"المسْجِدُ الحَرَام والحج فِي صُحُفِ أَهْلِ
الكِتَابِ"
الحمد لله الأله الحق المبين, بعث محمداً صلى
الله عليه وسلم بالحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً, فهدى به من الضلالة وبصَّرَ
به من العمى, وفتح به أعيُنَاً عمياً وآذاناً صُمَّاً وقلوباً غُلفاً, وأظهر به
الدين الذي ارتضاه ناسخاً للأديان, مُبطِلاً لكل ما سوى الإسلام, صلى الله عليه
وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان, وبعد:
قال أبو نواس وقد عزم الحج:
إلهنا ما
أعدلكْ ... مليك كل من ملكْ
لبيك قد
لبيت لك ... لبيك إن الحمد لكْ
والملك لا
شريك لك ... ما خاب عبدٌ سأَلَكْ
أنت له حيث
سلك ... لولاك يا ربّي هلكْ
لبيك إن
الحمد لك ... والملك لا شريك لك
كل نبيّ
وملك ... وكلّ من أهلّ لكْ
وكل عبد
سألَك ... سبّحَ أو لبّى فلكْ
لبيك إن
الحمد لك ... والملك لا شريك لك
والليلُ
لمّا آن حَلَكْ ... والسابحاتُ في الفلكْ
على مجاري
المُنْسَلكْ ... لبيك إن الحمد لكْ
والملك لا
شريك لك ... يا خاطئاً ما أغفلكْ!
اعمل
وبادرْ أجلك ... واختمْ بخير عَمَلكْ
لبيك إن
الحمد لك ... والملك لا شريك لكْ
إن ارتباط الدين بمكة قديم جداً ولا نبعد إذا
قلنا بوصله لبداية العهد الإنساني في الاستخلاف الأرضي, فبدأ بآدم عليه السلام. والمتيقّن عند
المسلمين أن إبراهيم عليه السلام قد رفع القواعد من بيت الله (الكعبة) وأعانه ابنه
البكر إسماعيل, وأذَّن الخليل في الناس بالحج, ومن حينها لم ينقطع الحج, بل جدّده
الأنبياء الكرام عليهم السلام, جيلاً بعد جيل, حتى ختمهم الله تعالى بالرسول
الخاتم محمد صلوات الله وسلامه عليه, وقد بشّرت بهذا الرسول الخاتم الكتب السابقة
وبمكانه وأحواله وأوصافه, كما بشّرت ببلده الأمين بكّة, وبالمشاعر العظمى كعرفات
ومنى, وبالحج المشهود, ونحو ذلك.
أيا عذبات البان
من أيمن الحمى ... رعى الله عيشاً في رباك قطعناه
والباعث على هذه المقال وما يتبعه من مقالات أمور:
منها: زيادة يقين المؤمنين، فلليقين مراتب
كما للإيمان؛ يزيد وينقص كما في قصة طير ابراهيم عليه السلام. (البقرة:260) وإن
كان في ديننا غنية تامة عن هذا الباب من الإسرائيليات, ولكن من باب: "أولم
يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل" (الشعراء: 197) كذلك: "وشهد
شاهد من بني إسرائيل على مثله" (الأحقاف: 10) كما أن نبينا محمد صلوات الله
وسلامه عليه قد ذكر لنا حجّ الأنبياء كموسى ويونس وحجة عيسى المستقبلية عليهم
السلام، وقد قد فصّل الله تعالى في القرآن العظيم أصول حج بيته الشريف ونداء أبي
الأنبياء عباد الله إليه.
هذا ومرويات حج البيت الحرام لدى أهل الكتاب هي من أجلى الأمور على دلائل
نبوة الخاتم صلى الله
عليه وسلم, والبراهين الشاهدة له بالرسالة, وبأنه صاحب العهد الأخير.
كما أنها تتسم بالاتساق وشهادة بعضها لبعض في تخصيص بقعة مكة بالحج. وإخال
تلك المرويات معدودة من أصحّ مايُنقل عن أولئك القوم وأقلها تحريفاً، وإن كان
لازماً لها في الجملة،
وبخاصة عند ظهور حسد أحبار يهود للأمة المحمدية وتحويل البشائر والترانيم
الإيمانية والمزامير الداوُدية لبئر السبع وما حولها من جنوب فلسطين، ليحولوا وجهة
الملة الإبراهيمية الحنيفية عن مهد الرسالة المحمدية الإسماعيلية، وعن بلاد قيدار
وجبال فاران!
هذا ومن أعظم أسباب كتابة هذه السلسلة في
بيان الدين الحق الذي لا يقبل الله ديناً سواه؛ هتكُ ستور الأحبار والقسس المرخاة على ما تبقى من هداية التوراة
والإنجيل، وإقامة
الحجة على أهل الكتاب من كتابهم، ودعوتهم للإسلام عن طريق الابتداء بما تبقى لديهم
من ميراث الرسل من توحيد الله والبشارة بخاتم المرسلين، ودينه القويم، بعد إزاحة
الأطمار عنها لإجلائها لكل ذي عينين، حتى يُقال لهم: هذا طريق رسلكم الذين تزعمون تعظيمهم
واتباعهم، فهلموا لنأخذ على أيديكم بالحكمة والرفق؛ لنريكم أنكم لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل
إليكم من ربكم، وهل ذلك
إلا بأن تؤمنوا بالله وحده وتتبعوا رسولكم الخاتم وتتدينوا لله بدينه المرضي
"إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران: 19) "ومن يبتغ غير الإسلام
ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" (آل عمران: 85) وليكن حاديكم
ما أنشده سلفكم النجراني الذي أسلمَ واهتدى وأرادَ اللهَ والدارَ الآخرة دون المال
والرئاسة, قائلاً في طريقه إلى بيعة سيد الخلق وخيرة المرسلين، وياله من قرار ما أرشده، وسير ما أسعده:
اليكَ يسعى
قلقاً وضينها .... معترضاً في بطنها جنينها
مخالفاً
دين النصارى دينها
وكان عمرُ يتمثل به لحسن وقعه قي القلوب
والأسماع.
وإني لأهيب بكل من أعطاه الله بسطة في العلم أو الترجمة أو النشر ونحو ذلك
أن يركب تلك الراحلة المقتفية لآثار الرسالة المحمدية، فقد أرقلت خُطاها، وأزمعت
لمناها، حالُنا إن وفّقَنا ربّنا:
وركبٌ سروا
والليلُ مرخٍ سُدولَهُ ... على كلّ مُغْبَرِّ المطالعِ قاتِمِ
حَدَوا
عَزَمَاتٍ ضاعتِ الأرضُ بينها ... فصارَ سُرَاهُمْ في ظهور العزائمِ
تُريهم
نجومُ الليل ما يطلبونَهُ ... على عاتقِ الشِّعْرَى وهامِ النعائمِ
مقيماً
للحق راحماً الخلق، ومصوّباً ومستدركاً وداعياً بظهر الغيب, ولا عليكَ أن لا تنسبَ
لي شيئاً من ذلك, لا اسماً ولا مؤلَفاً ولا إشارة، فهي سبيلٌ لكل مؤمن، وقفٌ لكل
مسلم، لا في هذا ولا في جميع نتاج فكري وعلمي القاصرين، فالعلم والدعوة رحم بين أهلهما، ولْيتذكّرْ بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفرٍ الجنة؛ صانعه يحتسب في صنعته الخير, والرامي
به, والممد به" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وقوله عليه الصلاة والسلام:
"من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم
شيئاً" رواه مسلم, وله كذلك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لئن
يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" وهي في الدعوة إلى الإسلام
ابتداءً, فأي فضل يسمو على ذلك؟! ويكفيك أنها وظيفة نبيّك صلى الله عليه وسلم.
فحيهلاً بكل من شارك ونشر وترجم واجتهد وأعان..والموعد الجنة إن
تقبّلنا الله في حزبه،
وسلكنا في جنده، وهدانا لصراطه، وتوفانا على ذلك، فهو مولانا وهو المستعان، وعليه
التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به. وهو القائل في محكم تنزيله مثنياً على كتابه
آمراً بالجهاد به ألفاظاً ومعانٍ: "وجاهدهم به جهاداً كبيراً" (الفرقان:
52) وصلوات الله وسلامه على الحبيب الذي جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
خليليّ إن
لا تَبْكياني أَلْتَمِسْ ... خليلاً إذا أنزفتُ دمعي بكا ليا
فَمَا
أُشْرِفَ الأيفاعَ إلا صبابةً ... ولا أُنشدُ الأشعار إلا تداويا
أَعُدُّ
الليالي ليلةً بعد ليلةٍ ... وقد عشتُ دهراً لا أعدُّ اللياليا
وأخرجُ من
بين البيوت لعلّني ... أحدّثُ عنكَ النفسَ بالسّرِّ خاليا
وإنّي
لأستغشي وما بي نعسةٌ ... لعلّ خيالاً منك يلقى خياليا
إذا نحنُ
أدلجنا وأنت أَمَامَنا ... كفى لمطايانا بذكراكَ حاديا
ألا أيها
الركب اليمانُونَ عرّجوا ... علينا فقد أمسى هوانا يمانيا
أُسائِلُكُمْ
هل سال نَعْمَانُ بعدَنا ... وحُبَّ إلينا بطن نعمان وادايا
ألا يا
حَمَامَيْ بطنِ نعْمانَ هِجْتُمَا
... عليّ الهوى لمّا تغنّيتُما
ليا
وأبكيتُماني
وسْطَ صحبيْ ولم أكُنْ ... أُبالي دُموعَ العينِ لو كنتُ خاليا
ألا يا
حَمَامَاتِ العراق أَعِنَّنِي ... على شّجّنِي وابكين مثل بُكَائِيا
ويا أيّها
القُمْرِيّتَانِ تجاوَبَا ... بلحنيْكُما ثمّ اسْجعَا عَلِّلانِيا
فإن أنتُما
استطربْتُمَا أو أَرَدْتُمَا ... لَحَاقاً بأَطْلالِ الغَضَى فاتبعانِيا
وإلى مطلبنا:
ونقدّم
بتوطئة لفهم البشارات بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم في العهد القديم:
لو لم يظهر محمد صلى الله عليه وسلم
لبطلت نبوة الأنبياء قبله، فهم قد بشروا به، ولبطلت التوراة والإنجيل لبشارتهما به، ولا يستطيع أحد إثبات نبوة أحد من الأنبياء إلا
ولمحمد صلى الله عليه وسلم السبق في تلك الدلائل كمًّا وكيفًا.
وقبل بيان بشارات الكتاب المقدس به ننبه إلى أن تلك
الأسفار في الكتاب المقدس تشير إلى النبي المنتظر القادم بأسماء شتى فتارة الملك,
وأخرى النبي, وتارة تلقبه بالمسيّا, وأخرى بالمسيح1 والمخلّص، والمُعزِّي,
والبارقليط, وإيليا, ومحمد, ومحماد, وأحمد, وحمدا, ونبي السلام, وشيلون وغيرها, _وسنبسطها في
مقالات لاحقة إن شاء الله تعالى_ وكل هذه الأسماء والألقاب مترادفات تدل على النبي
المنتظر القادم، وهي في ذات الوقت أوصاف لهذا النبي العظيم مع تغير بعض المسميات وإخفاءٍ
مُتعَمَّدٍ لبعضها لمآرب لا تـخفى.
ويبقى مسمّى المسيح أشهرها عند أهل الكتاب وليس لعيسى عليه السلام اختصاص بهذا المسمى في
العهد القديم, فقد كان اليهود يلقبون أنبياءهم وملوكهم بذلك, مثل كورش الفارسي
(إشعيا 1: 45) وداود عليه
السلام (مزمور 18: 50) والملك شاول ــ طالوت ــ (صموئيل (1) 26: 7ــ 9) بل ورد بصيغة الجمع (مزمور 15: 15).
إذن فلقب
المسيح في العهد القديم ليس خاصًا بالمسيح عيسى ابن مريم عليه
السلام, بل هو عندهم لقب يستحقه النبي
القادم لما يعطيه الله من النصر والظفر والبركة التي فاقت بركة بني إسرائيل. لذلك
سأل اليهود يوحنا المعمدان ــ يحيى عليه
السلام ــ إن كان هو المسيح القادم
فنفاها عن نفسه (يوحنا 1: 21، 22) كذلك لما شاهدوا معجزات عيسى عليه
السلام قالوا: «ألعلّ المسيح (أي
القادم المنتظر) متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا» (يوحنا 7: 30،
31).
كما
يطلق على النبي القادم المسيّا, وعدّه بعضهم لقبًا مرادفًا للمسيح «مسيَّا الذي
تفسيره المسيح» (يوحنا 1: 41) فالكلمة السريانية (الماشيح) تنطق في اللغات التي
ليس فيها حرف الحاء (المسيّا).
وبما أن نبينا محمدًا هو المسيّا والمسيح المنتظر؛ فأين نجد ذلك في الأسفار
المقدسة؟
والجواب أنه موجود وبكثرة في كتابهم المقدس (البيبل), حتى بعد حذف كتبةِ الأسفار كثيرًا من مواضع اسمه
الصريح, "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم
ليكتمون الحق وهم يعلمون" [البقرة: 146]، "قل من أنزل الكتاب الذي جاء
به موسى نوراً وهدىً للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً" [الأنعام:
91]، "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّنّاه للناس
في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة: 159] ومع ذلك فقد بقيت شواهد
كثيرة وإن حاول بعضهم إبهامها أو التحريف فيها.
ويمكن الوصول إليها مع المشقة العائدة لثلاثة أمور:
الأول: العادة
السيئة لدى بعض المترجمين والنسّاخ للكتاب المقدس، وهي
ترجمة الاسم لمعناه وليس إلى لفظه وحروفه: كما فعلوا باسم عيسى عليه السلام
إلى جيسس ويسوع، فكذلك فعلوا باسم محمد صلى الله عليه وسلم كما في بشارة النبي حجي
بمقدم (محماد) التي ترجمها المترجمون بـ(مشتهى الأمم) فضاعت بهذا الصنيع كثير من
دلالات قول النبي حجي «ويأتي مشتهى كل الأمم» (حجي 2: 7)، وأصلها «ويأتي محمد»،
كذلك بشارة عيسى ابن مريم عليه السلام به (البارقليط) والذي تسميه كثير من التراجم
الحديثة (المُعزِّي)، كذلك ما جاء في المزامير (84: 6) عند ذكر مدينة المسيح
القادم حيث سُمِّيت في المزامير (وادي بكة) فترجمت إلى وادي البكاء! بل حرفتها
نسخة الرهبانية اليسوعية إلى وادي البَلَسَان لتضيع دلالتها على كل قارئ يعلم أن
بكّة هي بلد محمد صلوات الله وسلامه عليه "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة
مباركاً وهدى للعالمين"[آل عمران: 96]2.
وقد
ضرب الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه الفريد (إظهار الحق) لهذا الصنيع من
المترجمين ثلاثة عشر مثالاً, قارن فيها بين طبعات مختلفة للكتاب المقدس التي ضيّعت
بهذا الفعل دلالات كثير من النصوص3)
الثاني: كثرة الاستعارات والرموز في الكتاب المقدس
وبخاصة ما يتعلق بالمستقبل، وهذه
الرموز يَدخُلُ عن طريقها شُرّاحُ الأسفار والباباوات, فيفتحون لهم ما شاءوا من
تفاسير تحت ذريعة غموض الإشارة وقابلية التوجيه الرمزي، ويُدخلون في ذلك نبوءات
تحققت فيما بعد؛ كقيام الاتحاد السوفيتي وإسرائيل, بل وحتى شخص كيسنجر! مع ذلك فحينما يوجه لهم السؤال عن أعظم مملكة اكتسحت العالم
باسم الله، وعن رجل يدين له بالاتّباع والتعظيم ربع سكان المعمورة من قرون عديدة
حتى اليوم لا يجدون جوابًا سوى الصمت المطبق!4
لذلك
فحينما تقرأ نبوءات الكتاب المقدس برؤية جديدة متجردة متحررة من قيود الشُّراحِ؛
ستجد الفرق شاسعًا بينها وبين النتيجة التي قد توصل إليها من قرأ الكتاب بخلفيته
النمطيّة عن مسيحِهِ الـمُخلّص فقط
الثالث: تعمّد إخفاء البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم
من كتبة ونساخ ومترجمين للكتاب المقدس وهذا كثير جدًا، ومن أمثلته خلو سفر إشعيا
الحالي من التصريح باسم أحمد مع أنه مذكور صراحة في ترجمة القسيس أوسكان الأرمني
(الطبعة 1733م) في مطبعة أنتوني بورتولي وفيها «سبحوا الله تسبيحًا جديدًا وأثر
سلطنته على ظهره واسمه أحمد» (إشعيا 42: 10، 11) ولعل المقصود بأثر السلطنة خاتم
النبوة على ظهره الشريف. أما اسمه هنا فهو مطابق لما في القرآن الكريم في سورة
الصف: "وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما
بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" [الصف: 6]، فاسمه ووصفه وموطن مبعثه ظاهر لعلمائهم كالشمس
في رائعة النهار"الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم
في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم
عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه
ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون . قل يا أيها الناس إني
رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت
فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم
تهتدون" [الأعراف: 157، 158]
فهم لما
وجدوا ذكر القرآن لبشارات الكتاب المقدس باسم محمد وأحمد الصريح؛ عمدوا إلى حذف
آيات بأسرها من الكتاب المقدس وحرفوا ما أبقوا عليه لتضيع الدلالة والعلامة!
ولكن يأبى الله إلا أن يظهر الحق ويشهره "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين
الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون" [الصف: 9].
والآن
إلى ذكر ما تيسر من البشارات التي تربو على المئة بشارة في صفحات الكتاب المقدس،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «ولقد وُجد
ما يزيد على مئة موضع في كتب أهل الكتاب ذكر محمد صلى الله عليه وسلم5 وتواتر عن أهل الكتاب ذكره،
وتواتر عن كثير ممن أسلم منهم أن سبب إسلامهم علمهم بذكره في الكتب المتقدمة، وقد
كان من أعظم أسباب إسلام الأنصار؛ ما كانوا يسمعونه من جيرانهم أهل الكتاب من ذكره
ونعته وانتظارهم إياه»6.
وسنبدأ
بذكر بشارات العهد القديم. وسنذكر منها عشراً من القديم وثلاثاً من الجديد في
سلسلة مقالات. وسنذكر هنا ما يتعلق بموطن المختار صلى الله عليه وسلم مكة ومن
حجّها.
البشارة الأولى: «وتلألأ من جبال فاران»
جاء
في التوراة «جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير
وتلألأ من جبال فاران وأتى من ربوات القُدُس» (تثنية 33: 1ــ 3).
ومعنى يجيء الله من سيناء
أو طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى عليه السلام، وإشراقه من سعير أو ساعير
إنزاله الإنجيل على عيسى عليه السلام حيث كانت نشأته وحياته، وساعير جبل يقع في
أرض يهوذا في فلسطين (يشوع 15: 10)، أما تلألؤه من
جبال فاران؛ فهو إنزال القرآن الكريم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف
أن جبال فاران هي جبال مكة.
لذلك فهذه القسمة
الثلاثية هي ترتيب زماني للدعوات الكبرى الثلاث
التي كانت خاتمتها الرسالة الخالدة لنبي الإسلام، وقد ذكر الكتب الثلاثة التوراة
ثم الإنجيل ثم القرآن، وهذه الكتب هي نور الله وهداه، وهذه الثلاثة مذكورة في
القرآن الكريم، بسم الله الرحمن الرحيم "والتين والزيتون . وطور سينين . وهذا
البلد الأمين" [التين: 1ــ 3]، فالأولى: الأرض المقدسة التي ينبُت فيها بكثرة
التين والزيتون, وعليها درج المسيح عليه السلام, وفيها بُعث، والثانية: هي الجبل
الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام، والثالثة: هي البلد الأمين وهي بكة المكرمة
وتسمى مكة، والبلد الحرام، والمسجد الحرام, وفيها أول نزول القرآن الكريم على قلب
سيد المرسلين محمد عليه صلاة ربي وسلامه وبركاته.
قال
شيخ الإسلام: «وعلى هذا فيكون قد ذكر الجبال الثلاثة:
حراء7 الذي ليس حول مكة أعلى منه،
وفيه ابْتُدِئ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي عليه، وحوله جبال كثيرة، وذلك المكان يُسمّى فاران إلى هذا اليوم، والبريّة التي
بين مكة وطور سيناء تسمى بريّة فاران، ولا يمكن لأحد أن يدّعي أنه بعد المسيح نزل
كتاب في شيء من تلك الأرض، ولا بعث نبي، فعُلم أنه ليس المراد باستعلائه8 من جبال فاران؛ إلا إرسال
محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبحانه ذكر هذا في التوراة على ترتيب الزمان،
فذكر إنزال التوراة ثم الإنجيل ثم القرآن».
قلت:
وقد ورد هذا الترتيب في القرآن كذلك, كما في سورة التوبة "وعداً عليه حقاً في
التوراة والإنجيل والقرآن"[التوبة: 111]. وكما في آيات المائدة (44) ثم (47)
ثم (48)
وقد
ذكر هذه النبوءة الموسوية النبي حبقوق9عليه
السلام حيث قال: «الله جاء من تيمان
والقدوس من جبال فاران» (حبقوق 3: 3)، وتيمان كلمة عبرية معناها الجنوب، وتيمن
الصحراء الجنوبية10 وجنوب فلسطين هي جزيرة العرب
التي حوت فاران وهي الحجاز وقلبه مكة، وقد كان في مكة إلى وقت دولة ابن الزبير رضي
الله عنه مقبرة خاصة باليهود مما يدل على أنهم كانوا يحجون الكعبة التي رفعها
أبوهم وعمّهم إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، بل قد ذهب بعض المؤرخين إلى أنّ تيه
بني إسرائيل كان في الحجاز، وذكر حججاً قوية, وذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك فجعل مكة
والحجاز وعسير هما موطن التوراة وهذا باطل، ولكن الحق أن الأنبياء من لدن إبراهيم عليه
السلام كانوا يحجون مكة11.
وقد اختلفت عبارات الترجمات في
البشارات الموسوية، ففي الترجمة السبعينية12 «واستعلن من جبال فاران ومعه
ربوة من أطهار الملائكة عن يمينه» وفي ترجمة الآباء اليسوعيين «وتجلى من جبال
فاران» وفي ترجمة (1622م) العربية «شرف من جبال فاران
وجاء مع ربوات القدس» ومعنى ربوات أي ألوف القديسين الأطهار كما في ترجمة (1841م) «واستعلن
من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار». أي المطهرين الذين طهرتهم أعمالهم
الصالحة وهم الصحابة الأبرار الأطهار وكانوا زهاء
عشرة آلاف، والتقديس هو التنزيه البالغ.
وكلمة
(ربوات) تستعمل في الأسفار بمعنى الألوف والجماعات الكثيرة كما في (دانيال 7: 10)
«ألوف ألوف تـخدمه ربوات ربوات وقوف قدامه» كذلك «ارجع يارب إلى ربوات ألوف
إسرائيل» (العدد 10: 36) إذن فالربوات الذين معه في فاران هم الجماعات الكثيرة من
القديسين الآتين مع قدوسهم الذي تلألأ واستعلن وشرف وتجلى في فاران عليه الصلاة
والسلام ورضي عنهم.
كما
أن إسماعيل عليه السلام قد نشأ في برية فاران (تكوين 21: 21) ومن المعلوم تاريخيًا
أنه قد نشأ في مكة المكرمة البلد الحرام في الحجاز، وقد
أقر كبار المؤرخين بذلك كجيروم واللاهوتي يوسبيوس الذين قالا: «إن فاران هي مكة»13 ويحدد بعض المؤرخين فاران
بجبل حراء تحديدًا وهو الجبل الذي نزل الوحي على نبي الله صلى الله عليه
وسلم وهو عليه.
البشارة الثانية: نبوءات العهد القديم لبني
إسماعيل بالبركة والنبوة والكثرة والملك.
وهذه لم تجتمع إلا في محمد صلى
الله عليه وسلم «وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا
أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جدًا. اثني عشر رئيسًا يلد وأجعله أمة كبيرة»
(تكوين 12: 2) وأولاد إسماعيل الاثنا عشر هم الخلفاء
والملوك من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى هشام بن عبد الملك، ومصداق ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الأمر عزيزًا إلى
اثني عشر خليفة كلهم من قريش» متفق على صحته، وهكذا كان! فكان الخلفاء: أبو بكر
وعمر وعثمان وعلي ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عزة ومنعة وهم: معاوية رضي
الله عنه ثم ابنه يزيد ثم عبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة الوليد وسليمان ويزيد وهشام وبينهم
عمر بن عبد العزيز، أما الحسن بن علي وابن الزبير ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم فولايتهم ليست عامة كأولئك الاثني عشر، ثم إنه من
بعد هشام بن
عبد الملك ظهر
النقص... (14)
وفي
النسخ العبرية القديمة ضُمّن هذا النص (ماد ماد.. لجوى جدول) وهما رمزان وضعا بدل اسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم على
حساب الجُمَّل، ولاحظ إشارته إلى مفتاح اللغز بذكر جدول ووضع الأحرف
القريبة من اسم محمد (مادماد) مما يدل على أن من عمل ذلك كان يريد وضع خط رجعه
لحفظ فقرات التوراة وحمايتها من الضياع إن أراد الكهنة معرفتها، أو أن غرضه كان
نبيلاً لّما رأى مسارعتهم لطمس وحذف الاسم الصريح, بل وحذف آيات كاملة تشتمل عليه
فأراد أن يحميه بهذه الشفرة، والله أعلم.
الجدير بالذكر أن بعض
أحبار اليهود قد أسلموا لما تحققوا ذلك ونبّهوا عليه كعبد السلام
في رسالته: الرسالة الهادية. كذلك السموءل وغيرهما كثير.
وفي
نسخة «أجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة... وتتبارك فيك جميع قبائل
الأرض» (تكوين 12: 2، 3) «ونادى ملاك الله هاجر ... قومي احملي الغلام وشدي يدك به
لأنه سأجعله أمة عظيمة وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء...» (تكوين 21: 17ــ 21).
مع
ملاحظة أن كُتّاب الأسفار والشراح يحاولون جعل مولد إسماعيل عليه
السلام وبشائر القديسين الذين من
نسله والبشارات التي من فاران يجعلون كل ذلك حول بئر السبع وما حولها ليصرفوا
الناس عن المكان الحقيقي لمولد تلك البشارات مكة البلد الحرام، كما جعلوا الماء
المبارك زمزم عبارة عن بئر في جنوب فلسطين أو إلى سيناء، مع أن هذا لم يقنع كثيرًا
من أحبار اليهود بل هاجروا بأهلهم وأموالهم إلى يثرب لعلمهم أنها مهاجر خاتم
الأنبياء المنتظر، وكانوا يوصون به أولادهم كابن الهيّبان وغيره ــ وسيأتي إن شاء
الله تعالى ــ.
ومن
البشارات بإسماعيل الذبيح المبارك وذريته ومنهم الخاتم المنتظر ودياره المقدسة قصة
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
فالأسفار المقدسة تتحدث عن
قصة أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلامبذبح ابنه الوحيد، وبدلاً من تسميته الحقيقية إسماعيل سمته
إسحاق، وعلى هذا فقد تم تغيير مسميات الأماكن
والمواقع المذكورة في الكتاب المقدس لتتواءم مع الحكاية الجديدة المخترعة!
«خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق، واذهب به إلى أرض المريا... فدعا إبراهيم ذلك
الموضع يهوه يراه حتى إنه يقال اليوم في جبل الرب يرى. يقول الرب إني من أجل أنك
فعلت هذا الأمر ولم تمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة ويرث نسلك باب أعدائه. ويتبارك
في نسلك جميع أمم الأرض من أجل أنك سمعت لقولي» (تكوين: 22: 1ــ 20)، فانظر كيف
تدخلت أصابع المكر اليهودية فغيرت في الكتاب الذي استؤمنت عليه فحرفت التوراة
بدافع العنصرية والتعصب، وحاولت طمس البشارات بمولد إسماعيل عليه السلام. أما المسلمون فقد مجّدوا إبراهيم عليه السلام أتم التمجيد
الذي يستحقه فإنهم يذكرونه في كل صلاة.
وبما أنه لا توجد
جريمة كاملة فقد وقع لصوص التوراة في غفلة حين ذهلوا عن طمس كلمة (وحيدك) وهي التي
تكرر ذكرها ثلاث مرات، فقد نسيت تلك الأيدي الآثمة طمس هذا الشاهد على تلك
الكذبة الدينية التاريخية، فغفلت عن أن إسماعيل هو وحيد إبراهيم لمدة أربع عشرة
سنة كما في (تكوين 16: 16، 21، 5) حيث ذكر السفر أن عمر إبراهيم عند ولادة إسماعيل
عليهما السلام (86) سنة، وعمره حين ولد إسحاق عليهما السلام (100) سنة. ومعلوم في
شريعة التوراة أن منزلة الأم لا تؤثر في بكورية الابن كما نُصَّ عليه في التثنية
(21: 15ــ 17).
أما
الذي تُباركُ به جميع أمم الأرض فهو النبي الوحيد من نسل هذا النبي المبارك
إسماعيل، فهو النبي الخاتم الذي دخل في ديانته من جميع أصناف أهل الأرض وأجناسهم
وألوانهم ولغاتهم وعلومهم ودياناتهم، وتجتمع كل هذه الأجناس المتنوعة على دين
واحد، وفي مكان واحد لا يقف فيه إلا المسلمون, وهو حج بيت الله الحرام كل عام في
بلدة إسماعيل بكة.
فمن الأدلة
الحسية على كون الذبيح إسماعيل وليس إسحاق عليهما السلام؛ ما جاء بالوعد بالبركة
في ابنه الذبيح وأن ذريته ستكون عدد نجوم السماء، وإذا نظرت للعرب واليهود وجدت أن
العرب يفوقون اليهود بعشرة أضعاف، ففي حين أن
اليهود قرابة (3.000.000) فالعرب قد تجاوزوا (300.000.000) فأين هؤلاء من أولئك؟! مع
الإشارة إلى أن اليهود ليس كلهم من بني إسرائيل كيهود الخزر وشرق أوروبا والحبشة
فهم منتسبة لدينهم لا لجنسهم، كذلك فليس كل العرب من بني إسماعيل كالقحطانية، وعلى
كل حال فإن كانت بالكثرة فالإسماعيليون أكثر من الإسحاقيين، وإن كانت باللغة
فالعرب أكثر من العبرانيين، وإن كانت بالديانة فالمسلمون أكثر من اليهود حيث
تجاوزوا ربع سكان المعمورة, فتعدادهم تجاوز المليار ونصف المليار (1500.000.000)
كنجوم السماء كثرة، فعلى كل التقديرات الكفة راجحة
لبني إسماعيل عليه السلام.
إذن فالذبيح هو إسماعيل، وجبل الرب في الأرض
التي عاش فيها مكة، والبركة لإبراهيم في ذريته محفوظة له بعد أن قام بالتسليم
التام لأمر ربه تبارك وتعالى وهمّ بذبح ابنه ووحيده، لذا ففي كل عام في العاشر من
ذي الحجة يُقدّم المسلمون في كل أصقاع الأرض أضاحيهم وقرابينهم تقربًا إلى الله
وشكرًا لنعمه عليهم، ويزداد هذا في فجاج مكة وبِطاحِ منى فيتقرب الحجاج إلى الله
تعالى بأعمال مشابهة للقصة التي أجراها الله على إبراهيم وإسماعيل وهاجر، فيطوفون
بالبيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل، ويُقبّلون الحجر الذي أُعطيه إبراهيم من الجنة
وصار ركنًا للكعبة، ويُصلّون خلف المقام الإبراهيمي وهو الصخرة التي كان يقف عليها
خليل الرحمن إبراهيم حين كان يرفع جدران الكعبة بينما ابنه إسماعيل يناوله
الأحجار، ويشربون من ماء زمزم ويتضلّعون منه تبرّكاً وهي العين التي فجرها جبريل عليه
السلام بأمر الله تعالى لهاجر وابنها المبارك، ويسعون حول الصفا والمروة التي سعت
بينهما هاجر لما خافت على ابنها إسماعيل الضيعة، ويرمون الجمار في ثلاثة مواطن في
مشعر منى تعظيمًا لله تعالى وتكبيرًا له وإشهار العداوة للشيطان، وينحرون الأضاحي
والهدايا والفدى15 في بطاح منى التي أَضجعَ
الخليلُ ابنَهُ ليذبحه بأمر ربه "فبشرناه بغلام حليم . فلما بلغ معه السعي قال
يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر
ستجدني إن شاء الله من الصابرين . فلما أسلما وتلّه للجبين . وناديناه أن يا
إبراهيم . قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين . إن هذا لهو البلاء المبين .
وفديناه بذبح عظيم . وتركنا عليه في الآخرين . سلام على إبراهيم . كذلك نجزي
المحسنين . إنه من عبادنا المؤمنين [الصافات: 101ــ 111].
وقد أكرم الله إسماعيل وأمه ثم من جاء بعدهم
بالماء المبارك زمزم وماء زمزم لا يشبه أي ماء في الأرض على الحقيقة، وتـختلف خواصه عن بقية المياه، كذلك فهو يغني عن الطعام
والشراب، فهو طعام طعم وشفاء سقم وهو ماء مبارك، وإلى يومنا هذا لم تجف مع جفاف ما
حولها من العيون, وتضخ حالياً خمسة عشر لتراً في الثانية! وهي بواد جاف وليس حولها
أنهار وأمطار بقعتها نادرة! والأعجب من كمّيتها طبيعة مائها, وكيف صارت رِيًّا وغذاءً
ودواءً! ولا عجب فهي هَزْمَةُ جبرائيل بأمر رب العالمين. ولا زال الناس منذ كان
إسماعيل رضيعًا إلى وقتنا هذا يشربون منه ويأخذون كفايتهم بل قد وصل إلى أقاصي
الأرض، ولم يتوقف هذا الماء أبدًا إلا حينما دفنت
قبيلة جرهم البئر ثم حفرها عبد المطلب وأعادها كما كانت.
أما
أهل الكتاب فقد حرفوا اسم الذبيح، وحرفوا اسم المكان المعظم الشريف الذي جرت فيه
أحداث القصة، وهو المسجد الحرام والبقاع المقدسة مهوى أفئدة المؤمنين، ومكان حج
أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وبقية الأنبياء من بعده، فكل من أتى بعده من الأنبياء إنما
من ذريته، وكلهم حج البيت الذي بناه لربه وسيحجّها المسيح عليه
السلام، فقد حجوا مكة المكرمة
وكعبتها المشرفة ومشاعرها المقدسة كالصفا والمروة ومنى ومزدلفة وعرفات، أما
الأحبار الذين حرفوا التوراة فقد حرفوا اسم ذلك المكان الأقدس في الأرض حتى يصرفوا
أفئدة الناس عنه، لكن أبى الله إلا إظهار ذلك ببعثه
نبي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم في عين المكان الذي بناه أبوه
إبراهيم بيت الله الشريف الكعبة، وأن
ينزل عليه قرآنًا يتلى إلى يوم القيامة، وأن يفرض على كل مسلم قادر مكلف أن يحج
هذا البيت ولو مرة في عمره "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى
للعالمين . فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين" [آل عمران:
96، 97].
أما أهل الكتاب فقد حرفوا المسميات ففي التوراة السامرية حرفوا مكة إلى (الأرض المرشدة) أما في
العبرانية فحرفت إلى (المريا) ولعله تحريف لمسمى جبل المروة وهو بجوار الكعبة
المشرفة، والعجيب اتفاق النص السامري والعبراني على تسمية ذلك الموضع (جبل
الله) _علمأ أن التوراة السامرية لا تكاد تتفق مع
التوراة العبرانية في شيء حتى في الوصايا العشر_ ولم يكن هذا المصطلح
مستـخدمًا إذا ذاك! فتاه اليهودُ في تحقيق مكانه لكنهم لم يخرجوه من فلسطين ــ
كعادهتم ــ والحق أنه في بلاد فاران في مكة، وقد ألمح المسيح عليه
السلام لذلك في جوابه للمرأة
السامرية حين سألته عن مكان العبادة الحقيقي، فأخبرها
أنه ليس في السامرة ولا يهوذا أصلاً، وأن اليهود يسجدون لما لا يعلمون أما هو فلا
(يوحنا 4: 19ــ 24) وقد نص شيخ الإسلام في عدة مواضع على أن قبلة
جميع الأنبياء كانت الكعبة.
ولعل
التحريف والطمس قد طال هذا الموضع كغيره "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا
قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به" [المائدة:
13].
وقال
النبي ميخا عليه السلامعن مكة والبيت الحرام ووفود الحجيج لها عند جبل عرفات أو
الكعبة: «يكون في آخر الأيام بيت الرب مبنيًا على تلك
الجبالومكة
منطقة جبلية وفي أرفع
رؤوس العوالي يأتيه جميع الأمم16 ويقولون تعالوا نطلع إلى جبل
الرب» (ميخا 4: 1، 2).
كما
رمز لمكة المكرمة النبي إشعيا عليه السلام فوصفها بالعاقر التي لا تلد «ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد. أشيدي بالترنم أيتها التي
لم تمخض. لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل. قال الرب: أوسعي مكان خيمتك.
ولتُبسط شُقَق مساكنك. لا تمسكي. أطيلي أطنابك وشددي أوتادك. لأنك تمتدين
إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أممًا ويعمر مدنًا خربة. لا تـخافي لأنك لا
تـخزين.. وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيرًا، بالبر تُثّبتين بعيدة عن الظلم
فلا تـخافين.. من اجتمع عليك فإليك يسقط» (إشعيا 54: 1ــ 16).
فهذا
الإصحاح قد أوضح الوجهة أنها مكة بِأُمَّةِ الإسلام، هذا وقد
امتلأ سفر إشعيا بالبشارات الإسلامية.
وفي
هذا النص وصف مكة بالعاقر التي لم تلد ولم
تمخض لأنها حتى ذاك الوقت لم تلد
نبيًا بعد إسماعيل, أما أورشليم فقد ولدت الأنبياء فلا يصح وصفها بالعاقر، كذلك وصفها بالمستوحشة فهي في وسط برية فاران وليس حولها أنهار أو مواطن سكنى
خلا بيت الله الحرام "بواد غير ذي زرع" (إبراهيم: 37) وبنيها
الإسماعيليون أكثر من بني أورشليم «أطيلي أطنابك
وشددي أوتادك»، ومُلكها سيتسع وسيستظل أناس في أماكن بعيدة في ظل خيمتها
ومملكتها، وستذهب أطنابها وتجارتها وجيوشها وأوتادها بعيدًا «لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار» ومملكتها
الإسلامية ستمتد إلى اليمين واليسار، وهذا هو الحاصل فامتدت مملكة الإسلام من
اليمين حتى الصين ومن اليسار حتى أقصى المغرب وشاطئ الأطلسي، أما في الشمال
والجنوب فليس كذلك كشمال أوروبا وأستراليا ونيوزلندا «ويرث
نسلك أممًا ويعمر مدنًا خربة» كأمة فارس وكثير من أمم آسيا وأفريقيا.
«لا تـخافي لأنك لا تـخزين» فهي دار الأمان والسلام «وكل بنيك تلاميذ الرب» فكل المسلمين مطالبين بتعلم
الدين وقراءة القرآن ومعرفة أحكام الشريعة وعبادة الله على بصيرة فهناك حد أدنى من
العلوم لا يعذر في تركه مسلم «وسلام بنيك كثيرًا»
وهذه إشارة لفظية لمسمى هذه الديانة العظيمة وهي الإسلام دين السلام للعالم
والاستسلام لرب العالمين «بالبر تثبتين. بعيدة عن
الظلم فلا تـخافين» ولا يظلم فيها أحد, كما قال الله تعالى: "ومن دخله
كان آمناً"[آل عمران: 96]، فبشهادة الأعداء قبل الأصدقاء أن المسلمين هم أحرص
الناس على إقامة العدل ومنع الظلم، «من اجتمع عليك
فإليك يسقط» كما وقع لأصحاب الفيل الذين أرادوا هدم الكعبة فأرسل الله
عليهم طيرًا بحجارة من نار فقتلهم، وعام الفيل هو عام مولد سيد البشرية وخاتم
الرسل محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وكانت العرب تؤرخ بعام الفيل
وهو من قبيل المتواتر عندهم حتى خلد الله ذلك بسورة الفيل.
أما نص المزامير فهو واضح كالشمس في تعيين مكة المكرمة التي سماها صراحة (بكة) 17 وقال الله تعالى في محكم
التنزيل: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين" [آل
عمران: 96]، وقيل في معنى بكة: إنها التي تبكّ
أعداءها أي تبكتهم بإذن الله. فهي تُبكُّ أعناق الظلمة والجبابرة بمعنى يذلون بها
ويخضعون عندها، وقيل لأن الناس يتباكّون فيها أي يزدحمون. وأنها تُضاعف فيها
الحسنات والصلوات، كما أخبر بذلك نبي هذه الأمة المرحومة بأبي هو وأمي ونفسي حين
قال: «وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه»18. «طوبى
للساكنين في بيتك أبدًا يسبحونك. سلاه. طوبى لأناس عزهم بك. طرق بيتك في قلوبهم عابرين في وادي
البكاءأصله (بكة) لكن تم تحريفه جريًا على عادتهم الذميمة في
ترجمة ما لا يترجم، فالأسماء لا تترجم لأنها أعلام على أشياء معينة وليست مجرد
أوصاف قد تتسم بالشيء أو تتـخلف عنه، لذلك فقد حافظت على صورة الكلمة دون تحوير
بترجمة المعنى بعض الترجمات العالمية، ففي الترجمة الإنجليزية (Baca) كذلك الفرنسية (Baca) فذكرتا أن اسم الوادي بكة، وهذا
صريح لا شية فيه بتعيين تلك البقعة المباركة، فلا نعلم في أصقاع المعمورة بلدة
سميت بكة سواها. "يصيرون ينبوعًالعل
أصله (يشربون ينبوعه) أو نحوه، والمقصود الينبوع المبارك زمزم، وهو مياه زمزم الذي
نبع من تحت قدمي إسماعيل بهزمة الملك فصارت موردًا ليصدر عنه ملايين العطاش في واد
مقفر غير ذي زرع. "أيضًا ببركات يغطّون مورةأي يغطّون جبل المروة
بأجسادهم إذا وقفوا عليه مكبرين مهللين داعين ضارعين، ومورة تحريف عن مروة. "يذهبون من قوة إلى قوّة"
وهو وصف لتنقل الحجيج من مشعر ومنسك إلى آخر، فمن مكة
إلى منى إلى عرفات إلى مزدلفة إلى منى إلى مكة"يرون
قدام الله في صهيون
وهذا ليس بشيء, إنما هو مجرد حضور للنَّفَسِ الصهيوني, ولعل صهيون محرفة عن عرفات
ومعنى صهيون بالعبرية الحصن، ويقولون: إن صهيون أو جبل صهيون هو جبل النبي داود في
اليهودية بقرب المسجد الأقصى. فهي ــ عندهم ــ وطن العبرانيين ورمز آمالهم
القومية، وأورشليم تقوم على تَلَّين أحدهما يسمى صهيون، وقيل: بل هو اسم محلّة
قديمة بمدينة القدس الشريف، وقيل: صهيون هو حصن العماليق الذي فتحه بنو إسرائيل
بقيادة طالوت وداود عليه السلام، وقيل: إن صهيون وَصْفٌ وليس عَلَمٌ, ومعناه
المدينة التي يختارها الله لبيته. وبهذا ــ إن صح ــ تكون صهيون هي مكة المكرمة ــ
بهذا الاصطلاح وعليه تتوجه آية المزامير ــ وإن كنت لا أميل لهذا ــ وللعلم فالصهيونية ليست ملازمة لليهودية فليس كل اليهود صهاينة ولا
كل الصهاينة يهود، بل الصهاينة هم ــ بحسب العرف الحالي العالمي ــ من
يعدّون العدة لبناء الهيكل السليماني لتهيئة أرض الميعاد لمجيء المسيح في آخر
الزمان، وكل هذا عن طريق إنشاء وطن قومي لليهود.
وفي كتـاب (الأنساب والعائلات الشامية) أن كلمة صهيون عربية وليسـت
عبريــة، وأن صهيون اسم جبل جنوب
غرب مدينة القدس الشريف، وهو اسم عربي محض، وقد سكن الجبل اليبوسيون أبناء عم
الكنعانيين, وأقاموا عليه حصنًا ــ ولعل الحصن منسوب إلى الجبل ــ وسكان هذا الجبل
والحصن هم سكان فلسطين الأصليين وهم الكنعانيون والفينيقيون والعموريون وهم من
القبائل التي سكنت هذه البقعة قبل عهد موسى عليه السلام بألفي سنة، وقد سرق اليهود
أسماء المدن والحصون ونسبوها لأنفسهم، ومثال ذلك: تسمية أورشليم أي القدس وهي كلمة
كنعانية آرامية وردت في النصوص الكنعانية قبل ظهور موسى عليه السلام بقرون عدة،
وهناك عائلة عربية كبيرة ليس لها أي صلة باليهود تسمى عائلة صهيون وأصلهم من جبل
صهيون العربي وهم متواجدون في فلسطين ومصر وسوريا ولبنان والأردن. ا.هــ.
والحاصل أن
صهيون جبل في القدس سمّاه ونزله العرب ثم أجلاهم عنه اليهود ــ لما كانوا متبعين
للكتاب ــ ثم نزلوه, وكثر ترداده في العهد القديم (قرابة 200 مرة) حتى
نسبوه إليهم، ونسبوا تلك الدعوة لإقامة دولتهم إليه، فأصبحت في هذا الزمان علمًا
عليهم حتى وإن كان أصل التسمية من غيرهم، وعلى كل حال
فالأرض كلها أرض الله تعالى, وأولى الناس بها من أقام دين الله وحكم كتابه
وآمن برسله، قال تعالى: "قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله
يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" [الأعراف: 128] والمتقون هم من
أسلموا لله واتبعوا رسله وهم الأمة المسلمة في هذا الزمانيا رب إله الجنود اسمع صلاتيولعله يقصد صلاة الحجيج في عرفة, فيصلي الظهر والعصر في ذلك
اليوم ملايين البشر في ساعة واحدة في مكان واحد في زي ولباس واحد إلى قبلة واحدة
إلى رب واحد، ولعل الصلاة المقصودة هنا هي الدعاء, ونسك الحج كله دعاء، دعاء ثناء
ودعاء مسألة.... انظر يا الله والتفت إلى وجه مسيحكوالمسيح وصف للصالحين في
لغة العهد القديم، ولعل المقصود هنا هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حج معه حجة الوداع أكثر
من مئة ألف مسلم.لأن يومًا واحدًا في دياركفي بعض النسخ «في الكعبة» بدل «في ديارك»خير من ألف... » (المزمور 84: 4ــ 10). وفي الصحيحين
عن نبي الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا ــ أي مسجد المدينة النبوية
ــ خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» وعند أحمد وابن خزيمة وابن حبان
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما
سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه»
وعند مسلم «أفضل من مئة صلاة في مسجدي هذا».
وقد
سمّاها النص العبري (بكة) فتقرأ هكذا (بعيمق هبكا) أي (وادي بكة).
وحتى الذين حاولوا أن يبعدوا الاسم عن بكة حين
قالوا: (وادي البكاء) وأبعدها بعضهم أكثر فقال: «وادي البلسان» كما في الرهبانية
اليسوعية، فقد اعترفوا أن بكة هي وادي البكاء وهي
وادي البلسان وكلها ترجع إلى مسمى واحد وبقعة واحدة، ففي قاموس الكتاب
المقدس19 ورد أن كلمة (Baca) قد تعني بلسان، وقال كذلك: «إنها سُميت بلسان نسبة لشجر ينبت في بلاد العرب قرب مكة20، وفي دائرة المعارف الكتابية
«أما البلسان فهو بلسم مكة الذي ما زالت مصر تستورده
من الجزيرة العربية»21.
بل
لقد ذهب الأستاذ عباس العقاد إلى أن وطن إبراهيم عليه
السلام لم يكن بيت المقدس ولا
بجواره، سواءً نظرنا إلى وطن السكن أو وطن الدعوة أو وطن المرعى، فالمتواتر من
روايات التوراة؛ أنه لم يجد عند بيت المقدس مدفنًا لزوجه فاشتراه بالمال من بعض
الحثّيين22، ومن المعلوم أن أول من بنى
المسجد الأقصى في بيت المقدس هو يعقوب عليه
السلام (إسرائيل)23، فماذا كان في بيت المقدس
حينها حتى يُقدس؟!
قلت:
ولكن المستقر عند المسلمين أن الشام هي مهاجر إبراهيم عليه
السلام، وأشرف الشام هو بيت المقدس،
والأظهر أن وطنه كان هناك، ولا عبرة بتحريفات العهد القديم.
وقد
بيّن سفر التكوين أن إبراهيم عليه السلام كان يسير إلى الجنوب حتى يستطيع أن يبني لله مسجدًا24 وهو الكعبة.
وفي الأسفار إطلاق جهة الجنوب (تيمان) وهي تقابل كلمة (اليمن) في اللغة
العربية، ويَمَنُ الشامِ هو جنوبه أي الحجاز حيث كانت الرحلة الجنوبية الإبراهيمية
إلى مكة التي هي قلب الحجاز، ومكة هي
التي رفع فيها إبراهيم أعظم بيت لله على وجه البسيطة وهو الكعبة المشرفة، ولعله
كان يحج كل عام ويطمئن على أهله وعلى دعوته الحنيفية التوحيدية وسيرها في قبائل
الحجاز.
قال الشيخ الدكتور سفر الحوالي: «ولما كانت النبوة
في ذرية إبراهيم عليه السلام كان المسجد الأقصى محور الأحداث، ومسجد الأنبياء من
ذرية إسحاق، ولما أراد الله نزع النبوة والكتاب منهم
وجعلها في فرع إسماعيل اقتضت حكمته أن يولد النبي صلى الله عليه وسلم في البلد
الحرام نفسه, حيث تَعْلَمُ العربُ قاطبة أنه من ذرية إسماعيل، وأنه يولد في العام
الذي صد الله أصحاب الفيل النصارى عن بيت الله الحرام»25، ثم ذكر الحوالي ثمانية
وعشرين نصًا من الكتاب المقدس وشروحه تثبت صفات بيت الله (الكعبة) وبلده الحرام
(مكة): في برية فاران، جبال فاران، سكانها بنو قيدار (ذرية
إسماعيل)، بلد الأمين الصادق (من ألقابه صلى
الله عليه وسلم قبل أن يبعث الصادق الأمين)، رئيس
الخليقة، ليس فيها هيكل، هيكل سليمان في كل عظمته لا يعتبر شيئًا بالنسبة للبيت
الجديد (أي الذي تجددت ملة رافعه إبراهيم عليه السلام) والبيت الجديد شكله مكعب (كعبة)، المكعبة فيها حجر كريم (الحجر الأسود)، تُزيَّنُ بالإكليل والحلي كالعروس (كما هو حالها
الآن)، يهابها كل من يناوئها، عند الكعبة نبع ماء
الحياة مجانًا فيه شفاء (زمزم)، تفتح أبوابها
ليلاً ونهارًا لا تغلق (كحال المسجد الحرام الآن)، تجثو عندها كل ركبة في الكون (فمهما كان قدر الإنسان المسلم في
الدنيا فلابد له من الصلاة إليها)، تكون هناك سكة
وطريق يقال لها الطريق المقدسة لا يعبر فيها نجس (أي مشرك كما هو واقع الآن
من عدم السماح لغير المسلمين بالاقتراب من حدود الحرم) قال تعالى: "يا أيها
الذين آمنوا إنما المشركزن نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [التوبة:
28]، تضيق بسكانها والراعين فيها (يحجها كل
عام أكثر من ثلاثة ملايين أما العُمّار على مدار العام فأكثر بكثير)، يسجد الملوك أمامها (كما هو مشاهد)، تنقل إليها ثروة البحر ويأتي إليها غنى الأمم (كما
هو الحال في أسواقها التي تضم غالب تجارة الشرق والغرب)،
تضيق أرضها عن الإبل والغنم القادمة من الشرق والغرب (كما هو حاصل الآن في
موسم الحج وأضاحي الحجاج)، لها جبل مبارك تسير إليه
الأمم ليعبدوا الله فيه (عرفات)، الكل عند
البيت سواء في حرية التقرب إلى الله، يمتنع العباد حول البيت عما يصدر عن الطبيعة
(نواقض الطهارة)، يكون رأس الرجل عاريًا والمرأة تغطي
رأسها ويجزون شعر رؤوسهم جزًا (في الحج والعمرة)26.
ولو
نظر المنصف لصلاة التراويح أو نقل شعائر الحج لرأى مصداق تلك البشارات الآنفة في
الأمة المسلمة ولله الحمد والمنة.
ثم تأمل نبوءة إشعيا الأخرى: «غنّوا للرب أغنية جديدةوهي تلبية الحج وجؤار الحجيج (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك
لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
تسبيحه من أقصى الأرضفيلبون من بعيد وهم في طريقهم للمسجد الحرام.
أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها،
لترفع البرية صوتها الديار التي سكنها قيداروديار قيدار بن إسماعيل هي مكة المكرمة.،
لتترنم سكان سالعسالع جبل قبالة أحد في
المدينة النبوية، والمدينة هي أخص الأماكن بمكة وهي مهاجر رسول الله صلى الله عليه
وسلم, والإيمان يأرز بينهما، والمقصود
تلبية من أراد الحج والعمرة من أهل المدينة أو أهل الشام وفلسطين ممن مروا بها،
وميقات ذي الحليفة في المدينة هو أبعد المواقيت عن مكة المكرمة، وفي المدينة جبل
آخر يُسمى سلع. من رؤوس الجبال ليهتفواليعطوا
الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر» (إشعيا 42: 10ــ 13). وعند مسلم من حديث جابر رضي
الله عنه في وصفه لحجة الوداع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ركب القصواء حتى
إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماشٍ وعن
يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك... فأهل بالتوحيد لبيك اللهم
لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» فأعظم حجة
حُجَّ بها البيت الحرام على الإطلاق هي تلك الحجة، فلعلها مقصودة بخصوصها لعظمتها،
ولاحظ قوله «لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا
ليعطوا الرب مجدًا» ففيها تمام المطابقة لهذه الوفود الحاشدة الصالحة
المصاحبة لنبيها صلوات الله وسلامه عليه الهاتفة المترنمة بتمجيد ربها وتنزيهه
وتعظيمه
ومن سفر
إشعيا كذلك: «قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد
الرب أشرق عليك... أما عليك فيُشرق الرب ومجده عليك يرى فتسير الأمم في نورك
والملوك في ضياء إشراقك. ارفعي عينيك حواليك وانظريأي مكة المكرمة قد
اجتمعوا كلهم جاءوا إليك، يأتي بنوك من بعيد.. تتحول إليك ثروة البحركما هو الحال من جلب ثروات
الأمم وتجاراتها إليها.، ويأتي إليك غنى الأمم. تغطيك كثرة الجمالأي في عيد الأضحى المبارك
فتنحر الأضاحي من بهيمة الأنعام الإبل والبقر والضأن والمعز في منى يوم الحج
الأكبر وهو أعظم أيام السنة.،
بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبالعلها سبأ أي بلاد اليمن وفي
العبرانية تُقلب السين شينًا. كما في موسى "موشي". تحمل
ذهبًا ولبانًا وتبشر بتسابيح الربوهي
التلبية الخالدة للحجاج والعمار،
كل غنم قيدار تحمل إليكأي غنم العرب أبناء قيدار بن إسماعيل
ليوم الأضحى. كباش نبايوت تـخدمك تصعد مقبولة على مذبحيأي مشعر منى فهو منحر الحجيج
الأعظم، وفيه يقدمون أضاحيهم (قرابينهم) إلى الله تعالى، اقتداء بسنة نبيهم محمد
الذي يقتدي بسنة أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام حين ذبح الكبش فداء عن ابنه
البكر إسماعيل، وقد كانت قرون الكبش معلقة في جوف الكعبة إلى أن احترقت في وقت ابن
الزبير. وأزين بيت جمالي» (إشعيا: 1ــ 9). ففي كل سنة تلبس
الكعبة كسوة جديدة منسوجة من الحرير الخالص وموشاة ومحلاة بالذهب الخالص، بعد أن
تغسل وتطيب، فلله در هذه الأمة المعظمة لبيت ربها.
هذا
وقد أشار سفر صفنيا إلى حال هذه الأمة التي تصلي صفًا واحدًا وتعبد الله كتفًا على كتف «أحول الشعوب
إلى شفة نقيّة ليدعوا كلهم باسم الرب ليعبدوه بكتف واحدة» (صفنيا 3: 9)،
وشفتهم نقية لأنهم لم يلوثوها بمسبّة رب العالمين كما فعل أهل الكتاب بأن اتهموه
بالتعب والنسيان والبخل وبأنه ثالث ثلاثة!
أما الحجر
الأسود (حجر الزاوية للكعبة المشرفة) فله ذكر مجيد واحتفاء جليل مغلف برمزية العهد القديم كما
في سفر دانيال عليه السلام حينما فسر رؤيا الملك «كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين
فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما.. فحملتها الريح فلم يوجد لها
مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيرًا
وملأ الدنيا كلها» (دانيال 2: 31ــ 35) وكل المسلمين في جهات الأرض يصلون
جهة الكعبة, بل ويدفنون جهتها موتاهم, فقد انتشر تعظيمها في كل أركان الأرض، والذي
جدد تعظيم بيت الله تعالى هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي عناه المسيح عليه
السلام مشيرًا لبشارة داود عليه
السلام بقوله: «الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار
رأس الزاوية، من قبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إن ملكوت
الله ينزع منكمأي بني
إسرائيل فخطاب المسيح كان موجهًا لهم.
ويعطى لأمة تعمل أثماره» (متى 21: 42، 43)
(المزمور 118: 22، 23). وقد انبهر كثير من المؤرخين
ووقفوا طويلاً متأملين تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم للكعبة وتواضعه وخضوعه، وقد ظهر ذلك جليًا في فتح مكة، فمع أنه دخلها فاتحًا
مظفرًا قد أمكنه الله من رقاب أعتى أعدائه الذين آذوه وقتلوا أصحابه وحاولوا قتله
وصدوا الناس عن دينه إلا أنه دخل مكة يوم الفتح خاضعًا متذللاً لعظمة ربه حتى إن
وجهه ليكاد يمس مورك رحله، وطوافه بالبيت وتعظيمه، وتحطيمه جميع الأوثان التي حول
الكعبة بنفسه وقد شدت بالرصاص فما يشير إلى وجه واحد منها إلا سقط على قفاه، وما
يشير إلى قفاه إلا سقط على وجهه وهو يتلو: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن
الباطل كان زهزقاً"[الإسراء: 81]، كما في سيرة ابن هشام عن ابن عباس رضي الله
عنهما وكان عددها ثلاثمئة وستون صنمًا، فطهّر فناء بيت ربه من من رجس الأوثان، ثم
دخلها ورأى هيكل حمامة من عيدان فكسرها، ثم رأى صور الملائكة في جوف الكعبة وصورة
أبويه إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام وقد صوروهما يستقسمان بالأزلام، فدفع ذلك
عنهما وقال: «والله إن استقسما بالأزلام قط» أي لم يستقسما قط، ثم تلا: "ما
كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من
المشركين" [آل عمران: 67] ثم أمر بتلك الصور فطمست، وكبر في نواحي الكعبة، ثم
صلّى فيها ركعتين، ثم وقف على بابها وقريش تحته، وقال: «ما ترون أني فاعل بكم؟»
فقالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: «أقول كما قال أخي يوسف:"لا
تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم" [يوسف: 92] اذهبوا فأنتم الطلقاء» فأعتقهم
جميعًا وقد تمكن من قتلهم. وبلغ من وفائه أن ابن عمه علي جاءه بمفتاح الكعبة وقال:
اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال: «أين عثمان بن طلحة» ــ وكان حامل المفتاح وحاجب الكعبة قبل الفتح ــ
فأعطاه المفتاح، وقال: «اليوم يوم بر ووفاء لا ينزعه منكم إلا ظالم» صلى الله عليه
وسلم وبارك.
الحاصل أن فتح
مكة قد تجلت فيه عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه لربه وتواضعه له وشكره له
وحمده، ووفاءه وكرمه ونبيل سجاياه.
إنها البقاع المقدسة التي حجها الأنبياء عليهم السلام كما أخبر عنهم أخوهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم حين
أوصى أمته على صعيد عرفات قائلاً: «كونوا على مشاعركم
فإنكم على إرث إبراهيم»27، وبيّن لأمته أن لهم سلفًا
مجيدًا من عظماء الموحدين وسادة المتقين من الأنبياء والمرسلين، ومن ذلك قوله: «كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية وله جُؤار إلى الله بالتلبية.. كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة وهو يلبي»28، والجؤار: رفع الصوت،
والخلبة: الليف.وقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي
نفسي بيده ليلهّن ابن مريم بفجّ الروحاء حاجًّا أو معتمرًا أو يثنيهما»63. ومعنى يثنيهما أي يقرن بين
الحج والعمرة. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم رأى المسيح ابن مريم يطوف حول
الكعبة بين ملكين.
فلله
الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً على أن هدانا للإسلام, الذي هو دين جميع
المرسلين, بل دين كل الخليقة إلا من كذب وأبى من عصاة الثقلين, ونسأله بأسمائه
وصفاته أن يثبتنا عليه حتى نلقاه وهو راض عنا, يا حي يا قيوم, يا ذا الجلال
والإكرام, يا أرحم الراحمين.
ولا زال أهل الإسلام معظمين للبيت الحرام,
لا يشبع نهمتهم تتابع وفادتهم حجاً أو عمرة أو جواراً. وقد قال البرعي لما كان في طريقه للحج وقد أحس بأعراض
الاحتضار والرحيل, ويروى أن روحه قد خرجت مع آخر بيت منها:
يا راحلين
إلى منىً بقيادي ... هيّجتموا يوم الرحيل فؤادي
سرتم وسار
دليلكم يا وحشتي! ... الشوق أقلقني وصوت الحادي
وحرمتموا
جفني المنام ببعدكم ... يا ساكنين المُنحنى والوادي
ويلوحُ لي
ما بين زمزمَ والصفا ... عند المقام سمعت صوت منادي
ويقول لي
يا نائماً جد السُّرَى ... عرفاتُ تجلو كل قلبٍ صادي
من نال من
عرفات نظرة ساعة ... نال السرور ونال كلَّ مرادِ
تالله ما
أحلى المبيت على منىً ... في ليلِ عيدٍ أبرك الأعيادِ
ضحَّوا
ضحاياهم وسال دماؤها ... وأنا المتيّم قد نحرت فؤادي
لبسوا ثياب
البيض شارات اللقاء ... وأنا الملوّع قد لبست سوادي
يا رب أنت
وصلتهم صلني بهم ... يا رب يا رحمن فُكَّ قيادي
فإذا وصلتم
سالمين فبلّغوا ... منّي السلام أُهيلَ ذاك الوادي
صلّى عليك
الله يا عَلَمَ الهدى ... ما سار ركبٌ أو ترنَّمَ حادي
إبراهيم
الدميجي
10/10/
1433
@aldumaiji
* * * ************ **
(1) مسمى أو لقب
(المسيح) يشترك فيه أكثر من شخص، أما (المسيّا) فهو خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم على
قول بعضهم، وآخرون يجعلونه تحريف عن المسيح بقلب حائه ياءً، وهناك خلاف في نطقه
بين (المَسِيَّا أو المِسِيَّا أو المِسِّيَّا) والضبط الأول أظهر، وبعضهم يجعل
المسيح ممهد للمسيا ومبشر به فالأول عيسى والثاني محمد عليهما الصلاة والسلام.
(2)
ينظر: هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ د. السقار، ص9ــ11.
(3) ومنها: ما جاء في الطبعة العربية للكتاب
المقدس (1811م): «سمى إبراهيم اسم الموضع مكان يرحم الله زائره» (تكوين 22: 14)
فاسم المكان العبراني قد استبدله المترجم بمعناه! وفي طبعة (1844م) العربية: «دعا
اسم ذلك الموضع الرب يرى» وبذلك ضاع الاسم الصحيح واختلفت المعاني ومثله كثير...
(4) ذكر مؤرخ يهودي سامري ــ لم يُسلم ــ وهو أبو الفتح بن أبي الحسن
السامري: أن ثلاثة رجال أحدهم من اليهود
السامريين من نابلس واسمه صرماصة، وثانيهم من اليهود العبرانيين من أورشليم ويلقب
بكعب الأحبار، وثالثهم راهب نصراني واسمه عبد السلام،
فاجتمع هؤلاء الثلاثة وانطلقوا لمقابلة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال ما نصّه:
«وجاءوا حتى وصلوا إلى المدينة التي هو فيها، وقال بعضهم لبعض: من يتقدم أولاً؟
فقال كعب الأحبار: أنا، فتقدم وسلّم عليه، فرد عليه, وقال له: من أنت من أولاد
اليهود؟ فقال: أنا رجل من مقدمي اليهود، وجدت في توراتي أن يقوم ملك من نسل
إسماعيل ويملك الدنيا ولا يقف بين يديه أحد، فتقدم عبد السلام بعده
وقال: هكذا وجدت في الإنجيل، وتقدم إليه صرماصة، وقال له: أنت تدين بدين وسيعة
وتملك رقاب العالم» عن كتاب: التاريخ مما تقدم عن الآباء، أبو الفتح السامري، وقد
كتبه سنة (756هــ) في نابلس. وطبع هذا الكتاب سنة (1865م) وله أصل ألماني ومقدمة
باللاتينية. عن: البشارات بنبي الإسلام، د. أحمد السقار (1/ 47، 48).
(5)
وقد ذكر تلميذه الحافظ ابن كثير أن الذي وجد قد
زاد على مئة وخمسين بشارة.
(6)
وانظر: الجواب الصحيح (5/ 160ــ 198).
(7) ويسميه العامة جبل النور وفيه غار حراء الذي
كان يتحنث فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة حتى فجأه الوحي.
(8)
أو تلالؤه وهناك أكثر من لفظ وارد.
(9) وفي نسخ الكتاب المقدس التي بنى ابن تيمية
وابن القيم عليها كتابيهما (الجواب الصحيح) و(هداية الحيارى): «إن الله جاء من التيمن (اليمن) والقدوس من جبال فاران. لقد أضاءت السماء من بهاء محمد
وامتلأت الأرض من حمده. وشاع منظره مثل النور. يحوط بلاده بعزه، تسير المنايا
أمامه، وتصحب سباع الطير أجناده، قام يمسح الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة،
وانخفضت الروابي فتزعزعت أسوار مدين، ولقد حاز المساعي القديمة» (حبقوق 3:
1ــ 7).
وانظر: هداية
الحيارى، ص187، وأمثال هذا كثير في اقتباساته وقبله ابن تيمية وابن حزم.
وليس لدي شك في أن أهل الكتاب لما فُلجوا بعلم
المسلمين ببشارات نبيهم في كتبهم المقدسة مفصلة عادوا إليها ليتتبعوا تلك البشارات
على ضوء كتب علماء الإسلام ليحوروها ويحرفوها ويطمسوها، وربما رمز بها بعض
المخلصين حفظًا لها من الحذف، ولكن يأبى الله إلا أن يُبقي فيها دلائل واضحة
متعددة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
(10) قاموس الكتاب المقدس، ص228.
(11) وسيأتي بسط ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
(12)
ولعلها التي اعتمدها الإمام ابن القيم في كتابه (هداية الحيارى)، أما شيخه
ابن تيمية فكان اقتباسه الرئيس من النسخة التي تذكر (تتلألأ).
(13) محمد في بشارات الأنبياء، محمود الشرقاوي،
ص14.
(14) وانظر: منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام
ابن تيمية (8/ 238ــ 241)
(15) قال الله تعالى مبينًا الحكمة من ذلك وهي
التقوى: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك
سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين" [الحج: 37].
(16)
قال الله تعالى ذاكرًا أمره لنبيه الخليل إبراهيم عليه السلام لينادي الناس
بالحج لبيته العظيم وأن الغرض من كل ذلك هو تعظيم رب العالمين وتوحيده وذكره:
"وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئاً وطهّر بيتي للطائفين
والقائمين والركع السجود . وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ظامر يأتين
من كل فج عميق . ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات على ما رزقهم
من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . ثم ليقضوا نفثهم وليوفوا
نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق . ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه
وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول
الزور" [الحج: 26ــ 30].
(17) ولمكة أسماء كثيرة مما يدل على فضلها وعلوّ
مكانتها: مكة، بكة، البيت العتيق، البيت الحرام،
البلد الأمين، المأمون، أمُّ رُحْم، أم القرى، صلاح، العَرْش، القادس، المقدسة،
الناسَّة، الباسَّة، الحاطمة، النّسّاسة، الرأس، كُوثي، البلدة، البنيّة، الكعبة.
تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (2/ 78).
(18) رواه أحمد وابن ماجه. وعند العلماء أن المكان
الفاضل والزمان الفاضل تضاعف فيهما الحسنات أكثر من غيرهما كما تغلظ فيهما السيئات
أكثر من غيرهما.
(19)
قاموس الكتاب المقدس، ص178.
(20) السابق، ص507. وانظر: دائرة المعارف الكتابية
(2/ 187ــ 189) عن: هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم، ص41ــ 56.
(21) (2/ 187ــ 189).
(22) أبو الأنبياء إبراهيم، عباس العقاد، ص232.
(23) وكان بناء بيت
المقدس بعد رفع إبراهيم وإسماعيل بنيان الكعبة بمكة المكرمة بأربعين عامًا.
مسلم (1/370) من حديث أبي ذر مرفوعاً.
(24) وبعضهم يسمي
مساجد الأنبياء هياكل كقولهم للمسجد الأقصى (هيكل سليمان) مع أن هذه تسمية وثنية
مأخوذة من الصابئة عباد الكواكب.
وقال د. الحوالي:
«يزعم اليهود أن هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى أو حواليه، وقد نبشوا الأرض وأكثروا
الحفر فما وجدوا هذا الهيكل المزعوم، ونحن نعتقد ما جاء في سفر الملوك (9: 2) من
قول الله تعالى لسليمان عليه السلام بعد بنـاء
المسجد: «قدست هذا البيت الذي بنيته لأجل وضع اسمي فيه إلى الأبد» فهذا حق،
وبذلك يتطابق حكم الله الشرعي مع حكمه القدري، ولا زلنا بحمد الله نقدس هذا البيت
ونعبد الله
فيه، أما اليهود الذين أبوا إلا العنصرية والتلبيس فعن أي شيء يبحثون؟! إن كانوا يريدون المكان المقدس عند الله فهاهو قائم ظاهر
فليعبدوا الله فيه كما شرع على لسان خاتم رسله وأنبيائه ومجدد ملة إبراهيم عليه
السلام، وماذا عليهم لو أسلموا فاهتدوا إلى الحق وعرفوا الحقيقية.
وإن كانوا يريدون
مجرد البناء فما قيمة الحجارة في ذاتها إذا كان ما يتعلق بها منسوخًا وباطلاً لا
يقبله الله؟!» انتفاضة رجب، د. الحوالي، ص43.
وقال د. أيمن مهدي في بيان فضل المسجد الأقصى: «المسجد الأقصى هو أولى
القبلتين، وأحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، وهو ثاني مسجد وضع في
الأرض، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إليه، وصلّى فيه بالأنبياء إمامًا، وله أس+ماء عدة تقرب من عشرين اسمًا تدل كثرتها على شرف
منزلته ومنها: بيت المَقْدس، وبيت المُقَدَّس، وإيلياء ــ أي بيت الله ــ
والقُدْس، والقُدُس، وسلام، وشلام ــ أي بيت السلام بالعبرانية ــ، وبيت إيل ــ أي
بيت الله ــ، وأرض المحشر والمنشر...، وفي فضله عدة أحاديث منها حديث عبد الله بن
عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما فرغ سليمان بن
داود من بناء بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثًا؛ حكمًا يصادف حكمه، وملكًا لا
ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من
ذنوبه كيوم ولدته أمه» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما اثنتان فقد
أعطيهما وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة» رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والطبراني
وسنده صحيح، وعند الطبراني والحاكم والبيهقي بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه
قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم أيهما أفضل مسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن
يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا
جميعًا» وصححه الذهبي والألباني.
ومن هذا الحديث أن
الصلاة تضاعف فيه بمئتين وخمسين صلاة، ورجح ابن تيمية وابن القيم أنها بخمسمئة
صلاة» اهــ.
انظر: الأحاديث الواردة في فضل الصلاة في المسجد الأقصى، جمع
وتحقيق ودراسة، بحث للدكتور أيمن مهدي.
هذا وقد خلّد الله
تعالى قصة الإسراء لأهميتها في عالمية الإسلام في سورة الإسراء فقال تعالى:
"سبحان الذي أسرى بعبده ليلاًمن المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا
حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير"
[الإسراء: 1].
(25)
انتفاضة رجب، ص43.
(26) انتفاضة رجب، ص46ــ 48، شروح الكتاب المقدس
لاسيما (سفر الرؤيا) لبيتز، فصل (أورشليم الجديدة)، ميثاق النبيين، عبد السلام
طويلة، هداية الحيارى، ابن القيم، المسيح الدجال، سعيد أيوب، الجواب الصحيح، شيخ
الإسلام.
(27) رواه أبو داود والترمذي وصححه
الألباني في صحيح الجامع (4394)
(28) رواه مسلم من حديث ابن عباس
رضي الله عنهما.
(29) مسلم (1252)