مزالق تطبيقية في البصمة الوراثية D.N.A
الحمد لله, وبعد: فمن عيوب البشر – وهي من
مزاياهم أحيانًا - محبتهم للتجديد والابتكار ومللهم من الرتابة والتكرار, فهي عيب
إن جلبت السَّأم من أمر لا بد منه لصلاح الإنسان في دينه كالذكر والصلاة واجتناب
الحرام ونحوها, أو في دنياه كفتوره وكَسَلِهِ في عمله وطلب رزقه ومصلحته ومن يعول,
كما ملّت بنو إسرائيل المنّ والسّلوى للبقل والقثّاء.
وقد راعى الشارع الحكيم ذلك فنوّع العبادات
من ناحية جنسها ونوعها وزمنها ومكانها وقدرها, وقسمها على القلب واللسان والجسد
والمال, وجعل للجنّة أبوابًا ثمانية ينادى من اجتهد في عملٍ من بابه.
ومتى أحسن الناس التعامل مع هذه الغريزة
النفسانية فإنها تنقلب دافعًا للعمل ووقودًا للعزم وحاديًا للهمّة, كمن نوّع
أذكاره أو جدّد طريقة صدقته أو نوّع سبيل طلبه للعلم أو التجارة ونحو ذلك.
يدخل الخلل من هذا الباب من جهة تداخل حب
التجديد أو التنويع أو التبديل فيما لم يأذن به الله لحفظ دين الناس أو دنياهم,
ومنه تحتّم مصلحة بقاء ما كان على ما كان. وهذا باب واسع في السياسة ووسائل الدعوة
وغيرها ولا تكفي هذه الحروف لبسطها, والمراد ذكر شاهد بذلك وهو ما يسمى بالفحص
الجيني D.N.A
أو تحليل البصمة الوراثية أو الحمض النووي, وكل هذا فرع عن الهندسة الوراثية.
وهذا العلم جديد بكليّته, ومع أن المشتغلين
به قد قطعوا شوطًا بعيدًا فيه, وثبتت لهم فيه أقدام, وصارت بعض نظرياته قطعيات؛
إلا أن لكل جديد فورة وشِرَّةٌ ولأهله صولة وعجلة, حريّ بأهل الإسلام منهم أن
يتأملوا وقع أقدامهم في خوضه حتى لا يزيغوا, وأن يتفقهوا في حدود الله فيه حتى لا
يَضلّوا ويُضلّوا, فما من أمر في هذه الدنيا إلا ولله فيه علم وحكمة وحُكم. فلم
يخلقنا سدى ولم يتركنا هملًا. "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"
إن هذا العلم متعلق بجهة إثبات الأصل
النَّسَبي وإعادة الفرع له سواء كان هذا الفرع شخصًا يراد ردّه لسلالة آبائه وإن
بَعُدوا جدًّا, أو كان المراد رد الفرع الأصغر وهو الخلية البشرية سواء أخذت من دم
أو شَعر أو لعاب ونحوه فيعاد هذا لأصله وهو الشخص الواحد المعني به, وهذا نافع
جدًّا في أدلّة إثبات الجرائم وإقامة القرائن في الطب الشرعي ونحوه.
ولا بد هنا من
استشعار أن أدلة البصمة الوراثية تكون ظنية لا قطعية من جهة احتمال تعرض التحليل لأخطاء
بشرية أو مخبرية، كاختلاط العيّنات أو إبدالها سهوًا أو عمدًا وغير ذلك.
إذن فهذا العلم الجديد له جانبان:
الأول مباح بل ممدوح: وهو ما ساعد في إحقاق
حق شرعي وإبطال باطل, فمن ذلك: مسائل الطب الشرعي والجنائي, كما أن الفحص الجيني
يحل محل القيافة بل هو أضبط منها. ومن المهمات بيان أن القيافة إنما يلجأ إليها لفرز
حالة فردية تنازع عليها أكثر من طرف, وليست لفرز حالات جماعية والكشف عن نسب قبائل
بأسرها.
إذن فمجال جواز
الاعتماد على البصمة الوراثية في مجال إثبات النسب محصور في حالات التنازع على مجهول
النسب، سواء أكان بسبب انتفاء الأدلة أو تساويها، أم كان بسبب الاشتراك في وطء الشبهة
ونحوه. كذلك في حالات الاشتباه في المواليد في المستشفيات أو مراكز رعاية الأطفال أو
أطفال الأنابيب ونحو ذلك. كذلك حالات ضياع الأطفال واختلاطهم، وتعذر معرفة أهلهم، أو
وجود جثث لم يمكن التعرف علي هويتها، أو بقصد التحقق من هويات أسرى الحروب والمفقودين
ونحو ذلك. وبهذا صدرت فتوى المجمع الفقهي الإسلامي.
الثاني ممنوع: وهو ما ينادي به بعض الناس
من إبدال الطرائق النَّسَبِيِّة الشرعية به, فيرُدُّون النسب بإطلاق للماء وليس
للفراش, ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد حسم المسألة بقوله: "الولد
للفراش" فمتى كانت المرأة فراشًا للرجل فأولادها ينسبون له شرعًا, لذلك لا يجوز الاعتماد
على البصمة الوراثية في نفي النسب، كما لا يجوز تقديمها على اللعان فالقرآن قد حسم
المسألة في سورة النور.
وتأمل حال أحدهم حينما أراد إلحاق ابنه العشريني
معه في أمريكا, فاشترطت السفارة البصمة الوراثية, فتبين أنه ليس من مائه, فحدثت بسببها
كوارث لم ترقأ حتى اللحظة, وأترعوا كأسَهُ تعاسةً وصدرَهُ همًّا!
ومن جدير
التنبيه: أن الشريعة تراعي كل قضية من جميع جوانبها بدون إغفال أو ميل, لذلك
فإثبات النسب يُكتفى فيه بالاستفاضة وعدم نفي المنسوب إليه الولد, فهذه هي الجادة
وهي الأصل, أما غيرها فهو الاستثناء ومن أفراده الاشتباه والاحتياط, ومن ذلك
احتياط رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن ذلك المنسوب المتنازع عليه, فبعد حكمِهِ
بأن الولد للفراش نظر لشبهه الشديد بالآخر فقال: "واحتجبي منه يا سودة"
وهذا من باب الاحتياط للطرفين, فالحُكم لنَسَبيّة من وُلد على الفراش كان على
الأصل, أما الحجاب فكان على الاحتياط. ويُلحق بهذا الرضاع المشكوك في عدده فيحتاط
له من الجهتين فلا زواج ولا محرمية.
ومهما يكن من أمر فلا يجوز استخدام البصمة الوراثية
بقصد التأكد من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، وما يفعله بعض أهل الطيش باشتراط فحص
البصمة له عواقب وخيمة ليست على الأفراد فقط بل على قبائل بأسرها, ولنوضح الصورة
بمثال كاشف:
فعند أرباب البصمة أن النسب العربي محصور في بضع
نتائج لا يخرج عنها بموجب فحص عينات فردية عشوائية ليست استغراقية ولا أغلبية لا
زمانًا ولا مكانًا, فإذا وجد شخص في الهند أو بريطانيا يحمل ذلك الجين حكموا بعروبته
رأسًا حتى وإن كان لم يسمع بالعرب ولا لسانهم ولا موطنهم لا في حياته فحسب بل بعدة
أجيال سابقة له! وهذه معضلة لن يستطيعوا الفكاك منها لأن اللغة والموطن معتبران في
الحكم, وتأمل عكس ذلك يظهر لك المراد, فلو أن إنسانًا أو جماعة نزحت لجزيرة العرب
قبل أربعة آلاف سنة أو أكثر ولم يخرجوا منها وتكلموا لسانها وتطبّعوا وسادوا, ثم
تبيّن أن حمضهم النووي مخالف للجين السائد فهل يمكن بحال نفي عروبتهم؟! ولا تعجب
فقد نشر بعض الناس مثل هذه الألغام المدمّرة للنسيج المجتمعي, فالعرف الصحيح
السائد هو أن العربي هو من كان من نسلٍ قد درج في أرض العرب لبضعة أجيال وتكلم
لغتهم وتطبع بطبائعهم ويكفيه ذلك. أما ضده فهو الأعجمي – ولاحظ اعتبار اللغة من
الإعجام والإعراب -.
ومن فروع ذلك:
انتساب الفخذ القبلي لجذمه, فما عدّه الناس وتعارفوا عليه واشتهر بينهم بلا نكير
أن هذا البطن من تلك القبيلة فهو المعتبر, فالشيوع والمواضعة والاشتهار هي مأرِزُ
قبول النسب وآخِيّتُه وليس الحمض النووي بحال.
وتأمل ما لو أن
رجلًا قبل ألف سنة حالف قبيلةً ثم انتسب إليها وأحفاد أحفاده ثم ظهر التحليل اليومَ
مخالفًا! بل لو أن امرأة ما قبل مئات السنين أدخلت على زوجها ما ليس منه – لشبهة
أو خطأ أو إكراه أو ذنب - ولحق به لأنه ولد على فراشه شرعًا, ثم تناسلت أجيال وبطون
وقبائل من ذلك الإنسان, ثم أظهرت البصمة نفي أولئك, فما ذنبهم في أمر قد حسمه الشرع
بنسبتهم لأبيهم الشرعي دون صاحب البصمة؟!
وبالجملة؛ فالشرع قد اكتفى بالاستفاضة والاشتهار
بلا نكير, وحَكَمَ للفراش لا للبصمة, فحكمهما غير متفقين على الدوام فلينتبه, إذ مناط
الشرع الفراش ومناط البصمة الجينات.
لقد راعت
الشريعة تكوين محضن آمن صالح للإنسان ليقوم بتحقيق العبودية لربه – وهي غاية
الخليقة - لذلك فقد تشنّفت للوئام بين الناس واجتماعهم, وتوسّعت في إثبات النسب وتسامحت
فيه، فاكتفت بقبول الشهادة فيه على الاستفاضة، فلا يُطالب بدليل خارجي إذا كان
هناك إقرار ما دام واقع الحال لا ينافيه, وعقدت الشريعة معاونات خاصة بين القرابات
كتحمل العاقلة للدية والأمر بصلة الرحم ونحو ذلك, فالنسب وسيلة لا غاية, فهو وسيلة
لإقامة العبودية بإحسان الاستخلاف الأرضي.
وحتى لا تختلط الأنساب فقد حمت العرض وشددت في
الفاحشة وطالبت بحفظ الأنساب. ولكل شيء قدره الذي لا ينبغي الإيغال والتجاوز
والتشديد فيه, فيكفي المؤمن أن يعلم من نسبه ما يصل به رحمه ثم لينته, وليحذر من
التفاخر بنسبه أو نبز الناس بأنسابهم أو طعنهم فيها فكلّ ذلك عفنٌ جاهلي, وليعلم
أن إبليس هو أول مفاخر بأصله حينما قال: "أنا خير منه".
وفي المقابل
فقد شدّد الشرع في الانتساب لغير الأب – ومن ذلك الانتساب لقبيلة وهو يعلم أنه ليس
منها - فعند الشيخين عن سعد بن أبي وقاص رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم
أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام".
ومضة: أعجبني جواب ذلك اللوذعي حينما سئل
عن أصله فقال: من طين.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com