"وبشّر الصابرين"
قال تعالى مبشّرًا أهل الصبر لوجهه، وقد
أطلق البُشرى لتذهب النفس في أمنياتها كلّ مذهب جميل، والله الكريم من وراء ذلك
كله وأجزلُ وأكرمُ وأوهبُ، وقد مهّد البشارة بذكر إلقائه المشاق الحسيّة والنفسية
في طريقهم إليه تعالى، وسمّى ذلك ابتلاءً ليكونوا على بصيرة من أمرهم بأن المراد
من هذا البلاء إظهار طيب معادن نفوسهم حين يصهرها البلاء فيبلوها عن أجمل معادن الصبر
والرضى والحمد والشكر، ونسب فعل الابتلاء إليه لتقترب قلوبهم من معية ربهم لعلمها
أن بلاءه في حقيقته رحمه، وأنه خير لهم وأسعد، وأن فيه من الحكم الربانية ما لا
تحيط بها أذهانهم، فيستشعرون قربه ومعيته ورفده وتصبيره وتوفيقه فقال جل جلاله: (ولنبلونكم
بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين).
ثم بيّن شعار الصابرين وعيّنهم بأنهم الذين
يهتفون لنفوسهم حين نزول البلاء والكرب والشدة والحزن أنها ملك مطلق لربها يصرفها
كيف يشاء ويفعل بها ما أراد، وأنهم سيعودون بعد برهة من الزمان إليه للحساب
والجزاء حين يستنفدون أرزاقهم وأجالهم فقال تعالى: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا
إنا لله وإنا إليه راجعون) فهنا البلسم الروحاني والترياق النفساني لكل هزمةِ شدة
أو هبّة حزن أو ركضة بلوى أو أنّة مُصاب.
ثم صبّ بشارته الربانيّة النفيسة
الجليلة على قلوبهم المؤمنة الراضية المسلّمة له فقال جل شأنه وعز اسمه: (أولئك عليهم
صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) فلهم من ربهم العليُّ أجمل ثناء وأعطر
ذكر في الوجود وهو ذكره وثناؤه عليهم، فيا لله كم في هذا المقام من جلال وجمال
وغبطة وفوز!
ثم ثنّى ببشارتهم برحمته وأنهم من المرحومين،
ومن رحمه أرحم الراحمين وإله العالمين فلا تسل عن نعيمه وسعادته وفلاحه في الأولين
والأخرين.
ثم ثلّث بشارته لهؤلاء الصابرين بالهدى
إرشادًا وعلمًا وتوفيقًا وتثبتًا، فلا خوف عليهم من ضيعة سبيل ولا ضلالة طريق ولا
ظلام بصيرة، فالهادي العظيم قد تكفّل بهداهم والأخذ بأيديهم لصراطه المستقيم
المفضي بهم إلى رضوانه وجنانه. اللهم اكتبنا من أهل الصبر الجميل، إله الحق.
إبراهيم
الدميجي