الفلاسفة ذوو العقول البائسة
الحمد
لله، وبعد؛ فهذه نظرة خاطفة، وإلماحة سريعة عاجلة لوصف الحال المزاجي الصعب
للفيلسوف، وشقاءه الروحي، وجفافه النفساني، مع بعض الأمثلة الناطقة.
وفي ظني أنّ الأمثل دلاليًّا لمفهوم الفيلسوف –
بغض النظر عن الحد اللفظي – هو أنّ الفيلسوف هو الباحث عن الحقيقة، أو عن الحكمة،
وليس محب الحكمة، لأن محبة الحكمة لا تكفي، بل لا بد من بحث حثيث حتى يستحق الشخص
ذلك الوصف المطابق.
وهناك
فيلسوف بسيط وفيلسوف معقّد بحسَب الالتزام بقانون الفلسفة، فالفيلسوف البسيط: هو
من أخذ بما صح لديه من أهداب الفلسفة وبعض أطرافها، واقتصر من منطقها على ما يراه
كافيًا لوزن أموره الذهنية، وتصفية نظره للعلاقات بين الأشياء، والغوص في
ماهيّاتها، فهذا هو حدّه العرفي البسيط المقبول، لا الاصطلاحي الشائك المعقد.
أما
الفيلسوف التام: فهو من التزم أدوات الفلاسفة والمناطقة، والتزم ما اتفق عليه
سوادهم فيها، حتى لو كان ذلك مفضٍ لزلل كبير حيال النظر لحقائق الأمور والعلاقات
بين الأشياء.
وسبب
ضلال الفلاسفة عمومًا القدماء منهم والمحدثون: نشأتهم في أوساط مغيَّبة عن الحقيقة
الغائية للوجود الإنساني، وضالّةٍ عن هدي الأنبياء، وغثَّةٍ بالخرافات والمحالات
العقلية، فألحّت عليهم عقولهم الذكية بحرارة الرغبة في كشف المُثُلِ الحقيقية
للخلق الإنساني، فصاروا إلى ما تعلم من تناقض، وحيرة، وشكّ، وتهوّك، وجدل، ورَدِّ
الغيب، وبناءات ذوات أسس واهية؛ فانجرفت بهم لأودية الاضطراب، وهامُوا في مسالك
التّيه، والصدام مع قواعد الفطرة الملحة، وصراخِ الأرواح الحيرى، فانتهوا إلى
الانغلاق على الأوهام التي ظنّوها حقائق، (ومن يضلل الله فما له من هاد).
وبالجملة؛ فالمؤمن في غِنًى عن الفلسفة وما
تفرّع منها من المنطق، فإنّ أكثر ما فيها من صواب يعرفه الشخص العاقل العامي، لأن
الله تعالى قد خلق الإنسان في أحسن تقويم جسدي وعقلي وروحي، وعلّمه البيان، وركّب
فيه العقل الوازن للأمور، المنتبه للحقائق، الجيّد إجمالًا في تمييز العلاقات بين
الماهيات، وهذا هو مطلوب الفلسفة، لأن غائية الفلسفة إظهار ما هو موجود أصلًا في
النظر العقلي السليم، لكنها تُرتب، وتُقلّب، وتلقّب، وتطيل مسارات الأمور، فهي بحق
لا يحتاجها الذكي، ولا يستفيد منها البليد، فالبناء العقلي والذهني والفهميّ والتصوري
غير مفتقر لمماحكات وجدل وتعقيد، وإن ظُنَّ لأول وهلة صوابيّة ذلك. فلله الحمد أن
أغنانا عن كثير من هُرائهم لهُدى الوحي السليم الذي قوّم ميزان العقل السوي وصفاء
الفطرة النقية، بدون حاجة لضجيج الحائرين السائرين على مراكب التحليل بمعزل عن
الوحي العاصم من الزلل.
هذا؛
وإن الفيلسوف الحقيقي صادق كل الصدق في أطروحاته الفكرية، ومردّ ذلك أنه حين يعرض
تفاصيل إدراكه العقلي وحقيقة تصوره الذهني للماهية المقصودة، فهو يُشَرِّح عقلَه
الفكري بحدود فكرته المطروحة، فإن حاد عن إظهارها كما هي فلن يستطيع انتظام فكرته
الي يروم بيانها، وسيظهر تناقضه وبطلان مبناه لأول وهلة، لذا فضلال الفيلسوف ـ
غالبًا ـ ليس راجع لسوء قصده، بل لجهله أو إعراضه عن الحقائق الإيمانية والعلمية
التي تفرد الشرع بكمالها وسلامتها وعصمتها.
وما
ظنك بامرئ ولد في بيئة ملحدة، أو مشركة شركًا طوطميًا أو سماويًا أو أرضيًا، فيرى
أهله وأحبابه وجيرانه ومعارفه وثِقاته يعبدون حجرًا، أو بقرة، أو قبرًا، أو
كوكبًا، أو بشَرًا، أو ملَكًا، أو نبيًّا، أو جِنِّيًّا، أو آلهةً مثلّثة.. ونحو
ذلك الضلال المبين!
فهذه البيئة الضالة عن هدي الأنبياء ونور الوحي
قد طمست أنوار الفطرة الإنسانية الأولى لديه، فإذا عقل وأدرك ورام التديّن
والإيمان إذ أمامه رُكام الخرافات التي يرفضها العقل السليم، وتأباها النفس الحرة،
فيقف عقله البائسُ حائرًا بين فطرة قد انطمست، وعلوم قد حُرّفت، أو اندثرت، قد
حلّت محلّها خرافات لا تصلح إلا بشرط قطع التفكير في سلامتها، والتسليم بها دون
التصور لحقيقتها، والإيمان بها دون مجرد السؤال عن تناقضاتها ومحالاتها.
وعليه؛ فإن أراد ذلك الإنسان الانعتاق من ذلك
التقليد الخرافي البائد؛ كان لزامًا عليه أن يزن أمره بمرجعية لا تقبل الخطأ قدر
الإمكان بحسب مُمْكِنِه ممّا لديه، فيلجأ إلى المورد الوحيد بين يديه وهو عقله
المجرد، سواء أكان عقله المفرد أو مجموع عقول تواطأت على قبول أمور معينة، فيطلق
عقله حينها في اختبار الأشياء العلمية، ووزن الأمور العقدية، واستقراء العقول
السابقة، واختبار التجارب اللاحقة، كل ذلك بعقله اليتيم، وحيلته القاصرة، وعجزه
الفاضح؛ فيصل بعد قطع مسافة معينة ـ كُلٌّ بحسَب قدرته العقلية وإمكاناته وجهده ـ
إلى ما يشبه سكينة العقل وطمأنينة النفس، لكنها مؤقته ناقصة، لا دائمة تامة، لأن
كثيرًا مما يراه قواطع لها؛ لا تلبث أن تنكشف زائفة لا حقيقة تحتها، بدليل
انهيارها تحت أول طارق جدلي مُلزم، أو هبوب ريح عاطفية عاتية، فهناك تهتف به حيرته
للتسليم بأنه لا يشرِي ولا يشتري إلا الوهم، وأنه لا يعلم شيئًا على التحقيق!
وقد يصل مع المدى للتسليم بأن العقل السليم يقود
لخالقه العظيم، وأن العقل مهما أوتي من قوة وحِدّة ذكاء فهو مفتقر افتقارًا تامًّا
لوحي غيبي يعصمه ويهديه. وهذا ما عناه فرنسيس بيكون بقوله: "القليل من
الفلسفة تقنع عقل الإنسان بالإلحاد، ولكن التعمق في الفلسفة يجلب عقول البشر
للدين"، فالعقل السليم الصحيح يوافق النقل الصريح الصحيح، ولكن أين من يثق
بالوحي حتى يزن به عقله، ويحفظه من الزلل والعطب؟! والله المستعان.
والمقصود؛
أنّ المحروم من نور الوحي وأثارة الرسل يسير به عقله حثيثًا بما يراه من لوازم
عقلية، وقواطع منطقية، حتى يصدم بالحقيقة القاطعة بما ورائيات الحسّ، ومدركات
العقل، فيعجز عن العلم بحقائق الغيب المخفية عن إدراك العقل في الدنيا إن كان
بمعزل عن الوحي المنزل، ويرى هذا العجز المُلحَّ ماثلًا أمامه عيانًا، فتأبى
كبرياؤه الخضوع للتسليم بذلك الجهل المكتوب المحتوم، ويبرح شاقًّا طريقه عبر دقّ
سُجُفِ الغيب بإسفين أوهامه، محاولًا رفع ستوره بظنونه وأحلامه، حتى يخرّ متشحّطًا
في حيرته، صريعًا في ندمه مع آخر شوطِ مسيرِه، كتب الله الخيبة والضلال على من
ارتضى غير وحيه هاديًا، (فمن اتّبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن
له معيشة ضنكًا . ونحشره يوم القيامة أعمى).
ومن
هناك ينقسم أولئك لقسمين: قسم اتّجه للأمام بإصرار المضحّي بما لديه، الذي لم يبق
لديه شيء يخسره، مصطدمًا بجبل الجهل والعجز والحيرة؛ فينتهي بأَخرةٍ للانتحار
المهني أو الذهني أو الجسدي!
وقسم:
آثر السلامة شيئًا، وقنع بالعافية الناقصة، فاستند إلى التسليم بالعجز عن إدراك
الغيب، مع التسليم بوجود الرب الخالق العظيم، ويسند علمه في ذلك إما على بقايا
آثار محرفة للمرسلين، أو على أشلاءِ عقائدَ وثنيّةٍ للغابرين، أو على اعتقادٍ
ربوبيٍّ مطلق، فيعتقد أن الكون مخلوق من لدن خالق عظيم عليم، بلا بحث فيما وراء
ذلك، أو باعتقادٍ ربوبيٍّ على شكلٍ جديد، كما فعل فولتير لمّا آمن بالرب على
طريقته الخاصة، ونصَّ على أن ربه ليس هو رب المسيحيين، وأوصى أن لا يحضر احتضاره
كاهن ولا قس، بل إنه قد بنى معبدًا لربه الخاص الذي سلم له قياد أمور الغيب، إزاحة
لقلقه المُلِحّ، وراحة لعقله من حيرة البحث عما لم يدركه عبر أحقاب الضنى والعنت
والدأب الحثيث. فإن لم يكُ من ذلك شيء فإن الفيلسوف حينها يستندُ إلى مذهب
الشكوكيين الذين يجدون شيئًا من العزاء والمواساة عبر عدم التكذيب الصريح بالغيب،
ويقتات عزاءه وسلوانه بما يقف عليه من الهواجس الدافئة للغيب المُلحّ على نفسه
ضرورة، و(الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت
رسل ربنا بالحق).
وبالجملة؛
فقد يصحّ لنا أن نلقّب الفلاسفة بذوي العقول البائسة، فسبب بؤس نفوسهم هي إملاءات
عقولهم، فذكاؤهم يؤرقهم ويحثّهم ويحرقهم لإيجاد حقائقَ للماهيّات وعللٍ ومعلولات
وأشياء يستحيل على عقولهم وحدها الإحاطة بها. وتأمل ـ على سبيل المثال ـ حال
شوبنهاور ونيتشه وسيرتهما المؤلمة المُعَذّبة، ولك أن تعلم أن الوقود الخفي المحرك
للحربين العالميتين هي كتابات نيتشه، وبخاصة كتابه: "هكذا تكلم زرادشت".
وشوبنهاور
ونيتشه يقعان في أقصى العنت الفكري، أما هيغل وفولتير ففي الوسط من ذلك، وكذلك
الحالم الخيالي روسو، وأهونهم الشكوكي ديورانت الذي كاد أن يسلم، وعلى بقيّتهم
فقِس.
وفي
ظني أن عمانويل كانط بكتابه الخطير في نظرية المعرفة الإنسانية "نقد العقل
الخالص" أو المجرد، هو من فتح الباب على مصراعيه للأفكار المدمرة لنبذ علوم
الغيب وما ترتب عليها من مُثُلٍ وقيم وفضيلة، فقد بنى للعقل عرشًا يستقل به عن
الغيب إن أراد الإحكام ـ بزعمه ـ مع التسليم باحتواء الكتاب على بعض القطعيات
العقلية المفيدة للنظر، وما نظريات سارتر وفرويد ودارون وماركس المدمرة إلا ذيول
خائبة على كتابه، وهو وإن كان مسبوقًا بفلسفة المذهب المادي كما عند فولتير وبيكون
وسبينوزا ومن سبقهم؛ إلا أنه قد أسّس لنظرة تشريحية جدلية جديدة للعقل، تبهر
المتعمق فيها إن كان خاليًا مما سواها حتى يظن أنه لا توجد حقائق خارج صندوق
الجمجمة، مما ترتب عليه الإعناق والثقة المطلقة بصوابيّة أحكامه، حتى وإن كانت
صادرة من لدن شخص واحد بعينه دون الحاجة لتعديله من خارج.
لذلك؛ فأقترح على من كان ضليعًا بالعلوم العقدية
الشرعية، وقد أوتي قدرًا كافيًا من دراسة الفلسفة ـ والأفضل أن تكون لجنة أكاديمية
متكاملة، شريطة أن يتحصّنوا بالعلم الشرعي حتى لا يزِلّوا إذ راموا الثبات، ولا
يتلوّثوا من حيث أرادوا الإنقاء، والعافيةُ لا تُعْدَل ـ أن ينفروا لقراءة أُمّات
الكتب الفلسفية الحديثة الكبار، وبخاصة لكانط وهيغل، وينخلونها، ويزِنُونها على
ميزان الشرع المطهر، فيظهرون ما فيها من زيف وتناقض وبطلان، حتى لا يغتر بها من
أحسن الظن بنفسه فأبحر فيها بلا سلاح من الوحي ولا حارس من الشرع، فيستحلي سُمّها
الناقع فيعطب أو يكاد. وما فيها شيء قد يفيد من حُرم الوحي المنزل والشرع الحنيف
إلّا أنّ أهل الإسلام عنه في غُنية وعافية وكِفاء، (أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك
الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون)، بلى وعزّةِ ربنا!
أما
المؤمن الموفق المهتدي بالوحي المنزل، فإنّ فطرته قد نهضت على ما استقامت عليه
مُذْ فجرِ خليقتها، واستقت من الوحي ما قام به ساقها، ونمت عليه فروعها، واستطالت
به أغصانها، وأينعت وطابت عليه ثمارها.
فالفطرة الأصيلة له لم تلوّث بجهلٍ بحقيقة
الوجود، والبيئة الإسلامية المستقيمة قد حفظتها ـ بإذن الله تعالى ـ من عاديات
الضلالات، والعلوم المستقاة من الوحي المعصوم قد أطلقت قيد عقله من عِقال الخرافات
إلى تحقيق سلامه وإشباع نهمه بلا انفلات، وحرّرته من سجن تعقيد المتناقضات إلى
فضاء الحرية المُرتّب المتوازن الحرّ النظيف، وسمائه النقية الصافية، فانطلق بكل
قوته في بناء علمه المحكم المتوازن المستنير بعون إلهه رب العالمين، فحصّل الظلّ
الوارف من هِجِّيرَى الشبهات، والسكينة الدافئة، والطمأنينة الدائمة، واليقين
الراسخ، والحقيقة المطلقة المحكمة، وفاز الفوز العظيم والفلاح المبين، (ذلك فضل
الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، (ومن يهد الله فما له من مضل)، (اهدنا
الصراط المستقيم).
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا
محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم الدميجي
16/ 4/ 1445
aldumaiji@gmail.com