الشوق
إلى الله تعالى
الجنة دار المحبين، وأمنية المشتاقين،
وموعد المؤمنين.
اشتاقت قلوب الصالحين إليها للقاء ربهم
فيها، وقد وعدهم الكريم سبحانه: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت) نعم آت
فهل استعددت له؟ (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه
أحدًا).
الشوق هو تَوَقان النفس إلى الشيء، فكلما
أحبّت تحصيلَه كلما ازداد شوقُها إليه. والشوق قد يكون لمتع الحس وقد يكون للروح، وقد
يكون لهما معًا، وأعلى الشوق هو الشوقُ إلى لقاء الله تعالى. ومن
دعاء النبي ﷺ: «وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا
فتنة مضلّة».
وكلما كان الشيء أحب، كانت اللذة بنيله
أعظم، كما رُوي عن الحسن البصري أنه قال: لو علم العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة
لذابت نفوسهم في الدنيا شوقًا إليه.
وقال ابن القيم رحمه الله: "ومن منازل:
﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾ منزلة الشوق. قال الله تعال: (من كان يرجو لقاء الله فإن
أجل الله لآت) وفي هذا تعزية للمشتاقين، وتسلية لهم، أي أنا أعلم أنّ من كان يرجو لقائي
فهو مشتاق إلي، فقد أجَّلْتُ له أجلاً يكون عن قريب، فإنه آتٍ لا محالة، وكل آت قريب.
وفيه لطيفة أخرى، وهي تعليل المشتاقين برجاء اللقاء.
لولا التعلُّلُ بالرجاء
لقُطِّعَتْ ... نفْسُ المحب صبابةً وتشوّقًا
ولقد يكاد يذوب منه
قلبُهُ ... مما يقاسي حسرةً وتحرُّقًا
حتى إذا رَوْحُ الرجاءِ
أصابه ... سَكَنَ الحريقُ إذا تعلَّلَ باللقا
ولقد كان النبي ﷺ دائمَ الشوقِ إلى لقاء
الله. والشوقُ أثر من آثار المحبة، وحكم من أحكامها، فإنه سَفَرُ القلب إلى المحبوب
في كل حال.
وللشوق علامات، قال أبو عثمان: علامته حب
الموت، مع الراحة والعافية، كحال يوسف لما أُلقي في الجُبّ لم يقل «توفني»، ولما أُدخل
السجن لم يقل «توفني»، ولما تمَّ له الأمر والأمن والنعمة قال: «توفني مسلمًا».
والشوقُ إلى الله عز وجل لا ينافي الشوقَ
إلى الجنة، فإن أطيب ما في الجنة قربُه تعالى، ورؤيتُه وسماع كلامه ورضاه.
وقد يقوى الشوق ويتجرد عن الصبر فيسمّى
قلقًا، وقد يكره خلطة الخلق لما في ذلك من التنافر بين حاله وخلطتهم، وحدثني بعض أقارب
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانًا إلى الصحراء
يخلو عن الناس، لقوّة ما يَرِدُ عليه، فتبعتُهُ يومًا فلما أصحر تنفّس الصعداء، ثم
جعل يتمثل بقول الشاعر:
وأخرجُ من بين البيوت لعلَّني ... أُحَدِّثُ عنك النفس بالسرِّ خاليًا
وصاحب هذا الحال إن لم يردّه الله سبحانه
إلى الخلق بتثبيت وقوّة، وإلا فإنه لا صبر له على مخالطتهم، وربما التذّ بالموت لرجاء
اللقاء بربه كما يلتذ المسافر بتذكر قدومه على أهله وأحبابه.
وليس عند القلوبِ السليمة والأرواحِ الطيبة
والعقول الزاكية أحلى ولا ألذَّ ولا أطيبَ ولا أسرَّ ولا أنعم من محبّته والأنسِ به
والشوقِ إلى لقائه.
والحلاوةُ التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك
فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتمّ من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى
من كل لذّة، كما أخبر بعضهم عن حاله بقوله: إنه ليمرّ بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل
الجنة في مثل هذا؛ إنهم لفي عيشٍ طيّب. وقال
آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربًا بأنسه بالله وحبه له. وقال
آخر: مساكين أهل الغفلة! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. وقال
آخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.
وَوَجْدُ هذه الأمور وذوقُها هو بحسب قوة
المحبة وضعفها، وبحسَب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل وإدراك
المحبوب أتمَّ، والقرب منه أوفرَ؛ كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى.
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف،
وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب، وجد من هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه،
ولا يُعرف بالذوق والوجد، ومتى ذاق القلب ذلك لم يمكنه أن يقدّم عليه حبًّا لغيره،
ولا أُنسًا به، وكلما ازداد حبًا؛ ازداد عبودية وذلاً وخضوعًا ورقًّا له، وحريّة عن
رق غيره.
فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا
يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن، إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له
جميعَ ما يلتذ به من المخلوقات، لم يطمئنَّ إليها، ولم يسكنْ إليها، بل لا تزيده إلا
فاقةً وقلقًا، حتى يظفرَ بما خُلق له وهُيّئ له، من كون اللهِ وحدَه نهايةَ مراده،
وغايةَ مطالبه، فإن فيه فقرًا ذاتيًا إلى ربه وإلهه من حيث هو معبودُه، ومحبوبه وإلهه
ومطلوبه، كما أن فيه فقرًا ذاتيًا إليه من حيث هو ربُّه وخالقه ورازقه ومدبّره، وكلّما
تمكّنت محبة الله من القلب وقويت فيه؛ خرج منه تألُّههُ لما سواه، وعبوديته له:
فأصبحَ حُرًّا عِزَّةً
وصيانةً ... على وجهه أنوارُه وضياءُهُ
وما من مؤمن إلا وفي قلبه محبةٌ لله تعالى
وطمأنينة بذكره، وتنعّم بمعرفته، ولذة وسرور بذكره، وشوق إلى لقائه، وأنسٌ بقربه، وإن
لم يُحسّ به، لاشتغال قلبه بغيره، وانصرافِه إلى ما هو مشغولٌ به، فوجودُ الشيء غيرُ
الإحساسِ والشعورِ به، وقوة ذلك وضعفه وزيادته ونقصه، هو بحسب قوة الإيمان وضعفه، وزيادته
ونقصانه.
والعبد في حال معصيته واشتغاله عنه بشهوته،
تكون تلك اللذة والحلاوة الإيمانية مستترةً عنه متواريةً، أو ناقصة، أو ذاهبة، فإنها
لو كانت موجودةً كاملة لما قدّم عليها لذّة وشهوة، لا نسبة بينها وبينها بوجهٍ ما،
بل هي أدنى من حبةِ خردل بالنسبة إلى الدنيا وما فيها. ولهذا قال النبي ﷺ: «لا يزني
الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين
يشربها وهو مؤمن» لهذا تجد العبدَ إذا كان مخلصًا لله منيبًا مطمئنًا بذكره مشتاقًا
إلى لقائه؛ قلبه منصرفًا عن هذه المحرمات، لا يلتفت إليها، ولا يعوّل عليها.
وقيل: الشوقُ أعلى الدرجات وأعلى المقامات،
فإذا بلغها الإنسان استبطأ الموتَ، شوقًا إلى ربه، ورجاءً للقائه والنظرِ إليه".
وقال عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره
لقول الله تعالى: ﴿ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم
كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلَها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل..﴾: "هذه
حالةُ المُنفقين أهلُ النفقات الكثيرة والقليلة كلّ على حسب حاله، وكل يُنمَّى له ما
أنفق أتم تنمية وأكملها، والمُنَمّي لها هو الذي أرحم بك من نفسك، الذي يريد مصلحتك
حيث لا تريدها.
فيالِله لو قدّر وجودُ بستان في هذه الدار بهذه الصفة
لأسرعت إليه الهمم، وتزاحم عليه كل أحد، ولحصل الاقتتال عنده، مع انقضاء هذه الدار
وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها، وهذا الثواب الذي ذكره الله كأن المؤمنَ
ينظرُ إليه بعين بصيرة الإيمان، دائمٌ مستمر، فيه أنواع المسرات والفرحات، ومع هذا
تجد النفوسَ عنه راقدة، والعزائم عن طلبه خامدة، أترى ذلك زهدًا في الآخرة ونعيمِها،
أم ضعفَ إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه؟!
وإلا فلو تيقّن العبد ذلك حق اليقين، وباشر
الإيمانُ به بشاشةَ قلبه؛ لانبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه، وتوجهت هِمَمُ عزائمه
إليه، وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات ولهذا قال تعالى: (والله بما
تعملون بصير﴾ فيعلمُ عملَ كلِّ عامل، ومصدَرَ ذلك العمل، فيجازيه عليه أتمّ الجزاء".
ومن نفيس كلام ابن الجوزي رحمه الله:
"انتبه لنفسك يا من كلما تحرّك تعرقل، فيك جوهرية السباق، ولكن تحتاج إلى رائض،
قلبُك محبوسٌ في سجن طبعك، مقيّد بقيود جهلك، فإن ترنَّمَ حادٍ تنفَّسَ مشتاقٌ إلى
الوطن، فالبس لَأمَةَ عزمك، وسر بجند جدك، لعلك تُخلِّصُ هذا المسلمَ من أيدي الفراعنة!
لك الحديثُ يا معرضُ، أنت المراد يا غافل،
يا مُسْتلذًّا بَرْدَ العيش تذكّر حُرْقة الفرقة، يا من يُسْلِمُهُ موكَلان إلى موكَلين؛
ما لانبساطك وجهٌ، إنما تُملي عليهما رسالةً إلى ربك، وما أراكَ تمَلُّ قُبْحَ ما تُملي!
أين الذي نصبوا الآخرة بين أعينهم فَنَصَبوا،
وندَبوا أنفسهم لمحو السيئات ونَدَبوا.
كان ثابت البُناني يستوحش لفقد التعبُّد
بعد موته فيقول: يا رب إن كنتَ أذنت لأحدٍ أن يُصلي في قبره فائذَنْ لي. وكان
يزيد الرَّقاشي يقول في بكائه: يا يزيدُ من يبكي بعدك عنك؟ من يترضّى ربَّك لك؟
لما علم المحبّون أن الموت يقطع التعبدات
كرهوه لتدوم العبادة.
كانوا يحبّون أماكن الذكر ومواطن الخلوة،
والمؤمن أَلُوفٌ للمعاهد".
إن أعظمَ مشوّق لله والدار الآخرة هو تدبرُ
القرآنِ العظيم؛ ففيه وصفُ الجليلِ الجميل سبحانه، وذكرُ آلائه ونِعَمِه وآياته، وهو
الـمَعينُ الثرُّ لزيادة الإيمان واستقرار اليقين وانشراح الصدر وسعادة القلب وهناء
الحياة والممات، ومن داوم على قراءته وتدبره وتفهّمه والعمل به فلا تسل عن سعادته وفلاحه
في الدنيا والآخرة. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
والشوق للقاء الله عز وجل مِنّة من
الله تعالى يمنحها الأبرار من عباده، فحسن الظن الراسخ لا يكون إلا بعلم بالله
قرنه عمل صالح قدمه بين يديه قربانًا إليه.
وكان من آخر الدعوات التي لهج بهن
والدي رحمه الله وهو على فراش موته: اللهم قد اشتقت للقائك – يرددها عشية الجمعة
-.
وتأمل تشويق الحبيب صلوات الله وسلامه
عليه للجنة دار السلام، واحْدُ بقلبك إليها لعلك أن تكون من الفائزين بها غدًا، فعن
أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إن في الجنة مئةُ درجة أعدّها للمجاهدين في
سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه
وسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن» رواه البخاري.
وله عن أبي سعيد ؓ أن النبي ﷺ قال: «إن
أهل الجنة يتراءون أهل الغُرَفِ فوقهم كما تتراءون الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابر في الأُفق
من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم» قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا
يبلغُها غيرهم! قال: «بلى، والذي نفسي بيده، رجالٌ آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين».
وعن أبي مالك الأشعري ؓ أن النبي ﷺ قال:
«إن في الجنة غُرَفًا يُرَى ظاهرُها من باطنها، وباطنُها من ظاهرها، أعدّها الله لمن
أطعم الطعام وأدام الصيام وصلّى بالليل والناس نيام»، أخرجه الطبراني وأحمد.
وعن أبي موسى ؓ أن النبي ﷺ قال: «إن للمؤمن
في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوّفة، طولها في السماء ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون
يطوف عليهم فلا يَرى بعضُهم بعضًا» متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ؓ أن النبي
ﷺ قال: «أول زُمْرَةٍ تدخلُ الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على
أشد نجم في السماء إضاءةً، ثم هم بعد ذلك منازلُ، لا يتغوطون، ولا يبولون، ولا يمتخطون،
ولا يبصقون، أمشاطُهم الذهب، ومجامِرُهم الأُلوَّة، ورشْحُهُم المسك، أخلاقُهم على
خلق رجل واحد، على طول أبيهم آدم؛ ستون ذراعًا»، وفي رواية: «لا اختلاف بينهم ولا تباغض،
قلوبهم قلب رجل واحد، يسبّحون الله بكرة وعشيًّا» وفي رواية: «وأزواجهم الحور العين».
وعن أنسٍ ؓ أن النبي ﷺ قال: «لقاب قوسِ
أحدِكم أو موضع قدمٍ في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء الجنة
اطّلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحًا، ولنصيفُها (يعني الخمار)
خيرٌ من الدنيا وما فيها» رواه البخاري.
وعن أنس ؓ أن النبي ﷺ قال: «إن في الجنة
لسُوقًا يأتونها كل جمعة، فتهبُّ ريح الشَّمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا
وجمالاً» رواه مسلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة ؓ أن النبي ﷺ
قال: «قال الله عز وجل: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذُنٌ سمعت، ولا
خطر على قلب بشر، واقرءوا إن شئتم: ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء
بما كانوا يعملون).
وعن صهيب ؓ أن النبي ﷺ قال: «إذا دخل أهل
الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون:
ما هو؟ ألم يثقّل موازيننا، ويبيّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا من النار؟ قال:
فيكشفُ الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه،
ولا لأقرَّ لأعينهم منه» رواه مسلم.
وله من حديث أبي سعيد الخدري ؓ أن الله
يقول لأهل الجنة: «أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا».
اللهم ارزقنا الخلد في جنانك، وأحِلَّ علينا
فيها رضوانك، وارزقنا لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، من غير ضراءَ مضرَّة، ولا
فتنة مضلة..آمين إله الحق. اللهم صل وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه.
إبراهيم
الدميجي
10|10|1437