كيف يحقق المؤمن عبودية الافتقار إلى
الله تعالى؟
الحمد لله المحمود على كل أسمائه وصفاته
وقَدَره وأفعاله كما ينبغي له، والشكر له على الدوام على آلاءٍ لا نحصيها ولا نطيق
شكرها، فله الحمد والشكر ابتداءً وانتهاءً، وصلى الله وسلم وبارك على خير البرية
نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان ما تحرّك في الكون من خلقٍ، وما سَكَنَ
ساكنٌ، أما بعد:
فإن شأن الافتقار إلى الله عظيم، فهو
سحابة الغيث، وينبوع الإمداد، ومستمنَحُ الفوائد، ومستَدفَعُ الشرور، والموُفّقُ
من وفّقه الله لطرق بابه، والولوجِ لرحابه. وعلى قدر اعتراف العبد بفقره لربه
وحاجته وضرورته إليه يكون فرَجُهُ وفتحُ بابِ رزقِه وغناه، فلا بد من الاعتراف
والإقرار بالضرورة التامة للخلاق العليم والرحيم الكريم. وإن أمرًا هذا شأنه وفضله
ومكانته وعظمته لحقيق بنفيس العناية ووفير الهمّة وشديد الاجتهاد. وبحمد الله فقد
يسر الله للخير سبله وهيأ طرائقه، فمن ذلك:
أولًا: العلم بكمال الربوبية والألوهية
لله دون سواه.
قال تقي الدين رحمه الله: «فليس لشيء
وجود من نفسه، وإنما وجوده من ربه، والأشياء باعتبار أنفسها لا تستحق سوى العدم،
وإنما حصل لها الوجود من خالقها وبارئها فهي دائمة الافتقار إليه، لا تستغني عنه
لحظة لا في الدنيا ولا في الآخرة»([1]).
فالافتقار شعور والشعور لا بد أن يسبقه
العلم، ولا علم إلا ما جاء به الرسول ﷺ. فإذا كان العلم صحيحًا كان الشعور حقًّا،
وعلى قدر العلم والشعور تتحرك الإرادة ويزكو الإيمان وتثمر شجرة الإحسان.
وطريقة تحصيل الافتقار المحمود هنا: أن
يشهد المؤمن بقلبه أن الله وحده هو الغني المطلق وكل ما سواه فقير محتاج إليه.
فلله سبحانه كمال صفات الجلال والجمال،
فله الكمال المطلق بكل وجه من الوجوه، وله الغنى التام، فهو الغني لا منتهى لغناه،
الملك لا حدود لملكه وسلطانه، الحميد في كل صفاته وأفعاله، الحي الذي لا يموت،
القيوم الذي لا ينام، الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها اضطرارًا لفضله
وجوده وإحسانه.
قال ابن القيم: «قال الله سبحانه: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو
الغني الحميد) [فاطر:
١٥] فبين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي
لهم لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنيًّا حميدًا فغناه ذاتي له، وحمده ثابت له لذاته
لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه.
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات([2]) لا بعلة، وكل ما يذكر ويقدر من أسباب الفقر والحاجة فهي
أدلة على الفقر والحاجة، لا علل لذلك، إذا ما بالذات لا يعلل، فالفقير بذاته محتاج
إلى الغني بذاته.
والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد
وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه، كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد.
فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل
وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي([3])، فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون
الرب سبحانه إلا غنيًّا، كما أنه يستحيل أن يكون العبدُ إلا عبدًا والربُّ إلا
ربًّا.
إذا عرف هذا فالفقر فقران:
فقر اضطراري: وهو فقر عام لا خروج لبرِّ
ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًّا ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو
بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.
والفقر الثاني: فقر اختياري، هو نتيجة عِلْمين
شريفين:
أحدهما: معرفة العبد بربه، والثاني
معرفته بنفسه. فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرًا هو عين غناه وعنوان فلاحه
وسعادته.
وتفاوت الناس في هذا الفقر([4]) بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق؛
عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة؛ عرف نفسه بالعجز التام، ومن
عرف ربه بالعزّ التام؛ عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة؛
عرف نفسه بالجهل.
فالله سبحانه أخرج العبد من بطن
أمه لا يعلم شيئًا، ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئًا، ولا يقدر على عطاء ولا منع
ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرًا
مشهودًا محسوسًا لكل أحد. ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم
بدوامها.
وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة
الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره، فلما أسبغ عليه
نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه
ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلّمه وأقدره وصرفه وحرّكه، ومكّنه
من استخدام بني جنسه، وسخّر له الخيل والإبل، وسلّطه على دواب الماء، واستنزال
الطير من الهواء، وقهر الوحوش العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجار، وشق الأرض،
وتعلية البناء، والتحيّل على مصالحه، والتحرز والتحفظ مما يؤذيه؛ ظن المسكين أن له
نصيبًا من الملك، وادّعى لنفسه ملكًا مع الله سبحانه، ورأى نفسَه بغير تلك العين
الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة، حتى كأنه لم يكن هو ذلك
الفقير المحتاج، بل كأن ذلك شخصًا آخر غيره، كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث
بُسْر بن جِحَاش القرشي أن رسول الله ﷺ بصق يومًا في كفّه فوضع عليها إصبعه
ثم قال: «قال الله تعالى: يا ابن آدم، أَنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى
إذا سويتُك وعدلتُك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد([5])، فجمعتَ ومنعتَ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ: أتصدّقُ،
وأنّى أوان الصدقة»([6]).
ومن ههنا خُذل مَن خُذل، ووُفّق من وفّق،
فحُجب المخذول عن حقيقته، ونسي نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وعتا،
فحقّت عليه الشقوة، قال تعالى: (كلا إن
الأنسان ليطغى أن رءاه استغنى) وقال: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره
لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) [الليل: ٥ - ١٠].
فأكمل الخلق أكملهم عبودية، وأعظمهم
شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من
دعائه ﷺ: «أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك»([7]).
وكان يدعو: «يا مقلب القلوب، ثبت
قلبي على دينك»([8]) يعلم أن قلبه بيد الرحمن عز وجل، لا يملك منه شيئًا، وأن
الله سبحانه يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قوله تعالى: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) [الإسراء: ٧٤] فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به وحسب قربه
منه ومنزلته عنده.
وهذا أمر إنما لمن بعده منه ما يرشح من ظاهر
الوعاء، ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا، وأرفعهم عنده
منزلة؛ لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه.
وكان يقول: «لا تطروني كما أطرت
النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبدالله ورسوله»([9]).
وذكره الله سبحانه بسِمة العبودية في
أشرف مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدي. فقال: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) وقال: (وأنه لما قام عبدالله
يدعوه) وقال: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) [البقرة:
٢٣] وفي حديث الشفاعة: إن المسيح يقول لهم: «اذهبوا إلى
محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»([10]) فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله، وبكمال مغفرة الله
له.
فتأمل قوله تعالى في الآية: (أنتم الفقراء إلى الله) [فاطر: ١٥] باسم الله دون اسم الربوبية؛ ليؤذن بنوعي الفقر، فإنه كما
تقدم نوعان: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها، وفقر إلى ألوهيته، وهو
فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، والذي يشير إليه القوم
ويتكلمون عليه ويشيرون إليه هو الفقر الخاص لا العام. وقد اختلفت عباراتهم عنه
ووصفهم له وكل أخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير.
هذا والعبد إنما هو مملوك ممتحن في
صورة ملك متصرف، كما قال تعالى: (ثم جعلناكم خلائف
في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) [يونس:
١٤] ومن ادعى لنفسه حالةً مع الله سبحانه وُكِل إليها، ومن
وُكِل إلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب، وأغلق عنه باب الفوز والسعادة،
فإن كل شيء ما سوى الله باطل، ومن وكل إلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إلا
على الحرمان، فكل من تعلق بغير الله انقطع به أحوج ما كان إليه، كما قال تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت
بهم الأسباب) [البقرة: ١٦٦].
فالأسباب التي تقطعت بهم هي العلائق
التي بغير الله ولغير الله، تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها، وذلك لأن تلك الغايات
لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أسبابها وبطلت، فإن الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل
باضمحلالها، وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه، وكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، وكل
سعي لغيره باطل ومضمحل.
وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال
السعي والعمل والكد والخدمة التي يفعلها العبد لمتول أو أمير أو صاحب منصب أو
مال، فإذا زال ذلك الذي عمل له؛ عُدِم ذلك العمل، وبطل ذلك السعي، ولم يبق في يده
سوى الحرمان.
ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقة،
وأغبنهم يوم معاده، فإنه يُحال على مفلس كل الإفلاس، بل على عدم، والموحِّد
حوالتُه على المليء الكريم، فيا بُعْدَ ما بين الحوالتين!
والمُوفّقون لا يرون لأنفسهم ملكًا
حقيقيًّا، بل يرون ما في أيديهم لله عاريّةً ووديعة في أيديهم، ابتلاهم به لينظر
هل يتصرفون فيه تصرف العبد أو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون
لهواهم. فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره، إنما يقدح في فقره رؤيته
لملكته، فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوّث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره
واختياره، وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله، فهذا لو كان بيده من المال
أمثال جبال الدنيا لم يضرّه.
ومن لم يُعافَ من ذلك ادعت نفسه
المَلَكَة، وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أكبر همه ومبلغ
علمه، إن أعطي رضي وإن منع سخط، فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهمومًا ويمسي
كذلك، يبيت مضاجعًا له، تفرح نفسه إذا ازداد، وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء، بل
يكاد يتلف إذا توهمت نفسه الفقر، وقد يؤثر الموت على الفقر.
والأول مستغن بمولاه المالك الحق الذي
بيده خزائن السموات والأرض، وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة؛ رأى أن المالك
الحق هو الذي أصاب مال نفسه، فما للعبد وما للجزع والهلع؟ وإنما تصرف مالك
المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه، فله الحكم في ماله، إن شاء أبقاه وإن
شاء ذهب به وأفناه، فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه، ويرى تدبيره هو موجب الحكمة،
فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق،
فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إليه دون ما سواه،
فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى) [العلق: ٦، ٧] ولم يقل إن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئًا عن رؤيته غنى
نفسه([11]).
ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل، بل
قال: وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى
فسنيسره للعسرى) [الليل: 8 - ١٠] وهذا والله أعلم لأنه ذكر في سورة العلق موجب طغيانه وهو
رؤية غنى نفسه، وذكر في سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى وهو استغناؤه عن
ربه بترك طاعته وعبوديته، فإنه لو افتقر إليه لتقرب إليه بما أمره من طاعته فعل
المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين، ولا يجد بدًّا من امتثال أوامره، ولذلك
ذكر معه بخله وهو تركه إعطاء ما وجب عليه من الأقوال والأعمال وأداء المال، وجمع
إلى ذلك تكذيبه بالحسنى، وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) [يونس: ٢٦].
ومن فسرها بشهادة أن لا إله إلا الله
فلأنها أصل الإحسان وبها تنال الحسنى، ومن فسرها بالخلف في الإنفاق فقد هضم المعنى
حقه، وهو أكبر من ذلك، وإن كان الخلف جزءًا من أجزاء الحسنى.
والمقصود: أن الاستغناء عن الله سبب
هلاك العبد وتيسيره للعُسرى، ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه، وكلاهما مناف للفقر
والعبودية»([12]).
ثانيًا: الإقرار بالافتقار إلى الله تعالى.
«والإقرار بالافتقار من أجلى الأدلة على
التوحيد وحقيقة الإيمان، والخلاف فيه بين الكافر والمؤمن من أعظم ما يميز كلًا
منهما عن الآخر، ثم هو مما يميز الذاكرين الصابرين عن الغافلين الهلعين من
المؤمنين.
فالمؤمن مقر بافتقاره إلى الله في كل
لحظة عين، شاكرًا لأنعُمِهِ، ذاكرًا لآلائه في حال الرخاء والشدة معًا، يأكل
الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، ولا يمل دعاءه ولو لأدنى حاجاته.
وبالجملة هو مشاهد لحقيقة افتقاره إلى
مولاه يدعوه صباحًا ومساءً بما أوصى به النبي ﷺ ابنته فاطمة ▲: «يا حيّ يا قيوم
برحمتك استغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»([13]).
بل إن المؤمن ليستشعر ذلك في أعزّ ساعات
الانتصار والتمكين. وقد قصّ الله تعالى من حال أنبيائه في القرآن ما فيه بيان وقدوة؛
فهذا يوسف عليه السلام في اللحظة التي تمّ فيها تحقيق رؤياه: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ
سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ
جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ
وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي
وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ). [يوسف: ١٠٠].
في هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام
نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر،
كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ). [يوسف: ١٠١].
وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام وقد
رأى عرش ملكة سبأ حاضرًا بين يديه، من وراء آلاف الأميال، من قبل أن يرتد إليه طرفه:
(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ
قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ). [النمل:
٤٠].
وهكذا فعل النبي ﷺ حين دخل مكة فاتحًا
منصورًا؛ فإنه دخلها وهو يقرأ سورة الفتح يُرجّع([14])، ونزل بيت أم هانئ فصلى فيه ثماني ركعات([15])، وظلّ مكثرًا من التسبيح والاستغفار إلى أن توفاه الله
تأويلًا لقوله تعالى: («إِذَا جَاءَ
نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ
اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّابًا») [النصر: ١ - ٣].
ولهذا قال أشياخ بدر لعمر ؓ: «أُمرنا أن
نحمد ربنا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا»([16])، وهكذا فعل سعد بي أبي وقاص يوم فتح المدائن، وجعلها بعض
العلماء سنّة فقالوا: يستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدًا أن يصليَ فيه أول ما يدخله
ثماني ركعات([17]).
فهذا حال المؤمنين في حال النعمة وذروة
الطمأنينة.
وأما الكافر فإنه مستكبر على ربّه، متمرّد
عليه حال الرخاء والنعمة، يكفره ولا يشكره، يستخدم آلاءه في معاصيه، يطغى إذا
استغنى ويفسق إذا أترف. حتى إذا ما نزلت به نازلة وأحدقت به كربة وأحاطت به مصيبة
سقط من عرش كبريائه الوهمي، وانهار الزيف أمام الواقع، وانكشف الغيم عن الفطرة
المكبوتة، فأيقن حينئذ أنه لا يملك حولًا ولا طولًا، وضلّت عنه الأرباب المزعومة
التي كان يتعلق بها من قبل، وأخلص لله الدعاء وأظهر له من الافتقار والضراعة مالم يكن
ليخطر له ببال حال الأمن والعافية»([18]).
ثالثًا: مشاهدة حرج النفس واضطرابها
وقلقها حال الكربة والشدة.
فلربما يغفل المؤمن فينبهه الله تعالى
ببعض الشدائد حتى يثوب لافتقاره وعبوديته لربه وإلهه.
ورُوى أن نبيًّا من الأنبياء عليهم
السلام رأى مبتلى، فقال: «اللهم ارحمه» فقال الله تعالى: «كيف أرحمه مما
به أرحمه»([19]).
وفي أثر إلهي يقول الله تعالى: «أهلُ
ذكري أهل مُجالستي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل معصيتي لا
أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم
بالمصائب؛ لأطهرهم من المعايب»([20]).
رابعًا: عبودية الله تعالى بأسمائه
الحسنى ومنها: الأول والآخر والظاهر والباطن والمحيط.
الفقه في كل ما ورد من الأسماء الحسنى
والصفات العلى مؤثّرٌ حقًّا ونافع جدّا للمؤمن الحريص على تحصيل عبودية الافتقار
واستشعارها والعيش بها ولها ومعها، والعالم بها هو العالم بالله حقًّا، وهو أحق
الناس بالشرف والأجر والمحمدة والثواب، فالأسماء الحسنى ومعانيها كالنّفَس للعبد المؤمن
تريحه وتعينه، وهذا أنفس علمٌ وأزكاه، فشرف العلم وأهميته بشرف متعلقه، فلا أشرف
وأعلى وأعظم من علم يهدي صاحبه للتعرف على ربه تعالى من أوسع الأبواب وأجلها
وأجملها وهو علم أسماء الله وصفاته تبارك وتعالى.
فالعلم النافع للقلب كالغيث العميم
للأرض الطيبة، فلا يستغني المؤمن عن تعلّم ما يرفع جهله حتى يوارى ثرى رمسه «قال
تعالى: ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له
نورا يمشى به فى الناس كمن مثله فى الظلمات ليس بخارج منها ) [الأنعام:
١٢٢] فهذا وصف المؤمن كان ميتًا في ظلمة الجهل فأحياه الله
بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وأما الكافر فميت القلب
في الظلمات.
وسمى الله تعالى رسالته رُوحًا،
والرُّوحُ إذا عدم فقد فُقدت الحياة، قال الله تعالى: ( وكذلك أوحينا اليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا
الايمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا ) [الشورى: ٥٢] فذكر هنا الأصلين وهما: الروح والنور، فالروح الحياة،
والنور النور([21]).
وكذلك يضرب الله الأمثال للوحى الذي
أنزله حياةً للقلوب ونورًا لها بالماء الذى ينزله من السماء حياة للأرض وبالنار
التي يحصل بها النور، وهذا كما في قوله تعالى: ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا
رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله
الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض كذلك يضرب
الله الأمثال ) [الرعد: ١٧].
فشبّه العلم بالماء المنزل من السماء،
لأن به حياة القلوب، كما أن بالماء تكون حياة الأبدان، وشبه القلوب بالأودية،
لأنها محل العلم كما أن الأودية محل الماء، فقلب يسع علمًا كثيرًا وواد يسع ماءً
كثيرًا، وقلب يسع علمًا قليلًا وواد يسع ماء قليلًا.
وأخبر تعالى أنه يعلو على السيل من الزبد
بسبب مخالطة الماء، وأنه يذهب جفاء، أي يُرمى به ويخفى، والذى ينفع الناس يمكث في
الأرض ويستقر، وكذلك القلوب تخالطها الشهوات والشبهات، فإذا ترابى فيها الحق ثارت
فيها تلك الشهوات والشبهات، ثم تذهب جفاءً ويستقر فيها الإيمان والقرآن الذى ينفع
صاحبه والناس.
وقال: ( ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله
كذلك يضرب الله الحق والباطل ) فهذا المثل الآخر وهو الناري, فالأول للحياة
والثاني للضياء.
ونظير هذين المثالين المثالان المذكوران في سورة
البقرة في قوله تعالى: ( مثلهم كمثل الذى استوقد نارا ) إلى قوله ( او كصيب من
السماء ) [البقرة: ١٩] إلى آخر الآية، وأما الكافر ففي ظلمات الكفر والشرك غير
حي، وإن كانت حياته حياة بهيمية فهو عادم الحياة الروحانية العلوية التي سببها سبب
الإيمان، وبها يحصل للعبد السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، فإن الله
سبحانه جعل الرسل وسائط بينه وبين عباده في تعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم، وتكميل
ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، وبُعثوا جميعًا بالدعوة إلى الله، وتعريف الطريق
الموصل إليه، وبيان حالهم بعد الوصول إليه»([22]).
واعلم أنه متى صح الذهن وسلمت الفطرة
واهتدى القلب والعقل بنور الوحي فإنه لا شك سيُفتح له من العلوم والمعارف مالم يكن
يتصورها ويعرفها، فهو في كل يوم بل ساعة يضيف لعلومه علومًا ولإيمانه يقينًا
ولإسلامه تصديقًا حتى يكون من الذين نعتهم ربهم بقوله الأجل مادحًا مشيدًا: ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا
يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب﴾ [الزمر:
٩] فالعلم يقرب الغيب للشهادة حتى كأنه رأي عين، ويرسخ اليقين
في القلب حتى كأنه ما خلق لقبول سواه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال ابن القيم ؒ: «وسمعت شيخ الإسلام
تقي الدين ابن تيمية قدس الله روحه يقول: كيف يُطلب الدليل على من هو دليل على كل
شيء؟!
وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء
|
|
إذا احتاج النهار إلى دليلِ
|
ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربهم في
الدنيا، ويتفاوتون في درجات العرفان»([23]).
ومن أمثلة تحصيل ثمرة الافتقار بالفقه
في الأسماء والصفات مشاهدة معاني أسماء الله تعالى التي في سورة الحديد (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) [الحديد: ٣] ويجمعها اسم المحيط أي: محيط بكل زمان ومكان. وهذه
الأسماء إشارة إلى غيرها ومثال لها، وإلا فلكل اسم وصفة أثرهما المباشر على حياة
القلب وسكينته وأنسه وافتقاره لربه وغناه به.
«فعلى قدر افتقار العبد لمولاه
وإحساسه بحاجته واضطراره لسيده ومالكه يكون تحقيق العبودية، فإذا انضاف لذلك زيادة
علمه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ودعاه بها وتضرع إليه بذكرها فإن التحقيق يكون
أتمّ وأكمل، فالله تعالى قد تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته وأمرهم أن يدعوه ويتعبدوا
إليه بها فقال سبحانه: (ولله الأسماء
الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه)
ومن أسمائه سبحانه المتعلقة بإحاطته
بالعبد قدرة وعلمًا وربوبيةً وزمانًا ومكانًا الأسماء الأربعة التي صدّر بها أوائل
سورة الحديد بقوله الكريم: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) [الحديد: ٣] وقد فسرها رسول الهدى صلوات الله عليه وسلامه وبركاته([24]) «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس
بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»([25]).
فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من
مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته،
وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل
وجوده، وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا.
فمنه سبحانه الإعداد ومنه الإمداد،
وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده، لم تكن بوسائل أخرى، فمن نزّل
اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقرًا خاصًّا وعبوديةً خاصةً.
وعبوديته باسمه الآخِر تقتضي أيضًا عدم
ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخريّة،
ويبقى الدائم الباقي بعدها. فالتعلق بها تعلقٌ بعدم وينقضي، والتعلق بالآخر سبحانه
تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق
بغيره مما له آخر يفنى به.
وكما نظر العارف إليه بسبق الأولية حيث كان
قبل الأسباب كلها، فكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان
الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه.
فتأمل عبودية هذين الاسمين، وما يوجبانه
من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر
ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئُ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه تنتهي
الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه
وبارئه؛ فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده
غايته ونهايته ومقصوده.
فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات،
والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله،
كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ، فكما كان واحدًا في إيجادك؛ فاجعله واحدًا في تألّهك
إليه لتصح عبوديتك. وكما ابتدأ وجودك وخلْقك منه؛ فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك
إليه، لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر.
وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول،
وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر، فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب
العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده.
وأما عبوديته باسمه الظاهر، فكما فسره
النبي ﷺ بقوله: «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء»([26]) فإذا تحقق العبد علّوه المطلق على كل شيء بذاته،
وأنه ليس فوقه شيء البتة، وأنه قاهر فوق عباده، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم
يعرج إليه (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح
يرفعه) [فاطر: ١٠] صار لقلبه أَمَمًا([27]) يقصده، وربًّا يعبده، وإلها يتوجه إليه، بخلاف من لا
يدري أين ربه([28]) فإنه ضائع مشتت القلب، ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها، ولا
معبود يتوجه إليه قصده. وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبّد؛ طلب قلبه إلها
يسكن إليه ويتوجه إليه، وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلا العدم، وأنه ليس فوق
العالم إله يعبد ويصلى له ويسجد، وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم
الطيب، ولا يرفع إليه العمل الصالح؛ جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الاتحاد ولا
بد، وتعلق قلبه بالوجود المطلق الساري في المعينات فاتخذه إلهه من دون إله الحق،
وظن أنه قد وصل إلى عين الحقيقة، وإنما تأله وتعبد لمخلوق مثله، ولخيال نحته
بفكره، واتخذه إلهًا من دون الله سبحانه. وإلهُ الرسل وراءَ ذلك كله: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى
على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا
تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين
آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا
يكفرون) وقال تعالى: (الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم
استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء
إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب
والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل
نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار
والأفئدة قليلا ما تشكرون) [السجدة: ٤ - ٩].
فقد تعرف سبحانه إلى عباده بكلامه معرفة
لا يجحدها إلا من أنكره سبحانه، وإن زعم أنه مقرٌّ به.
والمقصود أن التعبد باسمه الظاهر
يجمع القلبَ على المعبود، ويجعل له ربًّا يقصده، وصَمَدًا يَصمُدُ إليه في حوائجه،
وملجأ يلجأ إليه، فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر؛ استقامت له عبوديته،
وصار له معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفر كل وقت إليه.
وأما تعبده باسمه الباطن فأمر يضيق نطاق
التعبير عن حقيقته، ويكلّ اللسان عن وصفه، وتصطلم الإشارة إليه، وتجفو العبارة عنه،
فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل، مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس
الحلول والاتحاد، وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه، وذوقًا صحيحًا سليمًا من أذواق
أهل الانحراف. فمن رزق هذا فهم معنى اسمه الباطن، وصحَّ له التعبد به.
وسبحان الله كم زلت في هذا المقام أقدام،
وضلّت فيه أفهام، وتكلم فيه الزنديق بلسان الصديق، واشتبه فيه إخوان النصارى
بالحنفاء المخلصين، لنبوّ الأفهام عنه، وعزّة تخلّص الحقِّ من الباطل فيه، والتباس
ما في الذهن بما في الخارج([29])، إلا على من رزقه الله بصيرة في الحقّ، ونورًا يميز به
بين الهدى والضلال، وفرقانا يفرق به بين الحق والباطل، ورزق مع ذلك اطّلاعًا على أسباب
الخطأ وتفرُّقِ الطرق ومثار الغلط، وكان له بصيرةٌ في الحق والباطل، وذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم([30]).
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة
إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السموات السبع
والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد([31])، قال تعالى: (وإذ قلنا لك إن
ربك أحاط بالناس) وقال: (والله من ورآئهم محيط) ولهذا يقرن سبحانه بين هذين
الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء
فوقه, واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه, كما قال تعالى: (وهو العلي
العظيم) وقال تعالى: (وهو العلي الكبير) وقال: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا
فثم وجه الله إن الله واسع عليم) وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته
فليس فوقه شيء, فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء, بل ظَهَرَ على كل شيء فكان فوقه,
وَبَطَنَ فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه, وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه, وكل
شيء في قبضته, وليس شيء في قبضة نفسه, فهذا أقرب لإحاطة العامة.
وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص
من عابديه وسائليه وداعيه, وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن, قال الله تعالى:
(وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) فهذا قربه من داعيه.
وقال تعالى: (إن رحمت الله قريب من المحسنين) [الأعراف: ٥٦] فذكَّر الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة، إيذانًا
بقربه تعالى من المحسنين([32])، فكأنه قال: إن الله برحمته قريب من المحسنين. وفي الصحيح
عن النبي قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»([33]) و«أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل»([34]) فهذا قرب خاصّ غير قرب الإحاطة وقرب البطون.
وفي الصحيح من حديث أبي موسى أنهم كانوا
مع النبي ﷺ في سفر فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: «أيها الناس، اربعوا على أنفسكم([35])، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع
قريبٌ، أقرب الى أحدكم من عُنُق راحلته»([36]) فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعني: فأي حاجة بكم إلى رفع الأصوات،
وهو لقربه يسمعها وإن خفضت، كما يسمعها إذا رفعت، فإنه سميع قريب.
وهذا القرب هو من لوازم المحبة، فكلّما
كان الحبّ أعظم؛ كان القرب أكثر. وقد تستولي محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى
بها([37]) عن غيره، ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده،
فإن لم يكن عنده معرفة صحيحة بالله وما يجب له وما يستحيل عليه، وإلا طرق باب
الحلول إن لم يلِجْهُ، وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة واستيلاء المحبوب على
قلبه، بحيث يغيب عن ملاحظة ما سواه فيشطح.
فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص
المحبة وصفوةِ الوداد، وأن يكون الإله أقرب إليه من كل شيء، وأقرب إليه من نفسه،
مع كونه ظاهرًا ليس فوقه شيء. ومن كَثُفَ ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا؛ فليضرب عنه
صفحًا إلى ما هو أولى به، فقد قيل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
|
|
وجاوزه إلى ما تستطيع
|
فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة، ومعرفة
بقرب المحبوب من محبّه غاية القرب، وإن كان بينهما غاية المسافة، ولا سيما إذا
كانت المحبة من الطرفين، وهي محبة بريئة من العلل والشوائب والأعراض القادحة فيها،
فإن المحب كثيرًا ما يستولي محبوبه على قلبه وذكره، ويفنى عن غيره ويرق قلبه
وتتجرد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه، القريب إليه، وبينهما من البعد ما
بينهما. وفي هذه الحال يكون في قلبه وجوده العلمي، وفي لسانه وجوده اللفظي،
فيستولي هذا الشهود عليه، ويغيب به، فيظن أن في عينه وجوده الخارجي لغلبة حكم
القلب والروح، كما قيل:
خيالك في عيني وذكرك في فمي
|
|
ومثواك في قلبي فأين تغيبُ
|
هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين
عدوه وما بينهما من البعد وإن قربت الأبدان وتلاصقت الديار. والمقصود أن المثال
العلمي غير الحقيقة الخارجية، وإن كان مطابقًا لها، لكن المثال العلمي محلّه القلب،
والحقيقة الخارجية محلها الخارج، فمعرفة هذه الأسماء الأربعة: الأول والآخر
والظاهر والباطن، هي أركان العلم والمعرفة. فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها
إلى حيث تنتهي به قواه وفهمه.
واعلم أن لك أنت أولًا وآخرًا وظاهرًا
وباطنًا، بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطْرة واللحْظة والنفَس وأدنى
من ذلك وأكثر، فأوليّة الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريّته ثابتة
بعد آخرية كل ما سواه، فأوليته سبقُهُ لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته
سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا
منه وأحاط بباطنه، وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء، بحيث يكون أقرب إليه من نفسه،
وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون.
فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة،
وهي إحاطتان: زمانية، ومكانية. فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق
انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته. فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل
والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه،
وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله
بعده. فالأول قِدَمُه، والآخر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوّه وعظمته، والباطن قربه
ودنوه.
فَسَبَقَ كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل
شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماءٌ
سماءً، ولا أرضٌ أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطنُ له ظاهر، والغيبُ
عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية.
فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان
التوحيد، فهو الأول في آخريته، والآخر في أوليته، والظاهر في بطونه، والباطن في
ظهوره، لم يزل أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا.
والتعبد بهذه الأسماء له رتبتان:
الرتبة الأولى: أن تشهد الأولية منه
تعالى في كل شيء، والآخرية بعد كل شيء، والعلو والفوقية فوق كل شيء، والقرب والدنو
دون كل شيء. فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب،
والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه.
والمرتبة الثانية من التعبد: أن يعامل
كل اسم بمقتضاه فيعامل سبقه تعالى بأوليته لكل شيء، وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب
كلها، بما يقتضيه ذلك من إفراده، وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل
على غيره. فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئًا مذكورًا حتى سمّاك باسم
الإسلام، ووسمك بسمة الإيمان، وجعلك من أهل قبضة اليمين، وأقطعك في ذلك الغيب
عِمالاتِ([38]) المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأعتقك من التزام
الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجّه وِجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه؟([39]).
فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم،
وقضى لك بقَدَمِ الصدق في القِدَمِ، أن يتم عليك نعمة هو ابتدأها([40])، وكانت أوليتها منه بلا سبب منك، واسمُ بهمتّك عن ملاحظة
الأغيار([41])، ولا تركنن إلى الرسوم والآثار([42])، ولا تقنع بالخسيس الدون. وعليك بالمطالب العالية،
والمراتب السامية، التي لا تنال إلا بطاعة الله، فإن الله سبحانه قضى أن لا يُنال
ما عنده إلا بطاعته.
ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق
ما يريد، فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد، ومن تصرف بحوله وقوته ألانَ له الحديد، ومن
ترك لأجله أعطاه فوق المزيد، ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد.
ثم اسمُ بسرِّك([43]) إلى المطلب الأعلى، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله
وإحسانه إليك كل سبب منك، بل هو الذي جاد عليك بالأسباب، وهيأ لك وصرف عنك
موانعها، وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة. فتوكل عليه وحده، وعامله وحده، وآثر رضاه
وحده، واجعل حبه ومرضاته هو كعبةُ قلبك التي لا تزال طائفًا بها، مستلمًا
لأركانها، واقفًا بملتزمها. فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك،
ماذا يُفيض عليك من ملابس نِعَمِه وخِلَعِ أفضاله! «اللهم لا مانع لما أعطيتَ،
ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد»([44]) سبحانك وبحمدك.
ثم تعبد له باسمه الآخِر، بأن
تجعله وحده غايتك، التي لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءه. فكما انتهت إليه
الأواخرُ، وكان بعد كل آخر؛ فكذلك اجعل نهايتك إليه، فإنّ إلى ربك المنتهى، إليه
انتهت الأسباب والغايات، فليس وراءه مرمى ينتهي إليه. وقد تقدم التنبيه على ذلك
وعلى التعبد باسمه الظاهر.
وأما التعبد باسمه الباطن، فإذا
شهدت إحاطته بالعوالم، وقُرْبِ العبيد منه، وظهورِ البواطن له، وبدوِّ السرائر له،
وأنه لا شيء بينه وبينها. فعامله بمقتضى هذا الشهود، وطهّر له سريرتك فإنها عنده
علانية، وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة، وزكّ له باطنك، فإنه عنده ظاهر.
فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة
جِمَاعُ المعرفة بالله، وجماع العبودية له. فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل
خالقه ومنته، فلا يرى لغيره شيئًا إلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن
جميع ما منه هو مما كان يستند إليه، أو يتحلّى به، أو يراه ليوم فاقته، أو يعتمد
عليه في مهمة من مهماته، فكل ذلك من قصور نظره، وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى
الأسباب والفروع، كما هو شأن الطبيعة والهوى، وموجب الظلم والجهل، والإنسان ظلوم
جهول.
فمن جلّى اللهُ سبحانه صدأَ بصيرته، وكمّل
فطرته، وأوقفه على مبادئ الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها؛ أصبح كمفلس
حقًّا من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه. يقول: أستغفر الله من علمي ومن عملي، أي:
من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأني بإعطائهما من غير
تقدم سبب مني يوجب ذلك، فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبْق منته ودوامه، فيثيبه
مولاه على هذه الشهادة العالية ثوابين:
أحدهما: الخلاص من رؤية الأعمال، حيث
كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها، فيستغرق بمطالعة الفضل غائبًا عنها، ذاهبًا عنها،
فانيًا عن رؤيتها.
الثواب الثاني: أن
يقطعه عن شهود الأحوال، أي عن شهود نفسه فيها متكثرة بها، فإن الحال([45]) محلّه الصدر، والصدر بيت القلب والنفس،
فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب ثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء، فتتمدّحُ به
وتدلّ به([46]) وتزهو وتستطيل وتقرر إنِّيتها([47]) لأنها جاهلة ظالمة، وهذا مقتضى الجهل والظلم.
فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنّة،
وشهد معنى اسمه المنّان، وتجلّى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول؛
ذَهَلَ القلبُ والنفس به، وصار العبد فقيرًا إلى مولاه بمطالعة سبق فضله
الأول، فصار مقطوعًا عن شهود أمرٍ أو حال ينسبه إلى نفسه.
فإذا أكمل العبد مراتب الافتقار
إلى الحي القيوم، وشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقرًا تامًّا إليه من
جهة كونه ربًّا، ومن وجهة كونه إلهًا معبودًا، لا غنى له عنه، كما لا وجود له
بغيره، فقد وصل إلى الفقر الأعلى، الذي دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى،
وإنما يصحّ له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلهية، ومعرفة
حقيقة النفس والعبودية. فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر.
فإن أعطَى هاتين المعرفتين حقهما من
العبودية؛ اتصف بهذا الفقر حالًا، فما أغناه حينئذ من فقير، وما أعزّه من ذليل،
وما أقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغنيُّ بلا مال، القويُّ بلا سلطان،
العزيز بلا عشيرة، المكفيُّ بلا عتاد. قد قرّت عينه بالله، فافتقر إليه الأغنياء والملوك([48]).
فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إلى
شهود الاضطرار في حركاته وسكناته، والفاقة التامة إلى مقلب القلوب، ومن بيده أزمة
الاختيار، وأنه لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه، وأنه هو الذي يحرك القلوب
بالإرادات، والجوارح بالأعمال، وأنها مدبرة تحت تسخيره، مذللة تحت قهره، وأنها
أعجز وأضعف من أن تتحرك بدون مشيئته، وأن مشيئته نافذة فيها كما هي نافذة في حركات
الأفلاك والمياه والأشجار، وأنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه، وهو خالق السبب
المقتضي، وخالق السبب خالق للمسبب، فخالق الإرادة الجازمة التي هي سبب الحركة والفعل
الاختياري خالق لهما، وحدوث الإرادة بلا خالق محدث محال، وحدوثها بالعبد بلا
إرادة منه محال، وإن كان بإرادته فإرادته للإرادة كذلك، ويستحيل بها التسلسل، فلا
بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التي هي سبب الفعل.
فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة
التامة إلى مالك الإرادات وربِّ القلوب ومصرِّفها كيف شاء، فما شاء أن يزيغه منها
أزاغه، وما شاء أن يقيمه منها أقامه. (ربنا لا تزغ
قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب) [آل عمران: ٨].
فهذا هو الفقر الصحيح المطابق للعقل
والفطرة والشرع، ومن خرج عنه وانحرف إلى أحد الطرفين؛ زاغ قلبه عن الهدى، وعطّلَ
مُلْك الملك الحقّ وانفراده بالتصرف والربوبية عن أوامره وشرعه وثوابه وعقابه.
وحكم هذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل
طرفة عين وكل نفس؛ أنه إن حُرِّك بطاعة أو نعمة؛ شكرها، وقال: هذا من فضل الله
ومَنِّه وجوده، فله الحمد، وإن حُرّك بمبادئ معصيته؛ صرخ ولجأ واستغاث وقال: «أعوذ
بك منك»([49])، «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»([50])، «يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك»([51]).
فإن تم تحريكه بالمعصية؛ التجأ التجاءَ
أسير قد أسره عدوه، وهو يعلم أنه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفّكه سيده من الأسر،
ففكاكه في يد سيده ليس في يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا
موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فهو في أسر العدوّ، ناظرٌ إلى سيده وهو قادر على
تخليصه، قد اشتدت ضرورته إليه، وصار اعتماده كله عليه. قال سهل: «إنما يكون الالتجاء
على معرفة الابتلاء» يعني على قدر الابتلاء تكون المعرفة بالمبتلي.
ومن عرف قوله ﷺ: «وأعوذ بك منك»([52]) وقام بهذه المعرفة شهودًا وذوقًا، وأعطاها حقّها من
العبودية؛ فهو الفقير حقًّا. ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فمن فهم سرّ هذا
فَهِمَ سرّ الفقر المحمدي.
فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه،
وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذي يدفع ما منه بما منه. فالخلق كله له،
والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما شاء لم يستطع
أن يصرفه إلا مشيئتُه، وما لم يشأ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته. فلا يأتي بالحسنات
إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو، ولا
يصرف سيئها إلا هو. (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو
وإن يردك بخير فلا راد لفضله) [يونس:
١٠٧].
والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحّة الاضطرار،
وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله والاستغناء
بها، والخروج عن ربقة العبودية إلى دعوى ما ليس له. وكيف يدّعي مع الله حالًا أو
مَلَكَةً أو مقامًا من قلبه؛ وإرادتُه وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكه،
لا يملك هو منها شيئًا، وإنما هي بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء.
فالإيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد،
ومتى انحلّ من القلب انحلّ نظام التوحيد. فسبحان من لا يُوصل إليه إلا به، ولا
يطاع إلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته، ولا سبيل إلى طاعته
إلا بتوفيقه ومعونته. فعاد الأمر كلُّه إليه، كما ابتدأ الأمر كله منه، فهو الأول
والآخر. (وإن إلى ربك المنتهى) [النجم: ٤٢].
ومن وصل إلى هذا الحال وقع في يد
التجريد، وأشرف على مقام التوحيد الخاصّ. فإن التوحيد نوعان: عامٌّ وخاص، كما أن
الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القُرَب كذلك خاصة وعامة، فالخاصة ما بذل فيها
العامل نصحه وقصده، بحيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها، والعامة ما لم يكن كذلك،
فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله، وتفاوتهم في
معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطنًا وظاهرًا أمر لا يحصيه إلا الله عز وجل»([53]).
«فلله العظيم أعظمُ حمدٍ وأتمُّه
وأكملُه على ما مَنَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه
الحسنى، وإقرار قلوبنا بأنَّه الله الذي لا إله إلا هو، عالمُ الغيب والشهادة،
ربُّ العالمين، قيومُ السموات والأرضين، إلهُ الأولين والآخرين. لم يزل ولا يزالُ
موصوفًا بصفات الجلال، منعوتًا بنعوت الكمال، مُنزَّها عن أضدادها من النقائص
والتشبيه والمثال.
فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته
وقيوميّته لا تأخذه سنة ولا نوم، مالكُ السموات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع
عنده أحد إلا بإذنه، العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما
خلفهم، فلا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه، يعلم دبيب الخواطر في
القلوب حيث لا يطلع عليها المَلَك، ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب.
البصيرُ الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق
الذرة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخّها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة
الصماء في الليلة الظلماء، ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات
السبع.
السميعُ الذي قد استوى في سمعه سرُّ
القول وجهرُه، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه، ولا
يشغله منها سمع عن سمع، ولا تغلّطهُ المسائل، ولا تُبرمه كثرة سؤال السائلين، قالت
عائشة: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله ﷺ
وإني ليخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: (قد سمع الله قول التي تجاد لك في زوجها وتشتكي إلى الله
والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) [المجادلة: ١]»([54]).
القديرُ الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء
ويضل من يشاء، ويجعل المؤمنَ مؤمنًا والكافرَ كافرًا، والبرَّ برًّا، والفاجرَ
فاجرًا. وهو الذي جعل إبراهيمَ وآلِهِ أئمةً يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعونَ
وقومَه أئمةً يدعون إلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء
أن يُعلِّمه إيّاه. ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما
مسّه من لغوب. ولا يُعجزِه أحدُ من خلقه ولا يفوته، بل هو في قبضته أين كان، فإن
فرَّ منه فإنما يطوي المراحل في يديه، كما قيل:
وكيف يفر المرء عنك بذنبه
|
|
إذا كان يطوي في يديك المراحلا
|
ولكمالِ غناهُ استحالَ إضافةُ الولد والصاحبة
والشريك والظهير والشفيع بدون إذنه إليه. ولكمالِ عظمته وعلوّه وَسِع كرسيه
السموات والأرض، ولم تسعْهُ أرضُه ولا سماواته، ولم تُحِطْ به مخلوقاته، بل هو
العالي على كل شيء، الظاهر فوق كل شيء، وهو بكل شيء محيط.
ولا تنفدُ كلماتُه ولا تبيدُ، ولو أن
البحر يمدُّه من بعده سبعةُ أبحرٍ مدادٌ، وأشجارُ الأرض أقلامٌ، فكُتب بذلك المداد
وبتلك الأقلام لنفد المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماتُه، إذ هي غير مخلوقة،
ويستحيل أن يفنى غيرُ المخلوق بالمخلوق([55]).
وهو سبحانه يحبُّ رسلَه وعبادَه
المؤمنين ويحبونه، بل لا شيء أحبّ إليهم منه، ولا أشوق إليهم من لقائه، ولا أقرّ
لعيونهم من رؤيته، ولا أحظى عندهم من قربه.
وأنه سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه
وأمره، وله النعمة السابغة على خلقه، وكل نعمة منه فضلٌ، وكل نقمة منه عدل.
وأنه أرحمُ بعباده من الوالدة بولدها.
وأنه أفرحُ بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة
بعد فقدها واليأس منها.
وأنه سبحانه لم يكلّف عباده إلا وسعهم،
وهو دون طاقتهم([56])، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم، بخلاف وسعهم، فإنه ما
يسِعُونَهُ ويسْهل عليهم، وتَفْضُلُ قُدَرُهُم عنه، كما هو الواقع.
وأنه سبحانه لا يعاقب أحدًا بغير فعلِه،
ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله، ولا على فعلِ ما
لا قدرة له على تركه.
وأنه حكيم كريم جواد ماجد محسن ودود
صبور شكور، يُطاع فَيشكُر، ويُعصى فيَغفر. لا أحدَ أصبرُ على أذًى سمعه منه، ولا
أحدَ أحبُّ إليه المدح منه، ولا أحدَ أحبُّ إليه العُذر منه. ولا أحدَ أحبُّ إليه
الإحسانُ منه، فهو محسنٌ([57]) يحبّ المحسنين، شكورٌ يحب الشاكرين، جميل يحب الجمال،
طيّب يحب كل طِيّب، عليمٌ يحب العلماء من عباده، كريمٌ يحب الكرماء، قويٌّ
والمؤمنُ القوي أحبّ إليه من المؤمن الضعيف، بَرٌّ يحب الأبرار، عدل يحب أهل
العدل، حييٌّ سِتّير([58]) يحب أهل الحياء والستر، غفورٌ عفو يحبُّ من يعفوَ عن
عباده ويغفرَ لهم، صادقٌ يحب الصادقين، رفيقٌ يحبّ الرفق، جوادٌ يحب الجود وأهلَه،
رحيمٌ يحب الرحماء، وِتْرٌ يحب الوترَ.
ويحب أسماءه وصفاتِه، ويُحب المتعبدين
له بها، ويحب من يسألَه ويدعوه بها، ويحب من يعرفها ويعقلها، ويثني عليه بها،
ويحمده ويمدحه بها، كما في الصحيح([59]) عن النبي ﷺ: «لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله([60])، من أجل ذلك أثنى على نفسه. ولا أحدَ أغيرُ من الله، من
أجلِ ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله،
من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين».
وفي حديث آخر صحيح: «لا أحدَ أصبرُ
على أذى يسمعُه من الله، يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم»([61]).
ولمحبتِه لأسمائه وصفاته أمر عباده
بمُوجِبِها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل والإحسان والبِرِّ والعفو والجود والصبر
والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت. ولما كان سبحانه
يحبّ أسماءَه وصفاتِه كان أحبَّ الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبُّها،
وأبغضَهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهُها. فإنما أبغض من اتّصف بالكبر والعظمة
والجبروت لأن اتصافَه بها ظلمٌ، إذ لا تليقُ به هذه الصفاتِ ولا تَحْسُنُ منه،
لمنافاتها لصفات العبيد، وخروجِ من اتصف بها من ربقة العبودية، ومفارقتِه لمنصبه ومرتبته،
وتعديه طورَه وحدَّه. وهذا خلافُ ما تقدَّمَ من الصفات كالعلم والعدل والرحمة الإحسان
والصبر والشكر، فإنها لا تُنافي العبودية، بل اتّصافُ العبد بها من كمال
عبوديتِه، إذِ المتصفُ بها من العبيد لم يتعدّ طورَه، ولم يَخرجْ بها من دائرة العبودية([62]).
والمقصود: أنه سبحانه لكمالِ أسمائه
وصفاته موصوفٌ بكل صفة كمال، منزهٌ عن كل نقص. له كلُّ ثناءٍ حسن، ولا يَصدرُ عنه
إلا كل فعل جميل، ولا يُسمّى إلا بأحسن الأسماء، ولا يُثنَى عليه إلا بأكمل
الثناء. وهو المحمود المحبوب المُعَظَّمُ ذو الجلال والإكرام على كلِّ ما قدَّرَه
وخلَقَه، وعلى ما كل أمر به وشرعه.
ومن كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى
واستقراءِ آثارها في الخلق والأمر؛ رأى الخلق والأمر منتظمَين بها أكملَ انتظام، ورأى
سَريان آثارها فيهما، وعلِمَ بحسَب معرفته ما يليق بكماله وجلاله أن يفعله وما لا
يليق، فاستدل بأسمائه على ما يفعله وما لا يفعله، فإنه لا يفعل خلاف موجب حمده
وحكمته. وكذلك يعلمُ ما يليق به أن يأمر به ويشرعه مما لا يليق به. فيعلم أنه لا
يأمر بخلاف موجب حمده وحكمته.
فإذا رأى في بعض الأحكام جورًا وظلمًا
أو سفهًا وعبثًا ومفسدة، أو ما لا يوجب حمدًا وثناءً فليعلم أنه ليس من أحكامه ولا
دينه، وأنه بريءُ منه ورسولُه، فإنه إنما يأمرُ بالعدل لا بالظلم، وبالمصلحة لا
بالمفسدة، وبالحكمة لا بالعبث والسفه. وإنما بَعث رسولَه بالحنيفية السمحة، لا
بالغلظة والشدة، وبعثه بالرحمة لا بالقسوة([63]). فإنه أرحم الراحمين، ورسوله رحمة مهداة إلى العالمين، ودينُه
كلّه رحمة، وهو نبي الرحمة، وأمته الأمة المرحومة. وذلك كله موجَب أسمائه الحسنى
وصفاته العليا وأفعاله الحميدة، فلا يُخبَر عنه إلا بحمده، ولا يُثنَى عليه إلا
بأحسن الثناء، كما لا يسمى إلا بأحسن الأسماء»([64]).
خامسًا: التعبّد بمقتضى اسم الله (الحميد).
فمن طرق تحصيل الافتقار المحبوب إلى
الله الممدوح من لدنه مشاهدة الأسماء والصفات وبخاصة اسم الحميد.
«وقد نبّه سبحانه على شمول حمده لخلقه
وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، وحَمِدَ نفسَه على
ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته. وحمد نفسه على امتناع
اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاةِ أحدٍ من خلقه لحاجته
إليه. وحمد نفسَه على علوّه وكبريائه، وحمد نفسه في الأولى والآخرة. وأخبر عن
سَريان حمده في العالم العلوي والسفلي. ونبَّه على هذا كله في كتابه، وحمد نفسه
عليه؛ فنوّعَ حمدَه وأسبابَ حمدِه، وجمعَها تارة، وفرقها أخرى، ليتعرّف إلى عباده،
ويعرِّفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبّبَ إليهم بذلك، ويحبهم إذا عرفوه
وأحبوه وحمدوه.
قال تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) وقال
تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا
بربهم يعدلون) وقال تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا
قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا
حسنا) وقال تعالى: (الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في
الآخرة وهو الحكيم الخبير) وقال تعالى: (الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل
الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل
شيء قدير) وقال سبحانه: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله
الحكم وإليه ترجعون) وقال: (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد
لله رب العالمين) وقال: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات
والأرض وعشيا وحين تظهرون)
وأخبر عن حمدِ خلقِه له بعد فصلِه بينهم، والحكم
لأهل طاعته بثوابه وكرامته، والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته: ( وقضي بينهم
بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)
وأخبر عن حمدِ أهل الجنة له، وأنهم لم يدخلوها
إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده، فقال عن أهل الجنة: (الحمد لله
الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) و (دعواهم فيها سبحانك اللهم
وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وقال عن أهل النار:
(ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون . ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا
هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون) وقال: (فاعترفوا
بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير) [الملك:
١١].
وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم، وعلِموا
أنهم كانوا كاذبين في الدنيا، مكذّبين بآيات ربهم، مشركين به، جاحدين لإلهيته، مفترين
عليه. وهذا اعترافٌ منهم بعدله فيهم، وأخذِهم ببعض حقّه عليهم، وأنه غير ظالم لهم،
وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده، وإنما عوقبوا بأفعالهم، وبما كانوا قادرين
على فعله وتركه.
وبالجملة: فكل صفة عليا واسم حسن وثناء
جميل، وكل حمدٍ ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكملِ
الوجوه وأتمها وأدومها. وجميعُ ما يُوصف به ويُذكر به ويخبر عنه به فهو محامدُ له
وثناءٌ وتسبيح تقديس. فسبحانه وبحمده لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما
أثنى على نفسه، وفوق ما يُثنِي به عليه خلقُه. فله الحمدُ أولًا وآخرًا حمدًا
كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لكرم وجهه، وعِزِّ جلاله، ورفيع مجده، وعلو
جَدِّه.
فهذا تنبيه على أحد نوعي حمده وهو حمد
الصفات والأسماء.
والنوع الثاني: حمدُ النعم والآلاء([65])، وهذا مشهودٌ للخليقة: برِّها وفاجرِها، مؤمنها وكافرها،
من جزيل مواهبه، وسَعة عطاياه، وكريم أياديه، وجميل صنائعه، وحسن معاملته لعباده،
وسعة رحمته لهم، وبره ولطفه وحنانه، وإجابته لدعوات المضطرين، وكشف كربات
المكروبين، وإغاثة الملهوفين، ورحمته للعالمين، وابتدائه بالنعم قبل السؤال، ومن
غير استحقاق، بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه، ودفع المحن والبلايا بعد
انعقاد أسبابها، وصرفها بعد وقوعها، ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده
بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصَّتَه وعبادَه
إلى سبيل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع، وحمايتهم عن مراتع الآثام.
وحبب إليهم الإيمان وزينة في قلوبهم،
وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين، وكتب في قلوبهم الإيمان،
وأيدهم بروح منه، وسمّاهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذَكَرَهم قبل أن يذكُروه،
وأعطاهم قبل أن يسألوه، وتحبّب إليهم بنعمة مع غناه عنهم، وتبغُّضُهم إليه
بالمعاصي مع فقرِهم إليه.
ومع هذا كله فاتخذ لهم دارًا، وأعدّ لهم
فيها من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وملأها من جميع الخيرات، وأودعها من
النعيم والحَبْرَةِ والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر.
ثم أرسل إليهم الرسلَ يدعونهم إليها، ثم
يسَّرَ لهم الأسباب التي توصلهم إليها، وأعانهم عليها، ورضي منهم باليسير في هذه
المدة القصيرة جدًّا، بالإضافة إلى بقاء دار النعيم.
وضَمِنَ لهم إن أحسنوا أن يثيبهم
بالحسنة عشرًا، وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنَوه من السيئات
بما يفعلونه بعدها من الحسنات.
وذكّرهم بآلائه، وتعرف إليهم بأسمائه،
وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانًا، لا حاجة منه إليهم. ونهاهم عما نهاهم
عنه حماية وصاينة لهم، لا بخلًا منه عليهم. وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه، ونصحهم
بأحسن النصائح، ووصّاهم بأكمل الوصايا، وأمرهم بأشرف الخصال، ونهاهم عن أقبح
الأقوال والأعمال. وصرّف لهم الآيات، وضرب لهم الأمثال، ووسّع لهم طرق العلم به
ومعرفته، وفتح لهم أبواب الهداية، وعرّفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن
غضبه.
ويخاطبهم بألطف
الخطاب، ويسمّيهم بأحسن أسمائهم، كقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، (وتوبوا إلى الله جميعا أيه
المؤمنون)، (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم)، (قل لعبادي)، (وإذا سألك عبادي
عني)
فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف، كقوله:
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم
الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا
تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)، (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من
خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون)، (يا أيها
الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، (يا
أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك)، (يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا
تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم
تهتدون)، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما
عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم
تعقلون)، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة
وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم
خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم
وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل)، (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا
لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه
تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم
بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)، (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن
الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا
لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز)،
(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه
أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) [الكهف: ٥٠].
فتحت هذا الخطاب: إني عاديتُ إبليسَ،
وطردته من سمائي، وباعدته من قربي، إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه
توالونه وذريته من دوني وهم أعداء لكم! فليتأمل اللبيبُ مواقع هذا الخطاب، وشدةَ
لصوقه بالقلوب، والتباسه الأرواح. وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده
بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة.
وأعلمَ عباده أنه
لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل، وأفضل المنازل، وأجل العلوم والمعارف، قال تعالى: (إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن
تشكروا يرضه لكم) وقال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
الإسلام دينا) (52) وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال تعالى:
(يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم
والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد
الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)
وقال في الأضاحي والهدايا: (لن ينال
الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم
عن إخراج الرديء من المال: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بإخذيه إلا أن
تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) [البقرة: ٢٦٧] يقول
سبحانه: إني غني عما تنفقون أن ينالني منه شيء، حميد مستحق للمحامد كلها. فإنفاقكم
ليس له فيه حاجة، ولا يوجب له حمدًا، بل هو الغني بنفسه، الحميد بنفسه وأسمائه
وصفاته، وإنفاقُكم إنما نفعهُ لكم، وعائدته عليكم.
ومن المتعيّن على من لم يباشر قلبه حلاوة
هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها؛ أن يعالج قلبه
بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من ذلك، ويتعرّض
إلى الأسباب التي يناله بها، من صدق الرغبة، واللجأ إلى الله أن يحيي قلبه ويزكيه،
ويجعل فيه الإيمان والحكمة. فالقلب الميّت لا يذوق طعم الإيمان، ولا يجد حلاوته،
ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ومن أراد مطالعة أصول النعم؛ فليدم
سَرْحَ الفكرِ في رياض القرآن، وليتأمل ما عدّد الله فيه من نِعَمِهِ، وتعرّف بها إلى
عباده من أول القرآن إلى آخره، حتى خلق النار، وابتلاءهم بإبليس وحزبه، وتسليط
أعدائهم عليهم، وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى؛ لتعظُم النعمة عليهم بمخالفتها
ومحاربتها([66]). فلله على أوليائه وعباده أتمُّ نعمة وأكملها في كل ما
خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة، وفي كل ما أحدثه في الأرض من وقائعه بأعدائه
وإكرامه لأوليائه، وفي كل ما قضاه وقدّره. وتفصيلُ ذلك لا تفي به أقلام الدنيا
وأوراقها، ولا قُوى العباد، وإنما هو التنبيه والإشارة.
ومن استقرأ الأسماء الحسنى وجدها مدائحَ
وثناءً تقصُرُ بلاغاتُ الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد
منها. ومع ذلك فلله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر،
ولا هجست في الضمائر، ولا لاحتْ لمتوسمٍ، ولا سنحت في فكر. ففي دعاءِ أعرَفِ الخلق
بربه، وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده: «أسألك بكل اسم هو لك، سمّيت به نفسك،
أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن
تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همّي وغمّي»([67]).
وفي الصحيح عنه في حديث الشفاعة لمّا
يسجدُ بين يدي ربه، قال: «فيفتحُ عليّ من محامده بشيء لا أحسنه الآن»([68]) وكان يقول في سجوده: «أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من
عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»([69]).
فلا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه
البتة. وله أسماءٌ وأوصافٌ وحمدٌ وثناءٌ لا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل. ونسبةُ
ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور في بحر([70]).
والله سبحانه مع كونه خالقَ كلِّ شيء،
فهو موصوف بالرضا والغضب، والعطاء والمنع، والخفض والرفع، والرحمة والانتقام.
فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق دارًا لطالبي رضاه، العاملين بطاعته، المؤثرين لأمره،
القائمين بمحابّه، وهي الجنة. وجعل فيها كل شيء مرضي، وملأها من كل محبوب ومرغوب
ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محلّ كل طيّب من الذوات والصفات
والأقوال.
وخلق دارًا أخرى لطالبي أسباب غضبه
وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين
بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به
رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهي جهنم. وأودعها كل شيء مكروه، وشحَنها من كل
مؤذٍ ومؤلم، وجعل الشرَّ بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال
والأعمال.
فهاتان الداران هما دارا القرار.
وخلق دارًا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين،
ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهي دار الدنيا. ثم أخرج إليها من آثار الدارين بعض
ما اقتضته أعمالُ أربابهما، وما يُستدل به عليهما، حتى كأنهما رأي عين، ليصير
للإيمان بالدارين ــ وإن كان غيبًا ــ وجهُ شهادة، تستأنسُ به النفوس، وتستدل به.
فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس
الفاخرة والصور الجميلة، وسائر ملاذ النفوس ومشتهياتها، ما هو نفحةٌ من نفحات
الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال([71]). فإذا رآه المؤمنون ذكّرهم بما هناك من الحَبْرة والسرور
والعيش الرخي، كما قيل:
فإذا رآك المسلمون تيقّنوا
|
|
حورَ الجنان لدى النعيم الخالدِ
|
فشمّروا إليه، وقالوا: «اللهم لا عيش
إلا عيش الآخرة»([72]) وأحدثتْ لهم رؤيتُه عزمات وهممًا وجدًّا وتشميرًا، لأن
النعيم يذكّر بالنعيم، والشيءُ يذكِّر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا
سبيل له إليه قال: «موعدك الجنة وإنما هي عشية أو ضحاها».
فوجودُ تلك المشتهيات والملذوذات في هذه
الدار رحمة من الله، يسوقُ بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها، وزادٌ
لهم من هذه الدار إليها، فهي زادٌ وعبرة ودليل وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك
الدار. فالمؤمن يهتزُّ برؤيتها إلى ما أمامه، ويُثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسُه
ذوَّاقة توَّاقة، إذا ذاقت شيئًا منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى
النعيم المقيم في جوار الرب الكريم([73]).
وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضًا من
آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات، ما
يُستدَلُّ بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النَّفَسَينِ
الشتاء والصيف([74])، الذين أَذِنَ الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما،
فاقتضى ذانِك النَّفَسَان آثارًا ظهرت في هذه الدار، كانت دليلًا عليها وعبرة. وقد
أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبّه عليه بقوله في نار الدنيا: (نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين) [الواقعة: ٧٣] تذكرة تذكّر بنار الآخرة، ومنفعة للنازلين بالقَوَاء،
وهم المسافرون. يقال: أقوى الرجل، إذا نزل بالقِيِّ، والقَوَاء هي الأرض الخالية.
وخصّ المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهًا لعباده ــ
والله أعلم بمراده من كلامه ــ على أنهم كلهم مسافرون، وأنهم في هذه الدار على
جناح سفر، ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين، وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر.
والمقصود: أنه سبحانه أشهدَهم في هذه ما
أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته
ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر. وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن
والبلايا سياطًا يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذِروا كل الحذر، واستدلوا
بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات. وكان وجودُها
في هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمةً منه بهم، وإحسانًا
إليهم، وتذكرة وتنبيهًا.
ولما كانت هذه الدار ممزوجًا خيرُها
بشرِّها، وأذاها براحتها، ونعيمها بعذابها؛ اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلَّص خيرَها
من شرِّها، وخصّه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار الشرور المحضة. فكتب على
هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط، وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض،
وجعل بعضهم لبعض فتنة. حكمةٌ بالغةٌ بهرتِ العقول، وعزةٌ قاهرة. فقام بهذا
الاختلاط سوقُ العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها
إلا على هذا الوجه. بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلّط
بعضه على بعض، ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك([75]).
فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا
الامتزاج والاختلاط؛ أعقبه بالتمييز والتخليص، فميّز بينهما بدارين ومحلّين، وجعل
لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها. وخلق المؤمنين المتقين المخلصين
لرحمته، وأعداءَه الكافرين لنقمته، والمخلّطين للأمرين معًا. فهؤلاء أهل الرحمة، وهؤلاء
أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة. وقسمٌ آخر لا يستحقون ثوابًا ولا عقابًا.
ورتّب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة حُكمَه اللائق به، وأظهر فيه حكمته
الباهرة، ليعلم العبادُ كمالَ قدرته وحكمته، وأنه يخلق ما يشاء، ويختار من خلقه من
يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، وعقابه موضعه، ويجمع بينهما في المحل المقتضي
لذلك، ولا يظلم أحدًا، ولا يبخسه شيئًا من حقه، ولا يعاقبه بغير جنايته.
هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء
والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم، من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم
وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفوسهم من القوة إلى الفعل([76])، ودفْعِ الأسباب بعضها ببعض، وكسرِ كلِّ شيء بمقابله،
ومصادمته بضده؛ لتظهر عليه آثارُ القهر، وسمات الضعف والعجز، ويتيقن العبدُ أن
القهَّارَ لا يكون إلا واحدًا، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان.
فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله
الواحد القهار، ومَنْ سواه مربوب مقهورٌ، له ضدٌ ومناوٍ ومشاركٌ. فخلقَ الرياحَ
وسلّط بعضها على بعض تُصادمها، وتكسر سَورتها([77]) وتذهب بها. وخلقَ الماءَ وسلّط عليه الرياحَ تًصرّفه
وتكسره. وخلق النار وسلّط عليها الماء يكسرها ويطفئها. وخلق الحديدَ وسلّط عليه
النار تذيبه وتكسر قوته. وخلق الحجارةَ وسلّط عليها الحديدَ يكسرها ويفتّتها. وخلق
آدمَ وذريتَه وسلّط عليهم إبليسَ وذريتَه. وخلق إبليسَ وذريتَه وسلّط عليهم
الملائكةَ يشرّدونهم كلَّ مُشرَّد، ويطردونهم كلَّ مُطَرَّد. وخلق الحرَّ والبردَ
والشتاء والصيف، وسلّط كلّا منهما على الآخر يذهبه ويقهره. وخلق الليلَ والنهارَ
وقهر كلّا منهما بالآخر. وكذلك الحيوانَ على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر،
لكل منه مضادّ ومغالِبٌ.
فاستبان للعقول والفطَرِ أن القاهرَ الغالب
لذلك كله واحدٌ، وأن من تمام ملكه إيجادُ العالم على هذا الوجه، وربطُ بعضه على
بعض، وإحواجُ بعضه إلى بعض، وقهرُ بعضه ببعض، وابتلاءُ بعضه ببعض، وامتحانُ خيره
بشرِّه، وجعلُ شره لخيره الفداء. ولهذا يُدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافرٌ فيقال
له: «هذا فداؤك من النار»([78]) وهكذا المؤمن في الدنيا يسلط عليه الابتلاء والامتحان والمصائب
ما يكون فداءه من عذاب الله. وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرور أكثر منها في
هذا العالم أيضًا. فليُعطِ اللبيبُ هذا الموضع حقَّه من التدبر يتبينْ له حكمة
اللطيف الخبير.
وهذا القرآن المجيد عمدتُه ومقصودُه
الإخبارُ عن صفات الرب سبحانه وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناءِ عليه،
والإنباءُ عن عظمته وعزّته وحكمته وأنواع صنعه، والتقدمُ إلى عباده بأمره ونهيه
على ألسنة رسله، وتصديقُهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك
ودلائله، وتبيينُ مراده من ذلك كله. وكان من تمام ذلك الإخبار عن الكافرين والمكذبين،
وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسالات ربهم، ووصف كفرهم وعنادهم، وكيف كذبوا
على الله، وكذّبوا رسله، وردّوا أمره ومصالحه. فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف
والبيان وضوحُ شواهدِ الحق، وقيامُ أدلته وتنوعها.
وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى
وتنزيهه من الثناء عليه، وأن أسماءه الحسنى وصفاته العليا هي موضع الحمد، ومن تمام
حمده تسبيحُه وتنزيهُه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به. وكان في
تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما
في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضاده ويخالفه. ولهذا كان تسبيحه تعالى
من تمام حمده، وحمده من تمام تسبيحه، ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين. وكان ما
نسبه إليه أعداؤه والمعطلون لصفات كماله ــ من علوّه على خلقه وإنزاله كلامه الذي
تكلم به على رسله وغير ذلك ــ موجِبًا لتنزيه رسله له وتسبيحهم عند ذلك مما نزَّه
عنه نفسه وسبَّحَ به نفسه([79]). وكان في ذلك ظهورُ حمده لخلقه، بل وتنوّع أسبابه، وكثرة
شواهده، وسعة طرق الثناء عليه به، وتقرير عظمته، ومعرفته في قلوب عباده. فلولا
معرفةُ الأسباب التي يسبّح وينزّه ويتعالى عنها، وخَلْقُ من يضيفها إليه ويصفه
بها، لما قامت حقيقة التسبيح، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أي شيء يسبحونه، وعمّا
ذا ينزهونه. فلما رأوا في خلقه من قد نسبه إلى ما لا يليق به، وجحد من كماله ما هو
أولى به، سبَّحوه حينئذ تسبيح مجلٍّ له، معظِّمٍ له، منزّهٍ له عن أمر نسبه إليه
أعداؤه والمعطلون لصفاته.
والمقصود: أن خلق الأسباب المضادة للحق،
وإظهارها في مقابلة الحق؛ من أبين دلالاته وشواهده، فكان في خلقها من الحكمة ما لو
فاتت لفاتت تلك الحكمة، وهي أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب،
والله أعلم»([80]).
سادسًا: تدبر القرآن العظيم.
رحم الله هذه الأمة فأنزل لها كلامه
يتلى في صدورها وعلى ألسنها هدى ونورًا، وأمرهم أن يتلوه ويتدبروه ويقيموا حدوده،
فالخير والهدى بحذافيره في القرآن، ومن رام بركة عمره وخالص علمه ومتين فقهه وحياة
قلبه فليعمر وقته بالقرآن. وعلى قدر أخذه بحظه من القرآن تلاوة وتدبًّرا وعملًا
يكون حظ روحه وقلبه وزكاء نفسه ورفعته.
وتدبرِ القرآن إن رمت الهدى
|
|
فالعلم تحت تدبر القرآنِ
|
قال الشيخ محمد رشيد رضا ؒ: «واعلم أن
قوة الدين وكمال الإيمان واليقين لا يحصلان إلا بكثرة قراءة القرآن واستماعه، مع
التدبر بنيّة الاهتداء به والعمل بأمره ونهيه. فالإيمان الإذعاني الصحيح يزداد
ويقوى وتترتب عليه آثاره من الأعمال الصالحة وترك المعاصي والفساد بقدر تدبر
القرآن، وينقص ويضعف على هذه النسبة من ترك تدبره. وما آمن أكثر العرب إلا بسماعه
وفهمه، ولا فتحوا الأقطار، ومصروا الأمصار، واتسع عمرانهم، وعظم سلطانهم، إلا
بتأثير هدايته. وما كان الجاحدون المعاندون من زعماء مكة يجاهدون النبي ﷺ ويصدونه
عن تبليغ دعوة ربه إلا بمنعه من قراءة القرآن على الناس: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم
تغلبون) [فصلت: ٢٦] وما ضعف الإسلام منذ القرون الوسطى حتى زال أكثر ملكه
إلا بهجر تدبر القرآن وجعله كالرقى والتعاويذ التي تتخذ للتبرك أو لشفاء أمراض
الأبدان، وجلّ فائدة الصلاة ــ وهي عماد الدين ــ بتلاوة القرآن مع التدبر والتخشع»([81]).
سابعًا: من وسائل الافتقار: الاعتراف
بظلم النفس.
الإنسان بطبيعة خلقه ظلوم جهول، فلا بد
له من المكابدة والمكافحة لاستنقاذ نفسه من استلاب الطبع الظالم والغريزة الجهول.
«والمحرمات في الشريعة ترجع إلى الظلم إما في حق الله تعالى، وإما في حق العبد،
وإما في حقوق العباد. وكلما كان ظلمًا في حق العباد فهو ظلم العبد لنفسه ولا
ينعكس، فجميع الذنوب تدخل في ظلم العبد نفسه.
وأول من اعترف بهذا أبو البشر لما تلقى من ربه الكلمات
فقال: : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين) فكان في هذه الكلمات اعترافه بذنبه، وطلبه ربه على وجه الافتقار المغفرة
والرحمة. فالمغفرة إزالة السيئات، والرحمة إنزال الخيرات. فهذا ظلم لنفسه، ليس فيه
ظلم لغيره.
وقال موسى عليه
السلام لما ذكر الذي هو من عدوه: ( فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل
مبين قال رب انى ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له) فاعترف بظلمه نفسه فيما كان من جناية
على غيره لم يؤمر بها. وقال يونس عليه السلام: { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين ) [الأنبياء: ٨٧].
وفي الصحيح الدعاء الذي علمه النبي ﷺ
أبا بكر أن يدعو به في صلاته: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر
الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»([82]) فهذا الدعاء مطابق لدعاء آدم في الاعتراف بظلم النفس
ومسألة المغفرة والرحمة.
وكان النبي ﷺ إذا استوى على الدابة فحمد
وسبح وكبر قال: «لا إله الا أنت سبحانك ظلمت نفسي فاغفر لي. ثم يضحك» وهو
محفوظ من حديث على بن أبى طالب([83]).
وإذا كان كذلك؛ فالظلم نوعان: تفريط في
الحق، وتعدٍّ للحد، فان ترك الواجب ظلم، كما أن فعل المحرم ظلم، قال النبي ﷺ: «مطل
الغني ظلم» متفق عليه([84]) فأخبر أن المطل وهو تأخير الوفاء ظلم فكيف بتركه، هذا
وإن أداء الواجب أعظم من ترك المحرم، والطاعات الوجودية أعظم من الطاعات العدمية([85])، فيكون جنس الظلم بترك الحقوق الواجبة أعظم من جنس الظلم
بتعدي الحدود.
أيضًا فإن الورع المشروع هو أداء الواجب
وترك المحرم، ليس هو ترك المحرم فقط. وكذلك التقوى اسم لأداء الواجبات وترك
المحرمات، كما بين الله حدّها في قوله: { ليس البر أن
تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } إلى قوله: { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم
المتقون } [البقرة: ١٧٧].
ومن هنا يغلط كثير من الناس فينظرون ما
في الفعل أو المال من كراهة توجب تركه، ولا ينظرون ما فيه من جهة أمر يوجب فعله.
مثال ذلك: ما سئل عنه أحمد عن رجل ترك مالا فيه شبهة وعليه دين، فسأله الوارث: هل
يتورع عن ذلك المال المشتبه؟ فقال له أحمد: «أتترك ذمة أبيك مرتهنة؟» ذكرها أبو
طالب وابن حامد، وهذا عين الفقه، فان قضاء الدين واجب، والغريم حقّه متعلق
بالتركة، فإن لم يوفِ الوارثُ الدينَ وإلا فله استيفاؤه من التركة، فلا يجوز إضاعة
التركة المشتبهة التي تعلّق بها حق الغريم، ولا يجوز ايضًا إضرار الميت بترك ذمته
مرتهنة، ففي الإعراض عن التركة إضرار الميت وإضرار المستحق، وهذان ظلمان محققان بترك
واجبين، وأخذ المال المشتبه ليس كذلك»([86]).
ثامنًا: ومن طرق تحصيل الافتقار: التوبة
النصوح المتكررة.
سواءً وافقت نقصًا في واجب أو ارتكاسًا
في خطيئة، فالعبد يعلم أنه مهما قرّب وتعبّد فعبادته ليست لائقة بحق ربه ولا
كافية في نجاته، فهو يجدّ ويستغفر، ويذنب ويستغفر، فلا ينفك في حركاته وسكناته من
لبوس التوبة ودثار الاستغفار.
وقلبُ المؤمن كالنعجة السليمة ترعى الربيع
المختلط بأنواع الزهور، وتتغذى بما يصحّ جسمها ويغذوه وينبته، والعقل معها كالراعي
القوي الأمين، فهو يحرسها من نفسها بأن ينصح لها المرعى الطيب والغذاء النافع،
ويداويها عند اعتلالها، ومن غيرها بأن يحميها من غوائل المفترسات، وفي المرعى
ثلاثة ذئاب يرومون صيدها وافتراسها، أصغرهم هو ذئب القوة الشهوانية، يليه ذئب
القوة الغضبية، وفوقهما ذئب الشبهات. فلربما غفل الراعي هنيهة فاكتنفها أحدهم
فجرحها وأدماها فاحتاجت لعلاج على قدر جرحها، ولربما افترسها وأهلكها! والعاقل
يعتبر بما يرى ويسمع ويبصر.
وتوبة المؤمن من ذنوبه هي ساق قوّته التي لا قيام له
بدونها، فرسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه كان يتوب إلى الله ويستغفره في
اليوم أكثر من مئة مرّة، وقد أنزل الله عليه خِلعة البشارة والرضى بقوله العزيز (ليغفر
لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) فإن كان هذا حال العبد التائب الشكور صلى الله
عليه وسلم فما بال من سواه؟! فما ثمّ إلا تائب أو ظالم فربنا جل وعز يقول: (ومن لم
يتب فؤلئك هم الظالمون) ومرقاة فلاح المؤمن توبته النصوح ويقول: (وتوبوا إلى الله
جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [النور:
٣١].
ومن أسرف على نفسه بالعصيان ثم أقبل تائبًا منيبًا فليحرص
على حراسة جذوة إيمان التوبة في قلبه، فهي كالزرع الصغير الضعيف المحتاج إلى غذاء
وحراسة، فذئب الإنسان ــ وهو الشيطان ــ حريص على اقتلاع تلك النبتة حال ضعفها وصغرها
قبل أن تستتم شجرة عظمى، ليخلو له القلب فيأكله حتى يختلط بدمه وعصبه فيحل عليه
الفساد لخلوّه من مادة الصلاح وهي الإيمان.
وهذا الشيطان الرجيم شديد المكر طويل
العُمْرِ طويل البال في الإفتان، فيلقي للمرء طُعمًا من حطام الفانية ليسد به رمق
شهوته الخاطئة، كالحبة في الفخ والطُّعم في السنّارة، حتى إذا ابتلعها أفسدت قلبه،
فإن وُفِّق لتوبة لعلاجه وإلا خيف عليه ازدياد الفساد والظلمة وانحسار الصلاح
والنور، حتى يوافي ربه بقلب قاسٍ مثقل بأوزاره، فهو بين عفو الله أو صلوّ النار
التي تخرج مادة الفساد وتليّن القسوة، فإن كان فيه بصيص نور توحيد وصلاة فمآله
للجنة بعد حين لا يعلمه إلا الله، وإلا فخلود الأبد، عياذًا بوجه الرحمن من موجبات
سخطه، فالجنة هي دار القلوب السليمة اللينة لا الفاسدة القاسية، وهي ملتقى
المقربين والأبرار لا الفسقة الفجار.
تاسعًا: ومن طرق تحصيل الافتقار: الاعتراف
بالذنب، وأن لا يخرج من بيته وهو يظن إن مسلمًا
دونه منزلة.
فلعل هناك خبيئة
صلاح في ذلك المسلم، أو سريرة سوء في ذلك المتعالي، أو خاتمةٌ بخلاف الظاهر الآن!
فالإزراء بالنفس سبيل علوّها عند ربها، وتعظيمها طريق خفضها، واعتبر ذينك الأمرين
بحال الأبوين وإبليس. والله المستعان.
قال ابن القيم في شأن من يظن صلاحه أجود
من غيره، فيشمت بالمذنب: «وأيضا ففي التعيير ضرب خفىّ من الشماتة بالمعيَّر، وفي
الترمذي مرفوعًا: «لا تظهر الشماتة لأخيك فيرحمه الله ويبتليك»([87]).
ويحتمل أن يريد: أن تعييرك لأخيك بذنبه
أعظم إثمًا من ذنبه وأشد من معصيته، لما فيه من صولة الطاعة، وتزكية النفس،
وشكرها، والمناداة عليها بالبراءة من الذنب، وأن أخاك باء به.
ولعل كسرته بذنبه، وما أحدث له من الذلة
والخضوع والإزراء على نفسه، والتخلص من مرض الدعوى والكبر والعجب، ووقوفه بين يدي
الله ناكس الرأس خاشع الطرف منكسر القلب؛ أنفعُ له وخيرٌ من صولة طاعتك، وتكثّرك
بها، والاعتداد بها، والمنّة على الله وخلقه بها.
فما أقرب هذا العاصي من رحمة الله، وما
أقرب هذا المدلّ من مقت الله. فذنب تَذِلُّ به لديه أحب إليه من طاعة تُدِلُّ بها
عليه، وإنك أن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا، خير من أن تبيت قائمًا وتصبح معجبًا، فإن
المعجب لا يصعد له عمل. وإنك أن تضحك وأنت معترف، خير من أن تبكي وأنت مدلّ.
وأنينُ المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبحين المدلّين. ولعل الله أسقاه بهذا
الذنب دواء استخرج به داء قاتلا هو فيك ولا تشعر!
فلله في أهل طاعته
ومعصيته أسرارٌ لا يعلمها إلا هو، ولا يطالعها إلا أهل البصائر، فيعرفون منها بقدر
ما تناله معارف البشر، ووراء ذلك مالا يطلع عليه الكرام الكاتبون. وقد قال النبي ﷺ:
«إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يثرّب»([88]) أي: لا يُعيّر. من قول يوسف عليه
السلام لإخوته: ﴿ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ﴾ [يوسف: ٩٢] فإن الميزان بيد الله، والحكم
لله. فالسوط الذي ضرب به هذا العاصي بيد مقلب القلوب، والقصد إقامة الحد لا
التعيير والتثريب.
ولا يأمن كرّات القدر وسطوته إلا أهل
الجهل بالله، وقد قال الله تعالى لأعلمِ الخلق به، وأقربهم إليه وسيلة: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) وقال يوسف
الصديق: (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) [يوسف: ٣٣] وكانت عامة يمين رسول الله: «لا ومقلب القلوب»([89]) وقال: «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن
عز وجل، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» ثم قال: «اللهم
مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك، اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك»([90])([91]).
وقال ؒ في البدائع: «شُدّوا بنيان العزم
بهجر المألوفات والعوائد، وقد استحكم البناء، فحينئذ أفرغوا عليه قطر الصبر. وهكذا
بنى الأولياء قبلكم، فجاء العدو فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا.
لقد ضاقت ايام الموسم فأسرعوا بالإبل لا
تفتكم الوقفة. لا تحد وما لك بعير، ولا تمد القوس وما لها وتر.
كم بذل نفسه مراء ليمدحه الخلق؛ فذهبت
نفسه فانقلب المدح ذمًّا، ولو بذلها لله لبقيت ما بقى الدهر. وعمل المرائي بصلَةٌ
كلها قشور، والمرائي يحشو جراب الزوادة رملًا يثقله في الطريق وما ينفعه.
ولما أخذ دود القز ينسج، أقبلت العنكبوت
تتشبه به، وقالت: لك نسج ولي نسج. فقالت دودة القز: ولكن نسيجي أردية الملوك،
ونسجك شبكة الذباب، وعند مسّ النسج يتبين الفرق.
إذا اشتبكت دموع في خدود
|
|
تبين من بكا ممن تباكا
|
شجرة الصنوبر تثمر في ثلاثين سنه، وشجرة
الدباء تصعد في أسبوعين، فتقول للصنوبرة: إن الطريق التي قطعتها في ثلاثين سنة؛
قطعتها في أسبوعين، ويقال لي: شجرة، ولك: شجرة. فقالت لها الصنوبرة: مهلًا، حتى
تهب رياح الخريف، فإن ثبتِّ لها تَمَّ فخرُك.
لقد كان التصوف والفقر في مواطن القلوب،
فصار في ظواهر الثياب، لقد كان خرقة؛ فصار حرفه، فغير زيّك أيها المرائي، فإنه
يصبح بك: خذوني!»([92]).
عاشرًا: البحث الصادق عن التوفيق والعمل
لاستجلابه.
وهذا باب واسع ويجمعه علمه وعقد قلبه
بأن عقد الأمور وحلّها ومقاليدها وملكوتها هو بيد رب العالمين. فيعمل بقلبه
وجوارحه على إرضائه حتى يسدده ويوفقه ويمنحه ويعطيه ويرفعه ويهديه، ويدفع عنه
الأذى قبل نزوله ويرفعه بعد حَمِّه ووقوعه.
وقد ذكر الإمام ابن القيم جملة وصايا
نافعة نفيسة هي خلاصة علمه وتجربته ونصحه، فقال ؒ تحت قاعدة أصل التوفيق:
«قاعدة أساس كل خير أن تعلم أن ما شاء
الله كان وما لم يشأ لم يكن، فتتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عليها،
وتتضرع اليه أن لا يقطعها عنك، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته فتبتهل اليه أن يحول
بينك وبينها، ولا يكلك في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسك.
وقد أجمع العارفون على أن كل خير فأصله
بتوفيق الله للعبد، وكل شر فأصله خذلانه لعبده. وأجمعوا أن التوفيق أن لا يكلك
الله نفسك، وأن الخذلان أن يخلي بينك وبين نفسك. فإذا كان كل خير فأصله التوفيق
وهو بيد الله لا بيد العبد.
ومفتاح التوفيق الدعاء والافتقار وصدق
اللجأ والرغبة والرهبة إليه، فمتي أعطى العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يفتح
له، ومتى أضله عن المفتاح بقي باب الخير مرتجًا دونه.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:
«إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل همّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة
معه».
وعلى قدر نيّة العبد وهمته ومراده
ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على
قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله
سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان
في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم، وما أُتي من أُتي إلا من قبل إضاعة الشكر
وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه ألا بقيامه بالشكر وصدق
الافتقار والدعاء. ومِلاك ذلك الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا
قطع الرأس فلا بقاء للجسد.
وما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة
القلب والبعد عن الله، وقد خُلقت النار لإذابة القلوب القاسية. وأبعد القلوب من
الله القلب القاسي. وإذا قسى القلب قحطت العين.
وقسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت
قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة. كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه
الطعام والشراب، فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ.
ومن أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على
شهوته، فالقلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها. والقلوب آنية الله
في أرضه، فأحبها إليه أرقها وأصلبها وأصفاها.
ومن أشغل قلبه بالله والدار الآخرة جال قلبه
في معاني كلام الله وآياته المشهودة، ورجع الي صاحبه بغرائب الحكم وطرف الفوائد.
وإذا غُذّي القلب بالتذكّر، وسقى بالتفكّر، ونقّي من الدغل؛ رأى العجائب، وأُلهم
الحكمة.
وليس كل من تحلّى بالمعرفة والحكمة
وانتحلها كان من أهلها، بل أهل المعرفة والحكمة الذين أحيوا قلوبهم بقتل الهوى،
وأما من قتل قلبه فأحيى الهوى فالمعرفة والحكمة عارية على لسانه.
وخراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته
من الخشية والذكر، وإذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة، وإذا
رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد.
والشوق إلى الله ولقائه نسيم يهب على
القلب، يروّحُ عنه وهَجَ الدنيا. ومن وطّن قلبه عند ربه؛ سكن واستراح، ومن أرسله
في الناس؛ اضطرب واشتد به القلق.
هذا ولا تدخل محبة الله في قلب فيه حب
الدنيا إلا كما يدخل الجمل في سمّ الإبرة([93]) وإذا أحب الله عبدًا اصطنعه لنفسه، واجتباه لمحبته،
واستخلصه لعبادته، فشغل همه به ولسانه بذكره وجوارحه بخدمته([94]) والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ
كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ
كما يجوع البدن وطعامه وشرابه المعرفة([95]) والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة.
وإياك والغفلة عمن جعل لحياتك أجلًا،
ولأيامك وأنفاسك أمدًا، ومن كل ما سواه بدّ([96]).
ومن توكل على الله ووثق بتدبيره له وحسن
اختياره له، فألقى كنفه بين يديه، وسلم الأمر إليه، ورضي بما يقضيه له؛ استراح من
الهموم والغموم والأحزان. ومن أبي إلا تدبيره لنفسه؛ وقع في النكد والنصب وسوء
الحال والتعب، فلا عيش يصفو ولا قلب يفرح ولا عمل يزكو ولا أمل يقوم ولا راحة تدوم.
والله سبحانه سهّل لخلقه السبيل إليه،
وحجبهم عنه بالتدبير، فمن رضي بتدبير الله له وسكن إلى اختياره وسلّم لحكمه؛ أزال
ذلك الحجاب، فأفضى القلب إلى ربه واطمأن إليه وسكن.
والمتوكل لا يسأل غير الله، ولا يرد على
الله، ولا يدخر مع الله([97]).
ومن شُغل بنفسه شُغل عن غيره، ومن شُغل
بربه شغل عن نفسه.
والاخلاص هو ما لا يعلمه مَلَك فيكتبه،
ولا عدو فيفسده، ولا يعجب به صاحبه فيبطله.
والرضا سكون القلب تحت مجارى الأحكام،
والناس في الدنيا معذبون على قدر هممهم بها، وللقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع
لها، ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية:
فالسافلة: دنيا تزين له، ونفس تحدثه،
وعدو يوسوس له، فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها.
والثلاثة العالية: علم يتبيّن له، وعقل
يرشده، وإله يعبده. والقلوب جوالة في هذه المواطن.
واتّباع الهوى وطول الأمل مادة كل فساد،
فانّ اتّباع الهوى يعمي عن الحق معرفة وقصدًا، وطول الأمل ينسي الآخرة ويصدّ عن
الاستعداد لها.
ولا يشم عبد رائحة الصدق وهو يداهن
نفسه أو يداهن غيره، وإذا أراد الله بعبد خيرًا جعله معترفًا بذنبه، ممسكًا
عن ذنب غيره، جوادًا بما عنده، زاهدًا فيما عنده وعند غيره، محتملا لأذى غيره. وإن
أراد به شرًّا عكس ذلك عليه.
والهمة العليّة لا تزال حائمة حول ثلاثة
أشياء: تتعرف لصفة من الصفات العليا تزداد بمعرفتها محبة وإرادة، وملاحظة لمنّة
تزداد بملاحظتها شكرًا وطاعة، وتذكّرًا لذنب تزداد بتذكره توبة وخشية. فإذا تعلقت
الهمة بسوى هذه الثلاث جالت في أودية الوساوس والخطرات.
ومن عشق الدنيا نظرت إلى قدرها عنده
فصيّرته من خدمها وعبيدها وأذلته، ومن أعرض عنها نظرت إلى كِبَرِ قدره فخدمته وذلّت
له.
وإنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم
الجادة وسير الليل، فإذا حاد المسافر عن الطريق ونام الليل كله؛ فمتى يصل الى
مقصده؟!([98]).
الحادي عشر: ــ وهو أعظم طريق لتحصيل عبودية
الافتقار ــ: تحقيق العبودية لله والاستعانة به.
كما قال سبحانه: ﴿ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ﴾ [الفاتحة: ٥] قال رسول الله ﷺ: «ما قال عبد قط إذا أصابه
هَمُّ وحَزَنٌ: اللهمِ إني عبدُك وابنُ عبدك وابنُ أَمَتك، ناصيتي بيدكِ، ماضٍ
فيَّ حُكْمُك، عدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمَّيْتِ به نفسَك، أو أنزلتَه
فيِ كتابك، أو عَلّمته أحدًا من خَلْقك، أو استأثرت به في علم الغيبِ عندك، أن
تجعل القرآنَ ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاءَ حزني، وذَهَاب هَمِّي، إلاَّ أذهب الله
عز وجل هَمَّه، وأبدله مكان حُزْنه فَرَحًا» قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا
أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: «أجَلْ، ينبغي لمن سمعهنَّ أن يتعلمهنّ»([99]).
«فتضمن هذا الحديث العظيم أمورًا من
المعرفة والتوحيد والعبودية، منها أن الداعي به صدّر سؤاله بقوله: إني عبدك ابن
عبدك ابن أمتك، وهذا يتناول من فوقه من آبائه وأمهاته الى أبويه آدم وحواء، وفي
ذلك تملّق له، واستخذاء بين يديه، واعتراف بانه مملوكه، وآباؤه مماليكه، وأن العبد ليس
له غير باب سيده وفضله وإحسانه، وأن سيده إن أهمله وتخلى عنه هلك، ولم يؤوه أحد
ولم يعطف عليه، بل يضيع أعظم ضيعة.
فتحت هذا الاعتراف أني لا غنى بي عنك
طرفة عين، وليس لي من أعوذ به وألوذ به غير سيدي الذي أنا عبده. وفي ضمن ذلك:
الاعتراف بأنه مربوب مدبَّر مأمور منهي، إنما يتصرف بحكم العبودية، لا بحكم
الاختيار لنفسه، فليس هذا شأن العبد، بل شأن الملوك والأحرار، وأما العبيد فتعرفهم
على محض العبودية. فهؤلاء عبيد الطاعة المضافون إليه سبحانه في قوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وقوله: (وعباد الرحمن الذين
يمشون على الارض هونا) ومن عداهم عبيد القهر والربوبية، فإضافتهم إليه كإضافة سائر
البيوت إلى ملكه، وإضافة أولئك كإضافة البيت الحرام إليه، وإضافة ناقته إليه،
وداره التي هي الجنة إليه.
وإضافة عبودية رسوله إليه بقوله: (وإن كنتم في
ريب مما نزلنا على عبدنا)، (سبحان الذي أسرى بعبده)، (وأنه لما قام عبد الله
يدعوه) [الجن: ١٩] وفي التحقق بمعنى قوله: «إني عبدك» التزام
عبوديته من الذل والخضوع والإنابة، وامتثال أمر سيده، واجتناب نهيه، ودوام
الافتقار إليه، واللجأ إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وعياذ العبد به
ولياذه به.
وفيه أيضًا: أني عبد من جميع الوجوه
صغيرًا وكبيرًا، حيًّا وميتًا، ومطيعًا وعاصيًا، معافى ومبتلى، بالروح والقلب
واللسان والجوارح.
وفيه أيضًا: أن مالي ونفسي ملك لك، فإن
العبد وما يملك لسيده. وفيه أيضًا: أنك أنت الذي مننت عليّ بكل ما أنا فيه من
نعمة، فذلك كله من إنعامك على عبدك.
وفيه أيضًا: أني لا أتصرف فيما خولتني
من مالي ونفسي إلا بأمرك، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده. وأني لا أملك
لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
فان صح له شهود ذلك([100])؛ فقد قال: إني عبدك حقيقة.
ثم قال: «ناصيتي بيدك» أي أنت
المتصرف في تصرفي كيف تشاء، لست أنا المتصرف في نفسي. وكيف يكون له في نفسه تصرف
مَنْ نفسُه بيد ربه وسيده، وناصيته بيده، وقلبه بين أصبعين من أصابعه، وموته
وحياته وسعادته وشقاوته وعافيته وبلاؤه كله إليه سبحانه، ليس إلى العبد منه
شيء، بل هو في قبضة سيده أضعف من مملوك ضعيف حقير ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له
تحت تصرفه وقهره، بل الأمر فوق ذلك.
ومتى شهد العبد أن ناصيته ونواصي
العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء؛ لم يخفهم بعد ذلك، ولم يرجُهم، ولم
يُنزلهم منزلة المالِكين، بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين، المتصرفُ فيهم سواهُم،
والمدبرُ لهم غيرهم. فمن شهدت نفسه هذا المشهد صار فقره وضرورته إلى ربه وصفًا
لازمًا له، ومتى شهد الناسَ كذلك؛ لم يفتقر إليهم، ولم يعلّق أمله ورجاءه بهم، فاستقام
توحيده وتوكله وعبوديته.
ولذا قال هود عليه السلام لقومه: (اني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة الا هو آخذ
بناصيتها ان ربي على صراط مستقيم)
وقوله: "ماض فيّ حكمك، عدل فيّ
قضاؤك" تضمّن هذا الكلام أمرين: أحدهما مضاء حكمه في عبده. والثاني: يتضمن
حمده وعدله. وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وهذا معنى قول نبيه هود عليه السلام:
(ما من دابة الا هو آخذ بناصيتها) ثم قال: (ان ربي على صراط مستقيم) أي مع كونه مالكًا قاهرًا متصرفًا في عباده، نواصيهم بيده،
فهو على صراط مستقيم، وهو العدل الذي يتصرّف به فيهم. فهو على صراط مستقيم في قوله
وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه، فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل،
وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسدة، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته،
وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته.
وفرّق بين الحكم والقضاء، وجعل المضاء
للحكم، والعدل لقضاء. فإن حكمه سبحانه يتناول حكمه الديني الشرعي وحكمه الكوني
القدري، والنوعان نافذان في العبد، ماضيان فيه، وهو مقهور تحت الحكمين قد مضيا فيه
ونفذا فيه، شاء أم أبى. لكن الحكم الكوني لا يمكنه مخالفته، وأما الديني الشرعي
فقد يخالفه.
ولما كان القضاء هو الإتمام والإكمال،
وذلك إنما يكون بعد مضيّه ونفوذه؛ قال: «عدل فيّ قضاؤك» أي الحكم الذي
أكملته وأتممته ونفذته في عبدك عدل منك فيه. وأما الحكم فهو ما يحكم به سبحانه،
وقد يشاء تنفيذه وقد لا ينفذه، فان كان حكمًا دينيًّا فهو ماض في العبد، وإن كان
كونيًّا فإن نفذه سبحانه مضي فيه، وإن لم ينفذه اندفع عنه. فهو سبحانه يقضي ما
يقضى به، وغيرُه قد يقضي بقضاء ويقدّر أمرًا ولا يستطيع تنفيذه. وهو سبحانه يقضي
ويمضي، فله القضاء والإمضاء.
وقوله: «عدل فيّ قضاؤك» يتضمن
جميع أقضيته في عبده من كل الوجوه، من صحة وسقم، وغنىً وفقر، ولذة وألم، وحياة
وموت، وعقوبة وتجاوز وغير ذلك، قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم) وقال: (وان تصبهم
سيئة بما قدمت أيديهم فان الانسان كفور) [الشورى: ٤٨] فكل ما يقضي به على العبد فهو عدل فيه.
وقوله: «أسألك بكل اسم هو لك..» إلى
آخره. توسّل إليه بأسمائه كلها ما علم العبد منها وما لم يعلم. وهذه أحب
الوسائل إليه، فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه.
وقوله: «أن تجعل القرآن ربيع قلبي
ونور صدري» الربيع هو المطر الذي يحيى الأرض، شبّه القرآن به لحياة القلوب به،
وكذلك شبهه الله بالمطر، وجمع بين الماء الذى تحصل به الحياة والنور الذى تحصل به
الاضاءة والاشراق، كما جمع بينهما سبحانه في قوله: (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا
رابيا ومما توقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله) وفى قوله: (مثلهم
كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) ثم قال: (أو كصيب من
السماء) وفي قوله: (الله نور السموات والارض مثل نوره) ..الآية. ثم قال: (ألم تر
أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه).. الآية.
فتضمن الدعاءُ أن يحييَ قلبه بربيع القرآن، وأن
ينوّر به صدره، فتجتمع له الحياة والنور، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه
وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) [الأنعام: ١٢٢].
ولما كان الصدر أوسعُ من القلب كان
النور الحاصل له يسري منه إلى القلب، لأنه قد حصل لما هو أوسع منه. ولمّا كانت
حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه إلى الصدر ثم إلى الجوارح
سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها. ولمّا كان الحزن والهمّ والغمّ يضاد حياة
القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن، فإنها أحرى أن لا تعود. وأما إذا
ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك.
والمكروه الوارد على القلب إن كان من
أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم»([101]).
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله في عقيدته
في وصف الله تعالى: «ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين» أي: لا غنى للعبد مهما
كان، فإنه لا غنى له عن ربه، فيلجأ إليه، ويتوسل إليه، ويتضرع بين يديه، ويسأله
سبحانه وتعالى. ولا أعظم ولا أيسر في الوصول إلى رب العالمين وإلى فضله من باب
الافتقار إلى الله جل وعلا؛ فإن العبد إذا افتقر إلى الله جل وعلا وأظهر
افتقاره إلى ربه وأيقن أنه ما من ذرة في بدنه إلا وهي مفتقرة إلى الله جل وعلا؛
كان ذلك من أسباب الخير له.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى: «من رغب في السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية»([102]) فالسعادة الأبدية الدائمة التي لا تنقطع في الدنيا
والآخرة هي في لزوم عتبة العبودية، ولزوم عتبة العبودية تحصل للعبد بكمال
الذل لله جل وعلا، وغاية الحب له سبحانه وتعالى.
ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، لا في
ليل ولا في نهار، ولا في يقظة ولا في منام، ولا في صحة ولا في مرض واعتلال، ولا في
غنى ولا في افتقار، فالعبد مفتقر إلى الله جل وعلا فقرًا ذاتيًا لا يمكن أن
ينفك عنه، لكن الناس يغفلون ويظنون أنهم أغنياء عن الله عز وجل بما مكنهم، والإنسان
إذا بُلي بداء الاغتناء وشعر أنه غني عن الله عز وجل حصل منه شر عظيم، كما قال
تعالى: { كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى *
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } [العلق:
٦، ٧]، يعني: إذا رأى غنى نفسه عن الله، لكن مادام يرى فقر
نفسه إلى ربه جل وعلا فإنه لا يمكن أن يصيبه الطغيان والخروج عن مقتضى العبودية.
قال الطحاوي رحمه الله: «ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين»
والحين: الهلاك»([103]).
الثاني عشر: التّفقُّهُ في معاني
الأسماء الحسنى، ودعاء الله تعالى بها، والقيام بما تقتضيه من مقامات العبودية
والإجلال والإكرام.
إنّ علم أسماء الرحمن جل وعلا وصفاته هو
أشرف العلوم بإطلاق، فهو متعلق بالمحبوب الأعظم والخالق الأوحد والملك الفرد
والإله الحق، فله سبحانه كل صفات الجمال ونعوت الجلال، ليس كمثله شيء وهو السميع
البصير.
ومتى ما تفكر المؤمن في معاني الأسماء
والصفات لرب العالمين قرعت قلبه ــ ولا بد ــ أنوار الهيبة والمحبة والإجلال والتعظيم،
فخرج من ذلك بافتقار حقيقي واضطرار لازب ومسكنة تامّة وخشية راسخة مع حب تامّ
ورجاء لا ينقضي وثناء سابغ وفرح غير محدود وسرور يكاد يظن معه أنه قد خُصَّ برقيقة
من الجنة ووقت من أوقات أهلها، نسأل الله الكريم الرحيم من واسع فضله وجزيل عطائه وإحسانه.
ودعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى له شأن
عظيم عند المرسلين، وهو صريح أمر رب العالمين، قال سبحانه وبحمده: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) [الأعراف: ١٨٠].
قال الخطابي: «معنى الدعاء: استدعاء
العبدِ ربَّه عزَّ وجل العناية، واستمدادُه منه المعونة، وحقيقته إظهار الافتقار
إلى الله تعالى، والتبرّؤ من الحول والقوة. وهو سمة العبودية، واستشعارُ الذلة
البشريَّة، وفيه معنى الثناء على الله عزَّ وجل، وإضافة الجود والكرم إليه»([104]).
«ومن أسماء الله تعالى المتعلقة بافتقار
عبده إليه: الرزاق. وهو مبالغة من رازق للدلالة على الكثرة.
والرزاق من أسمائه سبحانه، قال تعالى: ﴿{إن الله هو الرزاق}، {وما من دآبة في
الأرض إلا على الله رزقها} [هود: ٦] وقال ﷺ: «إن الله هو المسعِّر القابض الباسط الرازق»([105]).
ورزقه لعباده نوعان: عام وخاص.
فالعام: إيصاله لجميع الخليقة جميع ما
تحتاجه في معاشها وقيامها. فسهّل لها الأرزاق، ودبرها في أجسامها، وساق إلى كل عضو
صغير وكبير ما يحتاجه من القوت، وهذا عام للبر والفاجر والمسلم والكافر، بل
للآدميين والجن والملائكة والحيوانات كلها. وعام أيضًا من وجه آخر في حق
المكلّفين، فإنه قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه، وقد يكون من
الحرام ويسمى رزقًا ونعمة بهذا الاعتبار، ويقال: رزقه الله، سواء ارتزق من حلال أو
حرام، وهو مطلق الرزق.
وأما الرزق المطلق: فهو النوع الثاني،
وهو الرزق الخاص، وهو الرزق النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو الذي على
يد رسول الله ﷺ، وهو نوعان:
رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك،
فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألهة لله
متعبدة، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها.
ورزق البدن بالرزق الحلال الذي لا تبعة
فيه، فإن الرزق الذي خص به المؤمنين والذي يسألونه منه شامل للأمرين، فينبغي للعبد إذا
دعا ربه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين، فمعنى (اللهم ارزقني) أي ما
يصلح به قلبي من العلم والهدى والمعرفة ومن الإيمان الشامل لكل عمل صالح وخلق حسن،
وما به يصلح بدني من الرزق الحلال الهنيّ الذي لا صعوبة فيه ولا تبعة تعتريه.
ومن أسمائه سبحانه المتعلقة بافتقار عبده
إليه: الحي، القيوم. قال الله تعالى: {الله لا إله هو
الحي القيوم} وقال سبحانه: {آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال عز وجل:
{وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً} [طه: ١١١].
وهما من أسماء الله الحسنى. و(الحي
القيوم) جمعها في غاية المناسبة كما جمعها الله في عدة مواضع في كتابه، وذلك أنهما
محتويان على جميع صفات الكمال، فالحي هو كامل الحياة، وذلك يتضمن جميع الصفات
الذاتية لله كالعلم، والعزة، والقدرة والإرادة، والعظمة، والكبرياء، وغيرها من
صفات الذات المقدسة. والقيوم هو كامل القيّوميّة، وله معنيان:
هو الذي قام بنفسه، وعظمت صفاته، واستغنى
عن جميع مخلوقاته. وقامت به الأرض والسماوات وما فيهما من المخلوقات، فهو الذي
أوجدها وأمدّها وأعدها لكل ما فيه بقاؤها وصلاحها وقيامها، فهو الغني عنها من كل
وجه، وهي التي افتقرت إليه من كل وجه.
فالحي والقيوم هو من له كل صفة كمال،
وهو الفعال لما يريد»([106]).
«وليعلم المؤمن المفتقر إلى ربه أنه لا
حجاب بينه وبين ربه، فمتى أراد ربه دعاه وسأله، والله يحب أن يُسأل ويدعى.
واعلم أن دعاء المسألة متضمن لدعاء
العبادة. فالإنسان إذا سأل شيئًا فإنه يخضع ويذل ويستكين، وهذه هي العبادة، فيكون
في ضمن السؤال عبادة.
ومن هنا حرمت المسألة، أي: أن يسأل
الإنسان أحدًا من الخلق؛ لأنه يذل له قلبه، ويستكين له، ويخضع له، وهذا لا يجوز أن
يكون إلا لله جل وعلا؛ لأنه عبادة، فيكون تحريم المسألة صيانة للإنسان، وإكرامًا
له من الله جل وعلا، أكرمه الله بأن لا يخضع لمخلوق مثله، ويكون خضوعه لله وحده،
ويكون استغناؤه بالله وحده، ويكون افتقاره إلى الله وحده، والافتقار إلى الله
عبادة، أما الافتقار إلى المخلوق فهو شرك.
فهذا معنى كون دعاء المسألة يتضمن
العبادة، أما دعاء العبادة فإنه يستلزم دعاء المسألة، وذلك أن المصلي والمزكي والمتصدق
والذاكر والتالي يطلب بفعله هذا الثواب، فيطلب من الله أن يثيبه على ذلك، وهذا هو
دعاء المسألة؛ لكونه يطلب الثواب أو يطلب الالتجاء والاستعاذة من العذاب.
ومن المعلوم أن المخلوق لا بد له من طلب
النفع الذي ينفعه، ومن الهرب مما يضره، يضطر إلى هذا اضطرارًا، ولا بد له من ذلك.
وكذلك الأسباب التي تجلب له النفع هو بحاجة إليها، وكذلك الأسباب التي بها يدفع
الضر والعذاب والألم وغيرها، فالعبد مضطر إلى ما ينفعه، ومضطر إلى دفع ما يضره،
ومضطر إلى تحصيل السبب الذي به جلب النافع، وإلى تحصيل السبب الذي به دفع المضر،
فهو بأمس الحاجة إلى هذه الأمور، وهذه كلها يجب أن تطلب من الله وحده، ولا تطلب من
المخلوق.
فيتبين لنا أن الأمر كله بيد الله، وأن
الإنسان يجب أن يكون خاضعًا لله، وأن يكون عبدًا لله من جميع الوجوه، والدعاء داخل
في هذا، سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة.
قال الشارح([107]): فتبين بهذا قول شيخ الإسلام: إن دعاء العبادة مستلزم
لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال الله تعالى عن
خليله: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي
شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [مريم:48-49]
].
يعني: أن هذه الآية بينت أن الدعاء
عبادة بأنواعه؛ لأنه -أولاً- قال: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } ، ثم بعد
ذلك قال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ ) فبين أن الدعاء عبادة، وأنهم إذا دعوا شيئًا فقد عبدوه،
وهذا كثير في القرآن»([108]).
والدعاء الذي يلامس الشغاف هو الدعاء
الحقيق بالإجابة، فهو متضمن لتمام الافتقار، إذ هو عبد فقير قليل ضعيف عاجز
يدعو ويسأل ربه وإلهه الغني القادر البر الرحيم.
«وأصل الشرك والكفر والجهل والجاهلية
عند النَّاس هو شعورهم بأن لهم حولًا أو طولًا أو قوة ليست لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،
وليست تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، فلو شعر النَّاس أو علموا حقيقة حالهم،
وأنهم فقراء إِلَى الله تبارك وتعالى في كل نَفَس يتنفسونه، وفي كل لحظة، وأنه لا
يمكن في أية حال من الأحوال أن يستقلوا بأنفسهم طرفة عين، لكانت عبوديتهم لله
تَبارك وتعالَى غير ما نشاهد وغير ما نرى، ولهذا كَانَ من دعاء النبي ﷺ استعاذته
أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، وهكذا المؤمنون، فلو وكلنا الله سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا.
ولكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي
يدبرنا ويسيرنا بفضله، المؤمن والكافر، لكن المؤمن يستشعر فقره: إِلَى الله تبارك
وتعالى في كل شيء، فيكون مقتضى ذلك الشعور أن يعبد الله تبارك وتعالى وحده،
ولهذا فالمؤمن رغم أنه يأخذ بالأسباب، لكن لا يجوز له أن يعلق قلبه بالأسباب، أو
أن يخاف من بعض ما يخيفه، وهو من الأسباب أيضًا، لكن لا يعلق خوفه بالأسباب،
فمنتهى الرجاء ومنتهى الخوف يكون إِلَى الله، ولهذا نقول: «أعوذ برضاك من سخطك،
وبمعافاتك من عقوبتك»([109]).
وأصل معرفة العبودية أن تكون مبنية
عَلَى الافتقار إِلَى الله تبارك وتعالى، ومن الافتقار إِلَى الله: أن القلوب لا
تطمئن ولا تهدأ ولا تسكن ولا ترتاح إلا بأن تعرفه وأن تعبده عَزَّ وَجَلَّ، فإن من
لم يعرف الله عَزَّ وَجَلَّ حق المعرفة، ويعبده حق العبادة كَانَ فيه من الشقاء
والألم، والنكد والنغص بقدر جهله بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا نجد عصاة
المؤمنين أحسن حالًا من الكفار، والكفار شر من ذلك.
فكلما نقصت من القلب هذا المعرفة نقصت
السعادة والراحة والطمأنينة، وأكثر النَّاس سعادة وطمأنينةً في هذه الدنيا هم أكثرهم
إيمانًا بالله، ومعرفةً به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو جاءتهم مصائب الدنيا جميعًا
ما أقلقتهم لحظةً واحدة.
والمؤمن قد يحزن أو يغتم، ولكن ذلك لا
يفقده سعادته وطمأنينته ورضاه بأن كل هذا من الله وإلى الله، وأن له في ذلك الأجر
مهما عظمت المصيبة أو الفتنة، فإنه يرى أن ذلك لم يخرج عن كونه دافعًا وجالبًا
للطمأنينة، وللراحة التي يجدها.
وأما الكافر فإن قلبه لا يحتمل ذرة من
البلاء الذي يصيب المؤمن إلا ويقنط ويجزع ويسخط ويشكو ربه إِلَى النَّاس ويكفر
بنعم الله جميعًا من أجل بليّة اُبتِلَي بها، لا تعدل ولا تزن شيئًا قليلًا من نعم
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنعمها عليه، فيجب عَلَى الإِنسَان استشعار أنه
فقير إِلَى الله، وأن يكون شعوره ومعرفته بأن قلبه لا يطمئن ولا يسكن ولا يرتاح
إلا إذا عرف ربه وعبده واتبع مرضاته، واجتنب مساخطه، هذا هو الذي به تتحقق
العبودية الكاملة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والمؤمن لا يستغني عن عصمة الله تعالى
وحفظه طرفة عين، فقد كان من دعائه ﷺ: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي
شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين»([110])([111]).
«فالأنبياء وأتباعهم قالوا هذا لعلمهم
شدة فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه، أمَّا أولئك فقد استغنوا عن الله تبارك وتعالى،
فلا يذكرون الله إلا قليلًا، ولا يدعونه ولا يلجأون إليه.
ولهذا كان السلف الصالح يدعون الله في كل
وقت، ويحثون أبناءهم وتلاميذهم والمسلمين على دعاء الله حتى قال قائلهم: «إني
لأدعو الله ولو كان في شراك نعلي» فلو انقطع شراك نعله لدعا الله سبحانه وتعالى.
فادعُ الله أيها العبد فأنت فقير إليه في كل لحظة، وفي كل حين وفي كل وقت،
لكن أولئك يظنون أنهم في غنى عن الله، ولهذا تمر بهم الأيام ذوات العدد ولا يدعون
الله سبحانه وتعالى فيها، حتى وإن عبدوه.
ومن الناس من يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض،
ولكنه لا يدعو الله، لأن الشيطان قد أغفل قلبه وأشعره بأنه في غنىً عن دعاء الله
تبارك وتعالى.
والمقصود أن العبد المؤمن إذا شهد
هذا الحال من الافتقار ومراقبة الله له ارتفع إيمانه، وما من قلب يرقى في درجات
الإيمان وقطعيات اليقين إلا ويشهد ذلك بمقدار رقيّه ورسوخ إيمانه ويقينه»([112]).
الثالث عشر: من وسائل تحصيل عبودية
الافتقار إلى الغني الغفار مجاهدة النفس بالقناعة.
فالقناعة كنز لا يفنى، وهي من فروع
الزهد في الدنيا، والمؤمن يسأل الله غنىً لا يطغيه وصحة لا تلهيه.
قال الله تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) والحياة الطيبة هي القناعة، كما قال عليّ
(92) وابن عباس (93) رضي الله عنهم.
وقال العثيمين رحمه الله تعالى في هذه
الآية: "لم يقل: فلننعمن أبدانهم، بل قال: (فلنحيينه حياة طيبة) وذلك بما يجعل الله في قلوبهم من الأنس وانشراح الصدر
وطمأنينة القلب وغير ذلك، حتى إن بعض السلف قال: «لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما
نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف». يعني من انشراح الصدر ونور القلب والطمأنينة
والسكون. أسأل الله أن يشرح قلبي وقلوبكم للإسلام، وينورها بالعلم والإيمان، إنه
جواد كريم»([113]).
وكان رسول الله ﷺ يحث على القناعة ويدعو
إليها بحاله ومقاله، فقد كان إمام الزاهدين ونبراس ذوي العقل والقناعة، قد عُرضت
عليه جبال الذهب فقنع بالكفاف، فكان يربط الحجر على بطنه من الجوع، وينام على
الحصير، ويلبس ما تيسر، ويسكن كسكن غبراء الناس وهو سيد ولد آدم، وخُيّر بين الملك
والنبوة وبين العبودية والرسالة فتواضع للعبودية دون الملك، وهذا في غاية القناعة
التي ليس وراءها مرمى.
وكان ينصح لأمته بالبُلغة دون الترف،
فعن عبيد الله بن محصن ؓ أَنَّ رَسولَ الله ﷺ قال: «مَنْ أصبَحَ منكم
آمِنا في سِرْبه([114])، مُعافى في جَسَدِهِ، عندهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما
حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها»([115]) أي كأنما جمعت له الدنيا بأسرها وأُعطيها لوحده دون
الناس، لأن قيام الدنيا على هذه الثلاث، فمتى قامت للعبد فهو كملوك الدنيا في
الحقيقة، بل عيشه أطيب، إذ لم يزيدوا عليه إلا بالحطام الملهي والغم الملازم
والحساب الباقي.
وعن عبد الله بن عمرو بن
العاص ¶ أَنَّ رَسولَ الله ﷺ قال: «قد أفْلَحَ مَنْ أسلم، ورُزِقَ كفافا،
وقَنَّعه الله بما آتاه»([116]).
وعن فضالة بن عبيد ؓ: أنه سمع رسول
الله ﷺ يقول: «طُوبى لِمنْ هدِيَ للإسلام، وكان عَيْشُه كَفَافا وَقنِعَ»([117]).
وعن أبي سعيد الخدري ؓ أنَّ ناسًا من
الأنصار سألوا رسولَ الله ﷺ فأَعْطَاهم، ثم سألوه فأَعْطَاهم، ثم سألوه فأعطاهم،
حتى إذا نَفِذَ ما عِنْدَهُ قال: «ما يكون عنْدي من خير فلَنْ أدَّخِرَهُ عنكم،
ومَنْ يَسْتَعِفف يُعِفُّه الله، ومَن يستَغْنِ يُغْنهِ الله، ومن يتصبَّر
يُصَبِّره الله، وما أُعْطِي أحد عطاء هو خَير وأوسَع من الصبر» متفق عليه([118]).
وعن أبي أمامة ؓ قال: سمعت رسول الله ﷺ
يقول: «أغبطُ الناس عندي مؤمن خفيف الحاذ([119]) ذو حظ من صلاة وكان رزقه كفافًا فصبر عليه حتى يلقى الله
عز وجل، وأحسن عبادة ربه، وكان غامضًا في الناس([120])، عُجّلتْ منيّته، وقلّ تراثه، وقلّت بواكيه»([121]).
وكان نبي الله ﷺ يوجّه أمته إلى أن
حقيقة الغنى إنما تكون إذا استغنت النفس حتى وإن قلّ عرض الدنيا، فعن أبي هريرة ؓ
قال: إَنَّ رَسولَ الله ﷺ قال: «ليس الغِنى عن كثرة العَرَض([122])، ولكن الغِني غني النفسِ»([123]).
بل كان ينهاهم عن
مسألة الخلق ويوجههم للاستغناء عنهم، فعن الزبير بن العوام ؓ قال: قال رسولُ
الله ﷺ: «لأن يأخذ أحدكُم أحْبُلَهُ([124])، ثم يأتي الجبلَ فيأتي بحُزْمة
من حَطَب على ظهره فيبيعها، خير له من أن يسأل الناس أعْطَوْهُ أم مَنَعوُه»([125]).
وقد أرشد صلوات الله وسلامه وبركاته
عليه إلى وجوب الاستغناء عن الناس وكفّ إراقة ماء الوجه إليهم بالعمل الشريف، فعن
أنس بن مالك ؓ أن رُجلا من الأنصار أتى النبيَّ ﷺ يسأله، فقال: «أمَا في
بيتك شيء؟» قال: بَلَى، حِلْس([126]) نَلْبَسُ بعضَه، ونَبْسُطُ بعضَهُ، وقَعْب([127]) نَشْرَبُ فيه من الماء، قال: «ائتني بهما» فأتاه
بهما، فأخذها رسولُ الله ﷺ بيده، وقال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: أنا
آخذها بدرهم، قال رسول الله ﷺ: «مَنْ يزيد على درهم؟» ــ مرتين أو ثلاثًا
ــ قال رجل: أنا آخذهما بدرهَمْينِ، فأعطاهما إياه. فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاريَّ،
وقال: «اشَترِ بأحدهما طعامًا، فانبِذْه إلى أهلك، واشتر بالآخر قَدُّومًا([128]) فائْتِني به»، فأتاه به، فشَدَّ فيه رسولُ الله ﷺ عودًا بيده، ثم قال:
«اذَهبْ فاحتَطِبْ وَبِعْ، ولا أرَيَنَّكَ خَمْسة عشر يومًا»، ففعل. فجاء وقد
أصاب عشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال له رسولُ الله ﷺ: «هذا
خْير لك من أن تجيء المسألة نُكْتَة في وجهك يومَ القيامة، إن المسألة لا تَصْلُحُ
إلا الثلاث: لذي فقر مُدْقِع([129])، أو لذي غُرْم مُفْظِع([130])، أو لذي دم مُوِجع»([131]).
وتأمّل حكمته ﷺ وعنايته الدقيقة بأسباب
الاستغناء وبحفظ كرامة الرجل، إذ امتنع أوّلًا عن التصدّق عليه رحمة به مما يلحقه
من سؤال الناس وقرعًا لقلبه وتنبيهًا له، ثم ثنّى بسؤاله عما لديه مما يمكن
الاستغناء عنه ــ ولو مؤقتًا ــ، ثم باعها حتى يكون رأس مال تجارته من أصل ماله لا
مال غيره، ثم ساعده بأن يكون سمسارًا متبرّعًا له، ثم انتظر المزايدة حتى طابت نفسه
بالدرهمين الذين قسمهما بين الحاجة الآنية المُلحّة لأهل الرجل، وبين شرائه قدّومًا
يكون معينًا لاحتطابه وعمله، ثم ساعده بربط العود على حديدة القدوم ليكون الفأس
صالحًا للاحتطاب، ثم أمره أن يغيب عنه خمسة عشر يومًا ليقطع رجاءه بالعودة لطلب
الصدقة التي لا ترهق البدن ولا تتعبه وذلك أدعى لنشاطه، حتى إذا عاد بربح الدراهم
التي أغنته ووسعت عليه وعلى أهله وذاق حلاوة جنى الكدّ وربح عرق الجبين ختم له
بالوصية الرائعة المنبهة له ولغيره. فصلوات الله وسلامه وبركاته ما جرى الزمان على
هذا الرسول المعلم والرحيم الشفيق، (لقد جاءكم رسول
من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) [التوبة: ١٢٨].
ووعد من استغنى بسؤال الله عن سؤال بالجنة
فعن ثوبان ؓ أَنَّ رَسولَ الله ﷺ قال: «مَنْ يَكْفُلُ لي أن لا يسأل الناس شيئا
وأتَكَفَّلُ له بالجنّة؟» فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا([132]).
وقال حكيم بن حزام ؓ قال سألتُ
رسولَ الله ﷺ فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني ثم قال لي: «يا
حكيم، إن هذا المال خَضِرٌ حُلْو([133])، فَمَنْ أخذَه بسَخَاوَةِ نفسه بُورِكَ له فيه، ومن أخذه
بأشراف نفسه لم يُبَاركْ له فيه، وكان كالذي يأْكلُ ولا يشبَعُ، واليَدُ العُلْيا
خير من اليد السفلى» قال
حكيم: فقلت: يا رسولَ الله، والذي بَعَثَكَ بالحقِّ لا أرْزَأُ([134]) أحدًا بَعدَكَ شيئًا حتى أُفارِقَ الدنيا. فكان أبو بكر
يدعو حَكيمًا لِيُعطِيَهُ عطاءه، فيأْبى أن يقبلَ منه شيئًا، ثم إن عمر دعاه ليُعْطِيه
عطاءه، فأبى أن يَقْبلَ منه شيئًا، فقال عمر: يا معشر المسلمين، إني أعرض على حكيم
حقَّهُ الذي له مِنْ هذا الفيء، فيأبَى أن يأخذه، فلم يَرْزَأْ حكيم شيئًا أحدًا
من الناس بعدَ رسولِ الله ﷺ حتى تُوفيَ. متفق عليه([135]).
فالأصل في سؤال الناس بلا حاجة التحريم،
فعن أبي هريرة ؓ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَنْ سأل الناس تكُّثرًا([136])، فإنما يسأل جَمْرًا، فليستقِل أو ليستكثر»([137]) وعن قبيصة بن مخارق الهلالي ؓ قال: تحمَّلت حَمَالة([138])، فأتيتُ رسول الله ﷺ أسأله فيها، فقال: «أقِمْ حتى
تأتيَنا الصدقةُ، فنأمُر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة، إنَّ المسألةَ لا تحلّ
إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فَحلَّتْ له المسألة حتى يُصيبَها، ثم يُمْسِكُ،
ورجُل أصابتهُ جائحة([139]) اجتاحت، فحلّتْ له المسألة حتى يُصيب قوَامًا مِنْ عَيْش
ــ أو قال: سِدادًا مِنْ عَيْش ــ ([140]) ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحِجَا([141]) من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلّت له المسألة، حتى
يصيبَ قَوَاما من عَيْش ــ أو قال: سِدَادا من عيش ــ فما سِوَاُهنَّ من المسألة
يا قبيصة سُحْت يأكلها صاحبها سُحْتا»([142]).
وعن عبد الله بن عمر ¶ أن عمر
قال: كان رسولُ الله ﷺ يعطيني العَطَاءَ، فأقول: أعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَر إليه
مِني قال: فقال: «خذه، وإذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مُشْرِف([143]) ولا سائل فَخُذه فَتَمَوَّله، فإن شئتَ كُلْه، وإن شئتَ
تصَدَّقْ به، وما لا فلا تُتْبِعّةُ نَفْسَك» قال سالم بن عبد الله: فلأجل ذلك كان عبد الله
لا يسألُ أحدًا شيئا، ولا يرُدّ شيئا أعْطِيَهُ. متفق عليه([144]) فالمال متى أُخِذ من حلّه بسخاوة نفس بورك لصاحبه فيه،
لا مع الهلع والجزع.
وعن محمد بن كعب القرظي رحمه الله
قال معاوية بن أبي سفيان وهو على المنبر: «أيُّها الناس، إنَّه لا مانع
لما أعطاه الله، لا مُعْطِي لما منع الله، ولا ينفع ذا الَجَدِّ منهُ الَجَدُّ([145])، من يُرِدِ الله به خيرا يُفَقِّهْهُ في الدين» ثم قال: سمعتُ هؤلاء الكلمات من رسول الله ﷺ على هذه
الأعواد([146]).
وعن عمرو بن تغلب ؓ أنَّ رسولَ
الله ﷺ أُتِي بمال ــ أو سَبيْ ــ فقسمه، فأعطى رِجالًا، وترك رِجالًا، فَبَلَغَهُ
أن الذين ترك عَتَبُوا؛ فحمِدَ الله، ثم أثنى عليه، ثم قال: «أما بعدُ، فوالله
إني لأعطي الرَّجلَ، وأدَعُ الرجلَ، والذي أدَعُ أحبُّ إليَّ مِنَ الذي أُعطي،
ولكنِّي أُعطي أقوامًا لِمَا أرى في قلوبهم من الجزَعِ والهَلَع، وأكِلُ أقوامًا
إلى ما جعل الله في قُلُوبِهمْ من الغِنَى والخير، منهم عمرو بن تغلب»
فوالله ما أحِب أن لي بكلمةِ رسولِ الله ﷺ حُمْرَ النَّعَم»([147]).
وكان يرشد أمته إلى توحيد رب العالمين
في السؤال، فكمال التوحيد أن لا يسأل إلا الله، وقد بايع جمعًا من صحابته على أن لا
يسألون الناس شيئًا. وعن عبد الله بن مسعود ؓ قال: قال رسولُ الله ﷺ: «مَنْ
نَزَلَتْ به فَاقَة فأنزلها بالناس لم تُسَدَّ فاقَتُه، ومَنْ نزلتْ به فاقة
فأنزلها بالله فيوشك الله له بِرِزْقِ عاجِل أو آجل»([148]).
وروي أنه ﷺ كان يدعو فيقول: «اللهم
أقنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كل غائبة لي بخير»([149]).
وإن الرضى عن الله هو باب القناعة، فمتى
ولجه المؤمن فقد هبط وادي القناعة الخصيب. فعن ابن عباس قال: قال موسى عليه السلام
حين كلم ربه: أي رب، أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: «أكثرهم لي ذكرًا» قال: أيّ
عبادك أحكم؟ قال: «الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس» قال: رب، أيّ
عبادك أغنى؟ قال: «الراضي بما أعطيته»([150]).
وعن عثمان بن عفان ؓ: أَنَّ رَسولَ
الله ﷺ قال: «ليس لابنِ آدم حقٌّ في سوى هذا الخصال: بيت يسكُنه، وَثوْب يُوارِي
عورتَه، وجِلْفُ الخبزِ والماء»([151]) وقال النضر بن شَميل: جِلْفُ الخبز: يعني ليس معه
إدام. وفي رواية رزين: «وجلف خُبز يَرُدّ بها جَوْعتَهُ، والماء القَراح».
أما الماء القَراح فهو الذي لا يشوبه شيء ولا يخالطه مما يُجعل فيه كالعسل والتمر
والزبيب وغير ذلك مما يُتخذ شرابًا. وفي هذا الحديث غُنيَةٌ ومستمسك للزهاد المقتصدين.
قال المناوي ♫: «قال
حكيم: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.
وقال بِشْر: لو لم يكن في القنوع إلا
التمتع بالعز لكفى.
وقال الشافعي: من غلبت عليه شهوة الدنيا
لزمته العبودية لأهلها، ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع.
وقال بعض العارفين: الطمع طمعان: طمع يوجب
الذل لله، وهو إظهار الافتقار. وغايته العجز والانكسار، وغايته الشرف والعزّ
والسعادة الأبدية. وطمعٌ يوجب الذل في الدارين، وهو رأس حب الدنيا، وحب الدنيا رأس
كل خطيئة، والخطيئة ذل وخزي.
وحقيقة الطمع: أن تعلق همتك وقلبك
وأمَلك بما ليس عندك، فإذا أمطرت مياه الآمال على أرض الوجود، وأُلقي فيها بذر
الطمع؛ بسقت أغصانها بالذل. ومتى طمعت في الآخرة وأنت غارق في بحر الهوى ضللت
وأضللت»([152]).
وقال بشر بن الحارث:
أفادتنا القناعةُ أيَّ عزٍّ
فخذْ منها لنفسِك رأسَ مالٍ
تحزْ
حالين: تُغنى عن بخيلٍ
|
|
ولا عزًّا أعزّ من القناعة
وصيِّر بعدَها التقوَى بضاعة
وتسعدُ في الِجنانِ بصبرِ ساعة
|
وقال آخر:
هـي القنـاعةُ لا تـرضَى بهــا بـدلًا
انظـرْ لمـن ملَــك الدُّنيـا بأجمـعِـها
|
|
فيهــا النعيـمُ وفيهــا راحـةُ
البـدنِ
هـل راح منها بغيــر القطـن والكفـن
|
وقال آخر:
عليك بتقوَى اللهِ واقنعْ برزقِه
ولا تُلهِك الدنيا ولا تطمعْ بها
|
|
فخيرُ عبادِ الله مَن هو قانعُ
فقد يُهلك المغرورَ فيها المطامعُ
|
وما أحسن قول الشافعي:
غنيٌّ بلا مالٍ عن الناسِ كلِّهم
|
|
وليس الغِنى إلا عن الشـيءِ لا به
|
وقال آخر ــ وما أجوده! ــ:
إذا أظمأتك أكفُّ اللئامِ
فكن رجلًا رِجله في الثَّرَى
أبيًّا
لنائلِ ذي ثروةٍ
فإنَّ
إراقةَ ماءِ الحياةِ
|
|
كفَتْك القناعةُ شِبَعًا ورِيَّا
وهامةُ همَّتِه في الثُّريَّا
تَراه بما في يديه أبيّا
دونَ إراقةِ ماءِ المحيَّا
|
والافتقار إلى الله بحر لا ساحل له، وعلى
قدر تحقيقه يكون تحقيق الغنى وإقامة بناء التوحيد في القلب، قال شيخ الإسلام ♫:
«إذا تبين ذلك، فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلًا عظيمًا وهو تفاضلهم
في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص ولهذا كانت إلهية الرب لهم فيها
عموم وخصوص.
ولهذا كان الشرك في هذه الأمة «أخفى
من دبيب النمل»([153]) وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «تَعِسَ عبد الدرهم،
تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس،
وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي، وإن منع سخط»([154]).
فسماه النبي ﷺ
عبدَ الدرهم، وعبد الدينار، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر ما
فيه دعاءً وخبرًا وهو قوله: «تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» والنقش إخراج
الشوكة من الرِّجل، والمنقاش ما تُخرجُ به الشوكةُ.
وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه
ولم يفلح، لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال.
وقد وَصِف ذلك بأنه إذا أعطي رضي وإن
منع سخط، كما قال تعالى: { ومنهم من يلمزك
في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } [التوبة: ٥٨] فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله.
وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو
بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضِيَ، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبدُ ما
يهواه من ذلك، وهو رقيق له. إذ الرِّقُّ والعبودية في الحقيقة هو رقّ القلب
وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبدُه. ولهذا يقال:
العبدُ حُرٌّ ما قنع
|
|
والحرُّ عبدٌ ما طمع
|
وقال الشاعر:
أطعتُ مطامعي فاستعبدتني
|
|
ولو أني قنعت لكنت حرًّا
|
ويقال: الطمع غلّ في العنق، قيد في
الرجل، فإذا زال الغلّ من العنق؛ زال القيد من الرجل.
ويروى عن عمر بن الخطاب ◙ أنه قال:
«الطمع فقر، واليأس غنى، وإن أحدكم إذا يئس من شيء استغنى عنه».
وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن
الأمر الذي ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع فيه، ولا يبقى قلبه فقيرًا إليه ولا إلى من
يفعله. وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه، فإن قلبه يتعلق به، فيصير فقيرًا إلى
حصوله وإلى من يظن أنه سبب في حصوله. وهذا في المال والجاه والصور وغير ذلك. قال
الخليل ﷺ: { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه
واشكروا له إليه ترجعون }. [العنكبوت:
١٧].
فالعبد لا بد له من رزق، وهو محتاج
إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبدًا لله، فقيرًا إليه، وإذا طلبه من مخلوق
صار عبدًا لذلك المخلوق فقيرًا إليه.
ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في
الأصل، وإنما أُبيحت للضرورة، وفي النهى عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن
والمسانيد كقوله ﷺ: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه
مُزعه لحم»([155]) وقال: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألتُه يوم
القيامة خُدوشًا أو خُموشًا أو كُدوشًا في وجهه»([156]) وقوله: «لا تحل المسألة إلا لذي غرم مفظع، أو دم
موجع، أو فقر مدقع»([157]) وبهذا المعنى في الصحيح([158]).
وأوصى خواصّ أصحابه ألا يسألوا الناس
شيئًا وفي المسند: أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إيّاه،
ويقول: «إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئًا»([159]) وفي صحيح مسلم([160]) وغيره عن عوف بن مالك أن النبي ﷺ بايعه في طائفة
وأسرّ إليهم كلمة خفيّة: «أن لا تسألوا الناس شيئًا» فكان بعض أولئك النفر
يسقط السوط من يد أحدهم، ولا يقول لأحد: ناولني إياه.
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق
والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع كقوله تعالى: { فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب } وقول النبي صلى الله
عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فأسال الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"
(142) ومنه قول الخليل: { فابتغوا عند الله الرزق } ولم يقل: فابتغوا الرزق عند
الله، لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند
الله، وقد قال تعالى: { واسألوا الله من فضله }.
والإنسان لابد له من حصول ما يحتاج إليه
من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل
رزقه إلا من الله، ولا يشتكي إلا إليه، كما قال يعقوب عليه السلام: { إنما أشكو
بثي وحزني إلى الله }. [يوسف:
٨٦].
والله تعالى ذكر في القرآن الهجر الجميل
والصفح الجميل والصبر الجميل، وقد قيل: إن الهجر الجميل هو هجر بلا أذى، والصفح الجميل
صفح بلا معاتبة، والصبر الجميل صبر بغير شكوى إلى المخلوق. ولهذا قُرئ على أحمد بن
حنبل في مرضه: إن طاووسًا كان يكره أنين المريض ويقول: إنه شكوى، فما أنّ أحمدُ
حتى مات([161]) رحمه الله ورضي عنه.
وأما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر
الجميل، فإن يعقوب قال: { فصبر جميل }
وقال: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله }. [يوسف: ٨٦].
وكان عمر بن الخطاب ؓ يقرأ في
الفجر بسورة يونس ويوسف والنحل، فمرّ بهذه الآية في قراءته فبكى حتى سُمع نشيجه من
آخر الصفوف.
ومن دعاء موسى: «اللهم لك الحمد،
وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك»([162]).
وفي الدعاء الذي دعا به النبي ﷺ لما فعل
به أهل الطائف ما فعلوا: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلّة حيلتي، وهواني على
الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ إلى
بعيد يتجهّمني، أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن
عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا
والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل عليّ غضبك. لك العُتْبَى حتى ترضى، فلا حول ولا
قوة إلا بالله» وفي بعض الروايات: «ولا حول ولا قوة إلا بك»([163]).
وكلما قوي طمع العبد في فضل الله
ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته؛ قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن
طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن
عمن شئت تكن نظيره، وأفضِلْ على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له؛
يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له؛ يوجب انصراف قلبه عن
العبودية لله، لا سيّما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه
معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما
على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالِكِه وملِكِه وشيخه ومخدومه
وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت قال تعالى: { وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب
عباده خبيرا }. [الفرقان: ٥٨].
وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه
أو يرزقوه أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان
في الظاهر أميرًا لهم مدبرًا لأمورهم متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا
إلى الظواهر. فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ــ ولو كانت مباحة له ــ يبقى قلبه
أسيرًا لها، تحكّم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها أو
مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولا سيما إذا علمت بفقره إليها
وعشقه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر
الظالم([164]) في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه بل أعظم، فإن
أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من
استبعد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، بل يمكنه
الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقًا مستعبدًا متيّما
لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.
وعبودية القلب وأسرُه هي التي يترتب
عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقّه فاجر بغير حق لم يضره([165]) ذلك إذا كان قائمًا بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق
إذا أدى حق الله وحق مواليه فله أجران([166]) ولو أُكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن
بالإيمان؛ لم يضرّه ذلك، وأما من استُعبد قلبه فصار عبدا لغير الله؛ فهذا
يضره ذلك ولو كان في الظاهر مَلِكَ الناس.
فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية
القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي ﷺ: «ليس الغنى عن كثرة العرَض، وإنما
الغنى غنى النفس»([167]).
وهذا لعمرو الله
إذا كان قد استعبَد قلبَه صورةٌ مباحة، فأما من استعبد قلبَه صورةٌ محرمة ــ امرأة
أو صبي ــ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب.
وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذابًا
وأقلهم ثوابًا، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقًا بها مستعبدًا لها؛ اجتمع له
من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد.
ومن أعظم أسباب هذا البلاء: إعراضُ
القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيء قط
أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع ولا أطيب. والإنسان لا يترك محبوبًا إلا بمحبوب آخر
يكون أحب إليه منه، أو خوفًا من مكروه. فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب
الصالح، أو بالخوف من الضرر.
قال تعالى في حق يوسف: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء
بإخلاصه لله.
ولهذا يكونُ قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله
والإخلاص له، تغلبه نفسُه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه
انقهر له هواه بلا علاج، قال تعالى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر
الله أكبر ﴾ [العنكبوت: ٤٥] فإن الصلاة فيها دفع مكروه وهو الفحشاء والمنكر، وفيها
تحصيل محبوب وهو ذكر الله، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه، فإن ذكر
الله عبادة لله، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشرّ عنه فهو مقصود
لغيره على سبيل التبع.
والقلب خُلق يحب الحق ويريده ويطلبه،
فلما عرضت له إرادة الشرّ طلب دفع ذلك، فإنها تُفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت
فيه من الدغل.
ولهذا قال تعالى: { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } وقال تعالى: { قد
أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى } وقال تعالى: { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم
ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم } وقال تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى
منكم من أحد أبدا } [النور: ٢١].
فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو
أقوى تزكية للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال
جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك»([168]).
الرابع عشر: تحقيق التوكل على الله
تعالى.
ويكفي المتوكّل غناءً وفلاحًا ونُجْحًا
قول الحكيم العليم الغني الكريم: (ومن يتوكل على
الله فهو حسبه) [الطلاق: ٣] أي كافيه. فمن توكّل على الله وفوّض أمره إليه، ولجأ
لعزيز جنابه، واستغنى به عمن سواه؛ فقد حقّق عبودية الافتقار، والذي نفسي بيده لهو
حقيق بالمدد الرباني واللطف الرحماني والكفاية التامة والغوث العاجل في دينه
ودنياه.
والتوكّل فرع عن الافتقار وثمرة له،
وعلى قدر تحقيقه تكون ثمرته وكفايته، وقد بسطت الكلام في التوكل في كتاب سابق بما
أغنى عن تكراره.
الخامس عشر: ومن وسائل تحصيل الافتقار إلى
العلي الغفار: الخلوة بالنفس متفكّرًا.
وقد سبق في كتاب الأُنس بيان ذلك، ونبيّن
هنا أن المفتقر إلى الله مخلوق طيني ترابي، تطغى عليه المادة حينًا، وتعشيه غياية
الطبع الجهول الغفول حينًا، فلا بد لمن نَصَحَ نفسه من ساعات يقف فيها مناجيًا
نفسه الأمارة واعظًا لها حتى تكون لربها مطمئنة ساكنة، وبطريق سعادتها مبصرة
سالكة.
«فالناس في هذه الدار على جناح سفر كلهم،
وكل مسافر فهو ظاعن إلى مقصده ونازل على من يسرّ بالنزول عليه. وطالب الله والدار
الآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره ونازل عليه عند القدوم عليه»([169]).
ومن مواعظ أبي الفرج ابن الجوزي ؒ في هذا الشأن: «إخواني! الخلوة مَهْرُ بِكر
الفكر، وسُلَّم معراج الهمة، حريمُ العُزلة مصونٌ من عيب العبث، إذا خلت دار
الخلوة عن الصّور، تفرّغ القلب لملاحظة المعاني.
يا هذا! إذا رُزقت يقظةً فصُنْها في بيت
عزلة، فإن أيدي المعاشرة نهّابة، احذر معاشرة الجُهال، فإن الطبع لصٌ، لا تُصادقنّ
فاسقًا، فإن من خان أول منعمٍ عليه لا يفي لك.
يا أفراخ التوبة! لازموا أوكار الخلوة،
فإن هِرَّ الهوى صَيُود، إياك والتقرب من طرف الوكر، والخروج من بيت العزلة، حتى
يتكامل نباتُ الخوافي([170]) وإلا كنت رزق الصائد.
الأُنس بالإنس كالغِرَاء، المخالطة توجب
التـخليط، وأيسر تأثيرها تشتيت الهمّ.
أقلُّ ما في سقوط الذئب في غَنَمٍ
|
|
إن لم يصب بعضها أن تنفر الغنمُ
|
واعلم أن قطع العلائق أصل الأصول لطيب
الوصول.
كان أويسُ يهرب من الناس فيقولون:
مجنون، وَصَفَ الرسول ﷺ لأصحابه صفته، فقوي تَوْقُ عمر، وكان في كل عام يسألُ عنه
أهل اليمن([171]).
ألا أيها الركب اليمانون عرِّجوا
نسائلكم هل سال نَعْمانُ بعدنا
|
|
علينا فقد أمسى هوانا يمانيا
وحَبَّ إلينا بطنُ نعمانَ واديا
|
لما كانت آخر حجة حجها عمر، قام على أبي
قبيس فنادى: أفيكم أويس؟
وإني للشوق من بعدهم
وأفرح
من نحو أوطانهم
إذا
طلع الركب يَمَّمْتُهُمْ
أسائلهم
عن عقيق الحمى
نشدتكم
اللهَ فلْيخبرنَّ
هل
الدار بالجزع مأهولةٌ
|
|
أُراعي الجنوب مراحًا وَمَغْدَى
بغيث يجلجل برقًا ورعدا
أحيّي الوجوه كهولًا ومُرْدا
وعن أرض نجدٍ ومن حلّ نجدا
من كان أقرب بالرمل عهدا
أثار الربيعُ عليها وأسدى
|
كان أويس يأتي المزابل إذا جاع، فأتاها
يومًا فنبح عليه كلبٌ، فقال: يا كلب! لا تؤذ من لا يؤذيك، كل مما يليك، وآكل مما
يليني، فإن دخلتُ الجنة فأنا خير منك، وإن دخلتُ النار فأنت خير مني.
ذُلُّ الفتى في الحب مكرمةٌ
|
|
وخضوعه لحبيبه شَرَفُ
|
صاحبْ أهل الدين وصافِهم، واستفد من
أخلاقهم وأوصافهم، واسكن معهم بالتأدب في دارهم، وإن عاتبوك فاصبر ودارهم، إن لم
يكن لك مَكَنَةُ البذر ولم تُطق مراعاة الزرع، فقَفْ في رفقة ﴿وإذا حضر القسمة
أولوا القربى واليتامى﴾ [النساء:
٨] أنت في وقت الغنائم نائم، وقلبك في شهوات البهائم هائم.
وإن صدقت في طِلابهم فانهض وبادر، ولا
تستصعب طريقهم فالمُعين قادر. تعرّض لمن أعطاهم وسَلْ فمولاك مولاهم، رُبَّ كنز
وقع به فقير، ورُبّ فضل فاز به صغير، عَلِم الخضرُ ما خفي على موسى، وكُشف لسليمان
ما غُطّي عن داود.
يا هذا! لا تحتقر نفسك فالتائب حبيب
الله، والمنكسر مستقيم، إقرارُك بالإفلاس غِنًى، اعترافُك بالخطأ إصابة، تنكيس
رأسك بالندم رفعة، عُرَضت سلعة العبودية في سوق البيع فبذلت الملائكة نقد ﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس
لك﴾ [البقرة: ٣٠] وقال آدم: ما عندي إلا فُلوس إفلاسٍ نقشها ﴿ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين﴾ [الأعراف: ٢٣] فقيل: هذا الذي ينفق على خزانة الخاص، أنين المذنبين
أحبُّ إلينا من زجل المسبحين.
واستعذبوا ماء الجفون فعذّبوا
|
|
الأسرار حتى درّت الآماقُ
|
يا معاشر المذنبين! إن كان يأجوج الطبع،
ومأجوج الهوى، قد عاثوا في أرض قلوبكم ﴿فأعينوني بقوة
أجعل بينكم وبينهم ردما﴾ [الكهف: 95] اجمعوا عزائم قوية تشابه زُبَرَ الحديد،
وتفكروا في خطاياكم، لتثور صُعَداءُ الأسف، شيدوا بُنيان العزائم بهجر المألوف
ليستحجر البناء، هكذا بناء الأولياء قبلكم، فجاء الأعداء (فما اسطاعوا ان يظهروه
وما استطاعوا له نقبا﴾ [الكهف:
٩٧].
ليس عزمًا ما مَرض المرءُ فيه
|
|
ليس همًّا ما عاقَ عنه الظلامُ
|
الجدَّ الجدَّ، فما تحتمل الطريقُ
الفتور، ضاقت أيام الموسم، فجعجعوا بالإبل([172]).
كان أُسيد الضبّي إذا عوتب في كثرة
بكائه يقول: كيف لا أبكي وأنا أموت غدًا؟
وكانت عابدةٌ لا تنام من الليل إلا
يسيرًا، فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بطول الرقدة في القبور رقادًا.
هذه طريقُهم فأين السالك؟ هذه صفاتهم
فأين الطالب؟»([173]).
والحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على خير البرية نبينا محمد، وعلى أله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
إبراهيم الدميجي
13/5/1445
aldumaiji@gmail.com