التكلّف، ونقائه من دَغَلِ المخالفة.
(التوحيد)
وهو أصل الأصول ومحض تحقيق الشهادتين وغاية الخلق
الإنساني، وكل المحكمات راجعة لهذا الأصل العظيم. ولا يعني هذا إهدارها، ولكن لكل
شيء قدره. فمن نقض توحيده بشرك وخرج من ربقة المسلمين فليس له من حقوق الأخوّة شيء،
بل منه وعليه البراء حتى يُسلم وجهه لله رب العالمين، وكذلك الحاكم إذا أظهر حربَ
التوحيد وقامت عليه الحجة فليس لمن قدر على عزله مندوحة عن ذلك.. وهكذا.
ولا يعني ذلك
الوقوف على ظواهر هذا الأصل لوحدها، بل لا بد من تحقيقه بأطرافه، ومتى حقّقناه جملةً
فسنكون قد انتظمنا كلّ المحكمات معه، لأنه مبدؤها وإليه معادُها.
(السنة)
وهي الاتّباع الصادق لهدي نبينا الخاتم صلوات الله
وسلامه وبركاته عليه، فتحقيق الشهادة الثانية يكون بصدق اتّباعه ظاهرًا وباطنًا.
ومن المهمات الابتدائية لكل مؤمن وضوحُ الطريق لسالكه،
فيرى السائر فيه مَدَّ بصره وضوحًا لا غبش فيه، ويتبيّن حدوده واضحة لا لبس فيها،
فيُبصر موضع كلَّ خطوة قبل مدِّ قدمه في المسير.
ذلك أن السبيل إن
لم يكُ على الجادّة النبوية فكل خطوة فيه للأمام هي في حقيقتها خطوة للخلف! فإن انحراف
المنهج يستلزم انحراف المسير، وعلى قدر زاوية الانحراف وسرعة السير يكون معيار
البعد زمانًا ومكانًا. وهذه باقعةٌ لمن لم يكن له بصيرة، لذا قال سفيان وغير واحد
من السلف: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية" - أي معصية الشهوة البحتة –
لأن الشهوة يُتاب منها والبدعة يُجتهد فيها. (6)
هذا وإن الحق يُعرف بدلائله لا بقائليه، واعرف الرجال
بالحق ولا تعرف الحق بالرجال، وإن كان الراسخ في العلم أقربُ - بداهة - للإصابة
ممن دونه، لكن لا عصمة إلا للمعصوم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وعليه يُحفظ حقّ العالم ويعظّم قدره ويجلّ ويحترم، لكن
بلا قداسة! لأن القداسة تحيط الشيخ بهالةٍ تغويه وتضلّ أتباعه.
أخي: إن كنت عامّيًّا ففرضُك سؤال من وثقت بورعه وعلمه،
فإن اتّسع بِطَانُ علمك فقارن واتبع أشبه الأقوال بالحق فإن على الحق نورًا، ومتى
تبحّرت فاجتهد ولا تقلّد.
ولا ترتبط بشخص تضعه حجة لك على الدوام سوى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وعليه فلا تربط الناس بشيخٍ رباطًا لا ينفك، بل اربطهم بالوحي،
ثم أرشدهم للاستنارة بعلم ذلك الشيخ، ومن قصد البحر استقل السواقيا، ولكن لا يبعُدْ
عن ساحله إلا من أجاد السباحة حتى لا يغرق في لجج أوهام نفسه.
فإن أخطا شيخك فلا تتابعه على خطئه ولا تدافع عنه دفاع
المقرّ لباطله، فلا تربط الناس بأخطاء الناس. والخطأ يَرِدُ ويُرَدُّ كائنًا
صاحبه من كان، ولكن بأدبٍ وحجة ورفق وإحسان.
وتذكّر أنه لا يجوز اتخاذ شخص يُوالى ويعادى عليه خلا
رسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وبعض الناس يقول بلسان حاله – وإن نفى
بلسانه - : إن الحق يدور مع شيخه حيث دار، وهذا ضلال.
قال شيخ الإسلام : "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا
يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصب لهم
كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من
فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرّقون به بين الأمة، يوالون به
على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون". (7)
وكان السلف ينهون عن وطء عقب الشيخ معلّلين بأنه ذلّة للتابع
فتنة للمتبوع، فمهما بلغ ورعُ الشيخ وعلمه فهو في خطر من تهييج قلبه برياح الإعجاب
الخفي.
وأولُ الأمر
يكون غير مُلاحظ - حتى من قِبَلِ الشيخ نفسه - ثم قد تستروح نفسه لذلك مع طول
المدى وتستطيبُه بتوالي الأيام وتطلب المزيد من رفعة الدنيا، فالضعف ملازم للبشر، ومع
كرور الليالي ومدح الأتباع الشيخ في وجهه وتبجيله فوق المعتاد قد يستخفّه الهوى
لمهاوٍ فيسقط معه من تبعه، ومن كان مستنًّا فليستنّ بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن
عليه الفتنة.
محورٌ آخر وهو أن بعضهم يفتن الناس بامتحانهم بالناس،
فديدنه ما تقول في فلان، وما قولك في فلان؟
وليس هذا من السنة في شيء، والواجب ألا يُفتن الناس
بمثل ذلك، فكلّ إنسان مسؤول عمّا قاله لا عمّا قاله غيره، فكُفّوا عن امتحان الناس
بالناس، واحفظوا ألسنتكم من أعراضهم.
وليس معنى
النهي عن غيبة مسلم قبول كل ما جاء عنه، فهناك كليّة مطلقة وهي أن الباطل يُرد على
مبطله أيًّا كان، أما ربط الناس بفلان أو فلان فهذا إحداث وابتداع من حيث أردتم
الاستنان والائتساء!
ومما يُحزِن أن يُرَدُّ الحقُّ الذي هو مذهب السلف
بدعوى أنه قول أشهرتهُ الفئةُ الفلانية! وهذا زيغٌ وضلال.
هذا؛ ويعجبني في منتسبة فئة ما تذكيرهم المستمر
بالتوحيد والسنة، وتعظيم ذلك في قلوب الناس، وتحذيرهم من مسالك البدع ومسارب
المحدثات. وهذا أمر حميدٌ عظيم لو حفظوه وانضبطوا فيه، فبكلّ مرارة نجد كثيرًا
منهم يُحملّون بعض البدع ما لا تحتمل سواء من جهتها فيقرّبون بعضها للكفر والوثنية
مع كونها بدعٌ مسلكية، أومن جهة أهلها فيرمونها على من هم بُرءاء منها، وقد يكون
بعضهم قد أفنى عمره في حربها!
لقد عرف علماء هذا البلد دعاتنا وعاشروهم وسبروهم
وعلموهم وفقّهوهم وزكّوهم، فعلام الافتئات على أهل العلم وإخراج طلابهم لإحن نفوس
الله أعلم بمقدار ما فيها من حسد لهم أو جهل بفضلهم.. و"ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه
العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" (8) وكم من مجدودٍ جرّته جِدَتُه لعين حاسد! (9)
ويا لله كم للمومنين من مشتركات عظيمة لو عرفوا قدرها!
وبأسف فبدلًا من أن يستظل بعضهم بظلّها في هاجرة زمان
الغربة، نراهم يتراشقون من خلل الشقوق الصغيرة والاختلافات اليسيرة التي تتدحرج
بينهم ككرة الجليد فتكبر كلّما دفعها سلف عن خلفه حتى تكون كالجبل العظيم، ولو أن
الأول أماتها في مهدها لنُسيت.
جميلٌ أن تُعظِّم السنة، بل هو واجب وفريضة - إذ هو
مقتضى تحقيق الشهادة الثانية - ولكن تذكّر واحرص أن يكون تعظيمك للسنة حقيقيّ لا
مصطنع، بمعنى أن تُعظِّم وتُجلّ كلَّ ما كان سنّة بالحدود التي بلّغها صاحب السنة
صلى الله عليه وسلم بلا غلوّ ولا جفاء. وتذكّر أن تعظيمَك للسنة لا يعني تقديس
الأشخاص، فانتبه حتى لا تزيغَ، فكم من معظِّمٍ لشخصٍ مقدّسٍ لكلامه مقدِّم لفعاله
قد أحاطه بهالةٍ تحجب عنه تقصيره وخطأه وسهوه وذنبه، فتعظيم السنة لونٌ وهذا التزوير
لون.
وحسنٌ منك أن تحارب البدع - فهذا فرعٌ عن تعظيمك للسنة
- ولكن احذر أن يكون حربك للبدع بغيًا على عباد الله، فهناك حدود شرعها الله
للتعامل بين أهل القبلة لا يجوز بحال خرقها.
فولاءُ أهل
القبلة شيء والتعزيرُ شيء آخر، فالأول أصلٌ والثاني استثناء بقدر الحاجة، وهذا
الاستثناء فرع عن إنكار المنكر، والإنكار يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال.
وكلّ ما يقال
عن موضوع إنكار المنكر فهو قائم هنا بالضرورة، فلا بدّ من التثبت من البدعة
بفرعيه:
أولًا: التحقق من كونها بدعة، حتى لا تُنكر بجهل.
وقد يدّعي بعضهم إجماعًا وهو عند التحقيق غير منضبط
بسبب المخالفة لصحابيٍّ ونحوه، ومن اتّسع علمُه اتسع للخلاف صدرُه.
ثانيًا: التأكد من تلبّس ذلك الشخص المعيّن بها.
حتى لا تظلم
الناس بتهورك، فسلامة القصد لا يكفي لتبرير سوء الظن أو التسرّع في الأحكام. ومن
أمثل حكم العرب: لا تفعل ما تعتذرُ منه.
كذلك لابد من
البدء بالرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه. ولا تحتج
بخُلُقِ أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تقل: فلان من السلف عنده حدّة
فهو المقدم، بل اجعل رُمّانة الميزان منصوبةٌ بمن قال ربه في شأنه: (وإنك لعلى خلق
عظيم).
ولا يعني هذا
أن يكون الرفق مستمرًّا، فالمعاند المستكبر الذي استبانت له المحجة وقامت عليه
الحجة حقيقٌ بقرعِ شِدّةٍ تزجره وتزجرُ به، ولكن تأكيدي هنا على أنها استثناء لا
أصل، فإن زالت بدعته بالرفق فقد كُفينا.
وهنا أمر لابد من بيانه وهو أن من تعظيمِ السنة تعظيمُ
أهلِها، وكلّ مؤمن له حظ من ذلك مهما جفاها.
ويتضح ذلك بأن
تتذكر الشهادة الأولى بالتوحيد وعظيم حق أهلها مهما صدر منهم مالم ينقضوها، إذ لهم
عليك حق الولاء بحسب قربهم منها، فيجتمع لهم الحب بقدر تحقيقهم لها والبغض بقدر بُعدهم
عنها، وهذا مسلك دقيق جدًّا قلَّ من يُراعيه في زمن البغي العلمي والعملي، والله
المستعان.
وبالجملة فكل
من كان من أهل التوحيد ففيه جزء من تعظيم السنّة، فلا يجوز بحال معاملته كالكافر الفاجر،
وكذلك لا يجوز تقريبه وتولّيه كالمؤمن الطاهر، بل لكل مقام قدرُه وحدّه، والعبرة
بما ظهر من حسنه أو سوئه.
(الاجتماع)
المبدأ - أيًّا كان - فالناس ينقسمون عنه إلى أقسام:
فمنهم المخلصون
له المتمسكون بأهدابه، وقسم جافٍ، وآخر غالٍ. وليس هناك استثناء من هذه الحقيقة.
وكلٌّ يدّعي أنّه الوسط ويأبى ذلك البرهان الصحيح.
لقد عظّم الله أمر الاجتماع، وأمر به ونوّه بأهله، ولا
بقاء للدين إلا باجتماع أهله عليه، ومتى تفرّقوا فيه تفرّقوا عنه، فأحراهم برفع
العافية عنهم وإدالة عدوهم عليهم.
ومن الاجتماع اللازم: الاجتماعُ على الإجماع المنعقد،
والإجماعات كثيرة بحمد الله، بل هي الأصل عند التحقيق أما الخلاف فهو استثناء،
والإجماع غير منحصر في العقائد والعمليات، بل هو سارٍ في فروع الديانة، حتى وإن
غاب عن وَهَلِ الناظر حضوره. وهناك بعض أحرف غير مؤثرة في الاجتماع والوئام - إن أحسن
الناس التعامل معها -.
ومن المهمات لكل طالب علم وداعٍ: التفريقُ بين مذهب
السلف وقول بعضهم، فمذهب السلف إجماعي ومخالِفُه مشاقٌّ مبتدع، أما قول بعض السلف
فلا يُصار إلى تبديع مخالفه. ومن المهمات: أن مذهب السلف يؤخذ بالنقل لا الفهم،
فلا يكفي أن يتصوّر المجتهدُ صورةً في ذهنه فهمها من الوحي يجعلها معتَقدًا ينسبه
للسلف مالم يُنقل عنهم بسندٍ حجةٍ، فالفهم شيء والنقل شيء، والمعوّلُ على إثبات
مذهب السلف هو النقل الصحيح عنهم، وهي مسألة في الغاية من الأهمية في زمن
افتراقنا!
هذا؛ وإن الاجتماع الشرعي ليس هو مجرد حفظ بيعة الأمير،
فهذا جزء من الاجتماع لا كلّه، فكلّ ما فرّق بين المؤمنين بلا مبرر من الشرع فهو
مذموم شرعًا، فاحذر أن تقتحم بلا برهانِ حقٍّ وفكاكٍ يوم العرض ما يفرق الكلمة
ويشتت الأمة ويكسر العصا ويذهب الريح، وانزِع قبل أن تُنتزَع.
إنّ كثيرًا من أحكام المُفترقين التي يظنونها حقًّا لا
محيد عنه، إنما مردّها انطباعٌ ذهنيّ عام سابق بسبب تقليدٍ مفتقرٍ لتحقيق، ولا
إخال أكثر نيّاتهم إلا طلّابة حقّ، ولكن حُسنُ القصد لا يكفي مالم يُشفع يحسن
اتّباع.
ولو تأمل واحِدُهم
قليلًا ووازن بين نهجه ومحكمات الدين التي انتقص منها وقصر باع بصيرته عن إدراكها
والعمل بمقتضاها كتعظيم شأن أهل لا اله الا الله، وأهمية الأخوّة في الدين، والحثّ
على الاجتماع والوئام، والتعاون على البر والتقوى، وتنقية الصدور من وَحَرِها وسلّ
سخائمها منها، وإحسان الظنون بالمؤمنين، وإجراء أمورهم على ظواهرها.. إلخ
أقول: لو فعل ذلك لانشرح صدره واتّسع، ولاستنار قلبه
وانفسح، فالله جل جلاله يقول: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)
فعلى قدر تكميل الإسلام يكون النور والفرح. وقال جل شأنه: ( يا أيها الذين آمنوا
ادخلوا في السلم كافة) فخذ الدين كله لا بعضه، واستقم كما أمرت لا كما اشتهيت،
وانتهر صولة نفسك الأمارة برهبة الموقف غدًا بين يدي الجبار جل جلاله.
لقد وصل الضلال والتيه ببعضهم أن يهجر مساجد المسلمين في
بلاد أهل السنة والجماعة جمُعَةً وجماعة، بل حتى في العيد، بزعمهم أنها مساجد
للمبتدعة، فصلَّوا في بيوتهم وتركوا بيوت الله وبئس ما اختاروا!
في إحدى السنين
في هذه البلاد قام نفرٌ بإقامة صلاة العيد خارج البلد بعد أن برزوا عن المسلمين
وهجروهم في الله – زعموا - ولم يقطع تلك النزعة الخارجيّة - بعد الله - سوى زجر
أحد العلماء لهم ممن كانوا يُظهرون إجلاله وتقديمه.
فتأمل – ويدك على قلبك - وانظر إلى الفتنة حينما تسلّلت
لهم شيئًا فشيئًا حتى خبطتهم واستولت على أحلامهم وأفئدتهم. فمن تفرّد برأيه
عُجبًا وإعجابًا ولم يرُدّ لمن أمره الله بالرد إليه عند النزاع تفرّد بهم
الشيطان، فصيده المحبب هو القاصية!
وبعضهم قد قطع رحمه الماسَّةَ بما توهَّمه من ابتداعهم،
وليت شعري من المبتدع يا هؤلاء؟!
إنّ كلَّ من
زاد على السُّنَّة فقد ابتدع، فلا تبتدعوا من حيث ظننتم أنكم على السُّنة، وودَّ
الشيطانُ لو ظفر من المسلم بذلك، لأنه قد كفاه مؤنة الأزِّ باندفاعه في خوض وُحول
البدع في ما ظنَّه تسنّنًا، عياذًا بالله من مضلات الفتن.
واعلم أن كثيرًا ممن أُطلقت عليهم تلك المسمّيات
والألقاب بريئون من الوصمات الملصقة بها، فأكثرها تُهَمٌ تنفيريّة تُلقى على كواهل
من لم يتبنّوا تلك الأخطاء أو الضلالات.
إذن فلا تكن ممن يَصِم أو يرضيه أن يوصَم، ولتهنِك
تسمية الله لك "هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا" ولا بأس ان تنتسب
لمسمّى السنة والجماعة والسلف، فقد كانت كلمة السلف دارجة عند أئمة أهل السنة
والجماعة، وكان عبد الله بن المبارك
يقول على رؤوس الناس: "دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف". (10)
وقال ابن تيمية: "من أمكنه الهدى
من غير انتساب إلى شيخ معيّن فلا حاجة به إلى ذلك ولا يستحب له ذلك بل يكره له. وأما
إن كان لا يمكنه أن يعبد الله بما أمره إلا بذلك؛ مثل أن يكون في مكان يضعف فيه الهدى
والعلم والإيمان والدين يعلمونه ويؤدبونه لا يبذلون له ذلك إلا بانتساب إلى شيخهم أو
يكون انتسابه إلى شيخ يزيد في دينه وعلمه فإنه يفعل الأصلح لدينه. وهذا لا يكون في
الغالب إلا لتفريطه، وإلا فلو طلب الهدى على وجهه لوجده. فأما الانتساب الذي يفرّق
بين المسلمين وفيه خروج عن الجماعة والائتلاف إلى الفرقة وسلوك طريق الابتداع ومفارقة
السنة والاتباع فهذا مما يُنهى عنه ويأثم فاعله ويخرج بذلك عن طاعة الله ورسوله صلى
الله عليه وسلم" (11)
والأظهر في
مسألة التلقّب بالسلفي والأثري ونحوهما التفريق بين أن يكون في وَسَطٍ بدعيّ فيُستحسن،
إشهارًا لعزة السنة، أما بين أهل السنة فالمنع متوجّه، لما فيه من شهره وإعجاب
بالنفس.
ولكن احذر من غرور الألقاب، فالألقاب لا تحمي صاحبها من
الزلل، كما أن الاسم كصالح وسالم وطيب وشريف ونحوه من أسماء التزكية لا تدلّ على
الحقيقة أنما هي قالبٌ صوتي رمزي لا أكثر، فتنبّه يا رعاك الله.
هذا وإن الموفق الحكيم هو من نظر لأمور الاختلاف السائغ
من علوٍّ، فحواها جميعًا وأدخلها في نطاق قبوله إجمالًا وتبع أرجحها وعذر أهلها.
ولا بأس مِن عتب بين الإخوة برفق، إعذارًا لسفيه وتغمّدًا لهفوة.
لذلك فعليك – يا مريد فكاك نفسه غدًا – أن تنتبه لمعيار
حكمك حتى لا تتناقض، وإذا علمت بأصل صحيح فاطرده ولا تنقضه، واحذر التناقض
والانتقائية، ولْيسَعِ المؤمنين عقلًك وعلمُك وحلمُك.
واعلم أنه منذ
الصدر الأول للإسلام كان – ولا زال - هناك رأيان مضطردان لأهل العلم في قضايا
معيّنة وأساليب محدّدة، أو لنتزّل فنقول: هناك مدرستان سلفيّتان، لكل منهما موقف
ثابت في قضايا معيّنة، مدرسة تنحو للعزائم وتتوسع في سدّ الذرائع، وأخرى ترى
التيسير بفتح بعض الذرائع وفق ضوابط والأخذ برخص الله.
فالأولى نظرت
لجانب الاحتياط لذات العبادات والتشدّد في حراستها، ووقفت مع حرفيّة النص تقريبًا،
والأخرى نظرت لجانب العبدِ ذاته والخوف عليه من تضييقٍ زائدٍ يكسر نزعته للانطلاق
في عمارة الأرض، وِفْقَ قواعد شرعية منضبطة – وليس بتمييع وتبديل - ووقفت مع النص
مفسّرتَهُ بمدلوله الشمولي العام، وكل مدرسة لها أدلتها ومنهجها واحتياطاتها.
ولكلٍّ من المدرستين منهاج مشرق واضح، وكلاهما جادّ في إقامة
تفسير آيات وأحاديث الصفات أو مسائل الإيمان أو القدر أو غير ذلك مما زايلوا
المبتدعة فيه على الأصول المرعيّة لأهل السنة والجماعة.
ومع أن
المدرستين متفقتين تمامًا في كل أصول أهل السنة والجماعة - بلا مثنويّة - فثمّ
أحرف يسيرة اختلفت رؤاهم حيالها، فصفة الهرولة – على سبيل المثال – قد أثبتتها
المدرسة الأولى – وهو الراجح - أما المدرسة الثانية فلم تثبتها ومن أثبتها لم
يتشدّد في إثباتها، ومسألة استثناء حبس الظل من وعيد التصوير لأنها غير داخلة فيه
إنما غلبت عليها عُرفيّة التسمية على الحقيقة، فالأولى منعتها بإطلاق والأخرى
جعلتها من باب ترك الأولى.. وهكذا. وكلا المدرستين على خير وهدى.
وكأن الأمر في
المنهاج العام للمدرستين أشبه بقناعتين وسلوكين ونفسيّتين جمعيّتين متآخيتين
متكاملتين، ففي أزمنة وأمكنة يكون الترجيح للأولى، وفي أخرى للثانية بحسب الوقائع
والأحوال.
ومن أمثلة ذلك: التكفير واضطراد أحواله، وسنقف مع زاوية
حرجة لكل منهما حتى نقف على حافة القول الحَدِّي لكل منهما:
الأولى: تكفّر القوانين الوضعية الطاغوتية وكلَّ من مكّن
لها وشارك فيها - ويُقصد بذلك التكفير الوصفي مع احتياطهم في تكفير المعيّن بالطبع
- وهذه المدرسة ذاتها تُكفّرُ أو لنقُل: تُحرّم بإطلاق الاستعانة بالمشركين على
حرب المسلمين بأي حال ولو كان لدفع الصائل، وتكفّر من أعان المشرك في الحرب على
المسلم بأي درجة وتحت أيّة ذريعة خلا الإكراه بضوابطه.
فهي مدرسة حَدّيّةٌ
صارمة، لا تقبل التنازل شبرًا فيما تراه يمسّ المعتقد ولو بإحراق جسور كثيرة. علمًا
بأن الصرامة لا تعني الصواب دومًا، فضلًا عن الاحتياط، ولسنا بصدد الترجيح لكنا
نُعنى هنا بالتوصيف.
ومن الأمثلة
المعاصرة لذلك تكفيرهم لأحد الولاة حينما استعان (بالمشركين) الترك وتكفير خَلَفِهم
لبعض الفارِّين من الملك عبد العزيز من قيادات المنشقين واستتابتهم من الكفر بعد
الإسلام، ومثل الحكم بحربيّة البلاد المعلَن فيها الشرك - ولو كانت مكة - وامتدادُ
هذه المدرسة في هذا الزمان هم القائلون بحرمة المشاركات البرلمانية مع أنظمة غير
متقيّدة بالشريعة بإطلاق.
أما المدرسة الثانية فتجيز المشاركة البرلمانية في الأنظمة
الطاغوتية، لا إقرارًا للمنكر ولكن من باب درء أعظم المفسدتين، وهي ذات المدرسة
التي تجيز الاستعانة بالمشركين للضرورة بشروط، وهي التي تحكم بإسلامية البلاد
بغلبة ظهور شعائر الإسلام.. وهكذا.
فكل مدرسة تطرد
أصلها، مع عود الأصلين لمشكاة واحدة وهي الاتّباع للسنة وحراستها والذبّ عنها
بالنظر للحال والنظر للمآل، فالهدف واحد، والمعتقد واحد، والمنهج الكلّي واحد،
إنما الفرق كامن في التعاطي مع نصوص الشريعة ومقاصدها والله أعلم.
وأعجبُ حين أرى بعض الفضلاء ينتقي من هنا ما وافقه ومن
هناك ما خالف خصمَه، فيجيز الاستعانة بالمشرك - لأن وليّ أمره فعله - ويكفّر
المشاركة البرلمانية - لأن خصمَه فعلها - مالكم كيف تحكمون؟!
حتى السّاسة لم تفُتْهُم هذه الثنائية، فعمل بعضهم على
(لعبة المتناقضات) ليلج من بينها لمقصده، فقد ركب بعض السّاسة سفينة المدرسة الأولى
لمّا كانت رياح أشرعتها له مُواتية في خضد أشواك خصومه، ثم أسرع ركوب السفينة الأخرى
حينما هبّت نسائم الصَّبا لتوجيه أشرعتها. ولا عجب فأكثرهم طالب صيدٍ!
وحتى لا يظن ظانّ أن هذا التقرير يشي بقصور السلفية في
العمق أو السعة أقول: إن هذا غير وارد، فالسلفية أسدُّ منهجًا وأسعد دليلًا وأعمق
دلالة وأقوم طريقة وأوسع نظرًا وأرحب سبيلًا وأرحم في الحال والمآل مما سواها من
السبل التي خالفت جادّة الرسول بابتداع وإحداث، إنما هو اختلاف اجتهادات سائغة في
المجتمع السلفي بعامّة.
ومرادي هو بيان ملامح النظر التأصيلي والتطبيقي لها،
وسأوضحه بمثال كاشف لما خلفه في قضية عامّة.
فمسألتنا
المذكورة وهي الاستعانة بالمشركين في الحرب تجاذب حكمَها رأيان داخل المدرسة
السلفية ذاتها، فرأيٌ بالمنع إلا بشروط شديدة، وهذا القول هو الأطردُ تطبيقًا والأسعدُ
بالنصوص والأكثر احتياطًا. أما الثاني فهو وإن مانع من الاستعانة كالأول إلا أنّه
توسّع قليلًا في الشروط والضوابط مراعاةً للمصالح العامة ولمقاصد الشريعة الكلية،
ودرءًا للمفاسد والمخاطر الموشكة المتوقّعة.
فهذان القولان
لم يخرج أحدهما عن نسيج السلفية العام، وإن كان بعض اتباعهما قد طعن في منهج الرأي
الآخر، وهذه عادةُ صراع الأفكار واحتدام المغالبات ومدافعة الفتاوى، ولكن من تأمّلهما
جيّدًا انتهى إلى ما ذكرتُ، فالأول أعمق والثاني أوسع.
المقصود هو القول: بأن هناك رؤيتان متوازيتان داخل المدرسة
السلفية، فالأولى حَدِّية تأخذ بالعزائم والصرامة في الفهم والتطبيق مع مراعاة
المصالح والمفاسد، والثانية تراعي جوانب وزوايا القضية وتحاول استيعابها من جميع
جهاتها واختلافاتها مع العناية بالتّيسيرات مع عدم إغفال جوانب جلب المصالح ودرء
المفاسد.
فالأولى تراعي العمق والثانية تراعي السعة، ويظهر هذا
جليًّا في التنظير وفي التطبيق كذلك.
ومن لم يلحظ ذلك ويراعيه عند تأمله ودراسته
للمدرسة السلفية بعامة سيصاب بحيرة واضطراب، وقد يخرج بالحكم عليها بالتناقض، وهذا
خطأ، فهما رؤيتان متوازيتان في إطار واحد. وهذا من ناحية العموم الأغلبي لا
الاضطراد المطلق.
مع التنبيه إلى
أن هذا الخطّ ليس مضطردًا في المدرستين لاختلاف الأحوال والأشخاص والقضايا، إنما
المراد تنبيه بعض الأحبة إلى وقوعهم في ازدواجيّة ظالمة، فحِماهُم حرام وحِمى
خصمهم مباح، والمرجّح لديهم هو الهوى والتعصّب لا الهدى والشرع.
فليس في السلفيّة تناقض – كما خَطَل به بعضهم - فهي
زبدة الإسلام وجوهرُ الرسالة، وما ذكرتُه ليس تناقضًا في السلفية، بل هو سعة وشمول
وتكاملٌ واحتواء لِمَا ساغ الخلاف فيه.
وبالجملة فعباءة السلفية واسعة لخلاف أبنائها في المسائل
التي تتنازعها الأدلة لاختلافٍ أو تكافؤ أو غيرهما، والامثلة طويلة الذيول في
السلف والخلف، وليس لبسطها حيّز.
ونزيدُ الأمر توضيحًا من محاور أُخر
وجيزة فنقول: إن هناك أمورٌ في الشريعة - حتى في المعتقد والمنهج - لم تُحسم تمامًا،
والخلاف فيها سائغ - مع التأكيد على أنها ليست من المسائل الكليّة الكبار إنما هي
من دقائق بعض المسائل، كما أنها نزرٌ يسير بجانب ما أجمع السلف عليه - كرؤية رسول
الله صلى الله عليه وسلم ربّ العزة في المعراج، وسماع الموتى لسلام الأحياء، وتفضيلِ
صالحي البشر على الملائكة، والاختلاف في بعض الآيات هل هي من آي الصفات أم لا، وفي
بعض تفريعات مسائل القَدَر كاختلافهم في حكم الرضا بالقضاء، وفي بعض مسائل الإيمان
كاختلافهم في تكفير تارك الصلاة الواحدة عمدًا، وبعض مسائل الحاكميّة، ومتى يكفر
من حكم بغير الشرع، والمشاركات البرلمانية، وبعض مسائل البراء وموالاة الكفار وتوَلّيهم
ومظاهرتهم، ومحبة الزوجة الكتابية، وحكم الجاسوس وهل هي كفر بإطلاق من عدمه، وبعض أحكام
أعمال القلوب.. وغيرها كثير. (12)
وكلّما اتّسع
علم المرء اتّسع صدره لخلاف الناس فيما يسوغ، وانفسح معه عذره للناس، وتأمّل حال
ابن تيمية وسعه منهجه في الاعتذار، كذا ابن القيم وابن كثير والذهبي وابن سعدي
وابن باز والعثيمين.. وأمثالهم من الكبار.
فتجدُ في كل مسألة مما اختلف فيها أهل السنة والجماعة
قولان مشهوران، وكلاهما قولان داخلان في المدرسة السلفية السنية بعامّة، فهما
يتنازعان دلالة الدليل، ودائران بين الأجر والأجرين.
ومن ذلك اختلاف بعض أئمة العلم المعاصرين في طريقة
التعامل مع الجماعات الإسلامية سلبًا أو إيجابًا، تعاونًا وإصلاحًا أو براءةً وإنكارًا.
مع القطع بأن الإسلام يتشنّف للوحدة بين أبنائه وتوسيع
دائرته حسب حدوده المعلومة، فلا تُضيّق – يا رعاك الله - ما وسّعه الله بلا حجة،
ولا توسّع ما شدّد فيه بلا برهان.
وانظر إلى تطبيقات أئمة الزمان كابن باز والعثيمين والألباني
في ردودهم - وأكرّر ردودهم - لأنها التطبيق العملي لتنظيرهم العلمي الذي قد يكون
مجملًا أو حمّال أوجه، فانظر لرفقهم ولطفهم وأدبهم وحُسن تأتّيهم وتثبتهم ونصحهم
ومحبة نفع المخاطَب والرغبة الصادقة في هدايته، وليس مجرّد إقامة الحجة والإعذار وإشباع
القوة الغضبية.
وليس معنى رؤيتين أو مدرستين أن هناك مجموعة تنقل مبادئ
هذا النظر لمن خلفها عن سلفها وكأنّها مقيّدة ومقنّنة ومنضبطة اضطرادًا، لا بل
المسألة لا تعدوا أن تكون فقهًا ترجيحيًّا للنظر في المسائل عبر خلفيّة متقاربة في
أفراد أو مجموعات ليس إلا، بل قد تكون الرؤيتان – أحيانًا - لدى الفقيه الواحد، فيأخذ
بهذه حينًا وبالأخرى حينًا بسبب اختلاف الأحوال في نظره، أو تجدّد أدلة لديه، أو
وضوح قوّة أو ضعف براهين المسألة بين يديه، أو بسبب تغيّر الخلفيّة النظريّة من
تغليب العمق على السعة أو العكس. وقد حكم عمر رضي الله عنه في الفريضة الحماريّة بعدم التشريك وفى العام
التالي حكم بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال بطمأنينة وسكينة
وثقة: "تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي".
ولا يعني هذا بحال نفي السعة عن العمق أو العمق عن
السعة، فالمنهج السلفي قد أخذ حظه التامّ منهما، انما المقصود الترجيح عند التقارب
والتغليب عند الاشتباه.
هذا، وقد تختلف زاوية الرؤية للمسألة الواحدة فتختلف
فيها الفتوى، كمن يتوسع في الإنكار العلنيّ ومن يضيّق بحسب تصوّر المسألة وحكمه
فيها واختلاف أحوالها.
والواجب هو اتباع الدليل، أما مع الاشتباه أو ضعف السند
أو الدلالة فلا بد من أن يعذر بعضنا بعضًا حتى وإن قال الآخر ببدعية المسلك الأول
فعلى الأول أن يعذره قدر طاقته وألا يعصي ربه فيه إذ عصاه فيه أخوه.
بل إن من العبادات والهيئات ما تكون سنّة أو بدعة لدى
شخصٍ باعتبار صحة الدليل وصراحته من عدمه، فقد يصح الدليل الصريح بسنّية عبادة أو
هيئة فيها عند أحدٍ – من أهل الاجتهاد - فيكون مُتعبَّدًا لله بما صحّ لديه، مع أن هذا
الدليل بعينه لم يصح عند غيره فيحرم عند من لم يصح لديه أن يتعبَّد لله بعبادة
سندها هذا الحديث الضعيف، ولهذا أمثلة عديدة مشهورة.
وقد عدّ شيخ الإسلام نحو ذلك وسمّاه
اختلاف تنوّع فقال: "وهذا القسم الذي سميناه اختلاف التنوع كلّ واحد من المختلفين
مصيبٌ فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه. وقد دلّ القرآن على حمد
كل واحد من الطائفتين في مثل هذا إذا لم يحصل من أحداهما بغي، كما في قوله: (ما قطعتم
من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله)
وقد كان الصحابة في حصار بني النضير اختلفوا
في قطع الأشجار والنخيل فقطع قوم وترك آخرون. وكما في قوله: (وداود وسليمان إذ يحكمان
في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكمًا
وعلمًا) فخصّ سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم.
وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني
قريظة، وقد كان أمر المنادي أن ينادي: لا يصلينّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة، من صلى
العصر في وقتها ومن أخّرها إلى أن وصل إلى بني قريظة. (13) وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد ولم يصب فله أجر" (14) ونظائره
كثيرة" (15)
وقال: ".. قال بعضهم: لا نصلي إلا في بني قريظة، وقال بعضهم: لم يرد منا هذا؛ فصلوا
في الطريق. فلم يعب واحدة من الطائفتين. فالأولون تمسّكوا بعموم الخطاب فجعلوا صورة
الفوات داخلة في العموم، والآخرون كان معهم من الدليل ما يوجب خروج هذه الصورة عن العموم،
فإن المقصود المبادرة إلى القوم. وهي مسألة اختلف فيها الفقهاء اختلافًا مشهورًا: هل
يُخص العموم بالقياس؟ ومع هذا فالذين صلوا في الطريق كانوا أصوب". (16)
وقال في موضع آخر معلّقًا على القصة –
وتأمّل -: "وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن
من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم
بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى
يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق
الشعر ولكن تحلق الدين" (17) (18)
وهذه
الأحرف الجامعة معدودة من نفيس فقه شيخ الإسلام وسعة علمه وعظيم نصحه رحمه الله.
(لا إنكار في مسائل الخلاف السائغ)
وهذا الفصل مترتبٌ ومبنيّ على ما سبقه، وليس كل خلاف
يسوغ، ولكن ما ساغ في الخلاف اتّسع فيه العذر.
ومن الاختلاف السائغ في المنهج اختلافُهم في بعض طرائق
الإنكار على معاصي الولاة، وتقديم مصالح يرونها كليّة ودرء مفاسد أوّليّة مع اختلاف
أحوالها وأحكامها، وكذا قضية ضابط ما يسمّى بتهييج العامّة على ولاتهم، أو التساهل
في الإنكار في العلن، وكذلك بعض مسائل عزل الولاة، وأحوال ومراتب الصبر على جور
الولاة والعمّال، وبعض أحوال وأحكام الفتن العامّة والخاصة، والتعامل مع فتن القتل
العام وما قاربه، وسُنيّة اعتزاله والبعد عنه أم المشاركة فيه لدفع الظالم ونصر
المظلوم وطاعة الوالي والاحتساب في ذلك.. أي: متى يُشرع القتال مع من نرى الحقّ
معه، ومتى يشرع اعتزاله...إلخ.
والمحصّلة: أن
الخلاف السائغ موجود من قديم، وثمرتُه حرمة الاستبداد بامتلاك الحقّ المطلق بلا
برهان كاف.
وإذ لم يمكن ذلك فالتسامح والائتلاف، وليعذر المومن أخاه،
فكلٌّ مكلّفٌ بحسب ما بلغته طاقته من فهم الشريعة إن كان ممن يحسنون التعاطي مع أدواتها
ودلائلها، فإن لم يكن كذلك فليتوقف تمامًا وليتشغل بغير هذا السبيل، وليُلجم
رعونته وليكبح طيشه والا فصوابه خطأٌ من جهة دخوله ما ليس له، وحتى لا يقع في
تبديلٍ وتقصير من حيث أراد التسديد والتحرير! (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)
(أخوة الإسلام)
وفرقُه عما سبقه أن الاجتماع تُعنى به الأمة في
اعتصامها بحبل الله جميعًا وترك النزاع، فتكون يدًا واحدة ووجهًا واحدًا وقلبًا
واحدًا، أما الأخوّة فيُعنى بها الفرد بذاته لذلك الفرد بذاته، فهي متّجهه لفرد
وتلك لمجموعٍ، وهذه في التحقيق راجعة لتلك.
إن من المهمات العظيمة: سلامةُ قلبك للمؤمنين، وهو من
فروع الولاء لكلمة التوحيد وأهلها، وعلى قدر تحقيقهم لمقتضاها يكون الولاء لهم لما
في قلوبهم من شعاعها.
ومن أدعية عباد
الله الصالحين: "ربنا لا تجعل في قلوبنا غلّا للذين آمنوا".
ومن مُذهِبات
الغلّ: إحسانُ الظن، فلا بد للمؤمن من إحسان ظنه بالمؤمنين، فحسن الظن شيمة
الإيمان.
واسأل نفسك: هل العاصي - ومنه المبتدع - مؤمن؟ واحذر أن
تُمسي وفي قلبك غلّ لمؤمن فتخصمك هذه الآية.
والحق: أنه من أهل
مطلق الإيمان فيستحق ولاية بقدر إيمانه لا الإيمان المطلق الذي يستحق كمال
الولاية. وعلى كل حال فلكلّ نصيبه من الولاية. ورضي الله عن أبي دجانة حينما سئل
وهو يحتضر عن سبب تهلّل وجهه فقال: "كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني وكان قلبي على
المؤمنين سليمًا".
واعلم أن من بذل وسعه وجهده مخلصًا لله قاصدًا اتّباع
رسوله صلى الله عليه وسلم فهو على خير ويرجى له الفوز والفلاح، وسعيه مشكور وخطؤه
مغفور بإذن الله، قال شيخ الإسلام: "ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور
للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة. وإذا كان
الله يغفر لمن جهل تحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم؛ فالفاضل
المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول
بحسب إمكانه هو أحقّ بأن يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأ،
تحقيقًا لقوله تعالى: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"
وأهل السنة
جزموا بالنجاة لكل من اتقى الله تعالى كما نطق به القرآن، وإنما توقفوا في شخص معيّن
لعدم العلم بدخوله في المتقين" (19)
هذا وإن من كبار المنتسبة لهذا المنهج - منهج الجرح
والطعن والتساهل في التبديع - بل وحتى من نُسب لهم ذلك المنهج قد وُجدت منهم هفوات
علميّة حتى في تقرير المعتقد والعلميّات، فالناقد بصير، ومن فتّش وجد، ومن
تتبع عثرات الناس ابتلي بمن يتتبع عثرته، ومن عاب عِيب بما عاب، وكما تأمُرُ
بالإنصاف هنا فكن أول العاملين بمقتضاه هناك.
ألا وإنّ هذه الفئات الثلاث المنسوبة إجمالاً لأهل
السنة والجماعة (من اتّهموا بالغلوّ في الطاعة، ومن اتّهموا بالتحزّب البدعي
والتساهل في الطاعة، ومن اتّهموا بالغلوّ في مفهوم وتطبيق الجهاد والقتال) هي داخلة
من حيث الأصول الكليّة في مذهب السلف، والمشتركات بينهم أكثر وأكبر بكثير مما
اختلفوا فيه، وكثير من مسائل الخلاف بينهم هي من ضروب الخلاف السائغ، والواجب
بينهم هو التناصح والرفق والاحتساب والصبر، فلماذا التشرذم والتفرّق والتعادي، وإلى
متى هذا التمادي في التمادي؟!
لقد ناقشت بعض من يُنبز بانتمائه لفئة معيّنة فرموني مباشرة
وبلا تردد بلقب الفئة الأخرى، وكذلك الحال لما ناقشت من يُلمز بلقب الطائفة الأخرى
فرماني بلقب الأولى، ثم ناقشت من كان منتميًا لتيّار ثالث فرمني بلقبي الطائفة
الأولى والثانية معًا! أي عبث أخلاقي وفوضى فكرية نعيشها؟!
إن من لا يريد أن
يتقبّل رأيك فسيجد عشرات الطرق لإساءة فهمك، ولن تعوزه ألقاب الإقصاء حينها وبعدها،
ولكل باغ مصرع، والله الموعد. وطوبى لمن خرج من الدنيا سليم الصدر طاهر القلب
على عباد الرحمن.
(تعظيم قدر العلماء مع القطع بعدم عصمة
فرد بعينه)
كثيرُ من النزاع والفرقة حدث حين تجاوز العلماءَ من ليس
منهم، وأسقطهم من لم يعرف قدرهم.
ولقد تنبّه علماء الأمة لهذا الخطر المستشير والخطل
المستطير فصدحوا بحرمة ذلك السبيل وخطر ذلك المهيع، وأنّ من كان همّه تسقّط عثرات
إخوانه واصطياد زلاتهم وتكبير عيوبهم وستر حسناتهم وطعن نيّاتهم والتأليب عليهم
فهو ضالٌّ ظالم، فأصدروا وكرروا بيانات وفتاوى ووصايا سواء من هيئات جماعية كهيئة
كبار العلماء أو بيانات وفتاوى فردية، وتأمل فتاوى ابن باز والعثيمين والألباني
والفوزان والجبرين والقعود وآل الشيخ والبراك في كثير من الراسخين حتى تعلم أنهم
قد حذّروا الناس من هذا المسلك الموخم الرديء، وفيهم كفاية ومَقنعٌ بحمد الله لمن
أراد برْدَ السكينة في صدره.
ومهما خَتَلَ
بعضُ أهل التيارات بقطع فتاوى من سياقها أو تعميمها وقد خُصِّصت أو تشخيصها وقد
عُمّمت أو توصيفها بما لم يُرده صاحبها، أو تتبّع شاذّةٍ لعالم لم يقصد بها ما
قصدوه ولم يحملها على ظهر من حملوه.. في سيلٍ من مكر معيب وانتصارٍ للهوى، فهو
مكشوف مخذول، فلا يحيق المكر السيء إلا بأهله، والله تعالى لا يُتَقرّبُ إليه
بمعصيته. وعند الله تجتمع الخصومُ، والسعيدُ من عُوفي.
لقد صاح
العلماءُ في من خاف الوعيد من الاسترسال في ذلك وأنه منحدرٌ زلق نهايته النزاع
والفشل وذهاب الريح في الدنيا ثم قبض الريح صفرًا من حسناتٍ رجاها أهلُوها غدًا
ولكن لم ينالوها لأنها لم تكُ حسناتٍ أصلًا أو لأنها قد اقْتُصّتْ منهم في ديوان
المظالم، وعساها أن تكفي من مراكمة خطايا العباد على الظهر الظالمِ لهم في
الدنيا.. رحماك ربي.
إن حَمَلة العلم يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويحفظون
أقدار أولي الفضل والعلم والسابقة، ولا يعرف الفضل لأولي الفضل سوى أهل الفضل، يحفظون قدر العالِم حتى وإن تعثّر ببعض البدع أو
الأخطاء أو الاجتهادات التي لا تخرجه من أصول أهل السنة الكليّة.
قال الحافظ
الذهبي رحمه الله دفاعًا عن محمد بن نصر المروزي رحمه الله: "ولو أنا كلّما
أخطأ عالمٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له قمنا عليه وبدّعناه
وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما، والله هو
هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة" (20)
وقال في ابن خزيمة: "ولو أن كلّ من أخطأ في
اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخّيه لاتّباع الحق أهدرناه وبدّعناه لقلّ من يسلم معنا
من الأئمة" (21)
وقال دفاعًا عن الغزالي: "الغزالي إمام كبير وليس
من شرط العالم ألا يُخطئ" (22)
وتأمل اعتذارات
ابن القيم ودفاعه عن شيخه الهروي صاحب منازل السائرين، وكذلك احتمال الأعذار من
ابن كثير لكثير من رجال البداية والنهاية.
والمقصود هو نشر ثقافة التماس العذر وإحسان الظن
والإنصاف واحتمال الأخطاء – مع عدم متابعتهم فيها -.
ولله مُعاذٌ ما افقهه! فعن يزيد بن
عميرة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: "تكون فتنةٌ يكثر فيها المال، ويُفتح
فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق والصغير والكبير والرجل والمرأة، يقرأه الرجل
سرًّا فلا يُتبع عليها، فيقول: والله لأقرأنّه علانية، ثم يقرأه علانية فلا يُتبع عليها،
فيتخذ مسجدًا ويبتدع كلامًا ليس في كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإيّاكم وإيّاه فإنّ كلّ ما ابتدع ضلالة.
قال يزيد: ولما مرض معاذ بن جبل مرضه الذي قُبض فيه
كان يُغشى عليه أحيانًا ويفيق أحيانًا حتى غُشي عليه غشيةً ظننّا أنه قد قُبض، ثم أفاق
وأنا مقابله أبكي!
فقال: ما يبكيك؟ قلت: والله لا أبكي
على دنيا كنتُ أنالُها منك، ولا على نسب بيني وبينك، ولكن أبكي على العلم والحكم الذي
أسمع منك يذهب.
قال: فلا تبك، فإنّ العلم والإيمان
مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، فابتغه حيث ابتغاه إبراهيم عليه الصلاة السلام، فإنه
سأل الله تعالى وهو لا يعلم وتلا: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) وابتغه بعدي عند أربعة
نفرٍ، وإن لم تجده عند واحد منهم فسلْ عن الناس أعيانه؛ عبد الله بن مسعود وعبد الله
بن سلام وسلمان وعويمر أبو الدرداء.
وإياك وزيغةَ الحكيم، وحكم المنافق". (23)
وفي رواية له عن معاذ – وفيها -: "..
وأحذِّركم زَيغةَ الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول
المنافقُ كلمةَ الحق" قال: قلت لمعاذ: وما تدري رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة
الضلالة، وأنَّ المنافق يقول كلمة الحق؟ قال: "بلى، اجتنِبْ من كلام الحكيم المشْتَهِراتِ
التي يقال: ما هذه؟ ولا يَثْنِينَّك ذلك عنه فإنه لعله يُراجع، وتَلَقَّ الحق إذا سمعته،
فإن على الحق نورًا" (24) فرضي
الله عن معاذ فقد أعطانا معيارًا ومنهاجًا في التعامل مع أهل العلم ومن تشبّه بهم
ممن ليس منهم حالَ صواب الجميع أو خطئهم.
وتأمل فقه معاذ رضي الله عنه في تحذيره من زيغة الحكيم،
لذلك فلا تُعنِقِ الفرحَ بكل نكتةٍ علميّة انقدحت لك، فما كلّ ما يلمع ذهبًا ولا
كل بيضاء شحمة. واجتنب الغرائب فالغريب مريب، وعليك بجادّة السالفين الأُوَل ذوي
الأمر الأول والنمط الأوسط، الذين وقفوا عن علمٍ، وكفّوا عن ورع.
واحذر من أن تتخذ قولًا أو عملًا ليس لك فيه سلف صالح،
فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وسَبْعُ الأفكارِ أضْرَى من سبعِ الأجساد.
ولا يعني هذا ترك الاشتغال بكل واردٍ فكريّ جديد، فهذا
ليس مقصود، بل القصد التمهّل والتريّث والمشاورة للراسخين قبلًا، فقد يكون مطروقًا
للسابقين لم تعلم به، أو كان سببه ومقتضاه قائمًا فتركوه تورّعًا.. أو نحو ذلك.
ومما يؤسف له أن بعضًا من أمور الأمّة المُلحّة (العصريّة)
لا نجد لبعض الأكابر حديثٌ فيها ترفّعًا أو تزهّدًا أو انشغالًا – مع انتشارها بين
الناس كنار الهشيم – فنشأ عن اعتزال هؤلاء الكلام فيها أن انبرى لها تيّارٌ غير
مرضيّ، فاقتحم مجالها وأسّس وبنى وأعلى منازله حتى كادت أن تكون حكرًا عليه، بعد
ذلك أخذ في توجيه الناس بحسب خلفيّته المُميّعة لثوابت الشريعة، فاستيقظ أصحابنا وصاحُوا
بأهله - بعد خراب البصرة - وخير لهم أن يصيحوا بأنفسهم أوّلًا.. فقد ذهبتْ ليلى فما
أنت صانع؟!
وعلى كلّ حال فأن تتأخرَ خيرٌ من ألّا تأتي، ولا يزال
الميدان والفضاء لحمَلَةِ الكتاب إن صدقوا ما عاهدوا، وعرفوا قيمة تغيّر مفاهيم
التعاطي مع مستجدّات الزمن.. وجولة الحق إلى قيام الساعة.
إن الله تعالى قد جعل العالِم بركة للناس بما ينشره من
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله وعمله وسمته وخُلُقه. فهو وارث تركة الرسول
صلى الله عليه وسلم وهو الذي يوزّعها على الناس ويهديهم – بإذن الله - لها، ولا يزال
في الأمة خير ما كان فيها علماء ربانيون يصِلُون حاضرَ الأمة بصدرها الزاهر
المنير.
فإن رُمْنا مثالًا حقيقًا بالاحتذاء في زماننا الذي
احتوشته الفتن المدلهّمة، فثمّ نجمٌ ساطعٌ أجمعت قلوب أهل السنة على إمامته في
الدين، فقد جمع الله له العلم بالكتاب وتأويله، والسنة إسنادًا ومتنًا وفقهًا،
ومعرفة بمذاهب الفقهاء وإجماعهم وخلافهم، وسعة اطلاع على أوضاع الأمة في زمانه، مع
صيان تامّ وورعٍ لازم، وخلق سامٍ منيف، ولا نزكيه على الله.. ذاكم هو شيخنا وشيخ
شيوخنا الإمام ابن باز رحمه الله، الذي عاصر هذه الفتن إبّان ظهور قرونها وبروز
أنيابها، فكيف كان تعامله معها؟
لقد تعامل معها بحكمة العالم وتجربة الشيخ وحنان الأب
وحزم المربّي، فلم يولّ وجهه عنها وينشغل بنفسه، بل لاقاها بعلمه ونصحه وحزمه
ورفقه.
لقد نظر إلى
الفتن بعيني بصيرته، فعينٌ على فتنة التصنيف بين أهل السنة فيما بينهم، فحاول جهده
أن يجمع بين قلوبهم ويقرّب اختلافاتهم ويضيّق الهوّة بينهم برِفقِه المعهود ونصحه
المشهود، لعلمه أنهم جميعًا دعامة السنة في ذا الزمان وإن اختلف معهم في بعض وجهات
النظر التي لا يخلو منها زمان، فالله الحكيم قد وزّع الفهوم والعلوم كما وزّع الأرزاق
والأعمار والأديان، فالموفّق من حرص على سداد نفسه، ورضي من الناس بالمقاربة،
فالسنة في حقيقتها تجمع ولا تفرّق.
أما عين الإمام
الثانية فقد كانت على المخالفين سواء كانوا من أهل القبلة أو غيرهم، فأوسع طاقته
وبذل جهده في هدايتهم برفق وتلطّف وصبر ومصابرة، فلم تأخذه صولةُ الغضب حتى تخرجه
عن رفقه، ولم يَقصُر حبل لطفه عن بيان ضَّلال المخاطب نصحًا له وللأمه مهما كان
شأنه. ألا رحم الله ذلك الإنسان الأُمّة!
كثيرٌ من أهل العلم لم يستطيعوا التحرر من قالبهم
النفساني إزاء الحُكم العلمي والفتوى الصادرة منهم، فتصطبغ فتوى الواحد منهم ومواقفه
بطبعه وتكوين مزاجه وخُلُقه، فتخرج الفتوى المحرّرة أو الموقف الديني بصبغةِ ذلك
الشيخ وطبيعة تأثّره بمن حوله، وقد يعتورها بعض القصور من هذه الحيثيّة.
لكن الإمام ابن
باز كان مختلفًا، فلا تكاد تلمس في فتاواه ومواقفه سوى متانة الدليل ووضوح الحجة
وقوة المنهج. مع ذلك فهو غير معصوم، وقد خولف في أمور كما خولف سلفه، والموفّق من
كان أقرب للحق بقربه من دليله صحّة وصراحة.
والمقصود ضرب
المثال لا غير، ولعلك يا صاحبي أن تراجع ما اسطعت من ردود هذا العلم على المخالفين،
وسترى برهان ما قدّمتُ لك، فابن باز إمامٌ يضوع عبق السنة من أردانه، ويفوح
عبير الاتّباع من محيّاه، وينسكب نَهَرُ العلم من شفتيه، فلله درّه من عالم عامل
فاق أقرانه طُرًّا، ولا نزكّي على الله أحدًا.. أفادَ
الناس منه واغترفوا من بحره العباب حتى صدروا رواءً بعَطَنٍ، رحمه الله.
ألّف الشيخ محمد الغزالي رحمه الله كتابًا لمَزَ فيه
متديّنة الخليج، ثمّ أتى السعودية فطلب منه مرافقوه أن يمرّوا له على العلامة ابن
باز، فمانع خشية التقريع أو حتى العتب، فألحّوا عليه فقبل مرافقتهم وسلّم على الشيخ
الذي أدناه إليه واحتفى به وأكرمه ولم يُشر لكتابه ولو بأدنى إلماحة - مع علمه به وتأذّيه من بعض ما فيه – فلما خرج
الغزالي هتف بمرافقيه معجبًا حامدًا خلق الشيخ: إن هذا الرجل ليس من أهل زماننا.
(فقه الفتن وحال المومن حيالها)
الناصح لنفسه
يخشى مضلات الفتن، ويستعيذ بالله منها، ويعمل الأسباب الموصلة للسلامة منها. فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه
قال: وايْمُ الله لقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن السعيد لَمَن
جُنِّبَ الفِتَن - قالها ثلاثا - ولَمنِ ابْتُلِيَ فصبر، فَواهًا" (25)
ومن الفتن أن يُغلّف الباطلُ بلبوس حقٍّ، فيكونُ للحقّ
طرفٌ من الأمر المشتبه أو الباطل، كأن يكون للمسألة أكثر من وجه أو حال، أو أنها
باطلةٌ لكن يُستثنى لها حالات من الحق، ومِن هنا يدخل الشيطان للمرء من مطمعِه أو
مرهبِه، فينظر لها تشهيًّا لا تطلّبًا للهدى، فيَهلك ويُهلك.
مثاله: أن تكونُ القضيّةُ والمسألة مما يهمّ السلطان،
ويكون له فيها طرفٌ يفرح ذلك السلطان أو يغضبه، فيطمع الناظرُ للمسألة أو يرهب،
فيركن لطرفها ويكتفي بما يستظلّه منها من الحق، دون طرفها الآخر، ولا ينتبه
لحقيقتها. ولكن لأن النفس قد ركنت للعاجلة فإن الشيطان يلبّس عليه بشبهةٍ وافقت
هوى، ومن ذلك بعض مسائل طاعة ولاة الأمور أو الخروج عليهم ونحو ذلك، وكما أن
للسلطان فتنة فللجمهور مثلها أو أشد.
إن من فتن الزمان فتنةُ السلطان حُسبةً أو رَغبًا أو
رهبًا، ومن سَبَرَ تاريخ الإسلام تبيّن له أن أكثر فتن الدماء هي من هذا الباب ولا
تزال.
إن ظُلم الحاكم
لا يُبرّر الخروج عليه بالسلاح ونقض بيعته، ولو جاز ذلك لم تقم ولاية على الإطلاق،
فسيزعم حينها كلَّ من أراد الخروج أنه قد ظلم، ثم سيخرج على من يخلفه من يتهمه
بالظلم فلا يبقى للناس ولاية ولا أمن ولا نظام، وستضربهم فتن الفوضى والاقتتال
وانقطاع السبل ورفع العافية.
إن الصبر على
ظلم السلطان لا يعني الضعف بحال، بل هو القوة كلّها في الحقيقة، وعصيان الهوى
والصبر على دفعه ورفعه أصعب وأشد من عصيان الناس والصبر عليهم.
وهذا الصبر على
ظلم الولاة لا يمنع المظلوم من رفع شِكايته لخالقه وناصره، وما ضاع في الدنيا ونُسيَ
فهو موفور في الأخرة ومحفوظ مدّخر في وقت أحوج ما يكون إليه، فعلام الحزن أذن؟ فما
هي إلا أيام دونها أيام ويُنتصر للمظلوم في الدنيا أو في الآخرة، فليس من الحكمة
في شيء أن يكسرَ المظلومُ عصا جماعة المسلمين ويضعفهم أمام أعدائهم بسبب مظلمته
الخاصة مهما بلَغَت، فالصبر الصبر تبلغوا.
ومهما رأى الغيورون على حرمات الله من ضعف
الاستقامة في الدين وانتشار الفساد وضعف الاحتساب ووهن الانقياد فعليهم بإحسان
الظن بالله والعمل على رفع أسباب الفساد بما شرعه الله لهم من أبواب تغيير المنكر
وإقامة المعروف، وما أكثرها في الواقع ولكن الكسل مؤذن بقذف الملامة وتزكية النفس
اللوامة، والله المستعان.
ولقد كتب ابن تيمية كلامًا نفيسًا في وصف يأسِ بعض
الناس عند رؤية العجز العام عن القيام بأمر الدين: "وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو
تغيّر كثير من أحوال الإسلام جزع وكلّ وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا،
بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا
والذين هم محسنون وأن العاقبة للتقوى، وأن ما يصيبه فهو بذنوبه، فليصبر إن وعد الله
حق، وليستغفر لذنبه، وليسبّح بحمد ربه بالعشي والإبكار" (26)
ومن فقه الفتن: العملُ الجاد على ردّ الناس إلى الله
ردًّا جميلًا، فالدعوة إلى الله هي وظيفة المرسلين، وهي أعظم ما يبقى للمؤمن بعد
رحيله عن هذه الدنيا، فاعمل على أن تنتظم في سلك الدعاة إلى الله على بصيرة وهدى،
وافرح بكل خير يصل للناس منك أو من سواك.
إن انتشار مظاهر الاستقامة في الناس قبل عقدين من الزمن
- وهو ما يسمّيه بعضهم بالصحوة - لهو شيء مفرح لكل مؤمن حتى وإن شاب بعض نواحي ذلك
التديّن نقصٌ عند بعضهم من جهة ضعف التربية العلمية أو العملية، فهو شيء طبيعي
لاختلاف مدارك ومشارب الناس.
أقول: إن انتشار مظاهر الاستقامة قد أغاظ المنافقين ومن
في قلوبهم مرض، الذين لا يريدون للدين عزًّا، فحاربوا الصحوة واليقظة العامة من
سبات الغفلة بكل جهد أطاقوه، وأجلبوا عليها بخيلهم ورجِلِهم.
هذا وإن حرب أولئك
المنافقين لها قد وافق بعض أهويةِ الساسة، فركبوا الموجة المضادّة لها عبر تجفيف
منابعها وحرب دعاتها وتقليص مناهج التعليم الشرعي ومنع الملتقيات الدعوية والحدّ
من حلق تعليم القرآن ونحو ذلك.
وهذا العمل ليس
مستغربًا من بعض الجهات والهيئات المعروفة بتوجهها الليبرالي العلماني، ولكن يعظم
العَجَب والدَّهَش حين نعلم أن بعضًا ممن يحمل كِبَرَ تلك الحرب العَوَان وبأساليب
غاية في الدناءة واللؤم هم من بعض منتسبة علم الشريعة وطلبة العلم بحجة أن هناك تيّارًا
غير مرضيّ عنه قد يستفيد من تلك المحاضن الدعوية والتعليمية لدى الشباب، وهذا عين
الباطل فلحجتهم أنفٌ مكسور، فمنعُ الخير العام بحجة قطع بعض الشرّ المظنون ضرب من
سوء الرأي والتدبير.
والحل - إن وُجد
ما يقولون - ليس بحجب النور والعلم والفضيلة عن فلذات الأكباد العطاش للخير، بل يكون
بتنقية الميدان من الكَدر ومتابعته وتصفيته، فليس من الحكمة قطع الشجرة المثمرة
بسبب تعلّق النبتة المتسلقة بها، بل الحلّ يكون بقطع الضارة المتسلقة دون الشجرة
النافعة.
(بين الدعوة والسياسة)
المنهج السلفي في حقيقته منهج كامل تام لأنه خُلاصة
الإسلام، فمن حقّق الإيمان والإسلام في نفسه فهو سلفيّ صميم حتى وإن لم يُسم نفسه
بذلك فالعبرة بالحقائق لا الألقاب.
وبما أن هذا
المنهج يُعدُّ منهجًا تكامليًا فليس بمستغرب أن تحاول بعض الأنظمة والساسة
الاستفادة القصوى من مزايا هذا المنهج الداعي للاجتماع والالتفاف حول الإمام الذي
يسوس الناس بالشريعة وتحريمِ الخروج عليه بلا مبرر شرعي حقيقي لا متوهّم.
وفي الكلام على هذه التيارات والأطياف السلفية المتنوعة
(الشركاء المتشاكسون، والأصدقاء الألدّاء!) ننبّه إلى أنه حتى لو قلنا بأن بعض الأنظمة
تستفيد وتُمثِّلُ دور طائفة معينة في بعض أدبيّاتها ومواقفها فهذا لا يعني
بالضرورة نقدًا لتلك الطائفة فضلًا عن أن يكون عيبًا وسبّة، وذلك لأن تلك الجهات
المتسلّقة لا تأخذ بمنهج تلك الطائفة بشكل تكامليّ بل تلفيقي، فتتناول منه ما وافقها
على سبيل التشهّي لا الاهتداء.
وليس هذا بجديد
لا على مستوى الأفراد ولا الجماعات ولا الدول، كمن يأخذ من الإسلام ما راقه على
سبيل الانتقاء والتشهّي مع ترك ما خالف هواه، - فحتى الصليبي نابليون قد ادّعى
الإسلام على الطريقة الصوفية ليحصّل مراده - وليس العيب في الإسلام إنما العيب
فيمن فعل ذلك الفعل.
ولكن هذا لا يمنع
أن ننظر بعين الريبة لمن انتسب لتلك الفئة ووافق تلك الأنظمة على فعلها التلفيقي
الصارخ، واصطفّ معها، ولم يتبرّأ من ختلها وغدرها. فهناك - بكل صراحة - يحقّ
للمتأمل أن يضرب بقلمه ولسانه صارخًا بأن هاهنا خللًا منهجًيا فأصلحوه، وقصورًا
مسلكيًّا فقوِّموه، ورتقًا أخلاقيًّا فارفؤوه، ودعاية سيئة ضد هذا المنهج فأوقفوها
بالفعل لا القول.
وثمّت أمرٌ مثير للريبة – وهو الوجه الآخر لعملية
التعاون على المنكر - وهو أن بعض الأطراف قد تستفيد من بعض الأنظمة والمؤسسات
السياسية لتسويق الجزء الذي يصلح لها من منهجها، فثمّ أنظمة تدعم المدّ الطُّرقي
للخرافة الصوفية والمعتقد الكلامي التحريفي وتجاهر بحرب الفضيلة، ثم نراها – بورعٍ
بارد أو مكر سافر - تبسط حمايتها على بعض المنشآت العلمية الفردية أو المؤسسية
لتيار منتسب للسلف! وكذلك العكس، مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنبثق
عن الولاء والبراء هو أصل عظيم للمنهج السلفي، وفرعٌ كبير لدوحة الجهاد في سبيل
الله الذي اشتهر هذا المنهج الأصيل بإقامته، فهل هذا من جَلَدِ الفاجر وعجز الثقة
وغفلة الصالحين، أو هو من: (ربنا استمتع بعضنا ببعض)؟!
وهذا ما دعى
بعض المراقبين لاتهام بعض الجهات السيادية في بعض الدول بالمسؤولية المباشرة عن
تغذية ذلك التيار وحقنه بالمواد اللازمة لنفخه!
وإن كان في ذلك
بعض المبالغة إلا أن سوء الظن هذا له قد يكون له ما يبرّره من تصرّفاتٍ لا نجد لها
مخرجًا من سبعين مخرج! وهل أحبُّ للسياسي من أن ينشغل أهلُ الرأي والتأثير بشذب
وطعن ونقد أنفسهم عنه وعن مشاريعه وأطماعه؟!
مع هذا فقد يكون
السياسي – أحيانًا - بريئًا، ولكنّ حرارة الخصومة للتيار الأخر المنافس هي التي أعمت
وأصمّت وأحرقت أوراق الخريف..
وعلى كلّ حال فلسنا بسبيل اتهام وتحقيق، فكلّ شيء وارد
في حرب الأفكار ومزايدات الساسة، فالمؤسسات الدينية – حتى عند غير المسلمين - هي سلاح
ماض مع السياسيٍّ أو ضدّه، فكلٌّ يدّعي به وصلًا، ولكن السعيد هو من كان ذا صدقيّة
وورعٍ واستقامة وعلمٍ وحسن نظر للمآلات المصلحيّة للأمة.
ومن جدير التنبيه تبيان أنّ من العلمنة السياسية الماكرة:
الاتهام بما يُسمى الإسلام السياسي، فغايته إفراغ التديّن من السياسة، وهذه محصّلة
علمانية صرفة!
إن من فروع الإسلام الصحيح: الجهاد في سبيل الله،
والاحتساب السياسي، وقد فعله الأئمة، ولا إله إلا الله من أولها لآخرها عقيدة وشريعة
وعبادة وأخلاق وسياسة. وجهادُ البيان بمحكمات القرآن لا يقلّ درجةً عن جهاد
السِّنان، بل قد فاقه في بعض الأحوال، وربُّ العزة يقول: (وجاهدهم به جهادًا
كبيرًا)
واعلم أنه ليس كل من خرج على السلطان معدود من الخوارج –
شرّ الخلق والخليقة (27) - فقد يكون خارجيًّا وهو قابع في بيته لكنه يرى صحة
مذهبهم، وقد لا يكون خارجيّا وهو شاهر سيفه كالبغاة مثلًا، فالخوارج هم من يرون
كفر مرتكب الكبيرة ويرون الإنكار بالسيف، ومع ذلك فقد شاب بعض الجماعات الإسلامية
شوائب خارجية ونراها تزداد مع الأيام، فمنهم من وصل لاعتناق ذلك الفكر الخبيث،
ومنهم من قاربه، ومنهم من تحيّر وتردّد. والموفّق من عصم الله قلبه ولسانه وقلمه
وسيفه من الوقوع في حبائل الخوارج وحرائق شبههم.
(ضرورة حفظ اللسان وحراسته)
ما من عضو بعد القلب أشدّ خطرًا من هذا اللسان، وما من
جارحة أحقُّ بطول حبس منه، وإنه عجيبة من عجائب خلق الله، ونعمة جليلة من أكبر
آلائه، فبه يكون البيان الذي نبه رب العزة لجلال شأنه بقوله: "علمه
البيان"
فبه يعرب عن مكنون ضميره ورغائب نفسه، وبه يطلب حاجته،
وبه يعبد ربه ويدعوه ويلهج بذكره وشكره. فهو من أعظم وسائل رضى الله عن عبده لمن
أحسن استعماله في طاعته.
وبالمقابل فهو هاوية لا قرار لها إلا في دركات الجحيم
لمن أطلق عنانه بالكفر والشرك ومساقط غضب الجبار جل جلاله.
من هنا يتبيّن
للمؤمن خطر هذه الجارحة التي تسمّى اللسان، وفي زماننا – زمان الكتابة – أصبح
القلم أحد اللسانين، فاحفظ لسانيك لعلّك تنجو.
وإن كان بغيُ السِّنان مُعطِبٌ فإن مبدأه اللسانُ، وكم
في المقابر من قتيلِ لسانه.. ومَن سلّ سيف بغيِ لسانه قُتل به. ولكل عملِ جارحةٍ
غدًا من الله طالبٌ وسائلٌ، فهل أعددت جوابًا صوابًا؟!
وعلى المؤمنين بعامّة وطلبة العلم خاصّة الاعتناء
بحراسة اللسان من فخّ إبليس في المجالس؛ الغِيبة. فهي من كبائر الذنوب، مع ذلك فحال
كثير من الصالحين معها كالمستحلّين لها بالحال لا بالاعتقاد خذلانًا وخيبة!
فالنفس تستروح
لتنقّصِ الناس لتستريح من لومها على تقصيرها، وهذا الإسقاط الخفي إن لم يتداركه
الناصح لنفسه في نفسه فإنه يستفحل به حتى يأكل حسناته بكيل مظالم العباد. وكذلك
حمّالة حطب السيئات؛ النميمة. ففتّش صحيفتك ونقّها اليوم قبل نشرها غدًا، ونقّ
سريرتك الليلة قبل ابتلاء السرائر غدًا.
لقد توسّع بعضهم في التساهل في الغيبة بما لم تُبحه
الشريعة، فالأصل الثابت هو حرمة العرض المسلم، فلا يباح خرق هذا الأصل إلا على
برهان من الشريعة، وليس كلّ من زعم أنه يحذّر من بدعة محقّ في تحذيره ولا مستنٌّ
في أسلوبه وطريقته، و"من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (28)
ومن بوائقِ الألسن التنابزُ بالألقاب بغيًا وعدوانًا،
ويكأن زماننا هو زمان هذا النوع من البغي، والله المستعان. وليس من المستساغ
التنابز بألقاب المناهج المُحدثة، ولا أظن أن عاقلًا يستطيبُ نسبته لهذه الألقاب،
لعلمه بما وراءها من قصد المذمّة، ولاكتفائه بتسمية الإسلام والإيمان، وبعد ذلك
السلف والسنة.
علمًا بأن هذا الأمر - الانشغال بالطعن والثلب والنّبز
- ليس محصورًا في تيّار بعينه، فلا يسلم كلّ تيار من أفراد يقعون فيه، ولكن لتيّار
معروف اختصاصٌ بذلك لدرجة أن من لم يشتغل بالطعن والثلب أصالة أو نقلاً فلا تصح نسبته
إليه! وهذا من مبكيات هذا الزمان، والله المستعان.
أما الذي يحدث الآن بين كثير من أنصاف المتعلّمين ممن
سبقت حماستُهم أحلامَهم وتغايرُهم تواضعَهم وتحارشُهم وئامَهم فهو فوضًى فكرية بلا
ضابط علميّ وهمجيّة أخلاقية في التعاطي مع المخالف، فيركض التلميذُ مع شيخه حيث حطّت
رحلها أم قشعم، بلا برهان كاف ولا دليل واف، إنما هو التعصّب الأعمى والجاهلية
المتلبّسة بلبوسِ غَيْرَةِ الديانة، وكذبوا!
فمن كان غيورًا
على الدين فليأت بيوت معضلات المشكلات من أبوابها لا ظهورها، وليحذر من التخوّض في
أعراض المسلمين كما يحذر تخوضه في دمائهم وأموالهم، وليعلم أن لكل كلمة منه طالبٌ من
الله، فمعتّقٌ أو موبقٌ، وقد نقل القرطبي الإجماع على أن الغيبة من الكبائر.
وليس لمن طعن أعراض عباد الله من مندوحة بزعمه
حماية الدين وحراسة السنة، فالسلف الذين جرحوا وتكلّموا قد فعلوا ذلك مع من استبان
منهم الزيغ وعظمت بهم الرزيّة وخِيف على الأمة من ضلالهم، ولم يفعلوه تقليدًا أو
طيرانًا مع القالات أو لقاء حظّ نفس حقود وإشباع أخرى حاسدة، فأعملّت موجب صكَّ
التّهمة على من كان منها بريئًا، والله الموعد.
وكثيرًا ما تَهدي قلائصُ حُمّى الغضب للبغي والضلال لا للرشاد
والهدى مالم تُضبط بمعيار الوحي المنزل. والقاعدة الفاذّة لطالب العلم: تكلم بعلم
أو اسكت بحلم.
هذا؛ وليس كلّ صغير السن سفيه العقل، فكم من حديث السن
راجح العقل وافر الحلم حسن السّمت، يستهدي بحلمه الشيوخ كما يُستهدى بجدي الشِّمال
في القِفار، ولكن من كان صغير السن كان أحرى بالزلل ممن عركته التجارب بثفالها
والسنين بأحمالها.. فمقصودي – يا محب - بعض الحدثاء ممن يندفعون بلا رويّة ولا
أناة.
إن حدثاء الاسنان سفهاء الأحلام اليوم فئتان:
فئة غلت في
التكفير فاستحلت الدماء الحرام، وفئة غلت في التبديع فاستحلت الأعراض الحرام، وكلاهما
على ضلال مستبين. وكم من موقدٍ للفتن قد غفل عنه الناس ولم يغفل عنه رب الناس (ولا
تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) فالمشرك ظالم، والخائض في الدماء أو الأعراض
بلا علم وورع ظالم.
قال القرطبي رحمه الله: "وباب التكفير باب خطير،
أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئًا"
(29)
وقد يصيح في وجهك شاب متحمّس عجول بأنه مجرّد ناقل
لردود العلماء أو طلبة العلم على خصومهم، وأنّهم لو لم يتبيّن لهم صوابيّة الكلام
في ذاك الإنسان ما تكلّموا ولا طعنوا ولا جرحوا وحذّروا!
وهذا – في
الحقيقة - ليس بمبررٍ كاف للنجاة من المساءلة غدًا، فمن لم يكُ راسخًا فليسعه بيته،
وليبك على خطيئته، وليقنع بالعافية، ولينكمش على ما عنده من خير، ولئن يخطئ في
العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة، فكلام الأقران يُطوى ولا يروى، فلا يجوز نقل
كلام طلبة العلم والدعاة في خصوماتهم، فكثيرُه نابع من تغايرٍ وحسد، وناقل الغيبة
أحد المغتابين، فتنبّه، واعقل قلمك ولسانك في محبس حكمتك وعقلك وورعك، وفكّر
واعتبر بمآل خطواتك قبل الإقدام، وغدًا ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلًا.
وإن أردت الإحساس بحلاوة الإيمان وتذوُّقَ لذة العبادة
والانتعاش بنور الصدر وانفساحه فانشغل بما يفيدك في المعاد، وبما هو من مهمّاتك الأوّلية
وما خلقتَ من أجله.
فإذا انتبهت
لعيوبك وبصرْتَها، وحرستَ قلبَك، وحصّنت عقلك ونفسك بالعلم والحكمة ومعرفة دخائل
النفس وحظوظها العاجلة الخفيّة؛ فستذوق حينها بلسان قلبك حلاوة ثمار الإيمان،
وستبتهج بحياتك في رياض القرآن، وستذوق نعيمًا في الدنيا وهو في حقيقته من نعيم
الجنان، والله الموفق وهو المستعان وعليه المعوّل والتكلان، ولا حول ولا قوة إلا
بالله الرحمن.
(الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء)
من يعمل ويتعبد ويجتهد في دعوة الناس للخير والإيمان
والتربية والتعليم فهو – في الأغلب – لا يُكثر الخوض في النقد والتّتبع لأنه مشغول
بما هو أولى من السفساف. فإن جُرَّ ودخل ميدان الردود فإنّه يستعمل منهج النبي صلى
الله عليه وسلم في الرفق والتّثبّت وإحسان الظن وحملِ القول والعمل على أحسن محامله،
ويعرّض بلا تصريح وتجريح "ما بال أقوام.." (30) بينما نرى كثيرًا ممن
تصدّوا للتشغيب على أهل الدعوة والخير قليلو المساهمة في البناء، فالهدم يسير لكن
البناء هو الشاقّ، وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.
ولا يعني هذا
ترك الرد على من أخطأ، ولكن الخلل – في الساحة - يكون عادة بأحد أمرين: في الكمّ
أو الكيف.
وبتعبير آخر فخُذلانه يكون من أحدِ بابين: فإما أن يكون
الردّ والتتبع للعثرات هو الأصل والديدن والسبيل المستمر المعتاد، وإما أن تكون
طريقة الردّ مخالفة للتثبّت وإحسان الظن والصدق والرفق!
(العدل والإحسان)
قال سبحانه وبحمده: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)
فالعدل فرض لازم والإحسان نفلٌ مستحب. فبالعدل قامت السماوات والأرض، ومن لم يعدل
فهو ظالم، والظلم ظلمات يوم القيامة، والله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بيننا
محرّمًا.
والظلم من
دواوين حقوق العباد، وهي مبنيّة على المشاحّة لا المسامحة، فاتق الله في نفسك – يا
رعاك الله – واعمل على أن ترحل من هذه الدنيا الموبوءة وأنت سليم الصدر خفيف
الظهر، قبل أن تستقيل فلا تُقال وتستعتِب فلا تُعتب، ولات حين مندم ومناص.
ولن تزول للجنة قدم عبدٍ عليه
ظُلامة حتى تُرفع عن ظهره، فعليك بالعدل والإحسان وإلا فأمامك مآل الظالمين، فما
أحلَكَهُ وأسوَدَه وأبشعه؟!
يأخذُكَ العَجَبُ وأنت تتاقشُ أحدهم عن سبب تشنيعه
المستمرّ على شخص ما، فيورد لك بكل حماس وصدق تدوينات أو صوتيات قديمة تُدين ذلك الإنسان
وفيها ضلال بيّن وباطل لا مرية فيه، ولكن ماذا لو أن ذلك الرجل المشنَّع عليه قد
تاب من ذلك الذنب واهتدى بعد ذلك الضلال؟ - وقد وقع ذلك من بعض الدعاة - أوليس
الواجب أن يختلف الحال معه تبعًا لتلك التوبة المعلنة والتي تبرّأ فيها من ذلك
الزور؟ أليست التوبة تجبُّ ما قبلها؟ (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) سبحان
الله، من ذا الذي يحجر رحمة الله؟!
فإن قلتَ: إني أُحذّر
من خطئه الذي قد يفتن الناس. فسنقول لك: فأنت بهذا تنشر باطلًا قد يكون الناس قد
غفلوا عنه وتركوه، وتبعثه بعدما دفنوه.
فإن أصررت على
ذلك النشر فلا بد لك من إنصافه، فبيّن - إنً كنت ناصحًا صادقًا - أنه قد تاب ورجع
عن هذا الضلال الذي كان قد نشره، وإلا فأنت مدلّس بالاتفاق. أما من لم يتب أو لم
يُظهر توبته ويهدم حوبته بنشر السنّة والهدى التي تهدم بدعته وضلاله فله شأن آخر،
فشأنك وإياه، وأنت مأجور بإذن الله ببيان السنة والحقّ والردّ، شريطة العدل
والثبّت والصدق والنصح.
وقد تعجب أخي
القارئ من توضيح الواضح ولكني أهمس في أذنك بأن بضاعةَ إبليس التي ذكرتُ لك رائجة
في سوق دُعاتنا بمسمّيات وألوان وتأويلات يراها عيانًا كلُّ مراقب للحال الدعوي
المعاصر.
فعليك بالتثبت والتبيّن وهو من فروع الإنصاف، وما أعزّه
في الناس!
لقد وصل الحال ببعضهم أن يوالي مَنْ أمَرَ اللهُ
بمعاداتهم نكاية في إخوته من الدعاة! وهذا المسلك المخزي ليس خاصّ بفصيل معيّن، بل
تلوّث بوَضَره غير قليل، والله المستعان، (ألم يعلموا أن الله يعلم سرّهم ونجواهم
وأن الله علام الغيوب).
فترى منهم من يوالي الطاغوت المحكِّم للقانون الوضعي،
أو يتولّى الليبرالي المحارب لدين الله، كلُّ ذلك لأنّهم وافقوه في حربهم إخوته في
الدين، فيا لله كيف يسقط الهوى القِممَ للقُمقم؟!
إذا
قدوةُ القومِ أمسى لئيماً ... وباع بأُخراهُ
دنياً أذمْ
فكبّر
وسلّمْ على أمتي ... فقبل الوفاة يكون السقم
ومن العجائب أن يقع أحد مُقرّبي فئة ما في تجاوزٍ أو
نوعِ ابتداع يسير غير مقصود، فيُغضي عنه ويتأوّل فعلَه بسنّيته العامة وتوحيده
الظاهر، فإن رأى من خصمه مثل ذلك أو دونه زجره على رؤوس الناس وأشهر نكرانه في
أركان الأرض الأربعة! أفلا عاملَ أخاه في الدين بمثل أخاه في الفئة المزعومة.
ويحكَ يا هوى النفس الخفي..
وفي المقابل
ترى من كان من الفئة المقابلة إن زلّ لسانُ أحدِ مقربيه بغيبةِ خصمه استروح ذلك وسُرَّ
به باطنًا، وأغضى عن نكيره ظاهرًا بحجّة التحذير من منهج ذاك الآخر، فيما نراه
يحمل كتائب النكير والتشهير على خصمه في عين ما وقع فيه للتوّ! و"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة
الأولى: إذا لم تستح، فاصنع ما شئت" (31)
أفلا يخشى أحدنا أن يقف بين يدي الجبار يوم
القيامة في يومٍ لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ثم ينظر لصفحة أعماله فلا
يرى إلا مِراءً ورياءً وحظوظ نفس قد أفسدت صالح مقاماته التي ظنّها حجابًا
وميزانًا كما يفسد الوزغ اللبن! فيالله كم من موبقة في لباس حسنة، وزلّة في باطن
طاعة (وحصّل ما في الصدور . إن ربهم بهم يومئذ لخبير)
يتلفّع أحدهم برياء الوقار، ويتدثّر تدثرًا مخروقًا
بالسمت الحسن، ثم يتزيّا بزيّ الناقد الناصح والحارس المخلّص لحياض السنة، والغيورِ
الملتهب على مُحاربيها، ثم يرمي إخوانه بسهام حروفه المصميّة ونبال ظنونه غير
السويّة، فبدلًا من رمي أعداء السنة ارتدّ مخذولًا على أهله وإخوانه، والرائد لا يكذبُ
أهله والحادب لا يغزو قومه، و"لو يُعطى الناس بدعواهم لادّعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم"
(32) ولكن البيّنة البيّنة.
ودعوى الحقّ المجرّدة ليست بكافية حتى يعضدها الدليل
الراجح، أما والحجة تعوزها فلا. فالأشاعرة والماتُريديّة اليوم يدّعون أنهم أهل
السنة والجماعة، والخوارج كذلك والمتصوّفة ومُدّعي التنوير بل حتى الرافضة ومِن
خلفِهم أهلُ الكتاب كلهم يدّعون أنهم الحق المطلق.. والحبل على الجرّار، وكلٌّ يدّعي
وصلًا بليلى..
هذا وليس كل من اتُّهم بباطل هو من أهله، فالخوارج يرون
أهل السنة مارقين، والمتصوفة يرون أهل السنة غلاة، وأهل الكلام يرونهم حشويّة لا يفقهون،
والنصارى يرون المسلمين كفّارًا بالإله الحق. فالعبرة بالدليل لا بالدعاوى والأماني،
ونفس المؤمن مطمئنة بالدليل لا القال والقيل، فالصالحُ شعارُه: (قل هاتوا برهانكم إن
كنتم صادقين) ودثاره:
إذا لم يكن عونٌ من الله
للفتى ... فأولُ ما يجني عليه اجتهادُه
وقد يكون الرجل مصنّفًا عند الناس أنه من فئة ما، وهو
في حقيقته بريء من منهجهم أو من أكثر انحرافهم فيه.
وبعضهم يحتدّ وتثور حفيظته إن وصفه الناس ونسبوه لفئة
ما مع تشرّبه لحتوف الغلوّ في منهجهم، ولكن هو الملوم قبلهم، فنفسَك لُم ولا تلم
المطايا.. – وإن كانوا لم يُوفّقوا لأنهم تنابزوا بالألقاب - لأنه قد اتخذ طريقًا
محدثًا زعم أنه طريق السلف، وطرد غيره منه إلا من كان على مثل ما هو عليه، أما
غيره فهو - بنظره - حزبي مبتدع ضائع محترق.. إلى آخر ذلك الغثاء.
ومن مهمّات هذا الباب: أنّ الرد على المخالف نوعٌ من الإنكار
الشرعي، والإنكار الشرعي عبادة، والعبادة لابد لها من شرطي الإخلاص والاتّباع.
فأخلص قولك من
حظّ نفسك، وقم لله - ولله وحده – لا لشفاء غيظ، ولا لشماتةٍ بقرينٍ، ولا لمتعةٍ
بتسلّقٍ على ظهر من سبقك، ولا لسمعةٍ بأنك القائم لله والذائدُ عن السنة، واتّبع
ولا تبتدع في إنكارك - ولو كنتَ محاربًا لبدعة - إن دين الله واحد، فلا تتشعبنّ بك
سبل الأهواء.
واعلم أن الرد على المخالف لابد له من ثلاثية الطريقة
الشرعية: العلم بالمنكر، والعلم بوقوع فلان فيه - مع تذكّر موانع الإنفاذ - ثم
الرفق والحلم في أثنائه، ثم الصبر على الأذى فيه بعده. فتأملها – أخي في الله - فهي
مهمّة للسائرين في درب الرسول صلى الله عليه وسلم وبارك.
(التعاون على البر والتقوى)
بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى
إلى اليمن، وقال: "يسّرا ولا تُعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا، وتطاوعا ولا
تختلفا" (33) هذا هو الإسلام وشريعتُه، فهو ينظر
للفرد على أنه لبنة في بناء المجتمع وقطعة من نسيجه، لا يستتم المجتمع عافيته
وفلاحه إلا بصلاح تلك اللبنات، فثمّ عينان من الشريعة على هذا الإنسان:
الأولى: ترقُب صلاحه في نفسه. والأخرى: ترقب
إصلاحه لمن حوله. وبهذا يتم صلاح الأمة إذا تعاونت على البر والتقوى بالبر
والتقوى.
إن العقل المجرد يقتضي التعاون مع
القريب أثناء حرب البعيد، فإن فعلتَ العكس فقد كفيت أعداءك مؤنتك، فكيف والشرع قد
أمرك بنصرته والنصح له؟!
لقد اعترف الكاثوليك والبروتستانت
بخطئهم حينما حاربوا بعضهم في العصر الوسيط بشراسة شديدة مع تسامحهم – النسبي - مع
الوثنيين في نظرهم.
لقد صرخوا الآن بأن هذا خطأ، لأنهم رأوا أن ما
بينهم من المشتركات كان أكثر بكثير من المختلفات المُفرّقات، هذا وهم أهل باطل
وضلال فكيف بنا معشر أهل الحقّ والهدى.
أما من قال: سأُنقّي الصفّ من كل مالم يتفق معي، ثم أُثنّي
بالعدو البعيد فقد أخطأ على نفسه وعلى إخوته.
ومتى ابتدأت بالعدو البعيد أنت وأخوك فسوف تستنفدا غالبَ
حطب التفرّق الذي سيُوقد حينها تحت أقدام الكفرة، وستجدان من المشتركات ما سيقلّص
المختلفات، ومع كرّ الزمن بالحوار والمفاهمة واللين والرفق وإحسان الظن ستصلان
معًا لشاطئ الأمان والسلام بإذن الرحمن.
ورسول الله صلى
الله عليه وسلم لم يصحّ عنه قط أنه اتّهم مسلمًا بالكفر والردة والنفاق، فلم يكن
في عصر النبوة - في الظاهر - سوى مسلم وكافر، ومع وجود النفاق تحت السطح لكنه ليس
بظاهر فاش، وكفى برسول الهدى صلى الله عليه وسلم قدوة وأسوة، ولكن متى قامت
البينات فالحكم بمقتضاها هو عين الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
والمقصود هو التريّث والترفّق والتثبت والحوار وعدم
الركض سِراعًا للتشظّي والاحتراب. فاخضد – يا رعاك الله - شوكتك عن إخوانك في
الدين ما استطعت لذلك سبيلًا.
وقد يُعذر المرء على فظاظته وفجاجته بلا مبرر إن كانت فلتةً
عارضة وليست عادة مستمرة، فالقصور مستحكم في الإنسان، ومهما راض نفسه بالاستقامة
والصدق والمحاسبة فلابد من هنات في هنيهات تسرق منه نفسه لنزعتها للغضب أو ضدّه أو
غيره.
ولكن الموفّق
من لم تطل غيبتُه، ولم يتأخر اعتذاره، فترك الاعتذار أشد من الذنب، ولم يشمخرّ به أنف الكبرياء. وتأمّل قوله صلى
الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون" (34) وقولَه صلى الله عليه وسلم: "والذي
نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى، فيغفر
لهم" (35) وغيرها كثير.
وإنما يكون
المرء مستحقًّا لقرع الملامة إن كانت خصلته الفظّة الفجّة عادة له مستمرة، ويعظم
الخَطب حين يكون ذلك ممن يتصدّر الرد على المخالفين أو الإنكار على شهواتهم أو
شبهاتهم (ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضوا من حولك) وتأمّل واحذر ثم احذر أن تكون
منهم: "إن من شر الناس من اتقاه الناس لشرّه" (36)
ولكم رَمى خصومُ
السلفية دعاتَها بذلك، وإن كان الرّامون في الحقيقة أشدّ فظاظة وجفاءً واستكبارًا وبخاصة
إذا كان مخاطبهم سلفيًّا! ومع ذلك نقول بصراحة أليمة: إن هذا الداء مستفحلٌ بيننا،
فلا بد له من علاج ناجع عاجل بجرعة إيمان وعلم وحلم.
ويأخذك العَجَب والإنكار حين يأتي أحدهم فيشقّق الحديث
عن خطر البدعة ويسربل كلامه بوجوب حربها ومنابذة أهلها، ويستشهد بالأدلة من الكتاب
والسنة والشواهد السلفيّة، وبعد حديثه الطويل النافع نراه يختم بخاتمة اختزالية مُقتصَرة،
فيطلق وصف الابتداع على غير المبتدعة، ويسمّي شخصًا سُنِّيًا أو أشخاصًا، ثم يثنّي
بالمطالبة بتطبيق مواقف السلف مع مبتدعة زمانهم على ذلك الشخص المعيّن. فيخرج
المستمع بحصيلة نفسيّة قويّة مفعمة بالبراءة من المُحدَثات وأهلها ومنهم ذلك
المذبوح على نطع البهتان والزور!
ويغفل صاحب هذه الغيرة – الباردة المنكوسة - عن اختلاف
مناطات السلف عن بعض الخلف، وهذا خللٌ كبير حقيق بسرعة العلاج من لدن أهل العلم
والتربية، وإلا أكلت منايا الغلوّ مُهَجنا وفلذاتنا.
وههنا مسألة في غاية الأهمية وهي أن بعضهم قد يظنّ أن
في كلامنا دعوة لترك أهل البدع والخرافة أو الباطل والفساد.
فنقول: إن هذا
غير مقصود البتّة، فإن الله قد أمر بمجاهدة المبطلين، فإن تساهل أهل العلم والدعوة
والحُسبة في ذلك فسيؤول الحال لاستشراء البدع وتلبيس المبتدعة على الناس دينهم
وتبديلهم شرع الله، فالوحا الوحا معاشر الحنفاء!
إذن فلا بد من تحذير الناس من شرّهم، ولابد من القيام
لله في ذلك بالاحتساب عليهم، ولكن يلزمك قبل ذلك أن تحقق ما يلي:
١- أن تتحقّق من أن هذا الأمر بدعة أو منكر شرعي بموجب
دليل صحيح صريح، وليس بمجرد أنك لم تعتد عليه ولم تألفه، ولم يُمرُّره لك شيخك -
رجلًا كان أو كتابًا - فقد يكون الخلاف فيما
أنكرت سائغًا، بل قد يكون الدليل بخلاف قولك! وكم من أمرٍ ساغ الخلاف فيه لتكافُئ
الأدلة قد غلت إحدى الطائفتين في أحد قوليه وضلّلت أختها، وجانبتها الأخرى بالجهة
الأخرى، وكلُّ قبيلٍ مُستمسك بطرف حقٍّ لم يستوعبه، والحقُّ بينهم لو كانوا
يفقهون. وبالجملة فلا إنكار فيما ساغ فيه الخلاف.
٢- بعد
أن تتأكد من تحقيق الأُولى وأن الأمر لا يقبل مخالفة المجتهد؛ فيلزمك أن تتحقق من
وقوع الشخص المعيّن في تلك المخالفة، وأن لا تكتفي بقال فلان أو فلان من خصومه،
وإلا فأنت على سبيل بغيٍ وسابلة ظلمٍ وخطر بهتان! والسلامة لا يعدلها شيء.
وكم من بريء
طاردته تُهمُ خصومه وزادتها ظنون أتباعهم حتى استقر في أذهانهم تحقُّقها فيه، ولو
أنهم تبيّنوا حاله وتثبتوا لألسنتهم لوقفوا على سلامته (فتبينوا). والمسألة مسألة
حقوقٍ خلقٍ، فهي مبنيّة على المشاحة لا المسامحة، فالتمس لنفسك مخرجًا قبل أن تزول
قدمك بزلل قولك.
٣- الإخلاص،
فيكون قصدك بهذا العمل وجه الله، لا التشفّي وإرواء نوازع الغيظ أو إشباع جَوعَةِ
الحسد وإبراد لظى الغضب، وكم للنفوس من أحابيلَ وأفخاخٍ وضَعَها الشيطان ليحبط بها
صالحَ أعمالهم، فيقوم المخذول لحظّ نفسه وهو يظن أنه قائم لله، فينقلب ما رجاه
أجرًا لوزرٍ، وفوق ذلك تُهدى بعض صالحات عمله المُتقبّله يوم الحساب لخصمه، فيرى
ثواب صلاته وصيامه وتلاوته وبرّه في ميزان من اكفهرّت عليه نفسه، فهل أبلغ من هذه
الخيبة؟! وتذكّر أن النّفس قُلَّبٌ مع النيّة، ولها مئة وجهٍ كلّها خائبة، ولها مع
العقل متاهاتٌ مُفضية للخسار، ومن لم يحرس نيّته من مكر نفسه وقرينه رجع لربه خائب
الصفقة، إلّا من رحم ربّي.
وهذا أمر عظيم
لا يُكتفى فيه بطرف النظر، بل لابد فيه من المتابعة على الدوام، فالإخلاص عزيز
والمتابعة عزيزة - وهما شرطا قبول العمل - وبما أن إنكار المنكر عبادة فلا بد من
اجتماعهما فيها، فإن دخلها تشريك نيّة فهي مردودة مذمومة حتى وإن شابهت هيكل
المخلصين خارجًا.
٤- بعد أن
تتثبّت من وقوع المعيّن في البدعة والمنكر، يتحتم عليك التخلّق بما أُمرت به من
سبيل المؤمنين وهو البداءة بالرّفق واللين دون الشدة والفظاظة، فهو الأصل الأصيل
والسبيل المستبين والجادّة الرسوليّة، أما الشدة فهي استثناء في موضعه، فلا يصلح
أن يكون الاستثناء أصلًا والله يقول: (ولو كنت فظًّا) (فقولا له قولا ليّنًا) ولا
أسوأ من فرعون مع ذلك أمر الله نبيّيه باللين، فلما جاء موجب الاستثناء قال الكليم:
(وإني لأظنك يا فرعون مثبورًا).
وتذكّر نهي
نبيّك صلى الله عليه وسلم عن الغلظة والجفاء والشدّة في غير موضعها فقال: "يا
أيها الناس إن منكم مُنفِّرين" (37)
وبالجملة فلا
بد أولًا من التأكد من أنها بدعة، ثم التثبّت من وقوع الشخص فيها، ثم مناصحته سرًّا
في البداية، فإن أصرّ فيُعلنَ النّصحُ مع الرفق في الأمر كله، إلا إن كان الإصرار
على أمر واضح البطلان، وغلب على الظن أنه ناشئٌ عن مكابرة لا اشتباه فلا بأس حينها
بشيء من الإغلاظ والاخشيشان.
وهذه سيرة نبيّنا صلى الله عليه وسلم شاهدة ناطقة بلينه
ورفقه، فمن نازع فهو مخصوم بحاله ومقاله.
ولا يجوز بحال الاحتجاج بشدّة العالم فلان أو فلان مهما
علا قدره لأمور:
الأول: أن
معيار الاقتداء والاستنان هو النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره.
الثاني: قد
تكون شدّة ذلك العالم في هذه القضية لِمَا خالطها من أمور اتّضحت له وخفيت عليك،
كأن يرى أن موجب الاستثناء قائم وهو الاستكبار والعناد بعدم قيام الحجّة.
الثالث: قد
تكون جِبِلَّةً لديه قد ضَعُفَ عن تهذيبها، فهي عيب يُعتذر له عنه لا محمدةٌ
يُتابع عليها. هذا إن صحّ النقل عنه ابتداءً.
ومهما يكن من
شيء فليس لأحد أن يحتج بأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من أمرنا اللهُ
باتباعه والائتساء به، إذ هو المثال الكامل وغيره عرضة للقصور والتقصير.
ومن تناول أعراض المؤمنين بلا علم وساطَهُم بسلاطة
لسانه بلا حلم فهو آثِمٌ مؤاخَذ، فخطؤه ضلالٌ لجهله وجهالته، وصوابه خطأ وخطيئة
لتقحّمه ما ليس له.
أما من لم يبلغ القدر الكافي من العلم للردود على
المخالفين - بشهادة شيوخه - فليُحسن لنفسه بالإخلاد إلى العافية والرضى بالسكينة، مع
تحصيل ما يطيق من روافد العلم والإيمان والعبادة قبل أن يخوض أمورًا لا مخرج منها،
وكلّ شعبة منها لها من الله طالبٌ، وليس هذا بعشّك فادرجي..
وتأمل قول علي رضي الله عنه في الثناء على من توقّف في
الفتنة وانكمش عنها:
"لله درّ مقامٍ قامه سعد بن مالك
(38) وعبد الله بن عمر، إن كان بِرًّا إن أجره لعظيم، وإن كان إثمًا إن خطأه ليسير"
(39) فالسلامة والعافية لا يعدلهما شيء، ولقد قام الصّدّيق رضي الله عنه على المنبر ثم بكى، فقال: قام رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم عام أولَ على المنبر، ثم بكى، فقال: "سَلُوا الله العفْوَ
والعافيةَ، فإِن أَحدًا لم يُعطَ بعد اليقين خيرًا من العافية" (40)
(الرحمة والحكمة)
إن الكلام في الأفكار معضلةٌ شعورية قبل أن تكون إشكالية
فكرية، ذلك أن كبار الأفكار - غالبًا - ما تتغلّف بشعور حامي وإرادة عاصفة، فلِكَي
تدلف لشاطئ الفكرة لشخص ما عليك أن تتجاوز الحُجُبَ النفسانية والحواجز الغضبيّة
المؤصَّلة في وعيه ولا وعيه أولًا.
فالفكرة حينما
تكون منحوتةً في العقل الواعي فلا بد أن تكون مرتبطة بحبل سُرّي بالقلب، وهذا سرّ
من أسرار الإقناع بالأفكار المخالفة، فلابد أولًا من تحييد الحارس العاطفي بالرفق
والملاطفة، وإلا فالباب مغلق دون الولوج لحياض العقل وإعادة ترتيب أولوياته وتغيير
تصوراته وهزّ قناعاته وحقنه بمضامين فكريّة جديدة عليه.
إن التعصّب للمعتقد والمبدأ دون رحمة وحكمة هو نوع من
التوحّش، ولك أن تعلم أن أثبت الناس وأصدقهم في معتقده - وهو رسول الهدى صلوات
الله وسلامه وبركاته عليه - كان أرحم الخلق وأحكمهم حتى مع غير أهل القبلة، واعتبر
ذلك بتعامله مع يهود المدينة ونصارى نجران ووثنيي الأعراب كيف كان لطفُه يسبق عُنفَه
وعفوُه مؤاخذتَه وحلمُه أخذَه، ولم يقتل رجلًا واحدًا لأجل معتقده ابتداءً بل لأجل
عوارض أخرى كالجهاد أو القصاص أو الخيانة، حتى حُكمه في قتل المرتدّ قد راعى فيه
أمور حفظ بيضة الإسلام العامة وغلّبها على غيرها في حكمة امتزجت بالرحمة، وأوصى
بإحسان القتل لمن استحقّه، ولم يُكره البتّة أحدًا على اعتناق دينه، لقد قال الله
تعالى ملخصًا رسالته كلها في جملة واحدة: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)
فيا صاحبي: لا يكن علمُك بغيًا، ولا تبشيرُك تنفيرًا،
واستن بمن تبعتَهُ فهو الرأفة الوارفة والرفق الدافق والرحمة التامّة صلوات الله
وملائكته والمؤمنون عليه وسلامه وبركاته.
(فقه المآلات والأولويات)
إن الأمور تُحتسبُ بمآلاتها، والأعمال بخواتيمها، وكم
من عملٍ نَهى عنه أولو العلم والحكمة فعجب الناس واتّهموا رأيهم وشغبوا على علمهم
وطعنوا مقاصدهم.. فما هو إلا أن دارت رحى الأيام فتكشّفت عجاجاتُ الليالي عن إصابة
نهيهم عينَ الحكمة والرأي السديد. (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرً)
ومن عظيم المهمات: مراعاة حراسة الشريعة من التبديل
بطرفيه الغالي والجافي،
فلا يكون هوى الحاكم هو رحى الشرع، وكذلك لا يكون هوى
معارضيه هو المرجع. وهذا أمر ابتدائي لا يجوز بحالٍ تغبيشه.
وكم من هوى خفيٍّ للنفوس حينما يوافق هواها قولٌ أو فعلٌ
لأحد السالفين غير المعصومين، فيجعله أصلًا يردُّ إليه المختلفات.
ومعلومٌ الفرق
بين منهج السلف ومنهج أحدهم، بين قولهم الذي من خرج منه ابتدع وبين قول أحدهم الذي
يُحتجُّ له لا به، فلتكن هذه يا صاحبي منك على ذُكْرٍ.
ومن ذلك الخَطَل في الرأي والتدبير: مبالغةُ بعضهم في
تبرير أعمال الأمراء والسلاطين، في تبريرٍ ينتهي الى تبديلٍ، حتى خشينا أن يؤول
الأمر والحال للمناداة بما يشبه العلمانية بإفراغ الدين من السياسة، وهذا لعمر
الله ضلال فاحش، سببه تقديم ما حقّه التأخير عند ازدحام الفروض. وما أقرب مُشاكلةُ
مآلات بعض أفعال الأخيار بالأشرار!
بالملحِ نصلح ما نخشى تغيّره ...
فكيف بالملح إن حلّت به الغِيَرُ
إن ضعف فقه المآلات هو ما جرّ بعض الأفاضل للحكم ببداهة
رأيه المجرّد عن تدبّر العاقبة، فأصبح تابعوه صرعى نِبَال رأيه القاصر، وقد يكون
لحظّ نفسه من حبّها التصدّر والترؤس نصيب، ولهوى النفوس سريرةٌ لا تُعلم.
والمؤلم المُبكي هو أن يزدوج الخطأ بالظلم! ومن ذلك ما
صرنا فيه من البلاء من نعايا البلايا فأدركَنا زمانٌ يُقال فيه لشابٍ تائب من
الفسق والصبوة مريدٍ للهداية والخير والصلاح ويفعل ما أطاق وتيسّر من أمور الطاعات
والبرّ مما هو معلوم من الدين كصلاة الجماعة وحفظ كتاب الله وإعفاء اللحية وترك
الإسبال ونحو ذلك.. فيقال له: إن ما كنتَ عليه خيرٌ مما أنت فيه! بحُجّة حفظه من
المبتدعة – زعموا -.
يا هذا: أن كنت
موقنًا بأنهم مبتدعة حقيقةً لا دعوى فعلام تترك هذا حائرًا مفرّطًا، هلّا دللته
على الخير وهذّبت أخلاقه وليّنت قلبه بالمواعظ وملأت فؤاده بتعظيم الوحي وخشية
الله؟! أليس هذا خير من أن تُظلِمَ قلبه وتقسّيه بفَريِ أعراض الأموات
والأحياء؟!
نتيجة لهذا الحال لم نَعْجَبُ حينما سأل طالبٌ معلّمَه
في حيرة وانزعاج قائلًا: والله لا أدري يا أستاذ هل أتديَّنُ واستقيم على دينك –
كذا – أو على دين فلان، أو أبقى على ما أنا عليه من غفلة وضياع؟!
لكم هو مثيرٌ لشجى الأسف أن ترى بعضهم في بلد توحيد
وسنة وخير وفضيلة، وبدلًا من بذل جهده في بناء التعلق بالله وتجريد التوحيد له في
القلوب وتعليم الشباب كلام الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترقيق قلوبهم؛ نراه
أول ما يلقي في روع الشاب المبتدئ في الاستقامة شُهُبه الحامية المُقسّية لقلب
اليافع البسيط: احذر من فلان وتجنّب فلان واهجر فلان فانهم مبتدعة، مع أن حقيقة الحال
بخلاف ما قال، قُصاراهُم أن خالفوا شيخه أو رأيه في أمور سائغة اجتهادية، وقد يكونون
أسعد بالدليل من دونه.
فيقوم الشاب من عنده وقد أظلم قلبُه وضاقت نفسه وتشعّب
همُّه، فأضناه القلق وشظّته الحيرة بين ما يرى ويعرف ويسمع، فيعيش زمانًا قد يمتدّ
لسنين وهو يحمل ذحول الغلّ على إخوانه وجمر الحقد على من علّموه ونفعوه، وقد يخوض
أعراضهم بالشذْب والثلب وحقوقهم بالجرح والطعن والسلب، ومحصّلته في نهاية دربه
الذي خطه له شيخه قبض الهواء – وليته قد عاد كفافًا! - فلا علمًا جمع، ولا عبادةً ألِفَ
ولزِم، ولا خلُقًا سَنِيًّا انتفع ولا خيرًا لأمته نَفَع ولا شرًّا عنها دَفَع.. إنما
هو هَمٌّ يمشي على قدمين، وفُرقةٌ تطير به على جناحين، وكآبة تعصف به وبكل من
يحيطه. ولا أحصي النادمين على ماضٍ ثلبوا فيه أعراض شيوخهم وسلقوهم بألسنتهم ثم
ندموا بعد الفَوَات، والله المستعان.
يا قوم: ليس هذا بمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم، فخذوا
أو فدعوا (بل الإنسان على نفسه بصيره . ولو ألقى معاذيره)
بينا ترى الشاب واهنًا من معاصٍ قد كسرت فِقاره، فيسّر
الله له من أخذ بيمينه لليُسرى، فدرج شيئًا في سابلة الأوّابين، وقد أبلّ من مرض
قلبه بتنسّم هواء التوبة، وصار كفرخ صغير قد نبت زغَبُه على جلده الطريّ،
ففرح الشاب بربّه، وتعلّق فؤداه برحمته، وعظُم رجاؤه بقربه، فصار له حظٌّ من قيام
ليلٍ وصيام هواجرٍ، وتدبّر آيات، ولَهَجٍ بأذكار، يلتذّ بذلك التذاذًا لا يصفهُ
أهل الدنيا لأنه ليس من نعيم الدنيا بل هو رقيقةٌ من نسائم علّيين..
فبنيا الشاب
سائرٌ في صراط الله بهمّة تُسامي السماوات، وقد ردّ الله لنفسه حياة القلب عقب
الممات، إذ تخطّفته غَدَراتُ الألسنُ ومكرُ الأفعال ووحَرُ الصدور وقبل ذلك
خُذلانُ التوفيق.. فسقط على أمّ وجهه صريعًا يتشحّط في دم الندم، فأعقب إبلاله من
سقامه علّة لم يُخلق لها ترياق، وموتًا لا تُرجى معه حياة، ودمعةً لا ترقأُها
أعمار الخليقة! ويا بعضي دع بعضي، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من
خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
هذا ومن فقه المآلات: فقه سنن الله في كونه وشرعه، فإن
الله تعالى قد أقام خلقَه بنظام بديع دقيق وِفْق حِكَمٍ باهرة، وقد بيّن لنا في مسموع
كلامه شرعًا ومسطور خليقته كونًا أن أمور دعوة الخلائق إليه مفتقر لمحض توفيقه،
وأن من توفيقه إحسان القصد لوجهه وجودة المتابعة لسنن المرسلين، ومن سننهم: التأنّي
وعدم العجلة.
والمتأمل لحال
الدعاة يرى أن بعضهم يحاول حرق المراحل وضغط الزمن لأطرِ الناس على الحقّ والهدى،
وهذا مخالف لسنن الله، ولهذا يصيب كثيرًا منهم الإحباط والفشل في منتصف طريق
دعوتهم، فمنهم من ينتكس على عقبيه، ومنهم من يُلقي مؤنة الدعوة عن كاهله ويوجه
وجهه لتَكَاثرِ الفانية، ومنهم من يأخذه الطيش والرعونة لحرق ما تبقّى من بيدَرِ
خيره، والله لا يصلح عمل المفسدين.
لقد أوجز الله تعالى مسيرة زمان عبده ورسوله نوح عليه
السلام التي بلغت ألف سنة إلا خمسين عامًا في آيتين قصيرتين في سورة العنكبوت فقال
سبحانه: (ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا
خمسين عامًا فأخذهم الطوفان وهم ظالمون . فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناهآ ءاية
للعالمين) فأوجز أطول مسيرة زمانية في سطرين، فالاعتبار ليس بالزمن بل بالسير
الصحيح مهما طال وقته. ولما قيل لذلك الموفق: سار الناس على خيلهم وسبقونا ونحن خلفهم
على بغلٍ أعرج، تبسّم قائلًا بثقة وإيمان وهدوء: لا بأس علينا إن كنّا على
الجادّة. فالعبرة – يا صاحبي –هي بسلامة الوصول وفلاح المنقلب.
ولا يلزم من السير الصحيح أن يقطف الداعي إلى الله
ثمرته مباشرة في الدنيا برؤية نجاح مشروعه الدعوي، فليس هذا من شروط القبول، بل قد
يكون استدراجًا إلهيًا لبعض الدعاة أو مكرًا بهم وهم لا يعلمون – عياذا بالله
تعالى -. نعم، إن رآها واستبشر بها فهذه من عاجل بشراه - بإذن الله - شريطة إن لا
يركن إليها، فالبشارة تَسَرُّ المؤمن ولا تغرُّه، فالقبول غيبٌ والخواتيم غيبٌ
وحقيقة إحسان العمل غير مضمونة.
فالعبرة بالسير الصحيح وإن لم تصل لثمرة دنيا، فالغاية
هي الزلفى والرضوان "ورأيت النبي وليس معه أحد" (41)
ومن فقه المآلات: تركُ تبرير الخطأ المتيقّن خشية خطر
متوهّم، وهذا ليس بمضطرد على الدوام، بل لكل حال حكمه ونظَرُه، ولكن لا بد أن يكون
حاضرًا في الأذهان عند وجود حاجته.
ومكمن الخطر أن التوسّع في التبرير بما لا تحتمله الأدلة
بدعوى خشية الفتنة قد ينتهي به الحال آخرًا للإرجاء العملي ثم العلمي الاعتقادي، إذ
البدع منشؤها استحسان.
وفي مقابل التبرير المذموم نرى التهوّر المذموم، وذلك
بالاندفاع في حسم الأحكام بأضيق محتملاتها، دون النظر للمحتملات المخالفة المُفضية
لدفع الإضرار عمّن حكموا عليهم، ودون اعتبار لدرء الحدود بالشبهات، ثم يعقبُ ذلك
الخوض الشنيع في الدم الحرام، والمشتبه في الدماء حرام فما بالك بمن ظهر تحريمه.
عائذًا بربي من مضلات الفتن وورطات الأمور والمحن.
ومن فقه المآلات: إعطاءُ الأمور حظّها اللائق من
الاهتمام تقديمًا أو تأخيرًا أو حتى إفرادًا.
ومن أَفراد
الخُذلان في ذلك أن ما نراه من عزوف بعض طلبة العلم عن المواعظ المباشرة نتيجةً
لفهم مغلوطٍ مفادُه أنّ من وَعَظ الناس ورقّق قلوبهم وذكّرهم باليوم الآخر وسير
السالفين فسيقال عنه: هذا من القصّاص! وكأنهم نسوا أن القرآن موعظة.
ومن أفراد الخذلان كذلك ما تراه - وأنت في عجبٍ لا
ينقضي- من قِصَرِ نظر وضعف بصيرة من يهاجمون تيّارًا منتسبًا للسّنة إجمالًا ويتفرّغون
له مع ترك الملاحدة والليبراليين والعلمانيين وغلاة الطرقية المتصوفة وأهل التمشعر
والاعتزال والتشيع والرفضِ والإلحاد المحيطين بهم الموجودين بينهم والناشرين فتنهم
وضلالَهم؟!
ألم تشعر بعدُ
وتتنبّه أن وراء الأكمة ما وراءها؟!
لك الله يا صاحبي لا تكن ساذجًا، ولا تنخدعنّ بمقدّماتٍ
خلفَها محصّلات مريبة، وكن كعمر: لستُ بالخِبِّ ولا الخبُّ يخدعني.
ومهما رأيت السذّجَ خِفاف الأحلام يطيرون مع كل
مطيّر فاحمد الله أن ثبّتك وألهمك رشدك وحفظ قلبك ولسانك، وقل: الحمد لله الذي
عافاني مما ابتلاكم به وفضّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا. (42)
ومن فقه المآلات: الانشغال بالعلم والعمل كالعبادة
والتعليم والدعوة ونحو ذلك دون تضييع العمر في مهاترات الردود، وإن كنا نلوم
المبتدئ فإنا ننصح المُهاجَم بالكفِّ العفيف والصفح الجميل واستعمال العقل الوافر
والحكمة الناطقة العاملة، والانشغال بعمارة منازل الجنة دون قَتَرِ الدنيا وخمر
الانتقام وجمر الحفيظة.
ولكل مشغول عما أمامه بخلقِ قالات السوء وفَعَلات
الخطايا: لك الله! قد آن أوان الكفّ، فاستدرك أنفاسك واستبصر خلاصك وارحم نفسك فما
أنت في خائضٌ اليوم ستلتفت إليه غدًا يوم لا يفكّ رهنٌ قد عَلِق إلا بالحسنات
والسيئات!
إن ميدان الردود متشعّب الأخطار مزدحمُ النوازع
فمن وجد من يكفيه فليحمد الله على العافية.
نعم لا بد للمبطل من رادّ لباطله،
ولكن لم العجلة وتقحّم الخطر إن كان غيرك ممن هو أكفأ منك قد قام بفرض الكفاية؟!
ولم الانشغال – أصلًا - بالردود ونشرها إن كان هذا على حساب بناء العلم والإيمان
في قلبك، فالعمر يا صاحبي قصير، والعلوم لا يكفيها عمر واحد، وأُويقاته
ثمينة على قصرها..
قف قليلًا.. هل أنت مستعدّ للرحيل، هل تعرفُ
لماذا خُلقت، وما ذا يُرادُ منك وبك، وكم بينك وبين الآخرة من وقت، ألا تعرف من قد
سبقك وارتحل؟ فيا مُطلقًا: اذكر قيودهم.
ما بالنا أضعنا هذا العمر الواحد في قيل وقال
وكثرة السؤال؟! فكان أن رُفعت بركة العلم وأورثنا الفُرقة الجدل؟! وتدبّر قول الله تعالى: "وَما
كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ"
أهذا الضياع في متاهات الجدل
ومسارب المراء هو طريق الصحابة والتابعين وكبار أئمة الدين؟ كلا، فلقد عرف القوم
ثمن الدقائق والأنفاس فلم ينفقوها في تتبع عثرات الناس، ولم يفرحوا بنشر عيب وإشاعة
سقطة. رضي الله عنهم ورحمهم وألحقنا بهم غير خزايا ولا ندامى.
(التكامل والتوازن)
من أسباب تراشق كثير من أهل السنة فيما بينهم بهذا التصنيف
أن كل طرف يقبض يده على طرف حقّ ويقبض يده عن طرفه الآخر، ويفعل الثاني عكس ذلك، وكلّ
يرى المسألة من زاوية لا يقبل النظر من غيرها، ولو اتسع علمه لاتّسع صدره لخلاف
أخيه.
لقد نظر كلّ طرف لقضية القيام لله تعالى وحمْلِ همِّ
الدين من جانب – مع إهمال غيره - وحاول جهده رأب صدع الأمة الذي رآه يتشقّق
ويتصدّع.
فهذا الطرف يرى
أن الخلل قد دخل من الابتداع والغلوّ فقط، وذاك يلحّ على أنّه بسبب منكرات الشهوات
والشبهات والتغريب، وآخر يوقن أن السبب هو انحراف الحال في الولاء والبراء والحكم
بغير شرع الله والتقاعس عن القتال في سبيل الله والرضى بالزرع ونحو ذلك.
إنّ كلّ واحد منهم قائم على ثغرٍ عظيم إن أحسن حراسة
منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فيه، فَلَم يزد ولم ينقص ولم يميّع ولم يبغِ، وكلٌّ
مأجور وعلى خير.
وأفضل الثلاثة
هو الفاذّ الجامع الحارس لهذه الجهات كلّها، فلم يشغله ثغرٌ عن آخر، ولم يُزر
بغيره ويهضم حقه ممن قام واحتسب ودعا وعلّم وربّى وجاهد. وكلٌّ ميسّر لما خُلق له،
وكل الثلاثة على خير وخيرهم الجامع لها.
لقد فرّق الله المواهب بين البشر، ووفّق من شاء إلى ما شاء
من سبل التوفيق والهدى، وجعل أبواب الجنة ثمانية ليجتهد كل امرئ بما يسّر ربه له،
مع عدم إغفال الجوانب الأُخَر، والتخصص مطلب نفيس وبخاصة في زمن الفوضى العلمية
والدعوية.
هؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم قد
اختلفت مزاياهم وقدراتهم ومواهبهم وتحصيلهم العلمي، مع ذلك لم نرهم قد اختلفوا في
انتزاع أفضليّة السبيل الفلاني على غيره، بل عَذَرَ بعضهم بعضًا وغبط أحدهم أخوته،
ودعا لهم ونصح لهم بصدق، واستغفر لهم بحب.
وأجمِل بما أورده الذهبيُّ في سير
أعلام النبلاء (44) في ترجمة الإمام مالك بن أنس، أنَّ عبد الله بن عمر العُمري العابد
كتب إلى إمام دار الهجرة مالك بن أنس يَحُضُّه على الانفراد والعمل، فكتب إليه الإمام
مالكُ: "إنَّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة
ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنَشرُ العلم من أفضل أعمال البِرِّ،
وقد رضيت بِما فُتح لي. وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كِلانَا
على خير وبِرٍّ".
وتأمّل حديث أبواب الجنة الثمانية. (45)
وقد سُئل ابن تيمية رحمه الله عن الأسباب
التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل هل يبدأ بالزهد، أم بالعلم، أم يجمع بين ذلك؟
فأجاب: "الناس يتفاضلون في هذا
الباب، فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم
من تكون العبادة أيسر عليه منهما.
فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير،
كما قال تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم".
وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدّم ما كان
أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل
مما يحصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له، وهو في حقه أفضل، ولا يطلب
ما هو أفضل مطلقاً إذا كان متعذّراً في حقّه أو متعسّراً يفوته ما هو أفضل له وأنفع،
كمن يقرأ القرآن فيتدبّره وينتفع بتلاوته، والصلاة تثقل عليه، ولا ينتفع منها بعمل،
أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة، فأيّ عملٍ كان له أنفع ولله أطوع أفضل في
حقه من تكلّف عمل لا يأتي به على وجهه، بل على وجه ناقص، يفوته ما هو أنفع له" (46)
ألا وإن من المهمات: الحاجةُ الملحّة للتوازن في النظر
للأمور وتقدير أحجامها المعنويّة بلا وكسٍ ولا شطط.
مثال ذلك: تقديرُ العالم وإجلالُه، فقد جفا عن حقّه
وجلاله أقوام - وبخاصة حدثاء الأسنان – وجعلوا كلمته ورأيه وفتواه كفتوى آحادهم التي
تلقفوها من الكتب مباشرة أو من فهومهم القاصرة أو من شبكاتٍ مجهولة سائرة، وغفلوا
عن كبار أمورٍ لا تُدرك إلا بعد النضج العلمي الطويل، وسهَوا عن مرتبة إجلال حملة الشريعة
وتعظيم العلم الذي في صدورهم.
فالمعلومة التي
يتأمّلها الإنسان أربعين سنة ويسقيها عصارة تجاربه ليست كالتي تنطبع في ذهن غيره
في ساعات، فيضمحل صفوُها لكدرِ ثاني الحال!
إن عاملُ الزمن
مع عرْكِ التجارب وتراكم العلوم كيفًا وكمًّا سببٌ وطيدٌ لترجيح صوابيّة صاحبه على
غيره - بدون قطع ولا اضطراد -.
وطائفة أخرى غلت في العالِم حتى أشبهت أهل البدع مع
شيوخهم كالرافضة والقبوريّة، فأصبح ذلك الشيخ عندهم شبه معصوم من الخطأ، والشاب
بين يديه كالجثة بين يدي غاسلها، والريشة في مهبّها، وهذا ضلال كسابقه.
إن طالب العلم الحكيم يزن الأمور المشتبهة برَوِيّةٍ
وطولِ تأمّل، ويقيس الأمور بأشباهها، وينتبه للأشباه والنظائر والفوارق.
فمثلًا مسألة التعامل مع معاصي ولي الأمر دون الكفر لها
جانبان، وينبغي لكل من جُرّ إليها أن يراعيهما، حتى لا يزيغ بتقصير، ولا يضل بغلوّ.
فليست السنة بالسكوت عنه دومًا وتسويغ فَعَلاته وحملها
على مبررات لا تحتمل، وليست السنة كذلك في التشغيب عليه بها، والطيران بها بين
الرعية، وإعلانها وتهييج الرعية على واليهم، بل السنة بين ذينك الأمرين.
فأنكر المنكر فيما بينك وبينه، وانصحه وانصح له وللأمة،
فان كان المنكر ظاهرًا فاشيًا فأعلن أنه منكر حتى لا يغترّ الناس، ولكن بحِكمة
ونصح للطرفين، فلا تسوّغ وتبرّر، ولا تهيّج وتهيئ للخروج، وهذا مسلك دقيق.
ولا بد لطالب العلم من مراعاة منهج التكامل، والاهتمام
بالتأصيل العلمي، فلا يُبحر في علم حتى يُحصّل طائفة نافعة من العلوم الخادمة لمُحَصّلته
العلميّة من العلوم العامّة الغائية كالتفسير والحديث والمعتقد، والآلية كالنحو
والمصطلح وقواعد التفسير.
ومن المستحسن أن تكون المسيرة العلمية بشكلٍ دائري حتى
يحوز التأصيل التكاملي، فيبدأ بمختصرات الفنون حتى يدور عليها، ثم يبتدئُ دائرةً
أوسع بالمتوسّطات، ثم المطولات وجردها، ثم يبحر بعد ذلك فيما فتح الله له منها
وشرح صدره للاختصاص به.
وإنّي لأعجبُ
من بعضهم حين أجده موسوعةً ردودٍ في قضية واحدة، فيورد لك فيها ما صحّ وما لم يصحّ
وما عُقل وما لم يُعقل، في انفعال وعجلة وتوثّب، فيصبّ حامي الكلام وغزير المعاني بكميّة
وافرة.. بينما لو خرجت به عن هذا السياق الضيّق شبرًا؛ لرأيته صفرًا!
إن هذا النوع من التلقين لا يُخرج لنا علماء راسخين بل أدعياءَ
متعالمين. فرفقًا بمن وثق فيكم معشر طلبة العلم، فمِن النصح لهم إحسان تلقينهم
العلم المتدرج المستوعب لأمهات فنون العلم، والأخذ بأيدي نفوسهم برفق وتؤدة، حتى
لا يخرج لنا جيل مزبدٌ منتفخٌ بما يضرّه، متوَرّم بما يؤذيه، إن كتمه ضرّ نفسه، وإن
فاه به ضرّ غيره! (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون)
ومن مهمات فقه التوازن العلمي الفكري العملي: العلمُ
بأن بعض البدع أهون من بعض معاصي الشهوة.
فليست كلّ
معصية أشدّ من كل بدعة، فالبدع أشدّ من المعاصي من جهة حيثيّة الجنس لا من جهة
الأفراد، وهذا معنى قول سفيان الثوري رحمه الله: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ المعصية
يُتاب منها، والبدعة لا يتاب منها" (47)
وذلك لأن البدع
مآلها تبديلٌ للدين، فالبدعةُ تميت السنة والعكس غالبٌ، لكثرة أفراد البدع، فهي
غير منحصرة لا كمّا ولا كيفًا، وإذا امتلأ القلب بالسنة فلا مجال فيه لبدعة.
ولا مزايدة هنا
في قضية خطورة البدع ووجوب نبذها وحربها ومكافحتها، والاحتساب الخالص في ذلك،
والاعتصام بالسنة والقرب من أهلها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "النظر
إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة" (48) إنما المقصود توضيح الصورة العامة للذنوب من جهة
الأجناس والأنواع والأفراد.
فالزنا - على
سبيل المثال - جنسُه شهوة ونوعه زنا أما أفراده فعديدة، فأشدها - وهو المقصود عند
الإطلاق - هو زنا الفرج، وهناك زنا العين وزنا اليد وزنا الخُطا، كما في الحديث
الصحيح الذي سمّى مقدّمات الزنا زنا، فهي زنا من حيث أنّها معصية قد تؤول إلى الزنا
الأكبر وهو زنا الفرج، وفي قوله: "والفرج يصدّق ذلك او يكذّبه" (49) إشارة إلى أن تلك المقدمات قد تكون كاذبة إذا عصم الله
من مؤدّاها.
المقصود أن من الذنوب الشهوانية كالزنا وشرب الخمر
والسرقة، كذلك الذنوب الغضبيّة كالقتل والقذف، وكذلك الذنوب القلبيّة كالكبر
والتعاظم والعلوّ في الأرض؛ هي أشدّ من بعض البدع المسلكيّة كالتلبية الجماعيّة
مثلًا أو مصافحة المصلي لمن على يمينه وشماله بعد الصلوات ونحو ذلك..
وأكرّر القول:
أنّ هذا التقرير لا يعني التسهيل في أمر الإحداث في الدين بحال، بل المقصود بيان
أن لكل ذنب حجمه الذي ينبغي لطالب العلم ألا يغلو فيه ولا يقصُر دونه، وإلا أصبحت
الأمور فوضى، والمسألة كلّها أولويات، والدعاة في حاجة ماسّة لمعرفتها ومراعاتها.
ومن أمثلة
الفوضى في الأولويات وعدم مراعاة تراتيبها ما ذكره أحد الدعاة بشأن إسلام رئيس
قبيلة وثنيّة كبيرة في إفريقيا والذي ستدخل على أثره قبيلته في هذا الدين الحنيف،
ثم قدّر الله تعالى أن يدخل عليه بعض المسلمين – الجهلة - فأمروه بالختان وأصرّوا
عليه بذلك، فرفض رفضّا قاطعًا فأبوا عليه حتى ارتدّ بقومه للوثنية بعد الإسلام!
فأي جهل هذا؟!
وفي الجهل قبل الموت موت
لأهله ... وأجسادهم قبل القبور قبورُ
ومن مخرجات ضعف التكامل وثمرات ميل التوازن: ما نراه من
ضيق أفق بعضهم في ظنّهم أن الداعي إلى الله لا بد أن يُكرّر ولا يخرج عن مفردات
معيّنة ومواضيع محددة وكتب مسمّاه، وإلا فهو غير محقّق للدعوة إلى التوحيد، وهذا
باطل.
فالوعظ والرقائق
سنة مرضيّة، وتفصيل أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته سنة محضة، وتفصيل
أوامره وزواجره كذلك. وكلّ أبواب الدين بيانُها من السنة والتوحيد، وكلّ كتابٍ
نافعٍ سليمٍ من الضلال فمدارسته نافعة بقدر ما فيه من خير.
وبعض الفضلاء
من طلبة العلم يترك طرْق مواضيع مهمة - مع علمه بحاجة الناس لها - حتى لا ُيصنّف
بأنه واعظ أو قاصّ أو حزبي أو غيره! "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون
ببعض" "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" "واتل
عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين".
ومن الأخطاء المنهجية في هذا الباب: حصرُ السلفية في
إطار ضيّق وعلى أتباع فصيل معيّن، فحددّوا لها حدودًا وأُطُرًا ليس عليها دليل من
الشريعة، بل بعض الشروط المُحدثة لتلك السلفيّة هي شروط باطلة جملة وتفصيلًا!
لقد وقع بعض الفضلاء في عين ما فرّوا منه، فهربوا من
البدعة فوقعوا في أختها، وتلك سنة الله فيمن تنكّب السنة، وأُعجب برأيه، وأتى
البيوت من غير أبوابها، واستقى مشرب الشريعة من غير موردها. (إن ربك عليم حكيم).
وثمّ منعطف فكري خطير في هذا الباب جدير بالوقوف عليه، فحينما
ننشغل بالهامش عن الأصل وبالرغو عن الصريح، ونضيع قضيّتنا المتّفق عليها بصراعٍ
ضررُهُ أكثر من نفعه، والأدهي أن نردّ حقًّا شابهُ باطل مع قدرتنا على الفصل
بينهما، فهي علامةُ خذلان. وبالمثال يتّضح المقال:
فقبل نحو خمسة
عقود نادى أحد الدعاة بشدّة وحماسة وثورة مستمرة، وقاد بقلمه حملاتٍ شديدة الوقع
ضد مظاهر جاهليّة الحاكميّة التي ظهرت على الساحة العامة بقوةِ بعضِ الطواغيت
السياسية وحديدهم ونارهم..
وقد أحدثت
كتاباته إذ ذاك الثورة المتوقعة لدى جمهرة من طلبة العلم والدعاة والمثقفين
والمتدينين بدرجة كبيرة.. إلى هنا والأمر طبيعي مع سقوطه في مخالفات بل عظائم
تراجع عن كثيرها في مدوناته المتأخرة.
أقول: إلى هنا
والأمر محتمل لدى الساسة ومن آوى إلى كِيسهم وجاههم وسلطانهم.
ثم تطوّر الأمر
بعد رحيل ذلك الرجل لربّه لدى بعض من تأثر بنداءاته فحاولوا توجيه زوابعه الشديدة
ضد أنظمة بعينها مع تحجير الواسع وتضييق الممكن، فصالوا في ميدان العمل الفكري
والميداني زمنًا، حتى خرجت فئةٌ نَحَتْ منحىً غاليًا جدًّا، فانبرى بعض الغيورين
(والمغيرين) لنقدٍ هادمٍ لمنهج ذلك الرجل بكلّ ما فيه من خطأ وصواب جملةً واحدة
بدون تهذيب أو تقويم!
ويا لَلأسف،
فقد غفلوا عن أمر في غاية الخطورة، وهو أنهم بذلك أسسوا لباطلٍ مكان ما هدموه من
حقّ، لأن المبنى كلّه صار مشبوهًا، فصار كلّ ما تعلّق به له حكمه.
توضيح ذلك: أنّ
هؤلاء حاولوا هدم تراث ذلك الرجل بكلّ ما فيه من صواب وخطأ، بل قد لقّبوا تيّارًا
عريضًا بلقب ذلك الإنسان، وقد أحسنوا في هدم الخطأ لكنهم أساءوا جدًّا حينما أماتوا
صوابه.
فأصبح من ينادي
بما كان عند الرجل من صواب – ولو مع تحفّظه على خطئه - موصوم بالابتداع موسوم بالانحراف
والغلوّ، فتأطّرت حينئذ في أذهان بعض الناس أن تلك المسألة الشريفة - وهي المناداة
بحاكميّة الشريعة بإطلاق - لا يجوز الإلحاحُ عليها، ومن فعل فهو مبطل مبتدع
خارجي!
لذلك أقول وأرجو وأُنادي كلّ من تسنّم ذروة مقال وسلطة
ورئاسةِ علمٍ وفكرٍ ونحوه أن يراعي هذه الحيثية، وهي ألا نردّ الباطل بباطل آخر
ولا البدعة بأختها، ولا يعني هذا بحال أن نظن أن الحق مع فلان أو أن العلم محصور
بفلان أو أنّا إذا قبلنا ما عند فلان من صواب فإننا نميّع أصلًا أو نخرق شرعًا، كلّا!
فلقد أصابت امرأة وأخطأ عمر، وكلٌّ رادٌّ ومردود عليه إلا رسول الهدى صلوات الله
وسلامه وبركاته عليه، والحق رائدُ كل مؤمن.
أوّاهُ ما أروعَ الأبطال إذ
حملوا ... همّ الديانةِ إن خافوا وإن سَغَبُوا
ما قال واحدُهُمْ همّي الحطام
فقد ... صاغت مبادئهُمْ طه فما انقلبوا
تناثر العلمُ شهداً من ثغورهمُ ... أكرِم به منبعاً للدين ينسكبُ
إن تُبْلَ معركةٌ تلقى الكرامَ بها ... في ساعة الحربِ دوماً غِيلُهُم أَشِبُ
إن تُبْلَ معركةٌ تلقى الكرامَ بها ... في ساعة الحربِ دوماً غِيلُهُم أَشِبُ
إذا المبادئُ لم تُحْمَلْ
مُكرّمة ... على الرقاب فلا الأنفالُ تُرتَقَبُ
لا بد من التوازن حيال النظر للأمور، وإعطاء كل أمر حقّه
من العناية، ومن ذلك: التوازن في حقوق الأمة وحقوق ولي أمرها.
إن لولي الأمر
على الأمة حقوقًا عظيمة لحَمْلِهِ أمانةً ثقيلة، وحقوقُه فرعٌ عن حقوق الأمة
وضرورة اجتماعها وحفظ بيضتها.
ولكن حقوقه ليست بهذا الشكل الذي أصبح – ظاهرة! – لدى
فئةٍ ما، فكأنه لا يُسئل عما يفعل. مع أن من السلف الأكابر من كان يُنكر علانية
أمام العامّة، كفعل عمارة بن رؤيبة
حينما رأى بشر بن مروان وهو يدعو في يوم جمعة، فقال عمارة: قبّح الله هاتين اليدين،
لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ما يزيد على هذه. يعنى السبابة
التي تلي الإبهام. (50)
لقد قال هذا الكلام الجارح الشديد بمشهد من العامّة لما
رأى رفع بشر يديه بالدعاء حال الخطبة فقط، فما بالك بمن بدّل الدين جملة؟!
إني لستُ مع من ينادون بالإنكار العلنيّ على الولاة،
ويهيّجون العامّة للخروج والفتنة، ولكني أقول: إن بعض المنكرات من وليّ الأمر لا
يحلّ السكوت عليها من لدن من يحسن الإنكار ويفقه ضوابط الاحتساب، فليس كل منكر
يكتفى فيه بالإنكار السّري، فلكل حال لبوسه الشرعي وحكمه المصلحي الذي قعّدته أصول
الشريعة من لدن أهله الذين يحسنون الإنكار وليس الأمر حمىً مباحًا. كأن يبلغ
المنكَر – مثلًا – تبديل الشريعة وإلباس الدين ما ليس منه وغشّ الأمة بذلك.. ولئن
سكت أهل العلم حينها فبطن الأرض خير من ظهرها!
ومن جدير مسائل التوازن: أن على المؤمن ألا يستغرق كثيرًا
في نفع غيره على حساب حظّ نفسه من العبادة والعلم، بل لا بد من التوازن وتقديم الأَولى،
وخاصة إذا كان غير مؤثّرٍ بعلمه أو ماله أو جاهه، كمن يترك ورده وأذكاره ومراجعة
محفوظه وحظّه من عبادته الخاصة لأمور ليس له فيها أثر نافع بيّن، مع وجود من يكفيه
تلك المؤنة.
فبعضهم قد يزهد
في أذكار يومه أو مراجعة حزبه ليتابع أخبار المسلمين في أقصى الأرض، مع كونه لا يد
له مؤثّرة فيهم.
نعم إن الاهتمام
بأمر المسلمين جيّد ومحمود وفضيلة، ولكن الأجود والأحمد والأفضل والأحتم ألا يكون ذلك
على حساب تزكيتك لنفسك بالذكر والمحاسبة والتأمّل، وبناء علمك بالطلب والتلاوة
والتدبّر والمدارسة والمراجعة، وطهارة روحك برياض العبادة وغسلِ قلبك بالسجود
وعينِك بالرقائق وبطنِك بكثرة الصيام.. وواهًا لمن جمعها!
لكن من لم يُطق
أو خاف مَيل الميزان لشهوةِ نفسه التي ظنّها أفضل فهو محتاج لزمِّها وأطرِها حتى تلتذّ
بالشرع، لا بالهوى المغلّف، أو لِنَقُل: فاضلٌ ومفضول.
فمن تلبيس
الرجيم أنه إن لم يسطِع إبعاد المومنَ عن الخير شغله بالمفضول عن الفاضل، فتنبه
لذلك - رعاك مولاك - وكن سراجًا يضيء لنفسه ولغيره، ولا تكن شمعةً تضيء لغيرها بإذابة
واضمحلال نفسها، ولا صخرةً صمّاء لا لنفسها ولا لغيرها. والموفق من وفقه
الله.
(أسباب التفرّق)
قال جل شأنه: (ولا تنازعوا فتفشلوا
وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) قال العلامة السعدي رحمه الله: "أخبر
الله أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سببٌ للنصر على الأعداء، وأنت إذا
استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرّق الذي
أطمع فيهم الأعداء، وجعل بأسهم بينهم" (51) فالتفرّق شرّ والاجتماع خير.
وللتفرّق أسباب:
منها: آكِلُ
الحسناتِ الحسدُ، فكثير من نعرات الشقاق سببها الخفي حسدٌ كامن في الضمائر، مستتر
عن الظواهر، ولكن تشمّه الأرواح، وتستوحشه النفوس، ويُظهره الخذلان، ويُختم بسوء
العاقبة والحرمان.
ومنها: الذنوبُ
التي تجرّ ذنوبًا أخرى وحتوفًا لِلَظى، وتُقسِّي القلب، وتُحمِي أَنَفة العزِّة
بالإثم.
ومنها: محضُ الابتلاء
للمؤمن. فالحكيم سبحانه يبتلي عباده بعبادة حتى يستخلص خُلاصتهم لخُلاصة كرامته.
ومنها: الجهلُ. فالعلم يصيح بصاحبه إن كان في قلبه خير،
ومهما استطالت النفس في طِيَل المعصية فلا بد لها يومًا من رادعٍ علمٍ يُشرق في
حنايا الضمائر، فليس عالمٌ كجاهل، إلا من حقّت عليه كلمة العذاب، وخُتم له بالخيبة
والتّباب.
ومنها: التسرّعُ
والطيش والعجلة. فالتؤدة والأناة مؤذنتان بسبيل حكمة وهداية، أما التهوّر فجارف لحُفَرِ
الخيبات! ولقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبد القيس: "إنُّ فيك خَصلتَيْن يُحبُّهما الله تعالى:
الحلمُ والأناة" (52) وما أعجل بعضهم على التأليف
والنشر حتى وإن كان أبا شبر!
ومنها: ضعفُ الحكمة، وقلّة التجربة، وضيق الأفق (ومن
يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذّكر إلا أولوا الألباب) قال مالك: "وإنه ليقع في قلبي
أن الحكمة هي الفقه في دين الله، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما
يبين ذلك؛ أنك تجد الرجل عاقلًا في أمر الدنيا ذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر
دنياه، عالمًا بأمر دينه، بصيرًا به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في
دين الله". (53)
ومنها: عدمُ
الاستشارة، وأشدّ منها مخالفة المُوصي الناصح العليم الخبير. وكم نصح المشفقون
رؤوسًا لم تسمع لهم فَفتحوا على الأمة سيل فتنٍ أغرق جموعًا من أهل الإسلام وطمّهم
في قعر الضلال، ولو أنّهم وافقوا مشيري الرشد ما انكسر سدّ الفتن، والحمد لله
الحكيم الرحيم على كل حال، واقرأ التاريخ إذ فيه العبر.
ومنها: التعالمُ. فيظن رافعُ بيرق الافتراق أنه رأسُ
علمٍ وكهفُ حكمة، فيكتفي بما حازه من علم فيستطيل على أعراض أقرانه - بل أشياخه -
ورُّب علمٍ الجهلُ خير منه – أي بما ترتب من أثره من عُجب وكبر –.
ومنها: الكبرُ. والكبر شطرين: رد الحق واحتقار الخلق. فلا
يرجع صاحب الكبر عن خطئه حتى بعد تبينه، وليبشر المتكبر بِصَغَارٍ عاجل
وعذاب آجل وكُرهٍ له في قلوب الخلق واصل، إلا من اتّضع وتاب، قال النبي صلى الله عليه
وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال رجل (54): إن
الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة؟ قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر:
بَطْرُ الحقِّ وغمطُ الناس" (55)
ومنها الجدلُ المذموم، الذي يدفعه المِراء ويسوقه الحسد
ويَهدي إليه الكبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضل قوم بعد هدى
كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ: (ما ضربوه لك إلا جدلًا بل هم قوم خصمون)"
(56)
ومن أسباب الاختلاف: التّرفُ والدّعة والأمن، وإلا
فالخوف من الخارج يوحّد الفرقاء من الداخل. ومن معاني الإسراف المذموم المبالغة في
الترف لأنه من أسباب إخلاد القلب لأرضِ طينِ الجسدِ دونَ سماءِ نفخةِ الروح.
ومن الأسباب: بُعْدُ بعض العلماء عن تأثيرهم المنتظر في
الساحة الدعوية كما هو حالهم في العلميّة، فنشأ عن هذا التقصير قصورٌ لدى الكوادر
الدعوية المحتاجة لقامات علميّة سامقة تستظل بها وتستنير بإرشادها وتنقاد لفتواها،
وغياب الأكابر تصدير لأصاغر العلم والحلم.
ومن يثني الأصاغر عن مرادٍ ...
إذا جلس الأكابر في الزوايا
إذا استوت الأسافل والأعالي ...
فقد طابت منادمة المنايا
بل قد نشأ عن هذا القصور تصدّرُ بعض أهل المقاصد
الخبيثة لكيد الإسلام، المدثرون بزيّ العالِم الموجّه الحادب على حياض الملّة،
فأخذ هذا الماكرُ يستجرّ عقول الشباب اليافعين وأفئدتهم شبرًا وذراعًا وميلًا لحُفَرِ
شبهاته ومتاهات تصوّراته وشبكات مَكرِهِ.
ثم سمِنَ علمُه ونصحه في عيونهم حتى تورّم، فسدّ الأفق
بانفراده في دنيا التوجيه والقياد! فانقادوا له عبر منافذ إلكترونية يظنونها لشاطئ
السلام، ولم يعلموا – لجهلهم – أنهم يُقادون إلى حتوفهم!
كما أن بعض الفضلاء باجتهاد منه – لا يُتابع عليه – قد
يُلقي في الأمة شبهاتٍ وأوهام يظنّها حقائق وبراهين، فلا بد للناس أن يأخذوا حذرهم
من المزالق الفكرية الخفيّة لدى كل من لم يستنر بنور الوحي الصافي .. وهل نزحُ
زمزم كورود برهوت؟!
وبالمجمل: الأمة بحاجة لزُبَدٍ فكريّة قويمة تجلو عن
ساحها زَبَدَ فوضى الفكر وغثاء التفرّق.
(آثار الفُرقة)
يكفي للفُرقة شؤمًا أنها معصيةٌ لله تعالى، ومع ذلك
فلها ثمار نكِدَةٌ مسمومة، فهي تقتل في الأمة روح وحدتها وتكسر عضد قوّتها وتخضد
أشواك حرابها على من راموا حربها.
ومن ثمارها: حرمانُ
بركة العلم، والوقوع في فخّ الجدل العقيم، وتسليط الأعداء، وإشغال أهل العلم
والفكر والتوجيه بجهد لا طائلة وراءه، وتشتيتهم وتفريق كلمتهم وشق عصاهم،
والانشغال عن البناء إما بالهدم أو الترميم، واضمحلال قدر أهل العلم من صدور الناس،
وحرمانهم من بركة علمهم وتربيتهم وسمتهم، وإفساد القلوب وقسوتها.. في قائمة لا
تُحصى من حروف الخيبة والخسار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(كيف يفعل من بهتوه؟)
يسأل أحد الأحبة بمرارة: كيف أتعامل مع من يتّهمني
بالضلال والابتداع والخروج عن السنة والمروق من السلفيّة، مع أنني بحمد الله سلفيّ
صميم، ولم أخالف معتقد أهل السنة والجماعة ولا منهجهم في قليل ولا كثير؟
والجواب: ألم تعلم أن أكثر أهل الأرض يطعن في دينك؟! ثم
مِن بعدهم أهلُ البدع المغلّظة وغيرها؟ فهل توقَّفَ الأمر على بضعة أفراد يقولون
فيك ما ليس فيك؟!
لقد طُعِن في
دين نبيك صلى الله عليه وسلم فقالوا: صابئ، وفي عقله فقالوا: مجنون، وفي صدقيتّيه
وأمانته فقالوا: كذّاب، وفي شيمته فقالوا: ساحر.. فهل تُطيق معشار هذه التهم؟! أما
الأذى الحسّي له أو المعنوي بعذاب أصحابه فأكثر من أن يعدّد.
عليك أن تحمد الله الذي وفقك وهداك، وأن تعلم أن الناس
ليسوا على عقل واحد ولا مزاج واحد ولا فهمٍ واحد ولا ورعٍ واحد، وأن بعضهم تكتنفه
عوارض بيئية أو مزاجية أو عصبية أو نفسانية أو عقلية أو خُلقية، فيتوجه حكمُه على
الناس بتأثير تلك العوارض، بلا تحكيم تام لقواعد الشرع.
لذا تجده إن
رضي - ولو لدنيا - قنع وأسبع الممادح، وان سخط - ولو بسوء ظن - سربل خصمه بالطعن
واللمز. مع ذلك قد يظن في قرارة نفسه أنه عادل منصف محق!
وعلى هذا فعليك
بالتالي:
حمد الله الذي وفقك، واعلم أنّ من عاجل نصرِ الله لك
توفيقك وخذلانهم، وهذا كافٍ في بردِ صدرك، فأبدل غيضك وغضبك رحمة بهم وإشفاقًا.
وإنّي مُحذّرك
ومشدّد عليك ألا تسترسل في ذلك، فإن في الاسترواح لذلك خابيةٌ لرَسَنِ العُجْب
والعلوّ والتيه والكبرياء، وكفى بذلك خذلانًا ومقتًا. فأنت أعلم الناس بعيوبك،
والناس قد غرّهم منك جميل ستر الله عليك، فلا تتصنّع أمام نفسك وإياهم، وتواضع
وانكسر وأخبت لربك وأنِب.
فتّش نفسك ونيتك، واعرض أعمالك على قواعد الشرع وراجعها،
وحاسب نفسك - وبخاصة فيما طُعنت فيه - فقليل من البشر من يرى عيوب نفسه، والأقلّ
من يتواضع للاعتراف بها، وأقلّ القليل من يعمل جادًّا على رفعها. ورحم الله امرأً أهدي
الي عيوبي، كما قاله عمر.
لذا فقد يكون
لذلك الإنسان عليك مدخلٌ! فابدأ بنيّتك، ثم ثنِّ بمنهجك وأعمالك العامة والخاصة التي
يعلمها الناس والتي لا يعلمونها. ثم ثلّث بفحص العيوب من زاويةِ مَنْ نقدك ومن
وجهة نظره هو، فالبعير لا يرى عوج رقبته.
فإن وجدت عيبًا فسُدَّ خلّته، وأصلح فساده، واشكر من بيّنه
لك، وإن لم تجده فاحمد الله على السّداد في الأمر، واسأله غفران ما سلف وكان،
واسأله الحفظ فيما يُستقبل من الزمان.
بعد ذلك عامل خصمك بجميل أخلاقك لا أخلاقه، بسَعة خُلقك
لا بضيق صدره، وبقوّة عقلك ورحابة صدرك لا بعقله وضيق عَطنه. واحمد الله الذي
عافاك مما ابتلاه به. وهنا ستجد لك عزاءً وسلوى.
ولا تنس أن تستغفر لظالمِك بظهر الغيب وتسأل الله
له الهدى والرشاد، فإن فعلت فأنت بإذن الله من الموفّقين.
(التوصيات)
أعظم الوصايا هي وصية الله للأولين والآخرين: (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) ولما استوصَى معاذٌ حبيبَه صلى الله عليه وسلم أجابه
بجوامعه الفريده: "اتّق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس
بخلق حسن" (57)
ومن الوصايا:
العنايةُ التامّة والحراسة الدائمة لجناب تعظيم رب العالمين والخوف منه وخشيته،
وتذكّر لقائه والوقوف بين يديه (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم . ومن جاهد فإنما
يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين . والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرن عنهم
سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) فاستبشر خيرًا بربك، وظُن به كل خير،
وافرح به بكل كيانك، وأحبّه من كل قلبك، واعبده حقّ عبادته.
ومنها: تفقّدُ إخلاص الوجه لله وحده لا شريك له، والحذر
من حظوظ النفس الأمارة، وقل لمن لم يُخلص: لا تتعب، ويا نفسُ أخلصي تتخلّصي. وتذكّر: "يا أَبا هُريرة، أُولئك
الثلاثة أَوَّلُ خَلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة" (58)
وإن ابتداء الإخلاص ليس بالعسير في العادة، لكن الشأن
في حراسته فالنية قُلَّبٌ، ولها مئة وجه!
ولتعلم أن التوحيد يوحّد أهله، ولا يفرّقهم سوى الخذلان.
ومنها: العنايةُ القصوى بتعظيم سنة رسول الهدى صلوات
الله وسلامه وبركاته عليه بالجَنَان واللسان والأركان، وعدمُ تقديمِ قول بشر عليها
بالغًا قدره ما بلغ، والاعتذار لأهل العلم إن أخطأوا مع ترك متابعتهم، وعدم
التشغيب عليهم أو الشماتة أو التنفير أو سوء الظن.
كذلك: لا تفرّ من التحزب إلى التحزب ومن ذلك التحزب
لشيخك ومذهبك بلا تحقيق، بل اعتصم بالوحي الذي لا يضل من به استمسك.
ومنها: التأكيدُ على ضرورة الاجتماع، وسدّ كل ذرائع
الافتراق المذموم بالقول والعمل.
ومنها: الالتفاف حول العلماء الراسخين، والصدور عن
أقوالهم، وعدم مزاحمتهم بمتعيلمة الأصاغر.
وكلّما اتسع علم المرء زاد احتماله لخلاف الناس، وكلّما
اطلع على أدلة المخالفين ازداد يقينًا بأن الحق غير محصور بإنسان خلا المرسلين.
واعتبر ذلك بأن
الراسخين هم من أقل منتسبة العلم خوضًا في الخلاف السائغ، أما المولع بالتشعيب
والتشغيب والجدل والمراء فإنه قد أُتِيَ من باب قلّة علمه ونقص حكمته وضعف نفسه
وضيق خُلقه. فغالب من يخوض في هذه الأمور هم من مبتدئة أو متوسطة العلم، ولو سكت
من لا يعلم لقلّ الجهل والجهالة.
وإنه لحسنٌ جدّا أن يُولِي الشاب جودة سندَه العلمي
عنايته اللائقة، فينتقي من أهل العلم في زمانه أمثلهم علمًا وورعًا قدر طاقته.
وحسنٌ منه وله أن
يستمع لأكثرَ من شيخ، ويثني ركبته عند أكثر من عالِم، ليصقل عقله بتعدد مواهبهم،
وليرى خطأ أحدهم على ضوء تأمل تقرير آخر - بلا حطّ قدرٍ ولا تتبع زلة، لكنها سنّة
التعليم -.
ومهمٌّ لطالب العلم:
أن يقتبس سَمْت شيخه المعزِّزِ للتواضع والرحمة والرفق والأناة ونحوها في نفسه،
ولكن ثمّ أمرٌ مخيّب! وهو أن تتحول الوسيلةُ لغاية، وينقلب الطريق هدفًا، وذلك حين
يغلو التلميذ في تقمّص شخص شيخه فيما لا يَحْسُنُ به، كلكنةٍ أو لثغةٍ أو حركةٍ أو
نظرةٍ غير مستحبة، ونحو ذلك.
ومن عقابيل ذلك
أن يستغرق الاقتداء بسمت الشيخ خارج المقبول، فتضيقُ نفسُه عند أدنى نقدٍ لشيخه
ولو بحق وحجّة، مع تسليمه – نظريًا - بسلامة ذلك المبدأ.
ومن الفروع
المحزنة لذلك - وبخاصة عند بعض مبتدئتهم - الإكثار من الكمّ على حساب الكيف، كمن
يكثر الحضور لمشايخ متفرّقين تكثُّرًا وتزيّدًا على حساب العمق العلمي والجودة
التحصيلية.
ولك أن تستمع إلى
بعض الشبيبة حين يتكلمون عن تقدير الطالب بكثرة أعداد من حضر لديهم - ولو مرة أو
مرتان - ثم يتباهى بين لِدَاته وأقرانه حتى أصبح المشهدُ أشبه بدروشة! وفَرَّ من
الموت وفي الموت وقع.
أي بني: تمعّن في رسالة قليلة الكلام مليئة المعاني
لعلها تروي ضمأً في صدرك العَجول وتشفي علّة في جوانح نفسك السؤول، إنها رسالة (رفع
الملام عن الأئمة الأعلام) سطرها يراع شيخ الإسلام رحمه الله، وهي مشهورة متداولة.
كذلك تعرّف إلى نماذج تطبيقيّة من أدب العلماء السالفين
والمعاصرين في الردود؛ كشيخ الإسلام والذهبي وابن إبراهيم وابن باز والعثيمين
وغيرهم، لترى الفجوة الكبيرة بين حالهم وحال كثير من متدثرة العلم بلا أدب!
وإن من المؤسف إشغالُ الشباب الصغار عن طلب العلم وحفظ
القرآن والسنة والتفقه فيهما وتزكية نفوسهم إلى الانكباب على الردود والقيل والقال
ونشر القالة بين الناس. لقد كان الطريق أمامهم نور ورحمة ولكن كانوا قومًا عمين،
فوا أسفًا!
ومن المهمات: أن ينشغل طالب العلم بما ينفعه مما خُلق
لتحقيقه وهو العبادة، وألا يستغرق وقته فيما لا ينفع، حتى وإن نَزَعَتْ نفسُه إليه
وحاولت تزينه في عينيه، فلها مع العقل مسارب وحِيَل تُتِيهُهُ فيها أحيانًا فلا
يصحو إلا بعد مضي زمان من نفيس عمره.
ومن ذلك الخذلان: الاشتغال الزائد بالسياسة وتتبّعها
والحديث عنها، وتناول تفاصيل أحداثها مما صحّ وما لم يصح، والطيران مع وكالات
الأنباء ومراسلي الأخبار وناقلي الأحداث بعجرها وبجرها وصدقها وكذبها، فالنفس
بطبعها متشنّفة لمعرفة أخبار الناس وماجرياتهم، ولكن العقل يلجمها بأن أمامها
عقبات كؤود لا بد لها من اجتيازها بقرابين الصالحات وليس بتتبع قيل وقال ووُلد
ومات. ويكفينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما
لا يعنيه" (59)
ومن الفروع الخطرة للانشغال الزائد بالسياسة: جرفُ
الشباب لأمور لا تطيقها فهومهم ولا تحتملها علومهم، كتكفير الحكومات ووصف الولاة
بالطواغيت وجندهم بجند الكفرة وشعوبهم بالمرتدّين ونحو تلك المهالك والبواقع. وما
هذا إلا من الخذلان والخيبة.
ولو أن هؤلاء
الشباب انشغلوا بما يفيدهم في قابل أيامهم، وبما يبني حصون علمهم في مستقبل
زمانهم؛ لسلموا بإذن الله من كدر الشقاق ووضَرِ الفُرقة ودخان الفتن. فالعلم حصن
حصين لصاحبه في أزمنة الفتن، فكم من فتنة يروق مرآها حماسات القلوب وبداهات العقول،
حتى إذا انجلت كشفت عن سوءة عاقبة وبشاعة مآلٍ. وفي صحيح البخاري: باب الفتنة التي تموج كموج البحر: "وقال ابن عيينة
عن خلف بن حوشب: كانوا (60) يستحبّون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن: قال امرؤ
القيس:
الحربُ أولُ ما
تكون فَتيَّة ... تسعى بزينتها لكلِّ جَهُولِ
حتى إذا اشتعلتْ
وشَب ضِرَامها ... وَلَّتْ عجوزًا غيرَ ذاتِ حليلِ
شَمطاءُ يُنكَرُ
لونُها وتغيَّرت ... مكروهةً للشمِّ والتقبيِلِ" (61)
ولكم يحزّ في نفسي بشدة مرأى شباب في عمر الزهور وميعة
الصبا يتقحّمون أمور الأمة الكبار التي لا يُصدر فيها إلا عن مجامع فقهية فيفتون
برعونة وجهل!
ومن جليلِ الوصايا: التأكيدُ على العدل. فهو قيمة كليّة
لا يجوز تهميشها تحت أي ذريعة على الإطلاق حتى مع أعداء الله الكفرة، (ولا يجرمنكم
شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)
هذا وإن بين النقد والتعيير فرقٌ تشمّه الروح وتلمسه
الفطنة، فتفرّق بين الناقد الناصح والمعيّر الشامت، فأحسن يا صاحبي مبدأ انطلاقك
في ميدان النقد كأنك المنقود. ومن نصح أخاه على ملإٍ فقد عيّره.
ومنها: الورعُ. فلا تستهن بغيبة المسلمين بحجة التحذير
من مناهج وأشخاص غير سلفيين – زعموا – وولّ وجهك عمن يحتّجون بعمل ابن حنبل
وسفيان، فأين الثرى من الثريّا؟! إن الكلام في الرجال إنما هو للتام في علمه
وورعه. وهذه الحجة الباردة لا تعفيهم من مساءلة المظالم يوم الحساب، وحديث المفلس
معلوم، والغيرة للدين لا تكفي مالم تُضبط ببرهان. (وما ربك بظلام للعبيد)
ومنها: البعدُ عن الانتقائية. فلا تكن انتقائيًّا فهي
هوى خفي، وادخل في المسألة بدون رأي سابق – إن كنت ذا علم – وإلا فاتبع من تثق في
دينه وورعه وعلمه، فبعض الناس ينتقون من كلام أهل العلم المتقدمين والمتأخرين ما
يوافقهم ويعرضون صفحًا عما خالفهم ولو كان من ذات الشيخ في ذات المسألة!
وللانتقائية وجه آخر سيء – وكلاهما سيء – وهي الانتقائية
من كلام الخصم ما يوافق تحقيق تهمته لا ما يدفع عنه سوءتها!
ومنها: الإصلاحُ. فاحرص على إصلاح ذات البين وجمعِ كلمة
المسلمين، ولا تستصغر نفسك في ذلك، ولا تحقرنّ من المعروف شيئًا، وعسى أن تلقي
يومًا كلمة لم تحسب لها حسابًا ينفع الله بها العباد أحقابًا، وترتفع بها عند
الكريم زلفى وقربًا ورضى، فهلمّ للخير هلمّ.
واحذر أن تساهم في تفريق المسلمين وصدع وحدتهم وتشتيت
صفّهم، ولا تنس حقوق الإسلام فلها من الله طالبٌ.
ومنها: الرحمةُ بالخلق، ومن تأمّل سيرة رسول الله صلى
الله عليه وسلم فسيرى أن صفة الرحمة لديه قد رسخت رسوخًا حتى كادت تعلو كل صفات
كماله، فرحمته بالناس وغير الناس مثيرة للدهشة حقًّا، فهي لا تغادره في كل أحواله
بتاتًا فله من الرحمة غاية الكم والكيف الذي يستوعبه قلب بشر.
ومن كان مستنًّ به في سنّته فليستنّ به في أخلاقه، فهي
من سنّته.
وهناك فرق شاسع وبونٌ هائلٌ بين من ينظر للمخالفين
والعصاة نظر المشفق الحادب الرحيم مريد الخير والهداية لهم وبين من ينظر لهم شزرًا
بعين الغلّ والحقد والرغبة في التشفي بعذابهم والانتقام منهم. وسَلْ نفسك: أيّهما
خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ويا
صاحبي.. لتكن رقيق الحسّ مرهفًا لمشاعر الناس، محبّا لنفعهم وإسعادهم، وليكن حديثك
لطيفًا يدفئ القلب بما فيه من وجدانٍ وإخلاص.
ومنها: الحرصُ على سلامة الصدر على عباد الله، وتنقية
القلب من كل أدغال الحقد والبغضاء للمؤمنين.
إن الغلّ له من مسمّاه على القلب نصيب، فهو غلّ يمنع
جناحيه أن يطيرا في رياض الأنس ومروج السرور وشواطئ النعيم. ربنا لا تجعل في
قلوبنا غلًّا للذين آمنوا.
ومنها: الحكمةُ. فكن حكيمًا هادئًا لا طائشًا متسرّعاً،
( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا) واحذر أمَّ الندامات: العجلة. وقد أخطأ
العجول أو كاد، وأصاب المتأنّي أو كاد.
ومنها: اعتزالُ من تضرّكَ خلطته. فاحذر مصاحبة بعض
النفوس التي لا تستطيع العيش والتنفس إلا في أجواء التفرّق والشقاق وانتشار
الضغائن، فهي كدغاليب المستنقعات، يغذّيها الكدر، ويقتلها النقاء والصفاء، لا
تصحبنّ أولئك فالمصاحبة ذريعة المُشاكلة.
ومنها: الرفقُ في الشأن كله، وبخاصة في مسائل الدعوة
إلى الله تعالى، ولقد ألان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم الخطاب والأسلوب إلى رأس
الكفر هرقل ووصفه بعظيم الروم، ولا زال بعض الغلاظ يصف إخوته من حملة القرآن
بالبهائم والكلاب.. سبحانك ربي!
وتذكّر أنه ليس من سيما طالب العلم الناصح والداعية
الصالح الرعونةُ والتشنج وضيق العطن والحدة والشدة في الخطاب. وفي الحديث: "السمت الحسن، والتؤدة، والاقتصاد،
جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوة" (62) وعن ابن عباس في قوله تعالى: ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود)
قال: السمت الحسن. (63)
وتأمل العقل الوافر للإمام الشافعي رحمه الله، قال عنه
يوسف الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، لما اختلفتُ معه وخرجنا، أخذ بيدي وقال: ما
يمنع إذا اختلفنا أن نكون إخوة.
وأهمس لك: من عصى الله فيك فلا تعصه فيه، ومن أخرجك من
السنة لهواه أو لجهله فلا تخرجه من السنة لأجل ذلك، بل احلم واعلم أنك الأسعد
باتّباع نبيك صلى الله عليه وسلم بدفع السيئة بالحسنة.
ومن الوصايا: لا تجعل مزاجك حاكمًا لمنهجك، كأن تكون
غضوبًا أو عجولًا أو سيء الظن أو متشائمًا.. وإلا فما فائدة العلم إذا لم تتخلّق
به وتتطبّع بآدابه وتلتزم بحدوده؟
إن لدى غير قليل من طلبة العلم أزمة أخلاق، فياليت
العلماء والقدوات والمربين يولونها عناياتهم الفائقة.
و صدّقني يا صديقي.. خيرًا تفعل لنفسك ولغيرك لو تركت
الجواب أثناء الانفعال. دع المشاعر تبرد حينها ينقشع غيم الغضب عن جوهر
الصواب.
ومن التوصيات: التأكيدُ على معاملة الخلق بما ظهر منهم،
وردّ سرائرهم إلى العليم الخبير سبحانه، فإن الكلام في النيّات رقَّة في الدين ونقص
في العقل.
وفرقٌ بين هذا
وبين الكلام في المآلاتِ التي منها الحذر المشروع من ذرائع المفسدين بقوالب
الإصلاح، وهذا مقصد السلف.
ومنها: معرفةُ قدر النفس ونقصها وضعفها وعجزها وهواها.
فاحذر – حرسك الله – العجبَ والتّيه، فمن الناس من لا يرون لغيرهم فضلًا، ولا
يرعون له في الدين والعلم حرمة ورحِمًا، حتى وإن علا كعبه في الدين والعلم والفضل
والسابقة، بل حتى لو كان من الربانيين الراسخين وممن شاب فوداه في رياض العلم
والدعوة والخير.
فنرى من بعض
شرسي الأخلاق وقليلي الحياء – بل قد يكون ممن تتلمذ على ذلك العَلَم الربّاني– من
يرميه بأوحشِ القول وأنكى التّهم وأرذل القالات (ستكتب شهادتهم ويسألون)
ومنها: تذكّر
أن الأصل في المسلم السلامة حتى يثبت العكس. فالمخذول من أعملَ في عباد الله قاعدة
أسوأ المحامل وقدّم سوء ظنونه وركب قلائص بغيه لمراقد فتنه.
واعلم أن سوء
الظن رائج في سوقهم فاغنم عافيتك واحذره، فإنه وباء يفتك بطهارة قلبك ونقاء روحك
وصفاء نفسك وسلامة دينك.
ومنها: السترُ. فاستر اليوم إخوانك فإنك - لا
محالة - محتاج لسترك غدًا، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة" (64)
فعليك بالستر على المسلم والنصح له مالم
يدعُ لضلاله، وعليك بحسن الخطاب في الحديث والابتداء
بالمجملات والتلميحات (عرّف بعضه وأعرض عن بعض) وما استقصى كريمٌ قط.
فلا تفرح بالمعصية، وذلك بان تنشرها مغتبطًا بالعلوّ على
خصمك في صورة غاضب لله وهذه من تلبس إبليس.
واعلم أنّ من يعمل ويبني فهو – في العادة - لا ينشغل بالكلام
في عيوب غيره، لأنه مشغول عنهم بتكميل نقصه وجبر عيبه.
ومنها: الحرصُ على ألا تنشر عاهاتِ منتسبةِ السُّنة وتُشمت
بها الأعداء، فلا تكن حمّالةَ حطبِ فُرقة في الأمة أو نفّاخة كَيرِ فتنة فيها، ولا
تنقل جمر الشّقاق ورماد الإحن في أمتك من جهة إلى أخرى.
واعلم أن كثيرًا
مما أمامك من أسباب العداء ليس على ظاهره المتبادر إليك، بل هناك عللٌ نفسيّة من
غيرةٍ وحسدٍ وأخرى ثارات شخصية وثالثة مخترقة من جهات لا تريد الخير لأهل السنة
بعامة.. فارتفع واسمُ بنفسك ومن حولَك، واسمُ عن القاعِ المزدحم، ولا تكن كالذباب
ينقل الأذى بين البشر!
ومنها: المحاسبة الصادقة للنفس. ومنها الحرصُ على تنقية
ثوب إيمانك من درن المعاصي، وقبل أن تثب وثوب السباع على طريدة لسانك من عرض أخيك
تذكّر معاصيك وذنوبك التي لولا جميل ستر الله عليك ما ردّ الناس عليك سلامًا.. وما
نحن في الحقيقة سوى كائناتٍ تتزيّن بجميل ستر السِّتِّير سبحانه، ومن لم يك ذا
خطيئة فليرمها بحجر!
وبالجملة؛ فلا بد من محاسبةُ النفس بدقّة وحزم وبصيرة
وحكمة، وتجديد التوبة على الدوام، فالتوبة تجبّ ما قبلها، والإسلام يهدم ما قبله.
ومنها: تركُ الالتفاتِ للذين يصدّون عن سبيل الله - ولو
بحسن نيّة منهم - ما دام هذا خُلُقٌ لهم، الذين يتعلقون لإثبات باطلهم بأوهى من
خيوط العنكبوت، كمن ينادي بإغلاق حِلَق تعليم وتحفيظ القرآن لأن معلّمًا في مكان
ما قيل إنه قد فعل وفعل.. وهذه الشبهة إظهارها كافٍ في إبطالها.
ومنها: النّصح لكل مسلم، وإياك وآكل الحسنات الحسد،
فلتفر منه فرارك من الأسد.
ومنها: العناية بفقه الأولويات والتوازنات والمصالح
والمفاسد على ضوء المُحكمات الشرعيّة.
ومنها: العملُ بقاعدة:
لا إنكار في مسائل الاختلاف السائغ. ولو أن أهل الشَّغَب العلميّ والدعوي عُنوا
بهذه القاعدة وتقيدوا لكفوا الأمة شر الفُرقة وشماتة الأعداء.
إن الله تعالى قد تعبّد الإنسان بفهمه لا بفهم غيره،
ولو نظرت لردود الناس بعضهم على بعض في دائرة لا تنتهي من الشحناء والبغضاء والبغي
والمِراء لوجدت أن غالب تلك القضايا المُفرِّقة هي من الأمور التي يسوغ الخلاف
فيها. وفي الصحيح: "أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان
محقًّا" (65)
ومن رأى خلاف
الصواب الذي يعتقده فعليه بيانه، لكن بدون تخوين ولا تبديع ولا تفسيق وتحزيب ورمي
أعراض عباد الله بالتُّهم جزافًا ظلمًا وعدوانًا.
ومنها: العناية بعمارة الروح بالإيمان واستفراغ الزمان
في مرضاة الرحمن. والسير الحثيث الحازم الجاد وترك بنيّت الطريق لأهلها.
ويا صاحبي: دع الرغوة وانفذ للصريح، ودع الشعار وافهم
الحقيقة، واترك اللّبَّ واكشف الثمرة.
واعلم أن الولع بالردود عيبٌ منهجي
في طريق الطلب، وظلمةٌ في مسيرة الروح، وقسوة في حياة القلب، وعثرة في سلوك
الصالحين، ويستثنى من ذلك ما لا بد منه من لدن أهله.
وكذلك: لا تحملنّ قضيّة كلام الناس مالا تحتمل، والناس
لن ترضيهم مهما فعلت، رضاهم غاية لم يدركها بشر، صُدّ ببالك عنهم فمالك ولهم. ولما قام رجلٌ فقال: يا رسول اللّه،
إِنَّ حَمْدي زَيْنٌ، وذَمِّي شَيْنٌ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ذاك اللّه
عزّ وجل" (66)
وقالت أُمّنا الصدّيقة رضي الله
عنها: "مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ
النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى
النَّاسِ" (67) وليكن شعارك ودثارك مع إلهك:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ...
وليتك ترضى والأنام غضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ...
وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا طاب منك الود فالكل هيّنٌ ...
وكل الذي فوق الترابِ ترابُ
ومنها: لا تجعل رأيك هو دين الله، بل ولا رأي شيخك إن
لم يكن دليله صحيحًا صريحًا جامعًا مانعًا خال من المعارض الراجح أو المُكافئ.
فالعبرة – فقط
- بما جاء عن الله ورسوله، وعليه مدار عقد الإيمان لمن كان له قلب أو ألقى السمع
وهو شهيد.
فالحق المطلق
يدور مع الوحي بشقيه الكتاب والسنة، أما غيرهما فيلحقه نقص البشر غير المنفكّ عنهم،
مالم يُجمع السلف على أمر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر أن الحقّ لا
يخرج عن إجماعهم، قال صلى الله عليه وسلم: "سألت الله عز وجل ألا يجمع
أمتي على ضلالة فأعطانيها"
(68)
ومن فروع ذلك: أن قولَ واحد أو اثنين من السلف في مسألة
ما؛ لا يجعل هذا القول هو منهج السلف إن كان ثمّ مخالف له.
وما أكثر المسائل التي يستشهد فيها بعض الناس بقول واحد
من السلف وقد علم مخالفة بعض معاصريه له فيها، ثم يُعلن أنها قول السلف وأن من قال
بخلافها فقد خرج عن منهجهم وابتدع وأحدث! يا صاحبي وسّع أفقك ولينشرح صدرك لغيرك
واعلم أن الأمور لا تؤخذ بهذه الطريقة الضيّفة.
ومنها: الثقةُ الراسخة بالوحي المُنزّل، ومن لم يثق في
الوحي ثقةً مطلقةً فلا ترجُه.
ومنها: العناية بالنظر المقاصدي للشرع المطهّر.
ومنها: العناية بالوسطيّة في الأمور، فخير الأمور أوساطُها، وقال علي رضي الله عنه: "خيرُ
الناس هذا النّمَط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي" (69)
ويتبع ذلك: التكاملُ والتوازن. فكن متوازنًا متكاملًا
لا جافيًا ولا غاليًا، فلا تغل – مثلًا – في مسألة حقوق ولي الأمر والسمع والطاعة،
فلكلّ أصلٍ قدرُه.
ومن التوازن الرشيد: الفرح بالخير من كل مسلم، وكلّما
زاد خير المسلم ونفعه للناس فلتزد جرعة فرحك له وسرورك واحتفاءك.
وإن الواجب الفرح بداعٍ إلى الله اشتهر في الناس فضله
ونفعه وسلامته حتى وإن كان طرحه أو مواضيعه ليست هي الأهم، فنحمده لأنه قد تكلّم
واجتهد فيما يحسنه، وقيمة كل امرئ ما يحسنه، وحاجات الأرواح لا تنتهي. وجزى الله
خيرًا كل من نفع الناس ودعاهم للخير والشرع.
ومنها: الحذرُ من الكلام في النيات. فهو نقص في العقل
ورقة في الدين، ودع عنك سابلةَ من كان ديدنهم في أحكامهم طعن نيّات العباد.
ومنها: صدقُ الاتّباعِ. فلا تكن مرجئًا مع السلاطين
خارجيًّا مع الدعاة، ولو بالسلوك والعمل.
ومنها: العنايةُ بالأعمال الصالحة والقُرب المرضيّة. فالانحراف
عن السنة حتى بمعاصي الشهوات هو خروج عن السنة، إنما شدّد السلف في البدع لأنها تؤول
إلى التبديل، وليس مقصودهم الاستهانة بمعاصي القلب والجوارح، فكل معصية تثلم في
التوحيد ثلمة بقدرها.
ومنها: العنايةُ الدائمة والحراسة اليقِظة لأعمال
القلوب، فهي محلّ نظر الله تعالى، فلا بد من الاهتمام الشديد والمراعاة التامّة لأعمال
القلوب، فكثيرها موحش بلقع!
ومنها: العنايةُ بتزيين النفس بالأخلاق الجميلة والصفات
الحسنة، وهي من أثقل الصالحات غدًا في الموازين، وفي الأدب المفرد (70) أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن
الخلق" وقال ناصحًا مبيّنًا: "ما من
شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق" (71)
وقال مبيّنا حبّه للمتخلقين بجميل
سجاياه وكريم صفاته: "إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم
أخلاقًا" (72)
وإنما الأخلاق بالتخلّق حتى وإن كان الطبع راسخًا فمع
الاستعانة بالله ودعائه والمجاهدة للنفس وطول المدى يسهُل الأمر بإذن الله، ولا شك
أن الأمر يستحق فبادر أيها الخَلوق.
هذا ولابد أن يُربّى الناشئة منذ بداية تتلمذهم على أصول
أخلاق الإسلام، فالأخلاق جزء كبير من المنهج النبوي، ومن قصّرَ فيها ففيه نقص من
تلك الجهة بقدر نقصه، فليستعن بالله في هدايته لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا هو.
ومنها: الصبر والمصابرة والمرابطة في ذات الله، اصبر
وتصبّر وصبِّر واهتف لنفسك وإخوتك: "واصبر وما صبرك إلا بالله" "وان
تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا" "وبشر الصابرين".
ومنها: العنايةُ بالفضاء الالكتروني، فقد بث في الأمة
نوازع فرقة لم تكن قبله لسرعة وصول المعلومة الملغومة لجماعات لا تُحصى من الناس،
فيتلقّفها من قلّ حظّه من الفقه والحكمة.
ومن الجيّد إنشاء مواقع ومنتديات وتطبيقات تنشر ثقافة
الاجتماع المحمود ونبذ الافتراق المذموم. وإن كان لا بد من الحذر الشديد من
اختراقها، ومتابعة ذلك، خاصة مع وسائل التواصل التي تمكّن بعض المؤسسات من صنع
جدار منيع بجيش افتراضي مزيّف ومسلّح بأقذع الألفاظ وأحطّ التهم وإيقاد نار
التشرذم وبثّ بذور التفرّق بين أهل الصف الواحد.
علمًا بأن هذا الطرف أو ذاك هو منهج في نسيج مجتمعي
مترامي يسهل اختراقه تحت أي مسمى وبأية ذريعة، فإن أردنا حراسته فلا بد من التأكيد
والتواصي بمهمات علاقة المسلم بأخيه ولو خالفه، كالتّثبت والعدل والرفق ونحوه، أما
ترك الحال بهذه الفوضى فهي نكسة دعوية ومأساة سلفية بكل المقاييس.
ومقصدي هو التنبيه لنشر ثقافة الحوار البناء لا النقاش
الهدام.
(كفاك حيرةً وتردّدًا)
كثير من الشباب يعيش في حيرة من أمره ويقول: إن الأمور
قد التبست علي ولا أدري أين الجادة النبوية حتى أضمن السلامة.
فأقول لكل من
ضربته الحيرة: أي أخي الصالح، إن الحكمة عند الالتباس تقتضي التوقف تمامًا حتى لا تقع
في الإلباس وتكرع في حقوق الناس، لذلك فعُدْ بالأمر من أوله، واترك هذه المناهج كلّها،
واعتصم بالقرآن والسنة ففيهما مقنعٌ عن كلام الناس وجدالهم ومرائهم.
واعلم أنك متى
انطرحت بين يدي مولاك، وضرعت إليه بكفِّ فقيرٍ كسيرِ قلبٍ وردّدت بصدق وإلحاح:
"اللهم رب جبرائيل
وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما
كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"
(73) وأخذت بأسباب الهدى من
الاعتصام بالله ثم بما أوحاه من القرآن والسنة، ثم انشغلت بما أجمع عليه أهل العلم
من العلوم التي لم يتفرّق فيها هؤلاء، فأكببتَ على حفظ كتاب الله وتفهّمه وتفسيره،
وحفظ ما استطعت من سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وقرأت عليها ما تيسر من شروح أهل
السنة، وثنيت ركبتيك عند دروس من وثقت بعلمه وورعه، وثنيت خناصرك على كتب أهل
الدعوة السلفية وما سبقهم من كتب الأئمة كشيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير ومن
سبقهم من الأئمة الأعلام، وكنت ذا حظّ من عبادة ظاهرة وباطنة، وكانت لك خبيئةٌ من
عمل صالح لم يطلع عليه سوى علام الغيوب، واجتنبت ظاهر الإثم وباطنة؛ فأنا ضمين لك
بتوفيقٍ وفلاحٍ، فالله تعالى لا يضيع أولياءه ولا يرد سائله متى بذل أسباب الإجابة
ولو بعد حين، ولَتذوقنَّ حلاوة الأيمان وانفساح الصدر وانشراح النفس وراحة البال
وهنأة العيش، والسلامةَ من قيل وقال وردّ فلان وكتب فلان وانظروا فضيحة فلان
وانشروا كلام فلان في فلان .. إلى اخر ذلك الغثاء الذي لا يصفوا منه بعد التحقيق
الا القليل مما قد كُفيته بردود الراسخين دون الشاغبين المتفيهقين.
سائلًا ربّي أن يستغرسني والقارئ في طاعته، وأن يجعلنا
من أهل خشيته في الغيب والشهادة، ومن أهل كلمة الحق عند الغضب والرضا، وممن لا تأخذهم
في الحق لومة لائم ولا مدح مادح، ولا لغير الحق رَغَبًا ورَهَبًا ورجاء
ومحبة.
أبشر خليلي فقد أجْلَتْ لنا
الكُتُبُ ... نصرٌ من الله في الكفّار يلتهبُ
أَنْجِدْ أُخيَّ ولا تلوِ على
ضَعَةٍ ... واشف صُدوراً شواها القهرُ والكربُ
أشرق بوجهك قد حانت بوادره ... وعدٌ من
الله للأحرار يقتربُ
تنزيل مرحمةٍ تنزيلُ
ملحمةٍ ... تُجنيدً ألويةٍ صَمْصَامُها
النُّجُبُ
نبراسها العلمُ والتقوى
تؤججها ... فرقانُها سائق إن صاحتِ النًّوَبُ
(الخاتمة)
على المؤمن أن يتحقّق من سلامة مقصده ومن صحة منهجه،
فإن تمّ له ذلك فليتوكل على من بيده مقاليد الأمور وأزِمَّة النواصي، وليعلم أنه مبتلى
بأذى من لدن صادقين جهلة أو خبثاء سفلة، فطريق الأنبياء كذلك.
فإن نهى عن شقّ
عصا الطاعة لذي سلطان مسلم وأمرَ بنبذ أسباب الفرقة رُميَ بأنه من فئة كذا، وإن أمر
بالمعروف ونهى عن المنكر وعلّم القران واحتسب الدعوة إلى الله نُبز بأنه منتم
لفصيل كذا، وأن دعا إلى التذكير بشعيرة الجهاد في سبيل الله ودعم المجاهدين
والمرابطين ممن صحّ منهجهم وخلوا من الغلوّ فسيُرمى بالتكفير والخروج.
وليس هذا
بجديد، فمن سبقه من أهل السنة لمّا أمر بتعظيم شأن التوحيد والسنة رُمي بتهمة الوهّابية،
ولما دعا لتقديم مذهب السلف في الإيمان والأسماء والصفات والقدر رمي بالتّيميّة، فإن
شدّد في الاحتشام والأمر بالفضيلة قيل حنبلي وهكذا الحال.. صراع ومداولة بين الحق
والباطل إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ويأتي أمرُ الله وينفذ حكمه الموافق
لحكمته، وتستبين سبيل المجرمين والمدّعين والمرجفين، ولله الأمر من قبل ومن بعد،
(والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
ويا قوماه قد نصحت لكم، فأحبّوا – يا رعاكم الله –
الناصحين.
ومضة قبل الرحيل: كل أمر تلجلج في صدرك وتردّدتَ فيه فأغمض
عينيك، ثم تخيّل مقامك بين يدي الله غدًا، فستعرف حينها ما ينبغي عليك فعله، إذ قد
زالت عن عينيك غشاوة الهوى.
وختامًا:
أقول
وقولوا معي يا أباةُ ... بصوت يطول أعالي
القممْ
إذا
الدين أضحى ينادي رجالاً ... فلا خير فينا إذا
لم نقمْ
ولا خير
فيمن يصيح به الدين ... صيحة غوث فلم ينتقمْ
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ما سَجَتِ
الغواسقُ وهَمَتِ الغَوادِقُ ودامت الخلائق.
إبراهيم الدميجي
27/ 1/ 1437
@aldumaiji
..............................................................
(1)
أبو داود (4297) وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي
داود (9 / 297) والمشكاة ( 5369 ) والصحيحة ( 958 )
(2)
الموطأ (1605)
(3)
مسلم 3/86 ( 1017 ) ( 69 ) قال النووي في شرح صحيح مسلم
4/110 ( 1017 ): "فيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات ،
والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات".
(4)
مختصر تاريخ دمشق (5 / 239)
(5)
رواه ابن عبد البر في (جامع بيان العلم
وفضله) وانظر: مجموع مؤلفات عقائد الرافضة والرد عليها (24 / 59)
(6)
.سئل الإمام أحمد
بن حنبل رحمه الله: الرجل يصوم ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: "إذا
قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلّم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل".
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "أن تحذير الأمة من البدع
والقائلين بها واجب باتفاق المسلمين". وقال أيضاً: "إن أهل البدع شر من أهل المعاصي الشهوانية بالسنة
والإجماع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم،
وقال في الذي يشرب الخمر: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" رواه البخاري
(6780) ولفظه: "لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله" وانظر:
مجموع الفتاوى (28/231)
قلت: ولا يعني هذا أن تطير مع كل من حذّرك من فلان أو فلان بحجة
ابتداعهم فقد يكون هو المبتدع لا هم، فكن على حذر وبيّنة. فليس كل من خالف
الاجتهاد السائد مُحدِثٌ مبتدع.
(7)
الفتاوى (20 / 164)
(8)
الترمذي (2511) وقال: حسن صحيح وصححه
الألباني.
(9)
وانظر: بيان الإمام ابن باز رحمه الله في أسلوب النقد
بين الدعاة والتعقيب عليه في مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (7/ 316) وانظر: تصنيف الناس بين الظن واليقين.
لبكر أبو زيد رحمه الله. وانظر: الدرر السنية (3/ 20) (4/ 5-7)
(10) صحيح مسلم (1 /
16)
(11) مجموع الفتاوى
(11 / 514)
(12) قال
شيخ الإسلام في هذا المعنى معلقًا على حديث سماع الموتى للأحياء المخرّج في
الصحيحين (البخاري (4026) ومسلم (2873): "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" فقالت
– أي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -: إنما قال: "إنهم لَيعلمون الآن أن ما
قلت لهم حق" ومع هذا فلا ريب أن الموتى يسمعون خفق النعال كما ثبت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "وما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه
إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" (*) صح ذلك عن النبي صلى الله عليه
وسلم إلى غير ذلك من الأحاديث.
وأم المؤمنين تأوّلت - والله يرضى عنها
- وكذلك معاوية نُقل عنه في أمر المعراج أنه قال: "إنّما كان بروحه" والناس
على خلاف معاوية رضي الله عنه، ومثل هذا كثير. وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن
ينضبط.
ولو كان كلّما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق
بين المسلمين عصمة ولا أخوة، ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما سيدا المسلمين يتنازعان
في أشياء لا يقصدان إلا الخير" مجموع الفتاوى (24 / 173)
(*) صححه ابن عبد البر وابن تيمية وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (
5208 )
(13) البخاري
(946، 4119) ومسلم (1770) بلفظ: "لا يصلينّ أحدٌ الظهر إلا في بني قريظة"
وانظر كلام الحافظ عليه في الفتح (7/408، 409)
(14) البخاري
(7352) ومسلم (1716)
(15) اقتضاء
الصراط (1 / 39)
(16) مجموع
الفتاوى (20 / 253)
(17) أحمد
(6/444) بسند صحيح. والحالقة: هي خصلة السوء التي تذهب الدين كما تذهب الموسى الشَّعر.
(18) مجموع
الفتاوى (24 / 174)
(19) الفتاوى (20\ 165- 166)
(20) السير (14 / 40 )
(21) السير (14/ 374)
(22) السير (14/ 339)
(23) المستدرك (4 /
465) (8440)
(24) أبو داود
(4611) بسند حسن.
(25) أخرجه أبو داود
بسند صحيح (4263) واهًا: هي كلمة يقولها المتأسف على الشيء المُعجَب به.
(26) مجموع الفتاوى
(18 / 295)
(27) مسلم مرفوعًا (1067)
(28) مسلم (1718) قال النووي رحمه الله: "تباح الغيبة
لغرض شرعي، وذلك لستة أسباب:
أحدها:
التظلّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلّم الي السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو
قدرة علي إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان أو فعل بي كذا.
الثاني:
الاستغاثة على تغيير المنكر وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته: فلان
يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك.
الثالث:
الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا فهل له ذلك،
وما طريقي في الخلاص منه ودفع ظلمه عني ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة والأجود أن
يقول في رجل أو زوج أو والد وولد كان من أمره كذا، ومع ذلك فالتعيين جائز لحديث
هندٍ وقولِها: "إن أبا سفيان رجل شحيح".
الرابع:
تحذير المسلمين من الشر، وذلك من وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود
والمصنّفين وذلك جائز بالإجماع، بل واجبٌ صونًا للشريعة.
ومنها: الاخبار بعيبه عند المشاورة في
مواصلته.
ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئًا معيبًا أو
عبدًا سارقًا أو زانيًا أو شاربًا أو نحو ذلك، تذكره للمشتري إذا لم يعلمه نصيحة
لا بقصد الايذاء والإفساد.
ومنها: إذا رأيت متفقّهًا يتردّدُ إلى فاسق
أو مبتدع يأخذ عنه علمًا وخِفت عليه ضررُه، فعليك نصيحته ببيان حاله قاصدًا النصيحة.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على
وجهها لعدم أهليّته أو لفسقه، فيذكره لمن له عليه ولاية ليستدل به على حاله، فلا
يغترّ به ويلزم الاستقامة.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته، كالخمر
ومصادرة الناس وجباية المكوس وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهِر به ولا
يجوز بغيره إلا بسبب آخر.
السادس: التعريف، فإذا كان معروفًا بلقب كالأعمش
والأعرج والأزرق والقصير والأعمى والأقطع ونحوها جاز تعريفه به، ويحرم ذكره به
تنقّصًا، ولو أمكن التعريف بغيره كان أولى، والله اعلم" شرح النووي على مسلم
(16 / 379) ووافقه ابن حجر في الفتح (10 / 472)
(29) فتح الباري (٢١/٣١٤)
(30) متفق عليه في أحاديث. البخاري (8/31 ، 9/120) ومسلم
(7/90)
(31) البخاري (6120)
(32) البخاري ( 4552
) ومسلم ( 1711 )
(33) البخاري (
3038) ومسلم ( 1733(
(34) ابن ماجه (4251) وحسّنه الألباني.
(35) مسلم ( 2749 )
(36) الموطأ مرفوعًا (1605)
(37) البخاري (1/180)
( 704 ) ومسلم (2/42) ( 466 )
(38) أي: ابن أبي
وقّاص، وكان أجلّ من اعتزل الفتنة، ورغب عنها، وقدّ رجّح شيخ الإسلام وغيره
اعتزاله وغيره الفتنة وأنه الأقرب للسنّة، ورجّح النووي وابن حجر وغيرهما موقف
مناصري عليّ، رضوان الله عن الجميع.
(39) انظر: مجموع الفتاوى
(4 / 440)
(40) الترمذي (2358) وصححه الألباني.
(41) الترمذي (2446) وصححه الألباني.
(42) جامع الأصول في
أحاديث الرسول - (4 / 331)
(43) عن عمر بن الخطاب
وأبو هريرة رضي الله عنهما: أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "من
رأى صاحِب بلاءٍ فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكَ به، وفضَّلني على كثير ممن
خلق تفضيلا، عُوفيَ من ذلك البلاءِ، كائنًا ما كان، ما عاش"
مسلم (8/81) والبخاري في الأدب
المفرد (668) والترمذي (3431) وهذا لفظه.
(44) السير (8/114)
(45) عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله
نُودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة،
ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الرّيان،
ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة" قال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت
وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحدٌ من تلك
الأبواب كلها؟ فقال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم" متفق عليه. البخاري 3/32
(1897) ومسلم 3/91 (1027) (85)
قال النووي في شرح
صحيح مسلم 4/121 : "في تفسير هذا الحديث: قيل: وما زوجان؟ قال: "فرسان أو
عبدان أو بعيران" وقال ابن عرفة: كل شيء قُرن بصاحبه فهو زوج، يقال : زوّجت بين
الإبل إذا قرنت بعيرًا ببعير، وقيل: درهم ودينار، أو درهم وثوب.
وقيل: يحتمل أن
يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر من صلاتين أو صيام يومين، والمطلوب تشفيع صدقة
بأخرى، والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في الطاعة والاستكثار منها. أهـ مختصرًا.
(46) مجموع الفتاوى
( 7/ 651، 652)
(47) الجامع لأحكام القرآن
(7 / 141)
(48) الجامع لأحكام القرآن
(7 / 141)
(49) البخاري (4/170
و255) ومسلم (8/52)
(50) سنن أبى داود
(1 / 430) وصححه الألباني.
(51) تفسير السعدي
(1 / 126)
(52) البخاري
(1/139) ومسلم (1/35) (6/94)
(53) ((تفسير ابن كثير (1 / 700)
(54) وهو ثابت بن
قيس رضي الله عنه.
(55) مسلم 1/65 ( 91
) ( 147 )
(56) أحمد (22204) وهو حديث حسن بطرقه
وشواهده وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (101) والطبراني (8067) واللالكائي في شرح
أصول الاعتقاد (177)
(57) الترمذي ( 1987
) وقال: حديث حسن صحيح.
(58) البخاري في خلق
أفعال العباد صفحة (42) ومسلم (6/47)
(59) رواه الترمذي (
2317 ) وصححه الألباني. الروض النضير ( 293 و 321 )
(60) أي: السلف.
(61) أخرجه البخاري تعليقًا
في الفتن باب الفتنة التي تموج كموج البحر. (9 / 0) وقال الحافظ في الفتح (13/53):
"وصله البخاري في التاريخ الصغير عن عبد الله بن محمد المسندي، حدثنا سفيان بن
عيينة. وقال أيضا: والمحفوظ أن الأبيات المذكورة لعمرو بن معد يكرب الزبيدي، كما جزم
به أبو العباس المبرد في الكامل".
(62) أخرجه الترمذي وحسنه
والمخلص في الفوائد المنتقاة ( 10 / 7 / 1 ) بإسناد حسن. وانظر: صحيح الجامع (
3007 ، 3586 )
(63) السنن الكبرى للبيهقي
(2 / 286)
(64) مسلم (2699)
(65) أبو داود (
4800 ) بسند صحيح. والزعيم: الضامن.
(66) أخرجه الترمذي
(3267) وقال حسن صحيح.
(67) سنن الترمذي
(2414)
(68) أحمد (27224)
وصححه الأرنؤوط.
(69) مصنف ابن أبي شيبة
(13 / 282) (35639)
(70) (1 / 108) وحسنه
الألباني.
(71) صححه الألباني في صحيح الأدب
المفرد ( 270 )
(72) صححه الألباني
في صحيح الترمذي ( 1642 )
(73) مسلم (1/ 770)