من
هدايات سورة الشعراء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول
الله وعلى أله وصحبه وسلم، أما بعد؛ فهذه وقفات تدبّرية لبعض آيات سورة عظيمة
مكّية هي الشعراء.
ذكر الله تعالى خليله إبراهيم عليه
السلام بأخبار جميلة وأوصاف حميدة، فهو من وصفه ربّه تعالى في سورة النعم بكونه
أمّة: (إن إبراهيم كان أمة)، وتأمل كيف كانت صفة الرضا بالله وعن الله معلمًا
واضحًا من معالم شخصيته وآثار سيرته عليه السلام، وكيف كان إمام المستسلمين لأمر
الله تعالى، قال سبحانه في سورة البقرة: (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب
العالمين) وكيف أتمّ الكلمات الي ابتلاه الله بها (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات
فأتمهن)، وكيف سلّم أمره وابنه تمامًا لربّه تعالى (فلما أسلما وتله للجبين)، ثم
جاهد في الله حق جهاده في الدعوة والجهاد باللسان والحجة واليد – بكسر الأصنام –
والصبر العظيم والرضا العجيب والحمد الكبير لربه حينما كان يُبتلى فيه فيرضى
ويسلّم ويجاهد لوحده أمّة كافرة جائرة لوجه ربه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: (إن إبراهيم كان أمة
قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم
وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة
إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين).
وقال الأمام المجدد رحمنا الله
وإيّاه في الكلام على هذه الآية الكريمة: (إن إبراهيم كان أمّة): "لئلّا
يستوحش سالكُ الطريق من قلّة السالكين، (قانتا لله)، لا للملوك ولا للتّجار
المُترفين، (حنيفًا)، لا يميل يمينًا ولا شمالًا كفعل العلماء المفتونين، (ولم يك
من المشركين)، خلافًا لمن كثّر سوادهم وزعم أنّه من المسلمين". (1)
وتدبّر كيف نسب الله كل نبي في سورة
الشعراء لقومه (إذ قال لهم أخوهم نوح)، (إذ قال لهم أخوهم هود)، (إذ قال لهم أخوهم
صالح)، (إذ قال لهم أخوهم لوط)، خلا ثلاثة أنبياء ولكل منهم سبب، الخليل وموسى
وشعيب عليهم السلام.
أما موسى عليه السلام فلعل من
الأسباب؛ ابتداءُ خبرِه بنداء ربه تعالى له فقال جل شأنه: (وإذ نادى ربك موسى)
وهذه التَّقدُمة الهائلة شرف ما بعده شرف، وبهذا فكأنّه خرج عن هذا العالم إلى
عالم الملكوت السماوي الربّاني برفعه لرتبة أن يكلّمه الله تعالى بلا واسطة مع
وجود الحجاب، أما بدون حجاب فهو الكِفَاح، وهو الكلام مع المواجهة والرؤية ومنه
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأنا مُهْتَمّ، فقال: "ما لي أراك مُنكسرًا؟" قلتُ: اسْتُشْهِدَ أبي
يومَ أُحُد، وترك عيالًا ودَيْنا، فقال: "ألا أُبَشِّرُكَ بما لقي اللهُ به
أباك؟" قلتُ: بلى، قال: ما كلَّم الله أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب، وإنه
أحيَى أباك، فكلَّمه كِفاحًا، فقال: يا عبدي؛ تمنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قال: يا ربِّ،
تُحييني فأُقتل ثانية، قال سبحانه: قد سَبَقَ منّي أنَّهم إليها لا يرجعون، فنزلت:
{ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله أمْوَاتا بَلْ أحْيَاء
عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون}. (2)
وأما شعيب عليه السلام فلعل ذلك راجع
إلى وصف الله تعالى لأمته بأصحاب "لئيكة" والأيكة هي الشجر الملتفّ وهي
الغيضة، وقيل إنها من الدّوم، وهو شجر كالنخيل لكن ثمره قليل النفع، ويكثر في
السباخ. وقيل من المَقْل، وهو السّدر ويسمّى كذلك النّبق. فلمّا عبدوا الشجرة من
دون الله ونسبهم الله إليها نزّه الله رسوله عن الانتساب إليهم وإليها، صيانة لاسمه
عن فعلهم ووصفهم. قال ابن جزي رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: ( إِذْ قَالَ
لَهُمْ شُعَيْبٌ ): "لم يقل هنا أخوهم كما قال في قصة نوح وغيره، وقيل: إنّ
شعيبًا بُعث إلى مدين، وكان من قبيلتهم، فلذلك قال: { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ
شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ، هود : 84 ، العنكبوت : 36 ]، وبُعث أيضًا إلى أصحاب
الأيكة ولم يكن منهم، فلذلك لم يقل أخوهم، فكان شعيبًا - على هذا - مبعوثًا إلى
القبيلتين. وقيل: إنّ أصحاب الأيكة مدين، ولكنه قال: (أخوهم) حين ذَكرهم
باسم قبيلتهم، ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها، تنزيهًا لشعيب
عن النسبة إليها". (3)
شاهد المقال أنه قد جاء في نفس
السياق وذات السورة كذلك ذكر الله تعالى تكذيب الأمم بأعيانها، فقال سبحانه: (كذبت
قوم نوح المرسلين)، (كذبت عاد المرسلين)، (كذبت ثمود المرسلين)، (كذبت قوم لوط
المرسلين)، (كذب أصحاب الأيكة المرسلين)، أما إبراهيم عليه السلام فلم يذكر ذلك في
قومه، كذلك موسى عليه السلام، أمّا موسى عليه السلام فلعل السبب إرساله إلى أمتي
القبط وبني إسرائيل، فأصالة لبني إسرائيل وتبعًا لمن تيسّر له من الفراعنة كما في
دعوته للملأ من قوم فرعون: (قال ربكم ورب آبائكم الأولين)، ولسحرة فرعون: (قال لهم
موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى) وقد أسلموا –
بحمد الله على يديه -.
أما خليل الرحمن أبو الأنبياء عليه
وعليهم السلام فله شأن آخر في ذلك كلّه، فابتداء لم ينسبه ربه إلى قومه كبقية
إخوته الأنبياء، كما لم يذكر قومه بنفس ذكر بقية الأقوام وتكذيبهم المرسلين، والله
أعلم بمراده من ذلك، ولعل من الأسباب أنّه كان أمّة وحده تقتدي به من بعده جميع
الأمم برسلهم وأنبيائهم وإليه تنسب الملّة الحنيفيّة، فهو لهم إمام حتى ختم الله
أنبياءه ورسله بالنبي الرسول الأمّة الحنيف الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي
صلّى بجميع الأنبياء إمامًا في المسد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج، وقد أخذ الله
على جميع الأنبياء والمرسلين عهدًا باتّباعه ولم يستثن في الآية أحدًا، فقال
سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ
كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى
ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ). والإصْرُ: هو العهد والميثاق.
وقد قال على بن أبى طالب، وابن عمه
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ
عليه الميثاق، لئن بعث محمدًا وهو حيٌّ ليؤمننّ به ولينصرَنَّه، وأمره أن يأخذ
الميثاق على أمته: لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه". (4) وعن
جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى رسولَ الله
بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة، فسكت فجعل يقرأُ ووجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغيّر، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى بوجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: أعوذ بالله من غضب الله، ومن غضب رسوله، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام
دينًا، وبمحمد نبيًّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد
بيده، لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيًّا
وأدرك نبوّتي لاتّبعني". (5)
وكان نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم
أشبه الناس بأبيه إبراهيم عليهما السلام خلْقًا وخُلُقًا. فمحمدٌ مجدِّدٌ لدين
إبراهيم وزيادة، صلى الله عليهما وآلهما وسلّم وبارك.
والمقصود؛ أنّ الله تعالى قد وصف
الله خليله عليه السلام بقوله: (إنّ إبراهيم كان أمة) فإبراهيم عليه السلام معروفٌ
نسبه في أُمّته وقد بُعث فيهم رسولًا عظيمًا، ولكن لمّا كان إبراهيم عليه السلام
بهذه المثابة في التأسّي بملّته وإمامته صار انتساب خيارِ الأمم إليه بدلًا من
مجرد قومه.
ثمّ تأمل كيف طلب الخليل أن يلحقه
الله بالصالحين فقال: (رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين) والحكم هو النبوّة، ولم
يُذكر أنْ قد سبقه أصلح منه، فلا أخير منه سوى ابنه رسولنا محمد صلى الله عليهما
وسلم، فلاحظ تواضعه، ولاحظ محبته للصالحين.
ولاحظ أنّ الأمم القديمة كنوح وعاد
وثمود قد وصفهم الله بتكذيب جميع المرسلين، فـ"أل" في المرسلين
استغراقية فتعمّ جميع الرسل، وسبب نسبة كفرهم برسلٍ لم يخلقوا أصلًا إلا بعد قرون
من فناء تلك الأمم لأنّ من كفر بنبيّ واحد فهو كافر بجميع الأنبياء والمرسلين.
ومن هدايات سورة الشعراء تواضع
الكليم عليه السلام للحق، فحينما ذكّره فرعون بقتله القبطي بقوله: (وفعلت فعلتك
التي فعلن وأنت من الكافرين) وكان المقام مقام حٍجاج وإفحام خصم، لم يتلكّأ عليه
السلام أو ينكر أو يحيد بل قال بكل ثبات ورباطة جأش على الحق: (فعلتها إذن وأنا من
الضالين). ومن وضوح حجته أن أقرّ بالفعل لكنه لم يقرّ فرعون على وصفه بالكفر، فقد
أقرّ على نفسه أنّه لم يُفّق للصواب بقتله القبطي، وكان قصد فرعون كفر النعمة،
ولكن لِعلم موسى عليه السلام أنّ المُنعِم على الحقيقة هو الله تعالى، وأنّ فرعون
مجرّد سبب إن شاء الله أمضاه وإن شاء ردّه؛ فلم يكن لفرعون إذلال موسى بذلك، ولمّا
أقرّ بالخطأ ولم يتكبّر على الاعتراف به دُهش فرعون بهذا الجواب المليء بالثقة
والتواضع. ثم قلبها موسى عليه حينما وسّع ميدان النظر كثيرًا بقوله: (وتلك نعمة
تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل)؟! أي هل لأنّك غذوت واحدًا نسيت استعبادك
واستسخارك قومه! أهذه نعمة تعدّها مع علمك بأنّك إن وضعت الأمرين في الميزان
استبان الفرق لكل ذي عينين.
فلُطم فرعون بذلك لدرجة أن فتح
باب التساؤل والمناظرة في الربوبية، فزعم أنّه لا يعرف الله مع أنّه على يقين من
وحدانية الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا
فانظر كيف عاقبة المفسدين)، فليس مجرد علم بوحدانيّة الله ألوهيّةً وربوبية، بل
يقينٌ مستقر في قلوبهم، لكن ردّهم الظلم وإرادة العلوّ في الأرض.
قال فرعون متسائلًا مستبعدًا
مكذّبًا: (وما رب العالمين)؟! وهنا تظهر العظمة الرساليّة لموسى عليه السلام،
ويتجلّى عظيم صبره ووافر حلمه وغزير علمه وإحكام منطقه وجميل منطوقه، فقال: (رب
السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) موقنين بعقولكم وبالسماء التي تُظلكم
والأرض المقلّةِ لكم، فابدؤا بهذه اليقينيات التي تبنون عليها الحجة الدامغة
والسلطان العلميّ الواضح، فاستدلّ على وجود الله وربوبيته بمخلوقاته العظام وهزّ
يقينياتهم وحرّكها علّها أن تثور من عقال كفرها وكبرها لفطرتها الأولى وتوحيدها
السابق، فاستهزأ فرعون به قائلًا لملئه: (ألا تستمعون)، أي ألا تعجبون للعجب
العُجاب من هذا الإنسان الذي يقول كلامًا ليس تحته حقائق. فأجابه الكليم مباشرة
مُصرّا على مبدئه القويم وحجته المستقيمة وبرهانه الساطع، غير آبهٍ بتُرّهات الخصم
الذي ذهب لأوديةٍ شتّى من سخرية وتشتيتٍ وإخراجِ محلّ الخلاف عن دائرة تركيز
النظر، وكلُّ هذا خلاف ما أقيمت المناظرة لأجله، فقال: (ربكم ورب آبائكم الأولين)
فعاد إليهم بعبارة أشدّ وحجة أدحض، وخلاصتها: أنّك يا فرعون مربوب لست بربّ، وأنت
ولدٌ لآباءٍ سبقوك، إذن فلست بخالق ولا مالك ولا مُدبّر ولا ربّ ولا إله، وكذلك
حال الملأ الذين يسمعون هذه المناظرة.
هنا غضب فرعون واشتدّت غطرسته وتيهها
وكبره فلجأ إلى حيلة الجهلة ضعفاء العقول والعلوم والنفوس على مر الأزمان وهي
اتّهام المُصلحين في عقولهم وعلومهم وأديانهم فقال: (إن رسولكم الذي أرسل إليكم
لمجنون)! أي أنه يقول ما لا يُعقله العقلاء. وهل استُفزَّ الكليم الكريم صلوات
الله وسلامه وبركاته عليه بذلك؟ كلّا، بل كان رابط الجأش ثابت الفؤاد شديد الشكيمة
وافر الحلم رَحْبَ الخُلُق والفطنة والعلم والحكمة، فقال بعدما اتّهم بالجنون: (رب
فعاد إلى نفس الحجّة المباركة ونفس الهدف الدعويّ الرساليّ ونفس المعنى، لكن
بعبارات أخرى ومعنًى أوسع، فقال: (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون)،
فأراد تحريك ذلك الشيء في قلوبهم ورؤوسهم الذي اتهموه بفقدانه وهو العقل، فاستفزّ
قريحتهم بقوله: (إن كنتم تعقلون) فإن كنت يا فرعون تتهمني بالجنون فأولى بك أن
تتأكد من سلامة عقلك وصحة ذهنك وملئك كذلك أما هذه المناظرة لإقامة
التوحيد لله رب العالمين وحده لا شريك له.
هنا سقطت حجة فرعون في الأرض وأُسقط
في يده وعاد خاسئًا في مقام الحجاج، فعاد لجُحْرِ أخلاق الجبابرة فأعلن الوعيد
بالعذاب لمن خالفه، فقال كقول من سبقه ولحقه من أزواجه وأشباهه وأقرانه: (لئن
اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين). فهل استفزّ ذلك موسى أو أخافه؟ كلّا، لم
يستفزّه طيشه ولم يهزّ شيئًا من كيانه ولا قلبه ولا إيمانه ولا علمه بربه وتعلقه
به، فكان خوفه من الله لا من غيره، فهو مُحقّق للتوحيد، ومن حققه فلا يخاف إلا
ربّه، كما قال تعالى في شأنهم: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا
إلا الله وكفى بالله حسيبا).
فلمّا توعّده هذا الطاغية الجبار
بالسجن طوى ما مضى من سجلّات الحجاج ثم عرض عليه بألطف أسلوب وأجمل بيان وأحسن
أداء وأقرب بلاغ فقال عارضًا مُشدّدًا: (أولو جئتك بشيء مبين)، فطوى حِجاج المعاني
الذهنيّة للبراهين الحسّية، والمعاني الذهنية هي الأقوى لدى العقلاء، لأنها مبنيّة
على قطعيّات يقينية مُركّبة على مرّ عمر عقل المرء وتأمّلاته لعلاقة الأشياء
ببعضها، وأكثر براهين القرآن من ذلك القبيل، فدلائله وبيّناته وتوجيهاته تشحذ
القريحة العقلية للنظر والتفكّر التدبر والتفكر، كذكر ابتداء الخلق، وأنّ من خلقهم
من عدم قادر على بعثهم بطريق الأولى، ثم تُثنّي بحفز نظرات حسّية ومآلاتها عقليّة
ذهنية عقلية من التفكّر في عظمة المخلوقات وكِبَرها واتّساعها واتّساقها وجودة
صنعها وإحكام تدبيرها ونحو ذلك، وتردفها بمثال حسّي نافذٍ للذهن السليم وهو
التفكّر في المطر والنبات ومراحله وهشيمه، ومقارنة نبتةِ الزرع ومراحلها بنبتةِ
الجنين، وأنّ خالق الاثنين واحد وهو الرب القادر المدبر والإله العظيم العليم، ثم
تثلّث بالشعور والعاطفة بالتذكير بالفطرة التوحيديّة الأولى ، ثم بعد ذلك بشحن
عواطف بني الإنسان بجنة الوعد ونار الوعيد.
وبالجملة؛ فقد أحسن موسى عليه السلام
أيّما إحسان في المناظرة بجميع مراحلها، فقال بعد إتمام المقاصد التي يغلب عليها
العقل إلى المقاصد البرهانيّة التي يغلب عليها الحسّ الذي قد استبطنه العقل، لأنّ
ذاته حقيقة لا خيال. فقال عليه السلام: (أولو جئتك بشيء مبين) أي آية حسّية واضحة
لكل أحد، غير ما أسلفت لك من الكلام النظري البرهاني الصحيح. فالقسم الأول من
المناظرة مفتقر لقياس عقليّ، مع ما استودع في الفطرة من معانٍ صالحة وأصول توحيدية
مستقيمة. أما القسم الثاني فهو ملموس حسّا فيراه بجارحة عينه ويسمعه بأذنه بل
ويلمسه بيده إن شاء، فالأولى تُدرك بالتأمل والتفكّر والقياس، والثانية بالمشاهدة
والسماع والحس، فانتقل من تغليب المعنى لتغليب الحسّ حتى يُفرَغَ على عدوّ الله كلّ
الحجج الكبار، ويُبطل عذره بالجهل، ولا يبقى سوى العناد والاستكبار.. وهو ما كان!
(أولو جئتك بشيء مبين) واضح على صدق
دعوتي وثبات كلمتي واستقامة حجّتي، فأجابه الفرعون: (فأت به إن كنت من الصادقين)
ولاحظ استمرار التكذيب والسخرية من هذا الطاغية الجبار. (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان
مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناضرين) فعاد فرعون لشبهة من سبقه ولحقه من سفهاء
الرؤساء فزعم قائلًا: (إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره)..
الآيات.
ولاحظ ما ورد في قصة فرعون وطبّقها
على الطغاة الجبابرة في كل مكان وزمان إذ بضاعة المفسدين واحدة وزاملة المبطلين
واحدة، وقد قال ربنا تعالى فيهم في سورة مريم: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على
الكافرين تؤزهم أزا. فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا).
فتأمل كلام فرعون وهتافه
الشقيّ بقوله وهو على سرير غفلته وعرش طغيانه وأُبَّهة جبروته وراحلة خُذلانه
وحفرة سوء منقلبه: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون)
فوصف الصالحين والمُصلحين بالشرذمة، والشرذمة: الطائفة القليلة من الناس، وخصّها
بعضهم بالحُقراء والأخسَّاء والسّفلة منهم، وقصد بذلك أنهم بمنزلة العبيد والخدم
لي ولكم. وذُكر عن مجاهد رحمه الله قال: "هم يومئذ ستّ مئة ألف، ولا يُحصى
عدد أصحاب فرعون. وأظهر فرعون غيظه وغضبه وألزم أتباعه بفعل فعله ولبس لأمة الحرب
للصالحين فقال: (وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون) آخذين أُهبتنا مستعدّين
لتدميرهم، فما هي نتيجة ذلك الطغيان: أنها الاستئصال!
قال تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون
. وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل) فساق الله مال أعدائه لبني
إسرائيل، سنة ماضية وآية باقية الله وناموس ثابت: (استكبارا في الأرض ومكر السيّء
ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله
تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا . أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة
الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا
في الأرض إنه كان عليما قديرا . ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها
من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا).
ومن هدايات سورة الشعراء كذلك أن
البلاء موكل بالمنطق، بيان ذلك أن قوم شعيب عليه السلام لما كذبوه تعنّتوا عليه
بقولهم: (ما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين . فأسقط علينا كسفا من
السماء إن كنت من الصادقين) أي قِطَعًا من السماء، فانظر كيف يتحيّنون عذابهم
ويستجلبون هلكتهم بألسنتهم، فأحالهم الرسول الكريم إلى علّام الغيوب ومن بيده
مقاليد الأمور قائلًا: (ربي أعلم بما تعملون)، فماذا كان جواب الله تعالى لهم:
(فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم). وأخرج ابن المنذر عن
السُّدّي قال: "فتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم، فغشيهم من حرِّه ما لم
يطيقوه، فتبرَّدوا بالماء وبما قدروا عليه، فبينما هم كذلك إذ رُفعت لهم سحابة
فيها ريح باردة طيبة، فلما وجدوا بردها ساروا نحو الظُّلّة، فأتوها يتبرّدون بها،
فخرجوا من كل شيء كانوا فيه، فلما تكاملوا تحتها؛ طبَّقتْ عليهم بالعذاب"!
(6)
وقد فعلت فعلهم قريش فعلهم، فلمّا
التقى القوم في بدرٍ قال أبو جهل: "اللهم أقطَعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف
فأحنه الغداة"، فكان ذلك استفتاحًا منه، فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم
الفتح)، أي النصر، لكنّه عليكم لا لكم! فأُحنوا وقُتلوا وأسروا وهُزموا، نعوذ
بالله من النار وحال أهل النار.
وتأمل حسن الخطاب وجمال الردّ
الرسولي، فقوم نوح عليه السلام لما قالوا له: (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) ووصفوا
أتباعه بذلك؛ لم يسكت على الباطل، بل وصف أتباعه بأحسن وصف وهو الإيمان بالله،
فقال: (وما أنا بطارد المؤمنين) أما من سبّوهم وسخروا منهم فقد ضرب صفحًا عن
مبادلتهم السيئة بمثلها. ومن ذلك: (يا قوم ليس بي ضلالة)، (وإنا أو إياكم لعلى هدى
أو في ضلال مبين) فشخصنة القضية وسبّ الأشخاص مُحيلة للموضوع عن هدفه الأسمى
وغايته السامية.
وتدبّر قوله تعالى: (والشعراء
يتّبِعُهم الغاوون) نعوذ بالله من الغواية عن الهداية، ومن الجهل بعد الحلم، ومن
الحَوْرِ بعد الكور، وقد ذكر الله تعالى في ذات السورة – الشعراء- جزاء الغاوين
فقال: (وبُرِّزَت الجحيم للغاوين)، فالشعر دحض مزلّة إلا من حفظ الله ممن خافوه
ورجوا لقاءه، لهذا استثنى سبحانه أولئك الثُلة بقوله الأعز الأكرم: (إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين
ظلموا أي منقلب ينقلبون).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين.
4/ 12/ 1441
....................................................................................
(1)
تيسير العزيز الحميد (1 / 78)
(2)
رواه الترمذي (3010) وابن ماجه (190) وحسنه الألباني وأيمن صالح
شعبان.
(3)
التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (1 / 1305)
(4)
جامع البيان (6/555)، وتفسير القرآن العظيم (2/56)، والدر المنثور
(2/252)
(5)
الدارمي (1/126) (435)، وأحمد (3/387)، وابن أبي عاصم (1/27) (50)
وصحح إسناده الحافظ ابن كثير من رواية أحمد، وقال: "تفرّد به أحمد، وإسناده
على شرط مسلم". البداية والنهاية (2/123)
(6)
الدر المنثور (11 / 292)