حرفان رقيقان لابن حزم الأندلسي
ثلاثة من علماء الإسلام, وهبهم الله تعالى حدّة نباهة, وفرط ذكاء, وسيولة ذهن ليست لغيرهم, واستيعاب لنهايات فنونٍ يحتاج واحدها لعمر ثلاثة من لداتهم لاستيعاب ما استوعبه واحدهم في ذلك الفن! فهم من أذكياء العالم بلا نزاع, هم أبو محمد ابن حزم, وأبو حامد الغزالي, وأبو العباس ابن تيمية.
فإذا أبحر المرء راكبًا متنَ كتابٍ أو رسالةٍ خطَّها يراعُ أحدهم فإنه لا يملك نفسه أن تقول: سبحان موزّع المواهب وواهب الألطاف, ويكأنَّ أحدهم لا يحسن إلا ذلك الفن الذي كتب فيه لعميق غوصه في لُجّته.. وإن كان التوفيق للصواب والهداية للحق لم تكن بينهم بالتساوي, فقد بزّهم أحمد بن تيمية بموافقته الحق في المعتقد وتوفيقه للصواب في الاتّباع ما ليس لصاحبيه "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم"
ولست بصدد المقارنة, إنّما رأيته مدخلَا صالحًا للوقوف على ساحل ذلك العَلَم الشامخ, أعني به ابن حزم القرطبي الأندلسي رحمه الله. فهذا الرجل نادرة فاذّة, وله صولات في العلوم وجولات في الفهوم رقمت بعضها يمينُه في الكواغدِ والقراطيس. وهذا العملاق _كغيره_ له وعليه, فهو يغترف من بحره الذي لا تكدّره الدلاء, ولو وُفِّقَ لعالم سنّةٍ يأخذ بيده بلطف ويوقفه على منهاج السلف في المعتقد وبخاصة في صفات الله جلّ وتقدّس, وفي التفقّه في العلميات والعمليات لكان له شأن آخر, ولسلم من شوائب المحدثات, وزَغَلِ التناقضات, ولَدَدِ شناعة الخصومات, ولكن للحكيم الخبير سبحانه حِكَمٌ تتضاءل عن معرفتها العقول مهما أُعطيت من سعة وحدّة! "لا يُسئل عما يفعل وهم يسئلون"
موضوع وقفتنا مع رسالة نادرة لهذا الفحل المهيب.. لا, بل الأديب الرقيق, صاحب طوق الحمامة الذي كان سبقًا لرواد الرومانسية الغربية, إذ سبقهم في تفصيل حقيقة العشق ولواعج الشوق وأحواله, بأسلوب أدبي رائق متانة وجزالة وجودة سبك, مع سلاسة ورونق وسهولة مأخذ, وهذه الثنائية لا تتأتّى لكل أحد, خاصة من تحفّظوا عن ذيّاك السبيل اللطيف, بذريعة إجلال الفقه!
وأكثرُ من ارتقى قُلَلَ الشاعرية, أو أبحر في مسالك العشاق, قد مرّت به مواقف حبٍّ عاصفة, جارفة فؤاده لمجهول غيبٍ, وجموح خيال, غالبًا في ميعةِ صبا.. تنتهي بأَخَرِةٍ إلى مأساةٍ يكون قتيلُها فؤادٌ بمُديةِ الجَوى الذبيح!
وكذلك كان صاحبنا أبو محمد, فقد تزوّج معشوقته "نعما" في سن مبكرة، وكانت كما يقول: أمنيةَ المتمنّي, وغايةَ الحسن خَلْقًا وخُلُقًا, وكان هو أبا عذرها! فماتت بين يديه في ريعان الهوى وفتوّة الصبابة! لذا فقد فقدها فاجعًا لم تُطقه نفسه المرهفة الحالمة التي طُردَتْ من تلك الجنة بلا سبق إنذار!
فلبث بعدها سبعة أشهر دون أن يغتسل من الكآبة والإحباط والبكاء، وع أنه كان جامد الدمع بسبب كثرة أكلِه الكندر لمداواة خفقان قلبه، ولم ينس ذلك العاشق الوفي ذكراها حتى لحقها.
صاحبنا علّامةٌ في مدرسة التحليل النفسي _العفيف_ بل قد يكون رائده المرتّب له بإطلاق, وإن كان أقدم كتاب وصلنا هو حوار المأدبة لأفلاطون, وفيه مادة صالحة لتحليل الحب, ولكن ليست على نسق ولا ترتيب بل ولا عمق طوق الحمامة لأبي محمد. وقد تكلم المسعودي قبله في المروج حول شيء من ذلك كذلك ما جاء في الزهرة, لكن ليس على نمط ذلك اللوذعي الأحوذي.
اشتهر ابن حزم بقدرته على الغوص في أعماق الضمير الباطن, وردّ الغرائز الكامنة لأصولها, وبخاصة ما يتعلّق بالنساء! ومن أسباب ذلك غيرةٌ شديدةٌ طُبع عليها, مع عيشه في صباه في مجمع نساء علّمنه ووثقن به, قال: فلم أزل باحثاً عن أخبارهن, كاشفاً عن أسرارهن، وكن قد أَنِسْنَ منّي بكتمانٍ، فكُنَّ يطلعنني على غوامض أمورهن. ولولا أن أكون منبّهًا على عوارت يُستعاذ بالله منها لأوردت من تنبّههن في الشر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباب! وإني لأعرف هذا وأتيقّنه، ومع هذا يعلم الله - وكفى به عليماً - أني بريء الساحة، سليم الأديم، صحيح البشرة، نقي الحجزة، وإني أقسم بالله أجل الأقسام: أني ما حللت مئزري على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة الزنا مذ عقلت إلى يومي هذا، والله المحمود على ذلك، والمشكور فيما مضى، والمستعصم فيما بقي.
الحرف الأول من تحليله النافذ؛ قال: والصالحان من الرجال والنساء كالنار الكامنة في الرماد, لا تحرق من جاورها إلا بأن تُحَرَّك، والفاسقان كالنار المشتعلة تحرق كل شيء!
وشيء أصفه لك تراه عيانًا: وهو أني ما رأيت قط امرأة في مكان تحسّ أن رجلاً يراها أو يسمع حسّها؛ إلا وأحدثت حركة فاضلة كانت بمعزل، وأتت بكلام زائد كانت عنه في غُنية، مخالفين لكلامها وحركتها قبل ذلك؛ ورأيتَ التَهمّم لمخارج لفظها وهيئة تقلبها لائحًا فيها ظاهرًا عليها لا خفاء به! والرجال كذلك إذا أحسوا بالنساء! وأما إظهار الزينة وترتيب المشي وإيقاع المزح عند خطور المرأة بالرجل, واجتياز الرجل بالمرأة, فهذا أشهر من الشمس في كل مكان, والله عز وجل يقول: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم" وقال تقدست أسماؤه: "ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن" فلولا علمُ الله عز وجل بدقّة إغماضهن في السعي لإيصال حبهن إلى القلوب، ولطف كيدهن في التحيّل لاستجلاب الهوى؛ لما كشف الله عن هذا المعنى البعيد الغامض الذي ليس وراءه مرمى، وهذا حدُّ التعرّض فكيف بما دونه؟!
الحرف الثاني يكشف فيه معنًى شديدَ الغرابة, ولعلّه يكشف علّة أعيتْ خبراء النفس في اجتماع النُّفرةِ والحبّ الشديدين في نفسٍ واحدة لنفس أخرى! قال رحمه الله:
والأضداد أنداد، والأشياء إذا أفرطتْ في غاياتِ تَضَادِّهَا، ووقفتْ في انتهاء حدود اختلافها؛ تشابهت! قدرةٌ من الله عز وجل تضل فيها الأوهام. فهذا الثلج إذا أُدمن حبسه في اليد فَعَل فِعْل النار، ونجد الفرح إذا أفرط قتل، والغمّ إذا أفرط قتل، والضحك إذا كثر واشتدّ أسال الدمع من العينين. وهذا في العالم كثير، فنجد المحبَّيْن إذا تكافَيا في المحبة, وتأكدت بينهما تأكّداً شديداً؛ كَثُرَ تهاجرهما بغير معنى! وتضادّهما في القول تعمُّدًا، وخروج بعضهما على بعض في كل يسير من الأمور، وتتبّع كل منهما لفظةً تقع من صاحبه وتأوّلها على غير معناها! كل هذه تجربة ليبدو ما يعتقده كل واحد منهما في صاحبه.
والفرق بين هذا وبين حقيقة الهجرة والمضادة المتولدة عن الشحناء ومحاربة التشاجر؛ سرعةُ الرضى، فإنك بينما ترى المحبَّين قد بلغا الغاية من الاختلاف الذي لا تُقَدِّرُه يصلح عند الساكنِ النفس السالم من الأحقاد في الزمن الطويل، ولا ينجبر عند الحقود أبداً، فلا تلبث أن تراهما قد عادا إلى أجمل الصحبة، وأهدرت المعاتبة، وسقط الخلاف، وانصرفا في ذلك الحين بعينه إلى المضاحكة والمداعبة! هكذا في الوقت الواحد مرارًا!
وإذا رأيت هذا من اثنين فلا يخالجنّك شكّ ولا يدخلنك ريب البتة ولا تتمار في أن بينهما سرًّا من الحب دفينًا، واقطع فيه قطْعَ من لا يصرفه عنه صارف. ودُونَكَهَا تجربة صحيحة وخبرة صادقة. هذا لا يكون إلا عن تكافٍ في المودة وائتلافٍ صحيح، وقد رأيته كثيراً.
فاصلة: يُزيّنون الخنا بقولهم: فلان قلبه أخضر, أو خَضَر! قل: فلان في قلبه مرض, أو مفتون, ولا تقل: قلبه خَضَر! وفي التنزيل: "فيطمع الذي في قلبه مرض" أي شهوة بلا إيمان رادع. وكم من خطيئة زُيّن لفظُها عن قُبح معناها!
إبراهيم الدميجي
14/ 11/ 1434
@aldumaiji
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق