الحصانُ
الرزانُ
لقد توقّف العلماء كثيرًا متأملين متدبّرين عظمة
وجلالة العِبَرِ من قصة الإفك الهائلة, وما في ثناياها من الرحمات الإلهيه لنبي الله
صلوات الله عليه وسلامه وبركاته, ولأهله وأصهاره من آل أبي بكر, وللأمة المرحومة من
بعدهم.
إنّها الحادثة التي هزّت المجتمع الإسلامي النبوي,
وأقلقت السادة, وقلقلت الكبار, وأنصعتْ طيب أهل اليقين, وضوّعت نَشْرَهم, وأشهرت فضلهم.
وزلزلتْ إيمان من كان على حرفٍ, وحيّرت عقولًا وأدهشَت أفئدة! وأوهت أبنية بعض المتّقين,
وأوهنت قوّة بعض الفضلاء, وهدّت عزائم آحادٍ من الحُلماء, وزاغ فيها من من زلّت به
القدم إلى مراتع اللسان وسيء الظنون بأهل الإيمان, وثبّت الله أفئدة فئام من المؤمنين
فأحسنوا الظن بعباد الرحمن, وأطلقوا على المفترين وحاملي الإفك سهام النكران, وعاتب
الله تعالى المؤمنين الذين لم يلتزموا جانب الإحسان في ظنونهم تجاه الإخوان. وتولّى
ربُّ العالمين ومالكُ الدنيا والدين, وجبارُ السماوات والأرَضين الدِّفاع عن الصِدِّيقة
أم المؤمنين, وعتاب من زل فيها من الصالحين, ولَعَنَ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة
في المؤمنين من المُفترين والأفّاكين والمُرجفين. وجعلها سبحانه وبحمده آيةً شاهدةً
للمؤمنين إلى يومِ يقوم الأشهادُ ويلقى العبادُ رب العالمين. وأجمل بالمديحة الحسّانيّة حين قال شاعر
الإسلام, وصدق:
رأيتُكِ ولْيَغْفِرْ
لك الله حرَّةً من المحصنات
غير ذات غوائلِ
حَصَانٌ رَزَانٌ
مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبحُ
غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافلِ
عَقِيلَةُ حَي مِنْ
لُؤَي بْنِ غَالِب كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذَّبَةٌ قد طَيبَ
الله خِيمَها وَطَهَّرَهَا مِنْ كُل سُوءٍ وَبَاطِلِ
وقد ذُكِرَت هذه القصة الجليلة المزلزلة في الصحاح والمسانيد بألفاظ متقاربة
ومعانٍ متشابهة متوافقة, وخرّجها مُحَدِّثُ الإسلام وأميرُ المؤمنين في الحديث الإمامُ
البخاري رحمه في صحيحه في عدّة مواضع, ومن أجمعها سياقه الطويل رحمه الله للحديث في
تبويبه: حَدِيثِ الْإِفْكِ. وهي قصة
جديرة بالدراسة والنشر والتكرار, ففيها قواعد كلية للأمة. وكان الإمام ابن باز رحمه الله لا يتمالك
نفسه من البكاء عند قراءة هذا الحديث عليه حتى تعلو مجلس درسه سكينة وخشوع ودعاء.
في الخصائص الصغرى: ومن قذف أزواجه صلى
الله عليه وسلم فلا توبة له البتة, كما قال ابن عباس وغيره. قلت: أي لا تقبل ظاهرًا
وإن قبلها الله بينه وبين عبده, وهذا فرعٌ عن سبّ الرسول صلى الله عليه وسلّم فإن توبته
ظاهرًا لا تقبل على المشهور, كما حرّره شيخ الإسلام في الصارم المسلول, ويُقتل, كما
نقله القاضي عياض وغيره.
قال تبارك وتعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ
الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ
تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ الْمُبِينُ"
قال ابن كثير: وأمهات المؤمنين أولى بالدخول
في هذا من كل محصنة, لا سيّما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله
تعالى عنهما، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سبّها بعد هذا ورماها بما رماها به
بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية؛ فإنه كافر لأنه معاند للقرآن.
قال ابن القيم ومَنْ قَوِيَتْ معرفته لله,
ومعرفته لرسوله, وقدره عندَ اللهِ في قلبه، قال كما قال أبو أيوب وغيره مِن سادات الصحابة،
لما سمعوا ذلك: "سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ"
قال البقاعي: واستمر أهل الإفك في هذا أكثر
من شهر، والله تعالى عالم بما يقولون، وبأن قولهم يكاد يقطع أكباد أحب خلقه إليه، وهو
قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه، ولكنه سبحانه أراد لناس رفعة الدرجات، ولآخرين
الهلاك، فيا لله ما لقي النبي صلى عليه وسلم والصديق وآله رضي الله عنهم وكل من أحبهم,
وهم خير الناس، والله سبحانه وتعالى يُملي للأفّاكين ويمهلهم، وكأن الحال كما قال أبو
تمام الطائي:
كذا فليجلّ الخَطْبُ
وليفدح الأمرُ فليس لعينٍ لم يفض ماؤها
عذرُ
قلت: وفي فضلها علم كثير نافع, ففي الصحيحين
من حديث أنس وأبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فضل عائشة على النساء,
كفضل الثريد على سائر الطعام" وفي الصحيحين من حديثها رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائش هذا جبريل يُقرئك السلام" قالت:
فقلت: عليه السلام ورحمة الله وبركاته, ترى ما لا أرى. ولهما عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أُرِيتُكِ في المنام ثلاث ليال, جاءني بك الملك في سَرَقَةٍ من حرير, فيقول:
هذه امرأتك, فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي, فأقول إن يك من عند الله يُمْضِهِ" وعند
الترمذي وحسّنه: "هذه زوجتك في الدنيا والآخرة"
وللترمذي وصحّحه من حديث عمرو بن العاص
رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله, أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت:
من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت: وتأمّل كيف نسبَ أباها إليها لعظيم محبته لها
صلوات الله وسلامه عليه.
وللترمذي وصحّحه عن أبي موسى رضي الله عنه
قال: ما أشكل علينا أصحاب رسل الله صلى الله عليه وسلم حديث قطّ, فسألنا عائشة إلا
وجدنا عندها منه علمًا. وله وحسّنه أن رجلا نال من عائشة عند عمّار فقال: اغرب مقبوحًا
منبوحًا, أتؤذي حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وله وصحّحه عن موسى بن طلحة قال:
ما رأيت أحدًا أفصح من عائشة. وقال مسروق رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض. وكان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة
ابنة الصديق, البريئة المبرأة من فوق سابع سماء. وكان الشعبي يذكرها، فيتعجب من فقهها
وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة؟!
ورآها عروة تصدّقت بسبعين ألفًا, وإنها
لترقَعُ جانب درعها رضي الله عنها. وعند ابن سعد عن أم ذرة، قالت: بعث ابن الزبير إلى
عائشة بمال في غرارتين، يكون مئة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست،
قالت: هاتي يا جارية فطوري. فقالت أم ذرة: يا أم المؤمنين، أما استطعت أن تشتري لنا
لحما بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني، لو أذكرتيني لفعلت. وعن عطاء: أن معاوية بعث إلى عائشة
بقلادة بمئة ألف، فقسمتها بين أمهات المؤمنين. وفرض عمر لأمهات المؤمنين عشرة آلاف،
عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن إبراهيم النخعي، قال: قالت عائشة: يا
ليتني كنت ورقة من هذه الشجرة! وهذا من ورعها وعظيم خوفها من الله, وشدة تواضعها وإزرائها
بنفسها رضي الله عنها وأرضاها, وألحقنا بها في السابقين المقربين.
وتوفيت أُمّنا سنة سبع وخمسين على المشهور,
في ليلة سابع عشر شهر رمضان, وأمرت أن تدفن ليلا فدفنت بعد الوتر بالبقيع, وصلى عليها
أبو هريرة.
وفي " المستدرك بإسناد صالح، عن أم سلمة: أنها لما سمعت الصرخة
على عائشة، قالت: والله لقد كانت أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا
أباها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق