تهافت الفكر الليبرالي، أركون
أنموذجًا
(يحسبه الظمآن ماء حتى إذا
جاءه لم يجده شيئًا)
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام
دينا، خلقنا أكرمَ خلقٍ، ووهبنا السمع والأبصار والأفئدة، وخصنا بأكرم كتاب وأفضل
رسول، فله الحمد والشكر والثناء الحسن، وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا
عبد الله ورسوله وخليله وكليمه وكريمُه، بلّغ وبشّر وهدى وأنذر، صلى الله عليه
وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فهذه شذرات رقمتها في بيان تهافت الليبرالية عبر رسم أبرز دوافعها
وأساليبها وسِماتها التي خطتها أيديهم، وإثبات أنها ليست بشيء عند التحقيق، إنما
هي محض أفكار بشرٍ حيارى، تاهوا في صحراء الفكر الخالي من غياث الوحي، يطردون
سرابًا يظنونه ماءً، ودخانًا يحسبونه سحابًا، أضناهم خواء الروح، وأعماهم غطاء
الجهل والهوى، فتلقفتهم شكوكُ الوجود، وأحرقتهم نيران الشهوات، وأيستهم جدران
الحرمان، قبضوا على لا شيءٍ ظنّوه حرية وتقدّمًا ورفعة وتصحيحًا.
وسأوسع الكلام وأبسطه قليلًا في كتب كبير سَدَنَةِ الليبراليين العرب أستاذ
السوربون محمد أركون، لأنه أقام لليبرالية مبانٍ ظاهرها لهم التمام وباطنها
الخراب، فهو المفكر الذي لا يقبلون فيه حِجاجًا إذ شق لهم الطريق نحو الحرية، أعني
بها حرية عبادتهم أهواءَهم. وقد قرأت الكفاية من كتبه وتدويناته وسأسلط أضواء هذه
الرسالة على كتاب من آخر كتبه قد جمع فيه حصيلة فكره وزبدة تنظيره وهو المسمى: "أين
هو الفكر الإسلامي" وسأكتفي في هذه الحروف بالسمات الواردة في هذا الكتاب،
ولعل الله تعالى ييسر إتمام بقية السمات والدوافع والتهافتات مستلّة من كتبه وكتب
أصحابه في قابل الأيام.
كما سنقف مع شيء من كلام
تلميذه وشارحه ومترجم كتبه هاشم صالح الذي يحاول تكرار نسخةِ شيخه البائسة الحيرى!
مع تعريجنا على ما يلزم من أساطين الليبرالية وأفراخهم هنا وهناك. فهناك من يجعل
حسن حنفي كأركون من حيث التكوين المعرفي والبعد التأثيري والإخلاص لمشروعه مع جرعة
إصرار.
وأقول: إن حنفي وإن تجاوزتْ
تدويناتُه مكتوباتِ قرينه إلا أنه ليس بمثله في طريقة التناول وأسلوب الطرح
واختيار الموضوعات، فقد استهلكه سبينوزا كثيرًا، وكرر ذاته مع ذات اليهودي الغابر،
وأراد أن يفعل – بدعم لا محدود من أيد خفية - بالوحي المنزل المعصوم ما فعله
سبينوزا في نقد البيبل، وشتان. (ومن يضلل الله فماله من هاد).
وبعد هذا يبقى أركون وهو المتفرنس الفرانكفوني هو الأخطر على المستوى
البعيد، فأفكاره وتزويره ومخاتلته تنساب بهدوء ورفق من تحت ركام أضابير الليبراليين
حتى تفسد العقول والأفئدة، وما أخبار الصِّغار الأغمار في تنكب دينهم وركوب موجات
الإلحاد عنا ببعيد. وإنّ "تطعيم" الجيل اليافع الواعي ضد جرثومة بهذا
الحجم كفيل بإذن الله تعالى أن يقوّي مناعته ضد البكتيريا الصغيرة الضارة.
وقد قصدت إلى أن اقرأ أركون قبل أن أقرأ عنه، فقد كتب غير واحد في ذلك
نقدًا وردًّا أو تاييدًا ومشايعة.. وداعيتي لهذا المنهج رغبتي أن أقرأ الرجل كما
هو، بقلمه وصفحاته، وصراعه وبيانه، وصدقه وكذبه، وإعماقه وتسطيحه، ووضوحه
ومخاتلته..الخ فلو قرأته بواسطة عقل غيري لربّما دخلتُ بخلفية لها سطوعٌ يُعشي عن
مكامن الحقيقة سلبًا أو إيجابا.
ولقد كنت أرى هيبةَ تلك القامة
الفكرية في نفوس بعض معجبيه وناقديه، لشدة سطوة ظلها عبر طروس الكتب، فقلت: ليس
راءٍ كمن سمعا، فما هو إلا أن دخلت وأعمقت إلا وأنا أردد: تسمع بالمعيدي خير من أن
تراه!
ولا يعني هذا الحط من قامة
هذا العملاق الفكرية - مع تسجيلنا لترهات يلوكها مرددًا ومقررًا يتنزّه عنها سَقَطُ
الكتاب - ولكنها الشفقة عليه من شؤم مشروعه المدمر للأسس المِلّية، والناسفِ
للأصول الإسلامية عبر ترديده لتهافتات ينبو عنها ذهن البسيط، ويهرع إليها كارعُ
الغرور، وماهي إلا نهر معقل وحبال السحرة. ويا خيبة من خذله الله!
والذي دعاه لذلك هو قطعه الصلة بمصدر التلقي الخالد الذي يعصم بإذن
الله العقولَ السليمة من الخلل والختل، ويداوي السقيمة من المَيل والضياع، مهما
تلونت شبهات المُلبّسين وتكاثرت مخاتلات المزورين، قال ربنا تبارك وتعالى: (بل
نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق).
ومن جدير التنبيه أن الليبراليين ليسوا على مرتبة واحدة، فمنهم
المغالي الملحد الزنديق، ومنهم المخدوع الراكض خلف شعاراتهم، وما بين ذينك الطرفين
مراتب كثيرة، وقد يعقد بعضهم بقلبه بعض أصولهم دون بعضها.
وأقول: على قدر الشحن الغضبي في المفردة يكون الضمور المعنوي التجريدي
بقدرها، لذا سأحاول جاهدًا تجريد المضامين مما زاد عن العاطفة غير المنفكّة، أو
لنقل أن يكون السقف الأعلى لها هي الدرجات المسموح بها في غيرها لعلها تفيد،
فالعبرة بحسن التصوّر وانتفاء شبكات الشُّبه، أما العاطفة فتخبو عند هبوب أول
نسمةٍ مسمومة.
وهذه الأحرف وما يتلوها بإذن ربي هي لبيان أمرين:
أولاهما: أصولهم
ومنطلقاتهم وأهدافهم، وهذا تراه واضحًا صريحًا لا يحتاج لكثير تنقيب وبحث، بل إنهم
لا ينكرون أكثره، والثاني: سماتهم وصفاتهم، فمن ذلك:
ضرب المسلمات والثوابت والأصول:
قال عرّاب الليبرالية العربية الجديدة أركون بعد كلامه عما سمّاه
باللاهوت التقليدي (1) والميتافيزيقا التقليدية (2): "أما الإيمان الحديث فهو
يضطلع بكل متغيرات التاريخ وحركياته، ويقبل بإعادة النظر بكل شيء بما فيها الأصول
المؤسسة من أجل انتهاكها، وإعادتها إلى الظروف المشتركة للجدلية الاجتماعية".
(3)
أي حصرها في سياقها التاريخي
الأسطوري حينًا والخرافي أحيانًا، فهي لا تعدو كونها حركة اجتماعية من رجل عظيم
استطاع حبك القيم وتأطيرها في شخصه وشرعه المُبشّر به مستخدمًا خياله وبيانه. فرجع
إيمان أركون بالنبوات لإيمان غلاة الفلاسفة الإغريق. (ومن يضلل الله فلا هادي له
ويذرهم في طغيانهم يعمهون) فهو يقول في نفس السياق: "ينبغي علينا أن نفهم
الوظيفة النبوية بصفتها عملية إنتاج للرجال العظام". (4)
علمًا بأن الإيمان الحديث الذي ذكره قصد به الإلحاد الذي يبشر به وإن
خشي التصريح به، لكنه بكل مكر يستخدم كل أدوات الملاحدة ومقدماتهم الجدلية، حتى يصل
لعموم نتائجهم مقرًّا لها، لكنه يصرح بأن له إيمان خاص، ولعله يقصد كإيمان قدماء
الفلاسفة بمطلق إيمانهم بآلهة تجريدية أو إله فولتير الذي بنى له كنيسة خاصة.
القول بمجاز جديد يحيل القرآن كله لمعنى خيالي إشاري لا
حقيقي واقعي:
وقد استشهد أركون على ذلك المجاز، وقرّر ما قرره الناقد الأدبي
نورثروب فري في وقوع ذلك في الخطاب التوراتي الإنجيلي وبشكل عام ومعمّم في كتابه
(الشيفرة الكبيرة، الأناجيل والأدب) ثم قال: "ولكن لا يوجد الآن أي دراسة
معمقة بالقدر نفسه ومطبّقة على الخطاب القرآني. ولكن من السهل أن نبين بأنه يخضع
للنوابض نفسها التي يخضع لها الخطاب التوراتي – الإنجيلي." (5)
ثم زعم أركون أنه قد كشف ذلك،
وأن القرآن قد استخدم معطيات الجغرافيا والتاريخ من أجل موضعة الشخصيات والأحداث
التي ذكرت قبله، ثم استشهد على زعمه بما ورد في سورة الكهف من قصة موسى والخضر
عليهما السلام، وأنها مستوحاة من أسطورة ملحمة قلقامش! – غلغاميش - أي أن رسول
الله محمد صلى الله عليه وسلم قد ركّب من أحداث القرون السالفة والأساطير الدارجة
لدى أمم الكتاب وغيرهم من الوثنيين مادة خصبة خيالية لسرد قصص القرآن! هكذا انتهى
به الأمر! (أفي الله شك)؟!
ثم قال بكل فجور بعد إشارته
للوعد الإلهي بالنجاة مستشهدًا بآية غافر: (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة)
ومدمجًا لها في معنى الخلاص المسيحي - النصراني -: "إن قوة هذا التصور
الأخروي الذي دشنه الخطاب النبوي قد أثبتت قدرتها على التكرر والتجدد والفعل
المستمر في التاريخ". (6) ولا عجب ممن يسمي القرآن العظيم: مدوّنة نصية! أي
مجرد ألفاظ بشرية مجردة كغيرها من المدونات الأدبية أو الرياضية وغيرها!
التسامح عندهم هو الشك في صحة الإسلام:
الدين كله قائم على التصديق والإقرار، فأصل كلمة إيمان هو تصديق
وإقرار، وفي اللحظة التي ينفك فيها القلب عن هذه الماهية يكون انسلاخه عن الإيمان
بقدرها، فالمؤمن موقن والمنافق مرتاب، والوحي كله قائم على إثبات ذلك الإيمان
وتثبيته في القلب عبر طرق برهانية مباشرة أو متسلسلة مشهورة. وهذي أمور فطرية
وعقلية جاء الوحي بتأكيدها وتفصيل حقائقها.
وكل ملّة من ملل الأرض، بل كل
ما يسمى حقيقة أو عقيدة فلا بد أن يكون مع عقد القلب على أحقّيّته وصوابيته، أما
منهج الشك فليس بداخل في حقائق العقائد، فهو هادم لا مؤسس، والشاك المرتاب في
الإسلام له حكم الكافر الجاحد والمعاند، فالإيمان يقين والنفاق ريبة.
والليبراليون – وأعني أصل المذهب الفكري - حينما يتكلمون عن التسامح
فلا يعنون به التسامح العرفي المعروف الذي من فروعه كف الأذى واحتمال الآخر وتوسعة
دائرة العذر.. ونحو تلك المعاني، بل ولا يقف عند السماح بحرية الكفر فقط، بل
يتعداه إلى أن المتسامح لا بد أن يعلن وقوفه بنسبة ثابتة من جميع الأديان أيًّا
كانت وحيثما استقلّت، فمن ادّعى امتلاكه الحقيقة المطلقة فليس عندهم بمتسامح! قال
أركون بعدما رفض تفسير علماء الإسلام لتسامح الإسلام مع غير المسلمين وحسن
معاملتهم لأهل الذمة ونحو ذلك بأن هذا مجرد مغالطة تاريخية وتلاعبٍ بالحقيقة، وفسر
رفضه لتسامح المفهوم الإسلامي للتسامح بقوله: "فهي – أي الآيات القرآنية –
تزعم أنها تمتلك الحقيقة المطلقة (أو الحق ) وهذه الحقيقة محصورة بدين واحد، او
بطائفة واحدة (هي هنا الإسلام ) وبالتالي فإن هذه المسلّمات التيولوجية (7) ترفع
الطائفة الإسلامية إلى مرتبة انطولوجية ومعرفية وقانونية روحية لا تضاها". (8)
ثم عطف بتسطيح غريب على ذكر من بذروا – بزعمه – البدايات للتسامح
الحقيقي بمعناه الذي ينادي به، وجعل أولهم الحسن البصري وذكر الجاحظ والمعرّي
وغيرهما.
وبمثل هذه الفوضى الفكرية لدى
أركون والمماحكة الجدلية والمخاتلة التاريخية تتبين تلك البواقع التي هي بمثابة
خروق كبار في صدقيّة هذا المفكّر الذي تسنّم رتبة ليست له. فمَن ذكرهم لا يمثلون
ما أراده، كيف وقد قدّمهم بإمام من أئمة المسلمين جمع الله له الإمامة في العلم
والعبادة والقيام في أمر الدين كما ذكره ابن الجوزي في مقارناته، أما من ذكرهم غيره
فالجاحظ - على اعتزاله - فهو من أبعد الناس عن الزندقة والإلحاد، أما المعرّي فهو
على سقطاته الكبرى فإنما أتي من جهله وفقره وكف بصره وحرمانه وانحسار نعيم الدنيا
عنه وازورار الناس عنه، فخرجت منه على حين ضعف أبيات فيها اعتراض وخطل ناتج عن جهل
واكتئاب لا زندقة وإلحاد، ولو أن أركون مثّل بابن سينا وأشباهه ممن جمعوا بين
الفلسفة الأرسطية المشّائّية وبين الطريقة العرفانية الإشراقية لكان له وجه.
لذا فالحديث عن التسامح بمعناه الصحيح ليس بمُجدٍ مع من يختلف معك في
ماهية الحد أصلًا، فكل حوار أو مناظرة لا بد أن يبدأ بحد أدنى من أرضية مشتركة بين
الطرفين للانطلاق في أفق الحِجاج والبرهنة، أما أن يدور كل واحد في دائرة بعيدة،
أو يسير في مسار مواز غير ملتق بالآخر؛ فهذا من الترف الفكري الضائع.
لذا فقبل الحديث عن التسامح
لا بد أن يُؤسّس الحديث عن حق رؤية امتلاك الحق والصواب، (وإنا أو إياكم لعلى هدى
أو في ضلال مبين).
الزعم بأن الدين كتب بأيدٍ سياسية أموية لا نبوية:
يكثر الليبراليون العزف على هذا الوتر الثوري للشعوب، فيدغدغون مشاعر
العامة وأحلام المتلقين بشحن خلفيتهم الثقافية باستلاب حريتهم الإنسانية الأصيلة –
أي المطلقة – عن طريق كهنة وأحبار المسلمين – كما ينعتونهم - بمشيخاتهم السياسية
المشروطة بإملاء الحاكم سواء كان خليفة أو سلطانًا أو ملكًا.. مع التأكيد على أن
الدين بشكله العام هو ابتداع السلطة الحاكمة الأموية وما بعدها إلى هذا اليوم
بواسطة بنائها عبر الفقهاء السياسيين.
ونحن لا نقف موقف المدافع المطلق عن هذه التهمة لأن فيها جزءًا يسيرًا
قابلًا للنقاش، وهو ما يسمى بفقهاء السلاطين الذين لا ينكر وجودهم إلا مكابر، ولكن
هذا لا يعني تبديل الدين عن طريقهم، وإن حصل ذلك في بعض الأزمنة والأمكنة
المخصوصة، بلا عموم زماني ولا مكاني، مع تحتّم بطلانها عبر السواد الأعظم من أهل
العلم.
ومثل هذه الأحوال لا تخلو
منها أمة ولا طائفة مهما علت في الورع والزهادة، ففي النفوس الإنسية تشنّف للعاعة
الدنيا من جاه أو سلطة أو مال ونحو ذلك، ومالم تعظم الرغبة فيما سواها عليها فسوف
تبقى النفوس على غرائزها بلا تهذيب، لذلك أجلى الله تعالى أوصاف الدارين
العظيمتين، وأعلى من ذلك بيّن كثيرًا من أسمائه الحسنى وصفاته العلى جل جلاله.
وشرائع الأنبياء جاءت لتهذيب
النفوس وتصفيتها من الكدر، وتصويب بصائرها من الانحراف، ولم تقصد إلى اقتلاع
الغرائز، فهذا محال طبعًا وحسًا وعقلاً، وقبل ذلك شرعًا.
المقصود أن تلك الفئة موجودة نسبيًّا، لكنها ليست من أسست بناء
الإسلام وأقامت عموده، بل الوحي المنزل من الله تعالى، ووجود تلك الفئة القليلة لا
يعني بالضرورة هدمها للأصول المِلّية ولا المعاقد الإيمانية كما يزعم هؤلاء.
التصنيف الناقص بضم الحضارة الإسلامية لخانة الكنيسة
المسيحية إبان الثورة الفرنسية:
وما يتبع ذلك من جرّ الإسلام بسلسة الأغلال النصرانية وسحب كل التهم
الكنسية عليه، أي تهم وجرائم الباباوات والكرادلة والقسس والرهبان - الأكليروس –
ونمطية الكنيسة بعامة، وعقائد الملل النصرانية كلها بظلامها وظلمها ومناقضتها
للعقل والمنطق.. (9) وما يتبع ذلك من ركام ذهني عبر قرونهم المظلمة، فيجعلونها مع
الإسلام في سلة واحدة، فيترتب على هذا ما يشيعونه كل حين عن مثالبٍ أساسها كنسي،
فيلبسونها الإسلام بجامع أنهما شريعتان تنتميان لكتاب مقدس!
فنسمع تارة بكهنوت الفقهاء
وقداسة رجال الدين، وأخرى بأسرار دينية، وطقوس مساجدية، وكتاب سماوي بشري، وتجسد،
وخلاص، وخطيئة، وعدم السماح بالأسئلة اللاهوتية، ومحاربة العلوم التجريبية
النافعة، وعدم قدرة الدين على الجمع بين الإيمان والعقل، ولا بين متطلبات الروح
والجسد.. إلى آخر هذا الغثاء الذي يرمون به وجوه المسلمين.
لذا فكثير من مقدمات كتابهم في الصحافة أو التصانيف تجد أنها لا تكاد
تخلو من تلك الخلطة النمطية الملصقة زورًا بالديانة الإسلامية. (10)
وفي أثناء كلام أركون عن الحضارة المادية وعودة العامل الديني استخدم –
كعادة عامة الليبراليين - نفس النمطية التي لا تخلو من جهل مركب لا بالتصورات
الإسلامية وفروقاتها الكبرى عن التصورات الشاذة الكنسية من جهة، ولا بطبيعة سنن
الله الكونية ونواميسه العامة التي أقام عليها كونه، وجعل الأسباب متعلقة
بمسبباتها – إلا أن يشاء – فيجري الحاضر بصيرورة تماثل التاريخ، شريطة وجود نفس
العوامل وانتفاء الموانع من جهة أخرى.
نعم يوجد تشابه نسبي بين
المجتمعات البشرية عامة ونظرتها للتدين، ولكن ليس كما يصل إليه خيال هؤلاء،
فالقياس هنا قياس مع الفارق، وإذا كان كذلك فلن يوصل لنتيجة سليمة - قال: "إن
القطيعات العنيفة التي تشهدها المجتمعات العربية والإسلامية منذ الخمسينات كانت قد
حصلت سابقًا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في المجتمعات الغربية المسيحية.
ورد فعل الإسلام تجاه هذه الأحداث يشبه رد فعل المسيحية". (11)
تأمل هذا، وسبح بحمد ربك واستغفره.. وهل يريد هذا الكاتب الدجال أن
يجعلنا نصدق أن الإسلام هو من أحرق العلماء التجريبيين لقولهم بكروية الأرض، وحارب
العلم بكل شراسة، وبنى معابد الخرافة في قلوب الناس وفي ميادينهم عبر التثليث
الخرافي، وأقام محاكم التفتيش الرهيبة للمخالفين، أو قرر أن جنس النساء هو جنس
الخطيئة، وأن كل امرأة هي محرومة من الملكوت خلا العذراء، وأن البابا نائب عن الإله،
وأن البشر لديه كالأقنان، وأن بيده صكوك الغفران والحرمان؟!
إن أركون بهذا الطرح الببغائي – وإن زعم ابتكاره – لم يأت بجديد على
منهجه ورؤيته الانسلاخية من الأديان، فحينما تحدث عن مقارناته بين الديانات
الكتابية عقد فصلًا بعنوان: هل الإسلام حالة خاصة؟ وخلص بصريح عبارته للتالي:
"إذا كان الإسلام يمثل حالة خاصة فإن ذلك عائد أساسًا إلى المعطيات
السوسيولوجية والثقافية والاقتصادية".(12) كذا! فالإسلام مجرد حركة مجتمعية
مادية تحركها ثقافة البيئة والاقتصاد المحلي. إلى هنا ينتهي هذا المفكر في نظرته
للإسلام! فهو لا يزيد في ذهنه عن كونه فكرة تجريدية فلسفية أرسطية مع شيء من مذهب
العرفانية الإشراقية، وانه لا يختلف عن أي حزب شيوعي ثوري ملحد أو نصراني متعصب.
إنه يرى الدين باختصار كهالةٍ
نورانية هيولية تجريدية جميلة، ليس لها تعلق بالواقع والعمل، فقط ينتظر فيضها
وإشراقها على روحه بعد تجريدها من جثمانه! ثم يشرح ما سبق بقوله: "ولكننا
نعلم أن هذه المعطيات – أي الماديات التي ذكرها مكونة للإسلام – ظرفية عابرة،
وبالتالي فلا تسمح لنا بأن نتحدث عن خصوصية معينة للإسلام تميزه عن سواه".
إذن ما هو الإسلام الذي
تتصوره في ذهنك الليبرالي يا أركون؟ وجوابه في سياق ما سبق: "وموقفنا هذا
مضاد لتلك التعاليم اللاهوتية التي نشأت فيما بعد (13) بناء على تأويل الآية: (إن
الدين عند الله الإسلام) وجوابنا عن ذلك هو أن كلمة إسلام في القرآن ليس لها ذلك
المعنى العقائدي واللاهوتي والثقافي الذي كان قد فرض نفسه على مدار تاريخ
الإمبراطوريتين الأموية والعباسية. فكلمة إسلام في القرآن تعني الدين الأوّلي
والشعيرة النقية والطاعة العاشقة والكلية لله، هذه الطاعة التي جُسدت رمزيًا من
قبل الشخصية الأسطورية (14) لإبراهيم في القرآن". (15)
إذن فالرجل أفصح عن عقيدته الفلسفية التجريدية والعرفانية الإشراقية،
بل زاد عليها هنا شيئًا من الغنوصية! فأي خير أو منطق أو نفع يرجى من كهف
الليبراليين الفكري!
نظرتهم المادية لمقام النبوة، وأنه لا يعدو أن يكون
بطلًا قوميًّا وفيلسوفًا مجيدًا.
قال أركون: "في الواقع أن نموذج المدينة الأكبر (16) ما هو إلا
من اختراع المتخيَّل الجماعي لأجيال متتالية من المؤمنين الذين أسقطوا على الزمان
والمكان التدشينين للدولة الإسلامية (622 – 632) الخصائص المنمذجة والمثالية
للسلطة العادلة والمقدسة والشرعية". (17)
وأركون يسمى عصر النبوة بعصر التدشين. والنبوة من جهة القيادة التي في
أذهان المسلمين – بزعمه – هي مزيج ثلاثي من المُلك الساساني، والأدبيات الإغريقية،
والمقدّس المسيحي البيزنطي! (18) وصلى الله وسلم وبارك على من أُنزلت عليه: (وما
ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحيٌ يوحى).
من سماتهم: نظرتهم أن الخلاف مع الغرب ثقافي وليس ديني،
وأن الولاء والبراء أكذوبة!
قال أركون بعد كلامه عن القطيعة بين الحضارة الإسلامية واليونانية
والرومانية وأن سبب ذلك هو الارتباط بأديان الوحي!: "وهذه حقيقة أخرى تؤكد
لنا أن القطيعة ثقافية قبل أن تكون دينية، هذا على الرغم من أن المتخيَّل الديني
يخلع حلة التعالي والقدسية على هذا التضاد العدائي العائد إلى الجهل بالمعطيات
التاريخية والأنتربولوجية للهوية المتوسطية". (19) (ولن ترضى عنك اليهود ولا
النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى).
استلهام الأيقونات الليبرالية من لوحة الثورة الفرنسية:
وسبب تبجيلهم للثورة الفرنسية وتقديمها على غيرها راجع لأنها الثورة
التي كان عداؤها أصالةً مع الدين، وهذا مالم يكن بنفس القدر في غيرها كالثورتين
الأمريكية والإنجليزية. قال أركون: "إن للثورة الفرنسية مكانة النموذج
المثالي الأعلى، الذي يقف في مواجهة النموذج المثالي التقليدي لمعطى الوحي، الثورة
الفرنسية في مقابل الوحي التوحيدي" (20) وتأمل مخاتلته بإسقاط لفظ
"التوحيدي" ليُدخل في خلفية الذهنية للمُتَلقّي المعنى الإسلامي الذي
يجب – بزعمه - إثارة ثورة علمانية صرفة كالثورة الفرنسية عليه.
يا هذا، إن الإسلام الذي تتحدث عنه هو شيء مختلف تمامًا عما في ذهنك،
فحدث الناس بما يعقلون. ولا عجب، فمن يكن الغراب له دليلًا!
ومن يكُ ذا فمٍ مريضٍ ...
يجد مُرًّا بهِ الماءِ الزُّلَالا
التصريح بإنكار وجود الله تعالى، والسخرية بمن يعتقد
وجوده:
قال أركون في معرض تمجيده للثورات العلمانية وتحالفهم لتحقيق أهدافها:
"ولكنه لم يعد تحالفًا رمزيًا بين الإله الطوباوي والمخلوقات المدعوة لطاعته،
وإنما أصبح عقد اجتماعي بين الشعب السيد والمستقل الذي يمثل المصدر المستقل لكل
شرعية، وبين ممثلي الشعب المنتخبين". (21)
ومعنى الطوباوي - بهذا السياق
-: أي الخرافي الذي ينحصر وجوده في عقول البسطاء السذّج! وهو البدائي القديم،
ويدخل فيه الصنم، وهو كذلك عبارة عن حجر منحوت على يد المشركين القدماء، ولا زال
باقيًا في الكنائس والمعابد الغربية والشرقية لأمم الأوثان، تعالى الله عما يقول
الظالمون علوّا كبيرًا، ألا ما أحلم الله؟! (ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن
تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم
كلما خبت زدناهم سعيرا).
التلاعب بالألفاظ بالمماحكة الجدلية التي ليس تحتها
حقيقة:
فيشققون الكلام ويوردون الشبه التي ظنوها حججًا تلبيسًا على الناس،
ويطرحون السؤال الخاتل ثم يقرّبون المعنى الباطل لذهن القارئ البسيط مع حيدتهم عن
الإجابة الظاهرة التي ربما كانت في جوف سؤالهم، (ويمكرون ويمكر الله).
ومن تلك المخاتلة قول أركون:
"فالقرآن الذي يرفع رايته المسلمون اليوم بصفته جوابًا نهائيًا ومؤكدًا على
التحديات الراهنة (تحديات تاريخهم الخاص) وعن التحديات التي يواجهها كل البشر
أيضًا، أقول إن القرآن نفسه لا يمكن أن يفلت من مواجهة التجربة الراهنة
لمحدودياتنا البشرية. وحتى الفيزيائيون أصبحوا يتحدثون عن ذلك الثقب الأسود لطاقة
لا نهائية لا يستطيعون فهمها وتفسيرها". ويظن أركون أنه بهذه المماحكة
الجدلية الهزلية والأسلوب الديماغوجي قد استطاع كسر المُقدّس عند الأمة المسلمة
بسبب ذلك الثقب الأسود الذي لم يفصّل الله في القرآن حاله، وكأن القرآن كتاب فلك
تفصيلي أو جغرافيا أو تشريح..
وتناسى أنه كتاب هدى، يعطي
الكليات العلمية والقواطع العقلية والبراهين الكلية واليقينيات الإيمانية
والمفاتيح المعرفية، ثم يفتح الباب على مصراعيه للتجربة الحسية والأدبية والعلمية
بعد أن يقيم للعقل والحس نطاقهما الذي خُلقا له، لأنهما لو زلّا عنه؛ لزالا عن
الهدى والصواب لمحض التهوّك والتحيّر والتكهن والكذب.
ولا زال علماء الفلك والطب
والتشريح والجيولوجيا وسواها من العلوم التجريبية يقفون خاشعين لسبق علوم القرآن
لمكتشفاتهم التي طاروا بها، وصدق الله ومن أصدق من الله حديثًا: (سنريهم آياتنا في
الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) بلى
وعزة ربي.
التعالم والجرأة على تفسير القرآن بلا علم بمأثور ولا
تقيّد بلغة:
بل لقد ألغى – عمليًّا - مجرد التقيد بالاشتقاقات
اللغوية العربية، من ذلك ما ذكره في
تفسير قول الله تعالى: (لعلكم تعقلون) بقوله: "إن الخطاب النبوي يخلق - لأنه
لا يؤمن بتنزيل الوحي – كما كان عليه الحال في أثناء انبثاقه لأول مرة
"مديونية المعنى" لدى الشخص الذي يعرف كيف يصغي إليه. إنه يخلق هذه المديونية
إلى درجة أنه يحكي الحركة الداخلية للوعي المطيع لأنه معترف بالجميل، وهذا هو معنى
كلمة يعقلون أو تعقلون الواردة في القرآن". قال هاشم صالح: "مصطلح
"مديونية المعنى" من اختراع المكر الفرنسي مارسيل غوشيه، وهو يعني به
أنك تشعر الدَّين المعنوي تجاه شخص النبي الذي تطيعه عن طيب خاطر. ولأنك تشعر بأنك
مدين له بالمعنى (بمعنى أنه يقدم لك المعنى الذي تحتاجه أو تبحث عنه)".(22) قلت:
وقد صرح أركون بذلك في نفس هذا الكتاب. (23)
ولاحظ ولعهم باستحداث المصطلحات الجديدة وقذفها في المعاني الإسلامية
بغية التغيير الجذري ابتداءً بالمصطلحات وانتهاءً بالأصول المليّة! وبالطبع فهذا
المصطلح المحدث يروقهم جدًّا؛ لأنه خطوة من خطوات صبغ المقدّس المحفوظ بالتاريخي
الغابر. (والله متم نوره ولو كره الكافرون).
اتهام الإسلام بانتهاء الصلاحية:
فيضربون صلاحية الدين بمعول التاريخية،
أي بزعم صلاحيته المؤقته بزمنه الماضي فقط، وهذا ملاحظ باضطراد في كتابات كبار الليبراليين، ومردّ ذلك إلى أن رحى
بقاء الدين علمًا وعملًا في النفوس المسلمة رهين بقناعتها بخيريتة وصلاحيتيه، لذلك
فهم يلحّون على ضرب ذلك البناء الراسخ في الذهنية العامة للأمة الإسلامية، وعلى
قدر أخذ إزميل الهدم من ذلك البناء الشامخ يكون نيل مرامهم وحصول منالهم، أخزاهم
الله.
لذا فمن ركائز العلمانية
والليبرالية نخرُ هذا الأصل لتنقطع الأمة عن الحركة العملية التفاعلية الإيجابية
"الديناميكية" استجابة للوحي المنزل وشموليته، ليبقى تعظيمه شرفيًّا
فقط، وذلك بإبقائه في التكايا والزوايا والأرفف لمن شاءه من أهل الدروشة وأهل
الميتافيزيقيا _ بزعمهم الضال_.
يقول هشام صالح بعد كلامه عن
الحاجة لتفكيك الأنظمة اللاهوتية - وقد سمّى الإسلام بالطبع إذ هو المقصود أصالةً
بمشروعه كله -: "فهذه الأنظمة بتحديداتها الثنائية: مؤمن/ كافر، حلال/ حرام،
طاهر/ نجس، الخ، بحاجة إلى إعادة تفكيك وإعادة نظر لعدة أسباب أولها: أنها تنتمي
إلى فترة تاريخية محددة، هي فترة العصور الوسطى، (24) ومع ذلك فهي تحاول أن تخلع
على ذاتها صفة اللاتاريخية: أي صفة الجوهرانية الأزلية الصالحة لكل زمان
ومكان". (25)
محاولة البروز عن طريق السب والفحش والفجور لحرب النقاء
العقدي والفضيلة الأخلاقية:
وهذا ظاهر طافحٌ في كتاباتهم وندواتهم ولقاءاتهم في الصحافة ووسائل
التواصل الاجتماعي والفضائيات وأذرع الإعلام المختلفة، وإن شئت معرفة أشخاصهم
فانظر محور حديث الإعلام الفكري والخُلُقي الموجّه من قبل دهاقين الليبرالية ساعة
قراءتك هذه الرسالة _ مع تغيّر المواضيع وتباين نوعية الطرح إلا أن السمة الجامعة
هي التسابق المحموم وبخاصة من مبتدئيهم للإمعان في ضرب مسلمات الأمة كل على قدر
"خذلانه" _ فمنهم من يلمح
إلماحًا (ولتعرفنهم في لحن القول) ومنهم من يصرّح لأمْنِه العقوبة (وقالوا كلمة
الكفر وكفروا بعد إسلامهم) ومنهم من يكتب باسم أو لقب أو جنس مستعار بفحشٍ وبذاء، جهلًا
وجَهَالة، (والله
غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
الاستعلاء عن طريق حرب المصطلحات تحويرًا أو تبديلًا او
استفزازًا:
أشاد هشام صالح – مترجم كتب أركون للعربية – بعبقرية أستاذه أركون في
ابتداع مصطلحات جديدة بمفاهيم سلبية مقصودة، كتجربة المدينة أو نموذج المدينة
ويعني به الإسلام! ثم علق على ذلك بقوله:
"وهو يفعل ذلك من أجل أن يغرس عمل النبي في التاريخية أكثر، ومن أجل أن يكشف
هالات الأسطرة والأدلجة على حدث تاريخي عظيم" ثم نراه يشتد في غلوائه فيقول:
"وقل الأمر نفسه فيما يخص التمييز بين الظاهرة القرآنية والظاهرة
الإسلامية.." كذا، فالقرآن العظيم المنزل والإسلام الذي لا يقبل الله دينا
سواه هما – بنظره - مجرد ظاهرة!
وقل مثل ذلك في الأرثوذكسية
الإسلامية! ويقصد بها: النواة العقائدية الصلبة والمغلقة على ذاتها لدين ما أو
أيدلوجية ما.. فلم يبال بوصف الدين الخاتم بمثل ذلك المصطلح والمسمى الإسقاطي
المعروف! هذا مع قفزه وأشباهه على قواعد الاشتقاق والتصريف والجذور اللغوية.
وكالدوغمائية، وهي منقولة عن الفرنسية ولها مقابل في العربية بمعنى
العقائدية، ولكن تزيد الفرنسية بتلوينها بالوصف السلبي كالانغلاق والضيق. لذا فقد
احتفوا بهذه اللفظة ووصفوا بها الإسلام الأصيل حيثما قابلهم مسماه!
ثم يشيد المترجم بنفسه حين ينهج نهج أستاذه البائس وينحى نحوه فيستخدم
ويشهر مصطلحات بنكهة سلبية – وهذا شبه مضطرد لديهم - مثل: إسلاموي مقابل إسلامي،
علموي مقابل علمي، وقال: "وكذلك نستخدم إسلاموية، علموية، ماركسوية... ومن
الواضح أن وزن فعلوي وفعلوية ينطوي على تلوين سلبي للمعنى..الخ". (26)
فهو هنا يؤكّد تعمده لهذه المصطلحات السلبية كالإسلاموي والأصولوي بقصد
إسقاطه على التطرف الأيدلوجي والفكري، وليس يعني بهذا التطرف الحقيقي البعيد عن
سماحة الإسلام الأصيل، بل يعني به الإسلام الأصيل نفسه، بدليل اضطراد إسقاطه تلك
المفردات على ذلك المنهج الحنيف.
ومن ذلك اختراع مصطلح: اللاهوت الإسلامي (27) لربط الوحي المنزل
ببقايا كتب أهل الكتاب وكُنُسِهم وكنائسهم المحرّفة الضالة. ولقد كان هذا الرجل
يعلم أهمية المصطلح في صبغ ذهنية المتلقّي بخلفيته ورمزيته إذ أورد كلمة نيتشه: كل
كلمة هو عبارة عن حكم مسبق. (28).
قلت: وليس نزاعي هنا في حكم استخدام بعض المصطلحات الفكرية المحدثة
التي قد لا يجد لها بعض المترجمين مقابلًا سليمًا في العربية بضوابطها وفي محلها
اللائق بها بلا تجاوز، للحاجة المؤقتة لها ريثما تترجم وتعرب، وألّا تكون لقبًا
ملوّثا سابقًا، ولكن مرادي أن القوم عمّموه وصبغوه على كل ما خالفهم.
وبالطبع فللمستمسكين بالنهج
القويم النصيب الأوفى من تلك الإسقاطات السلبية المنفرة، فمن المعلوم أن المصطلح هو
الباب وهو الشعار وهو اللقب وهو ضغط المضمون بكلمة، فللمسمى من اسمه نصيب انطباعي،
وكل ذلك عند بادي رأي الكثير يرفع ويضع، فهو مفتاح لقبول أو رفض المُقبل على ذلك
المحتوى، لذلك فقد رغبت الشريعة في إحسان الأسماء، ولا تجد اسمًا شرعيًّا إلا وله
تمام الحُسن في بابه، وهذا الأمر مضطرد في الشريعة. فلما فطن أولئك القوم لذلك؛
أرادوا التعمية أو التغبيش على المتلقين لفكرهم بالبذاء الفكري لمخالفهم السامي.
وأركون مغرمٌ لدرجة الهوس بإحداث الأسماء مهما يكن لها من إسقاطات ولو
كانت خارج المفهوم الدلالي للكلمة والمسمّى.
الإحساس بنبذ الأمة لهم، وأنهم دخلاء عليها:
قال محمد أركون متأسفًا على عدم قبول فكره وطرحه حتى من قبل النخب
ومستوحشًا من وحدته وبخاصة بعد معركته الفكرية الصاخبة في موضوع سلمان رشدي
والهجوم العنيف عليه من نخب علمانية وليبرالية: "وعندما يتفرغ الباحث لهذا
العمل بنية خالصة" – قلت: لا يعني إخلاص العمل لله إنما إخلاصه لطرحه ومشروعه
الهادم _ "وتحمس لدعوة فكرية ثقافية؛ إذ به يجد أن عددًا من زملائه المثقفين
يتجاهلون ما يصدر وينشر ويضربون صفحاً عما قرأوا، أو قرروا أن لا يقرأوا، ولا
يشيرون مرة واحدة لا بالقبول ولا بالرفض إلى اجتهاد يستحق الذكر والتأييد". (29)
يحس من هؤلاء بكل هذا الجفاء وهم رفقاء دربه، فكيف بإحساسه باستيحاش وازورار عامة
المسلمين عنه، فأكرهُ شيء للمسلم هم أهل النفاق.
الهزيمة النفسية:
قال أركون بعد مدح العالم الغربي: "أما العالم الإسلامي فيعتقد
أن بإمكانه التعويض عن تأخره وعن إخفاقاته التاريخية وآثار الهيمنة الاستعمارية
بواسطة النموذج الأعلى المنقذ للإسلام الأولي. وهذا جواب خادع ومضلل لا يستحق حتى
نعت الأسطوري (بالمعنى الأنتربولوجي والعذب للكلمة)". (30)
وأقول: الذي دعاه لذلك هو النظرة المقلوبة للإسلام، وظنّه أنه مستنسخ
من النصرانية وما قبلها، وغفل عن أن الإسلام يحث على العمل والتجربة والمدافعة
المادية والتنافس الحر الشريف والعدل المطلق والتفكير المنطلِق، وأنه الدين الذي
ينفخ روح البحث العلمي والتطبيق العملي بكل تفاصيله الممكنة لبني الإنسان فيطير
بها إلى كل ممكن، ويبني بها كل صَرْحٍ، وليس مجرد دين كهنوتي صوامعي رهباني!
ومن ذلك خجلهم من ذكر التاريخ الهجري والبناء التاريخي عليه، قال هشام
صالح في معرض كلامه على _ بدعتهم _ بزمنية القرآن الكريم: "..فمن الواضح أن
ذلك يضطرنا للعودة إلى شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي". (31)
قال أركون: "على الرغم من أني أحد
الباحثين المسلمين المعتنقين للمنهج العلمي والنقد الراديكالي للظاهرة الدينية، إلا
أنهم – أي العلمانيين والليبراليين الفرنسيين - يستمرون في النظر إليّ وكأني مسلم تقليدي.
فالمسلم في نظرهم –أي مسلم- شخص مرفوض ومرمي في دائرة عقائده الغريبة ودينه الخالص
وجهاده المقدس وقمعه للمرأة وجهله بحقوق الإنسان وقيم الديموقراطية ومعارضته الأزلية
والجوهرية للعلمنة... هذا هو المسلم ولا يمكنه أن يكون إلا هكذا. والمثقف الموصوف بالمسلم
يشار إليه دائماً بضمير الغائب: فهو الأجنبي المزعج الذي لا يمكن تمثله أو هضمه في
المجتمعات الأوروبية لأنه يستعصي على كل تحديث أو حداثة... إن اكتساب الأجنبي للجنسية
الفرنسية في فرنسا الجمهورية والعلمانية يلقي على كاهل المتجنس الجديد بواجبات ومسؤوليات
ثقيلة... فالفرنسي ذو الأصل الأجنبي مطالب دائماً بتقديم أمارات الولاء والطاعة والعرفان
بالجميل. باختصار، فإنه مشبوه باستمرار، وبخاصة إذا كان من أصل مسلم". (32)
وسبب هزيمتهم إحساسهم بالنقص والتأخر عن الأمم، قال هشام صالح: "إننا
كعرب وكمسلمين نعاني من مشكلة مع العصر، من مشكلة مع دخول التاريخ والعصر، من
مشكلة مع ما يدعى بالحداثة العالمية أو الكونية".._ ثم يطرح سؤال عِلّةِ
التخلّف عن الركب، وبعد مقدمة مملّة لجوابه يبين أن الحل يكمن بمواجهة الذات
العميقة التراثية العربية الإسلامية والقيام بعملية تعزيل هائلة! ألا تبّت يداه! (33)
ومع تسجيلنا لصحوات مشكورة، لكنها للأسف كطيف خيال أو كغضبة سرعان ما
تذوب في محيط التبعية، وتُنسى تحت ركام متلازمة الهزيمة، ومن ذلك ما قاله محمد
أركون في مقابلة مع جريدة اللوموند (34): "لقد أُفسدت مقاصد حقوق الإنسان
وتحولت إلى خطابات أيدلوجية لتسفيه العدو القديم للغرب والحط من قدره: أي الإسلام.
وقد أصبحت، ويا للغرابة والتناقض أداة لنفي أول حق من حقوق الإنسان: ألا وهو حقه في
أن ينتج بكل حرية النظام الرمزي الخاص بمجتمعه". وعلق المترجم هشام صالح: "يقصد
أركون حقه في تبني القيم الأخلاقية أو الدينية أو الثقافية التي يراها ملائمة له".
قلت: ويا ليتهما طردا هذا
القاعدة في الاتجاهين: باتجاه الغرب بإظهار الاعتزاز بالإسلام وأحقية المسلمين في
اعتناقه بتفاصيله ولوازم ذلك، وباتجاه المسلمين بتركهم يستضيؤون بنور الوحي
المنزل، ولكن للأسف عاد الأمر معكوسًا في الحالين! (ومن يضلل الله فلن تجد له
سبيلًا) (ومن يهن الله فما له من مكرم).
وكذلك يُسجّل لأركون نقاشه لنقد الأصول الفكرية للذهنية المسيحية
الغالبة اليوم لدى مفكري الغرب بعامة والفرنسيين بخاصة، كما في كلامه الموجّه
للاهوتي الكاثوليكي كلود جيفري (35) مع أنه في ذلك النقاش خلص إلى ما ردده كثيرًا
عن رأيه في الأديان عمومًا، وأنها مجرد أحداث تاريخية مجردة عن الوحي الحقيقي.
فالرجل في حقيقته يدعو لدين
قديم جديد محصلته الإلحاد والكفر بكل ما وراء المادة والمحسوس، أيًّا كان ذلك
الإيمان.
ثم نراه في احتدامه في تلك
النقاشات يبرز هدفه الذي يراه ساميًا ألا وهو نزع فتيل النزاعات والحروب العصبيات،
والعيش في المدينة الأركونية الفاضلة، بردّ كل نزاع لسياقه التاريخي، ثم الخروج من
ذلك بأننا في زمن الحداثة الكونية، فعلينا الانصهار فيها تاركين خلف ظهورنا كل
نزاع عقدي أو سياسي أو اقتصادي أو غيره لنعيش في تلك الدنيا الجديدة!
والعجب أن تصل مثل تلك القامات
إلى مثل هذه الطفولة الفكرية، فالبشر هم البشر، وغرائزهم لا يمكن القضاء عليها
بمثل هذه المثاليات المادية الخالية من روح الغيب ووحي الله وسلام رسالاته
وهداياته للبشرية.
وقد كتب الله على بني الإنسان
الاختلاف والخلاف: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس
حتى يكونوا مؤمنين) فالحل ليس فيما ذكر، بل في تحقيق الحق وتحصيله، وإبطال الباطل
ورده، ودعوة الناس بالحسنى لسبيل نجاتهم وفلاحهم، وأنّى ذلك إلا بالدين الإسلامي
الخاتم. ومن كان في شك فلينظر براهينه ودلائله المنتهية بمتأملها المتجرد إلى
اليقين بهداية هذا الدين.
وفي توضيح مرادهم يقول شارح أركون هاشم صالح بعد ذكر المشروع التفكيكي
للديانات كلها: "ولكي يتوصل أركون لتحقيق هدفه فإننا نجده دائمًا يلجأ إلى
استراتيجية التفكيك: أي تفكيك العقائد التيولوجية أو اللاهوتية المرسخة داخل
السياج الدوغمائي المغلق لكل طائفة ولكل دين. عندئذ ينكشف الحجاب عن تاريخية كل
هذه العقائد وتبدو على حقيقتها: أي مرتبطة بلحظة تاريخية ما وبصراعات أيدلوجية
معينة، وليست نازلة من السماء. إنها من صنع البشر.." فأي زندقة أشد من هذا؟!
الانبهار بالغرب وعقدة المغلوب
وحاجة الفقير:
لا يستطيع غالب كبار منظري الليبرالية
– ومن قبلها العلمانية – تخفيف حدّة لهفتهم على الحضارة المادية الغربية، ورغبتهم في
الانغماس في لذائذها ونيل متعها، بشكل ينم عن حاجة مادية قديمة في نفوسهم، وعوَزٍ سابق
عاشوه فترة من أعمارهم، فإن أضفت لذلك أن غير قليل من هؤلاء قد خرجوا من بيئات فقيرة
أو متوسطة اليسار، وصادف أن كان عندهم نوعُ ألمعية وذكاء مع شرهٍ وطمع، فصاروا هم أمنية
الدوائر "الأخرى" التي تبنّتهم ورَعتهم وأوفدتهم إلى جامعات أوروبا وأمريكا،
ومنحتهم امتيازات خاصة، تزداد كلما ساهموا في تحقيق هدف تلك الدوائر الغربية: ألا وهو
تشكيل جيل مثقف جديد يكتب ويناظر ويجادل بني جلدته بنفس حجج الغربيين، مع إمداده بكل
ما يحتاجه من مصادر ودعم مالي وإعلامي ووظيفي في حربه – غير الشريفة – مع أمته.
فقد دخلوا دهاليز الليبرالية أولًا لحاجة
أخرى غير فكرية، ومع الوقت صارت نهجًا ظاهرًا سواء عن قناعة بحكم الخُلطة وكثرة
الشبهات والانتماء وعزة النفس، أو كان بلا قناعة بل تقيّةً وجسرًا للعبور لشهوات نفس
ومالٍ وجسد.
وتأمل حال كثيرهم منذ الثلاثينات حتى الآن تجد مصداق
ذلك، وبالطبع فثلة منهم قد اختاروها ابتداء عن قناعة – مُضَلَلة – مع اكتفائهم السابق
ماليًّا عن غيرهم، فدخلوها ترفًا أو تقليدًا أو جهلًا أو بحثًا عن سعادة يسمعون
بها ولم يذوقوها، (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا) (ألا بذكر الله تطمئن
القلوب) (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل
للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين).
ولدوائر الليبرالية الغربية متابعة
وتنسيق وتأهيل للكوادر العربية والإسلامية المنتمية لها من الاكتشاف حتى الاكتفاء،
وهل من المصادفة مثلا أن دار الساقي – العريقة في التغريب - هي ناشرة كتب اركون بدعم
مؤسسة تعزيز الديمقراطية والتغيير السياسي في الشرق الاوسط؟!
المخاتلة بإجمال الخطاب النقدي للأديان عامة وتوجيهه
للمسلمين خاصة:
قال أركون: "والكلام نفسه الذي قلناه عن تفكيك الميتافيزيقا
الكلاسيكية يمكن قوله عن تفكيك الأنظمة اللاهوتية التي تشكلت في القرون الوسطى في
كافة المجالات الدينية اليهودية فالمسيحية فالإسلامية". (36)
فمشروع أركون الأعظم هو تفكيك الأصولية الذهنية التي يروم اختزالها
عبر تجزئتها وتفكيكها ودفنها في مسارب مقابر التاريخ، فتكون حينئذٍ مجرد ظاهرة
تاريخية ليس لها مقومات ولا أصول صالحة، إنما هي أسطورة أرثوذكسية متشددة منغلقة
وليس لها من الحداثة نصيب.
متلازمة ربط الشريعة الإسلامية بتحاريف وتخاريف أهل
الكتاب:
سيطرت الهالة الخرافية لدى أهل الكتاب على كثير من مدوني الليبرالية
العرب، ومن ذلك ركض أركون على سبيل المثال بنصّ وجده للفيلسوف الألماني هابرماز في
كتابه (الخطاب الفلسفي للحداثة) وملخصه: فكرة الميثاق الإلهي مع بني إسرائيل وأنهم
إن التزموا به بدون إخلال فلهم الخلاص من عنده ومن حاد عنه فهو خائن.. وأن من خان
ولو كان واحدًا فخيانته ليست على نفسه فقط بل على شعبه. (37) ثم يسحب هذا المعنى
على كل من أتى بعدهم من المسيحيين "النصارى"، حتى يصل لضالته وهم أهل
الإسلام، وأنّ الأوان قد آن لكسر تلك الخرافة! – في بصيرته المشوّهة العمياء -.
ونقول: إن كلام ذلك الفيلسوف مجرد تحليل للحالة اليهودية العبرانية،
وليس خبرًا يندرج تحت الصدقية وضدها هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهذا المعنى بصفته
العامة صحيح ولا بأس به، بل هو من صميم الإسلام بالمعنى الكلي، وليس بالضرورة
التفصيلي، وليس بالطريقة اليهودية؛ لأن الصبغة اليهودية له باطلة ضالة من حيث
الحدث والطريقة والتصور والغاية.
فالإسلام مبنيٌّ على وحي
محفوظ وله الصدقية المطلقة، وهناك ميثاق أوّلٌ أخذه الله تعالى بني الإنسان كلهم
أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً قال تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا
كنا عن هذا غافلين) ولكن هذا المعنى بعيد كل البعد عن أن تعقله أفهام من لا يؤمن
بسوى المادة. كذلك فالفرد مسؤول عن تصرفاته، وتعظم المسؤولية فيما لو كان سلوكه
مصطدمًا بالأدب الجمعي للجماعة المسلمة.
والذي يريد أركون أن يصل إليه هو ربط الديانات الثلاث بعقدة واحدة
ليسهل إلقاؤها عن كاهل البشرية العصرية لتدخل بوابة جنة العصرنة – الموهومة - لذلك
فالكابوس المؤرق لأركون يتموضع في جزئية صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان،
فتراه يكتب بهدوء حتى إذا مسّ تلك الخلفية ولو من وراءِ وراءٍ يثور قلمه في عاصفة
مفاجئة فيلقي كلامًا يهدم كثيرًا مما سطّره من عقلانية وموضوعية في سالف أسطره.
إذن فهناك مناطق معرفية يحاول أركون تجنبها لعدم وجود الآلية الصالحة –
ولو ظاهرًا لهدمها – سوى الديماغوجية والقولبة، وصفّها مع من تختلف معها قلبًا
وقالبًا، والحكم العام بجزئيات ليس لها حكم العموم، وتحميل النصوص ما لا تحتمل،
والاكتفاء بإلقاء الملابس الفكرية والأقنعة التلبيسية من علٍ على المواضيع
المرادة، مع سردها بطريقة خاتلة توحي بالجاذبية الصادقة والعلمية العميقة والنصح
الدافئ، لكن ما أن تهب عليها أدنى نسمة منطق وتحرر من قيود الإعجاب؛ إلا وتظهر
الفكرة عجوزًا شوهاء معوّقة بلباس عروس معطرة. وقل مثل هذا في غالب طرح أولئك
القوم. وكما قيل: كثرة البهارات والخلطات تغطي عيوب الطباخ الأخرق، فكذلك كتاباتهم
– حتى وإن تسنّموا عالي الرتب العلمية – فهي لا تعدوا أن تكون تكرارًا لشبهات من
سبقهم من أهل الاستشراق، ورصفًا لمفردات خارج السياق، أو حقنًا للمواضيع بمادة
استعلائية يحسّ معها قليل البضاعة في العلم والثقافة والثقة من نفسه تصاغرًا وتأخّرًا،
وما هي إلا خيطُ باطل!
ولنأخذ مثلًا على هذه الانتفاخات اللغوية الورمية، قال كبيرهم أركون:
"عندما يريد العقل الفلسفي الذي اقترح هذا التأويل أن يطبق مبادئه في النقد
الابستمولوجي على التفسير القرآني أو على المنشأ الايدلوجي للقانون الديني أي
الشريعة أو على أسطرة القيم الدينية وأدلجتها، فإن الدوغمائية الإسلامية سرعان ما
تنتفض وتتذمر وتتسلح باستراتيجية الرفض..". (38)
ولو انه اكتفى بالقول: عندما نريد تطبيق النقد الفلسفي على القرآن أو
الشريعة أو القيم فإن المتشددون يرفضون. لكفى، ولكنه التكلف والتشدق، وفي السنن من
حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله يُبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة". (39)
قال ابن الأثير: أي يتشدق
في الكلام ويفخم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفًّا. (40) وعن جابر
بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من أحبكم
إلي، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؛ أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني
يوم القيامة؛ الثرثارون والمتشدّقون والمتفيهقون". (41) والثرثار:
هو الكثير الكلام تكلفًا. والمتشدق: هو المتكلم بملء شدقيه تفاصحاً
وتعظيمًا لكلامه. والمتفيهق: أصله من الفهق وهو الامتلاء،
وهو بمعنى المتشدق، لأنه الذي يملأ فمه بالكلام ويتوسع فيه إظهارًا لفصاحته وفضله،
واستعلاءً على غيره، ولهذا فسره رسول الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم بالمتكبر".
(42)
قلت: هذا إذا كان كلامه على وزن العربية وجذور كلامها، أما أن يرمي
ذوقنا بمثل تلك الكتل الأجنبية الثقيلة فقد جمع حشفًا وسوء كيلة.
وقد يتعجب بعض الفضلاء من منافحة أركون ضد إقصائية مفكري الغرب لحضارة
الإسلام واحتدامه معهم لما جعلوه مع الديانتين بصف واحد كديانة توحيدية كتابية. ولكن
الأمر ليس كما يتصوره هؤلاء الفضلاء، فمنطلق أركون في حملاته عليهم ليست الغيرة
على الإسلام أو الحمية له، بل مقصوده مساواة الديانات الثلاث في الدفن والنسيان، فهو
يريد أن يضع الديانات الثلاث في الميزان التجريدي للحداثة، بمعنى أنه يعتقد – كما
هم – أن هذه الديانات الثلاث لا تعدوا أن تكون خرافات وأساطير شعبية نسجها
المستفيدون من لبوس الدين سواء من السلطات الحاكمة أو الفقهاء المفسرون.
فكأنه يقول لزملائه وأهل "قبلته المادية": بما أن الأمر
بهذا النمط، فلا تستكثروا ضم الإسلام للديانتين، وذلك من أجل أن يسحب كلام
الغربيين على المسيحية – كشعب وثورة – واليهودية – كديانة مغلقة – على الإسلام.
لذا فلا تعجب إذا رأيت إزراءه بشكل بائس على المستشرقين المنصفين،
سواء ممن أسلموا أو على الأقل حملوا أمانة الكلمة وميثاق العلم فأدوه بكل صدقية
وشفافية، ومن ذلك قوله بعد أن تهكم بسذاجة المستشرقين الذين يأخذون تفسير القرآن
من كتب أئمة المسلمين، ثم أعنق في بكائيته التي تستحق الشفقة: "وهناك أيضًا
مستشرقون ينصبون أنفسهم مدافعين تبجيليين عن الحضارة الإسلامية الكلاسيكية (43) وهم
يقوون بواسطة هيبتهم العلمية والجامعية المسار الأيدلوجي الأسطوري
للإسلامويون". (44) فيا سبحان الله، انظر مدى الخذلان لِمَنْ كان أهل الكتاب
أنصفُ منه لملّته التي ينتسب اسمًا لها. (ومن يهن الله فما له من مكرم)
وللعلم فأكثر الأسماء
المستشرقة التي أنصفت الإسلام هي من فرنسا، لذا فقد يكون هذا من الأسباب الخفية
لهجوم أركون من باريس عليها تحديدًا.
ونختم بتوضيح بعض مصطلحاتهم الغثائية:
اللائكية: العلمانية، وبعضهم يحصرها في الجانب السياسي
للعلمانية المتطرفة، كما في علمانية الثورة الفرنسية في اجتثاثها للتدين. أي التطرف
العملي للعلمانية.
سوسيولوجي: علم الاجتماع أو الفكر الاجتماعي.
التتريث: خلع رداء ديني على تصرفات فردية أو جماعية
لا علاقة لها بالدين.
الابستمية: علم أو معرفة.
أركيولوجيا: الحفر.
أنتربولوجي: تاريخي.
تيولوجي: لاهوتي.
أنطولوجي: وجودي محسوس غير ميتافيزيقي.
الإسلام الكلاسيكي: من القرن الأول حتى السادس للهجرة.
مدونة نصية: القرآن العظيم.
السيميانتي: المعنوي.
السيميائي: الدلالي.
شرعية أفقية: مستمدة من الشعب.
شرعية عمودية: سماوية.
النزعة التمامية: التزمّت.
والحمد لله الذي هدانا للإسلام والإيمان، وما كنا لنهتدي لولا أن
هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه
ومن تبعهم بإحسان.
إبراهيم الدميجي
1433
aldumaiji@gmail.com
حمّل مجّانًا كتاب تهافت الليبرالية، أركون أنموذجًا
.............................................................................................
(1) ويقصد الشعائر.
(2) ويعني الإيمان
بالغيب.
(3) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر: 61
(4) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر: 61
(5) أين هو الفكر الإسلامي. أركون: 89 – 90, وانظر هامش المترجم: 104
وانظر كذلك: قراءات في القرآن. أركون، بتمامه.
(6) أين هو الفكر الإسلامي. أركون: 90
(7) أي اللاهوتية.
(8) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. أركون: 113, وانظر:127
(9) انظر: نظرة فاحصة للكتاب المقدس "البيبل" وكتاب: العقائد
المسيحية في الميزان. للمؤلف.
(10) وانظر لكشف تلك الشبه وغيرها: كشف شبهات أهل الكتاب. للمؤلف.
(11) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. أركون: 129
(12) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. أركون: 132
(13) انظر ما سبق عن سمة الزعم بأن الدين كتب
بأيدٍ سياسية أموية لا نبوية.
(14) كذا، ولا تعجب إذ الوحي
كله أسطورة عندهم.
(15) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. أركون: 132
(16) أي في العهد النبوي.
(17) أين هو الفكر الإسلامي: 175 وانظر تهكمه بعلم وصدق الصحابة رضي
الله عنهم وبموثوقية وسلامة الوحي ص: 163
(18) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر: 176
(19) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. أركون: 134
(20) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. أركون: 136
(21) أين هو الفكر الإسلامي. أركون: 93
(22) أين هو الفكر الإسلامي. أركون. هوامش المترجم: 74
(23) ص: 136
(24) ولاحظ الانهزامية والفشل بإفراد التأريخ لحضارة أوروبا.
(25) أين هو الفكر الإسلامي. أركون. ترجمة هشام صالح ص: 35 ، وانظر
كذلك كلامه: ص: 99
(26) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر أركون ترجمة هشام صالح: 10-11 وانظر ص: 19
(27) السابق: 14
(28) السابق: 14
(29) أين هو الفكر الإسلامي. أركون: المقدمة ص: 13
(30) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر: 137
(31) أين هو الفكر الإسلامي. أركون. ترجمة هشام صالح: 14
(32)
الإسلام – أوربا – الغرب. أركون، ص: 101، 106، 126، 139
(33) أين هو الفكر الإسلامي. أركون. ترجمة هشام صالح: 15-17
(34) 5/ أيار _ مايو 1992 عن طريق مقدمة هشام صالح لكتاب أركون أين هو
الفكر الإسلامي: 27
(35) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. فصل: مفهوم مجتمعات أم
الكتاب/الكتاب: 55 – 68
(36) السابق ص: 35
(37) نقلها مطولة في: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. ص:180
(38) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر: 181
(39) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الألباني.
(40) النهاية 2/73
(41) الترمذي وقال: حديث حسن.
(42) إتحاف الخيرة المهرة 6/ 12
(43) ويعني بها الشريعة والفقه الإسلامي العام، دون التيارات المسماة
بالتنويرية والحداثية والعصرانية.
(44) أين هو الفكر الإسلامي المعاصر: 156