يا من كان له قلبٌ فانقلب!
الحمد الله الملك الحق المبين, خلقنا
لعبادته, وأتم علينا نعمه ظاهرة وباطنة, فالسعيد هو الشاكر حقّاً, والمخذول من سقط
في سبل الردى ومتاهات الهوى, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله, بلّغ البلاغ المبين, وهدى إلى الصراط المستقيم, صلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فإن العبد في سيره إلى الله تعالى لا يسلم من
مكائد عدوّه الشيطان الرجيم, فإنه يشمّ قلبه, فإن رأى فيه عزماً وحزماً وإقبالاً
على الآخرة؛ حاول أن يدفعه للزيادة والتنطّع والإحداث في الدين. وإن رأى ارتخاءً
في همّته وَضَعَةً في عزيمته ألقى في قلبه الأمن من مكر الله, ومنّاه وساقه
بالأماني حتى يلقيه في لُجَجِ التسويف فتطول غيبته وتعظم خيبته, ويرجع بالخسار!
وفي المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم: "لكل عمل شرّة, _أي نشاط وهمّه_ ولكل شرّة فترة _أي كسل وفتور_ فمن كانت فترته إلى سنتي؛ فقد أفلح, ومن كانت
إلى غير ذلك؛ فقد هلك".
ولا يكاد يخلو المؤمن ذكرى حسنة من عبادة كان
يألفها, وذكرٍ كان يأنس به, وطاعةٍ كان ينشرح صدره بها؛ فإذا مرّت على خياله تلك
الذكريات؛ وضع يده على كبده أسفاً, وخرّت على وجنته دمعة حرّى تشكى مرارات البعد
عن مغاني الأنس ومواطن نعيم الأرواح إلى الوحشة والجدب وذبول
أزاهير الطاعة وشُحِّ ثمار العبادة, وحيل بينه وبين ما يشتهي من التوبة والأوبة من
الحوبة تلو الحوبة, "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" و"القلوب
بين أصبعين من أصابع الرحمن" ويا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك..
فيا من كان له قلب فانقلب, وحالٌ فاستحال,
أبشر بفتح الباب للتائبين فكن في معيتهم, ولا تستوحش
فلا زال في الصدر خير ما دامت روحك تتردد بين حناياك حاملة إيمانك وندمك..فازجرها
بسوط موعظة, واحْدُ لها تسر.
ويا أخي لا زال حبلك واصلاً فلا تقطعه وإن
اهترأ واخلولق, مادامت روحك تقعقع بين حناياك, فالبدار البدار, والوَحَا الوَحَا!
ومن مدهشات تاج الواعظين أبي الفرج عبد
الرحمن بن الجوزي رحمه الله تعالى (المدهش: 437_439) بتصرّف واختصار: يا من كان في رفقة "تتجافى" فصار اليوم في حزب
أهل النوم..
يا ديار الأحباب كيف تغيّرتْ
... ويا عهدُ ما الذي أبلاكا
هل تولّى الذين عهدي بهم فيك
... على عهدهم وأين أولاكا
الذميلَ الذميلَ يا راكب إني
... لضمين أن لا يخيب سُراكا
قد خلقت الداران لأجلك,
أما الدنيا فلِتتزوّد, وأما الأخرى فلِتتوطّن. أفتراك تعرف مكانة
"أذكركم" أو قيمة "يحبهم"؟!
يا من كان قريباً فطُرد, يا من فَقَد قلبَه,
وعدم التحيّل في طلبه, أين الزمان الذي بان أتراه بان؟! أين القلب الصافي كان
وكان؟!
يا عزيزي ما
أَلِفتَ الشقاء فكيف تصبر؟ أصعب الفقر ما كان بعد الغنى, وأوحش الذلّ ما كان بعد
العزّ, وأشدُّهُما العمى على الكِبَر!
سَقْياً لمنزلةِ الحمى وكثيبها ...
إذ لا أرى زَمَناً كأزماني بها
ما أعرفُ اللذات إلا ذاكراً
... هيهات قد خلّفتُ أوقاتي بها
وبعد خروج
الحافظ القيّم شمس الدين ابن القيّم رحمه الله من السجن فتح الله عليه
بفتوح ربّانية علمية وعملية, فصنّف طريق الهجرتين ثم مدارج السالكين, وكلاهما في
التوحيد وأعمال القلوب وتحقيقها.
وسنورد نصّاً شريفاً مما خطّه يراعُهُ العظيم
في كتابه طريق الهجرتين وباب السعادتين,
وموضوعه الهجرة إلى الله تعالى بشهادة أن لا إله إلا الله, والهجرة إلى نبي الله
صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالعبودية والرسالة. وقد عصر في سِفْره هذا علمه,
وسكب فيه تجاربه, وأودعه تأملاته, حريّ بكل طالب علم أن يرشف منه بل يعلّ ويعبّ. وعلى جلالة قدر هذا الكتاب بين كُتِبِه, إلا أن شهرته لم
تلق حقّها في الذيوع, مع أنه لا يقل قامةً عن الزاد ولا الإعلام ولا
المدارج تحريراً, بل لا أبعُد إذا قلت بعلوه باحتوائه على مباحث لا توجد في ما كُتب
في موضوعه على الإطلاق. واعتبر ذلك بالمقارنة والتحليل..
وهذا النصّ عبارة عن مقدِّمَةٍ عن تنوع
العبادات مع وحدة الطريق في عرض رائق بلفظ شيّق, ثم وصف عميق مؤثر مزلزل لكل من
كان له أُنْسٌ بالخلوة بربّه, وكان قد ذاق حلاوة الإيمان فطال عليه الأمد, أو وقع
في حبيلة عدوّه فتنكّب الجادة, واستوحش الطريق..
قال رحمه الله في (طريق الهجرتين:1/
279_286):
الطريق إلى الله واحد, فإنه
الحق المبين, والحق واحد مرجعه إلى واحد, وأما الباطل والضلال فلا ينحصر, بل كل ما
سواه باطل, وكل طريق إلى الباطل فهو باطل, فالباطل متعدد وطرقه متعددة, وأما ما
يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة, جعلها الله كذلك لتنوع
الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلا؛ فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة
الطريق.
وإيضاحه
أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضي الله, وما يرضيه متعدد متنوع, فجميع ما يرضيه
طريق واحد, ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال, وكلها
طرق مرضاته, فهذه التي جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدا, لاختلاف
استعدادات العباد وقوابلهم, ولو جعلها نوعاً واحداً
مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد,
ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرىء إلى ربه طريقا يقتضيها
استعداده وقوته وقبوله, ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها
كلها إلى دين واحد مع وحدة المعبود ودينه, ومنه الحديث المشهور "الأنبياء
أولاد علّات دينهم واحد" فأولاد العلات أن يكون الأب واحداً والأمهات متعددة,
فشبّه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة فإنها وإن تعددت
فمرجعها إلى أب واحد كلها.
وإذا
عُلم هذا, فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم, قد وفر عليه زمانه مبتغيا به وجه
الله, فلا يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى
الله, ويفتح له فيها الفتح الخاص, أو يموت في طريق طلبه, فيرجى له الوصول إلى
مطلبه بعد مماته, قال تعالى: "ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم
يدركه الموت فقد وقع أجره على الله" وقد حُكي عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل
وهو حريص طالب للقرآن؛ أنه
رُؤي بعد موته وأخبر انه في تكميل مطلوبه, وأنه يتعلم في البرزخ, فإن العبد يموت
على ما عاش عليه.
ومن
الناس من يكون سيد عمله الذكر, وقد جعله زاده
لمعاده ورأس ماله لمآله, فمتى فتر عنه أو قصر؛ رأى أنه قد غبن وخسر.
ومن
الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة, فمتى
قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها؛ أظلم عليه وقته,
وضاق صدره.
ومن
الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي,
كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات, قد فتح له في هذا, وسلك
منه طريقا إلى ربه.
ومن
الناس من يكون طريقه الصوم, فهو متى أفطر تغير
قلبه وساءت حاله.
ومن
الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن, وهي الغالب
على أوقاته, وهي أعظم أوراده.
ومنهم
من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر,
قد فتح الله له فيه, ونفذ منه إلى ربه. ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار.
ومنهم
من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام
المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم الجامع الفذّ,
السالك إلى الله في كل واد, الواصل إليه من كل طريق, فهو قد جعل وظائف عبوديته قِبلة
قلبه ونصب عينه, يؤمّها أين كانت, ويسير معها حيث سارت, قد ضرب مع كل فريق بسهم,
فأين كانت العبودية وجدته هناك, إن كان علم وجدته مع أهله, أو جهاد وجدته
في صف المجاهدين, أو صلاة وجدته في القانتين, أو ذكر وجدته في الذاكرين, أو إحسان
ونفع وجدته في زمرة المحسنين, أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة
المحبين المنيبين, يدين بدين العبودية أنى استقلت
ركائبها, ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها, لو قيل: ما تُريد من الأعمال؟
لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت, جالبة ما جلبت, مقتضية ما اقتضت,
جمعتني أو فرّقتني, ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها, مراقبا له فيها
عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر, قد سلم إليه المبيع منتظرا منه تسليم
الثمن, "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" فهذا
هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة, ومعنى النفوذ إليه: أن يتصل به قلبه,
ويعلّق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه, فيسلو به عن جميع المطالب سواه, فلا
يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره وطلب التقريب إليه, فإذا سلك العبد على هذا
الطريق؛ عطف عليه ربُّهُ فقربه واصطفاه, وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره في
معاشه ودينه, وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده, فإنه سبحانه
القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها, فكيف تكون قيوميته بمن أحبه
وتولاه وآثره على ما سواه ورضي به من دون الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا
وهاديا؟! فلو كشف الغطاء عن أَلْطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم؛
لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه, ويقع شكرا له, ولكن حَجَبَ القلوبَ عن مشاهدة ذلك
إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب, فصُدَّت عن كمال نعيمها, وذلك تقدير
العزيز العليم. وإلا فأيّ قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره
ويسكن إلى ما سواه؟! هذا ما لا يكون أبداً.
ومن ذاق شيئا من ذلك وعرف طريقا موصلة إلى
الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته؛ وقع في آثار المعاطب, وأودع قلبه سجون المضايق, وعُذّب في حياته
عذابا لم يُعَذَّبْ به أحدٌ من العالمين, فحياته عجز وغمٌّ وحزن,
وموته كدر وحسرة, ومعاده أسف وندامة. قد فرط عليه أمره, وشتت عليه شمله, وأحضر
نفسه الغموم والأحزان, فلا لذه الجاهلين, ولا راحة العارفين! يستغيث فلا يُغاث,
ويشتكي فلا يُشكى, فقد ترحّلت أفراحه وسروره مُدبرة, وأقبلت الآمه وأحزانه وحسراته,
فقد أبدل بأُنسه وحشة, وبعزه ذُلّاً, وبغناه فقرا, وبجمعيته تشتيتا, وأُبعد فلم
يظفر بقرب وأبدل مكان الأنس إيحاشاً!
ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها ناكباً عنها, مكبّاً
على وجهه. فأبصر ثم عمي, وعرف ثم أنكر, وأقبل ثم أدبر, ودُعي فما أجاب, وفُتح
له فولّى ظهره الباب, قد ترك طريق مولاه, وأقبل بكليته على هواه, فلو نال بعض
حظوظه وتلذذ براحاته وشؤونه فهو مقيّد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد وميادين
الأنس ورياض المحبة وموائد القرب. قد انحطّ بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل
سافلين, وحُصِّل في عداد الهالكين!
فنار
الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده, وإعراض الكون عنه إذ أعرض عن ربه حائل بينه وبين
مراده, فهو قبر يمشي على وجه الأرض, وروحه في وحشة من
جسمه, وقلبه في ملال من حياته, يتمنّى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه!
حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال _والعياذ بالله_ فلا تسأل
عما يحل به من العذاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق, وإحراقه
بنار البعد عن قربه, والإعراض عنه, وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته, فلو توهّم
العبد المسكين هذه الحال, وصوّرتها له نفسه, وأرته إياها على حقيقتها؛ لتقطّع
والله قلبه, ولم يلتذ بطعام ولا شراب, ولخرج إلى الصّعدات يجأر إلى الله ويستغيث
به يستعتبه في زمن الاستعتاب!
هذا,
مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التي هي كخيال طيف أو مزنة صيف؛ نغصّت عليه
لذاتها أحوج ما كان إليها, وحيل بينه وبينها أقدر ما كان عليها, وتلك سنّة الله في
خلقه, كما قال تعالى: "حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم
قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك
نفصل الآيات لقوم يتفكرون" وهذا هو غِبُّ إعراضه, وإيثار شهوته على مرضاة ربه,
يعوّق القدر عليه أسباب مراده؛ فيخسر الأمرين جميعاً, فيكون معذبا في الدنيا
بتنغيص شهواته, وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسم له, وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف
والحزن والنكد والألم, فهمٌّ لا ينقطع, وحسرة لا تنقضي, وحرص لا ينفذ, وذل لا
ينتهي, وطمع لا يقلع.
هذا في هذه الدار, وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف
ذلك؛ قد حيل بينه وبين ما يشتهي, وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه
وكرامته ونيل ثوابه, وأحضر جميع غمومه وأحزانه. وأما
في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعدين المطرودين.
فواغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين وأرحم
الراحمين, فمن أعرض عن الله بالكلية؛ أعرض الله عنه بالكلية, ومن
أعرض الله عنه؛ لزمه الشقاء والبؤس والبخس في أعماله وأحواله, وقارَنَهُ سوءُ
الحال وفساده في دينه ومآله, فإن الرب إذا أعرض عن
جهة دارت بها النحوس, وأظلمت أرجاؤها, وانكسفت أنوارها, وظهرت عليها وحشة
الإعراض, وصارت مأوى للشياطين, وهدفا للشرور, ومصبّاً للبلاء.
فالمحروم كل المحروم من عرف طريقا إليه ثم أعرض
عنها, أو وجد بارقة من حبه ثم سُلبها, لم ينفذ إلى ربه منها, خصوصاً اذا مال بتلك
الإرادة إلى شيء من اللذات, وانصرف بجملته إلى تحصيل
الأغراض والشهوات, عاكفاً على ذلك في ليله ونهاره وغدوه ورواحه, هابطا من الأوج
الأعلى إلى الحضيض الأدنى.
قد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همّه الله, وبغيته
قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه, على ذلك يصبح ويمسي ويظل ويضحي, وكان الله في
تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه, فأصبح
في سجن الهوى ثاوياً, وفي أسر العدو مقيماً, وفي بئر المعصية ساقطاً, وفي
أودية الحيرة والتفرقة هائماً, معرضا عن المطالب العالية إلى الأغراض الخسيسة
الفانية, كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوسا في
أسفل الحش!
فأصبح كالبازي المنتف ريشه ... يرى حسرات كلما طار طائر
وقد كان دهرا في الرياض منعما ... على كل ما يهوى من الصيد
قادر
إلى أن أصابته من الدهر نكبة ... إذا هو مقصوص الجناحين حاسر
فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض
عنها واستبدل بغيرها منها! يا عجبا له بأي شيء تعوّض؟! وكيف
قرَّ قراره فما طلب الرجوع وما تعرّض؟! وكيف جعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله
وطنا؟! أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار؟!
فيا
معرضاً عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم, ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب الأليم,
ويا مسخطاً من حياته وراحته وفوزه في رضاه, وطالباً رضى من سعادته في إرضاء سواه: إنما هي لذة فانية, وشهوة منقضية, تذهب لذاتها وتبقى
تبعاتها, فرح ساعة لا شهر, وغم سنة بل دهر, طعام لذيذ مسموم, أوّله لذة وآخره هلاك,
فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القزّ, يسد على نفسه المذاهب بما نسج
عليها من المعاطب, فيندم حين لا تنفع الندامة, ويستقيل حين لا تُقبل الاستقالة,
فطوبى لمن أقبل على الله بكليته, وعكف عليه بإرادته ومحبته, فإن الله يُقبل عليه
بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته.
وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد؛ استنارت
جهاته وأشرقت ساحاته, وتنورت ظلماته, وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار
الجمال, وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم,
فإذا أحب عبدا أحبوه, وإذا والى واليا والوه, إذا أحب الله العبد نادى: "يا
جبرائيل إني أحب فلانا فأحِبَّه" فينادي جبرائيل في السماء: إن الله يحب
فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء, ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم. ويجعل
الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة.
وناهيك
بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته, ويقبل عليه بأنواع كرامته,
ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والله ذو الفضل العظيم .
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
ويا مصرّف القلوب والأبصار صرّف قلوبنا على طاعتك. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ
هديتنا, وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهّاب, يا حي يا قيوم يا ذا الجلال
والإكرام, يا رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله محمد, وعلى
آله وصحبه أجمعين.
إبراهيم الدميجي
4/ 4/ 1434
aldumaiji@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق