الاستغناء بالله تعالى
الحمد
لله وبعد، فهل تعلم من هو أغنى الناس حقّا وأبسطهم رزقًا وأوفرهم حظًّا؟
إنه
المستغني بالله عما سواه. فمن استغنى بالله حق الاستغناء أغناه الله تمام الغنى.
ومعنى الغِنى
بالله والاستغناء به: طلب حصول الكفاية وسد الحاجة منه سبحانه دون من سواه.
واعلم
أنه بحسَب تحقيق المؤمن للاستغناء بربه تعالى يكون غناه وسدّ فاقته ونُجعُه
ونُجحُه وفوزه وفلاحه.
وبما أن
الغنى هو محض فضل الله تعالى, وحيث أن أفضالَه لا تعد ولا تحصى ولا تحصر؛ فاقتضت
حكمته سبحانه أن يجعل للغنى مراتبَ ودرجات, "ولما كان الفقر إلى الله سبحانه
هو عين الغنى به, فأفقر الناس إلى الله أغناهم به وأذلهم له, وأعزهم وأضعفهم بين
يديه أقواهم, وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله, وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله؛
كان ذكر الغنى بالله مع الفقر إليه متلازمين متناسبين.
واعلم أن الغنى على الحقيقة لا يكون إلا بالله
الغني بذاته عن كل ما سواه, وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر, كما هو موسوم بسمة
الخلق والصنع.
قال ابن القيم
رحمه الله في الرسالة القشيرية (272): لا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا مَن غِناه
من لوازم ذاته, فهو الغني بذاته عما سواه, وهو الأحد الصمد الغني الحميد.
والغنى قسمان: غنى سافل, وغنى
عال.
فالغنى السافل هو الغنى
بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل
المسومة والأنعام والحرث, وهذا أضعف الغنى فإنه غنى بظل زائل وعارية ترجع عن قريب
إلى أربابها, فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها, وكأن الغنى بها كان حلمًا فانقضى, ولا
همةَ أضعفُ من همة من رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل.
وهذا غنى
أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون وإياه يطلبون وحوله يحومون, ولا أحبَّ إلى الشيطان
وأبعدَ عن الرحمن من قلب ملآنٍ بحب هذا الغنى والخوف من فقده.
قال بعض السلف: إذا اجتمع إبليس وجنوده لم
يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء: مؤمن قتل مؤمنًا, ورجل يموت على الكفر, وقلب فيه
خوف الفقر.
وهذا
الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله, وفقر بعده, وهو كالغفوة بينهما. فحقيقٌ بمن نصح
نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه, بل إذا حصل له جعله سببًا لغناه الأكبر
ووسيلة إليه, ويجعله خادمًا من خدمه لا مخدومًا له, وتكون نفسه أعز عليه من أن يعبّدها
لغير مولاه الحق, أو يجعلها خادمة لغيره.
وأما الغنى العالي: فهو بحصول
ما يسد فاقة القلب ويدفع حاجته, وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة, لا
يسدها إلا فوزه بحصول الغنيّ الحميد, الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء, وإن فاته
فاته كل شيء.
فكما أنه سبحانه الغنيّ على الحقيقة ولا غني
سواه, فالغنيّ به هو الغني في الحقيقة ولا غِنى بغيره البتة, فمن لم يستغن به عما
سواه تقطّعت نفسه على السوى حسرات, ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة, وحضره كل سرور
وفرح, والله المستعان. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أصبح والدنيا أكبرُ
همِّه جعل الله فقرَهُ بين عينيه, وشتّت عليه شمله, ولم يأته من الدنيا إلا ما قدّر
له. ومن أصبح والآخرة أكبر همّه جعل الله غناه في قلبه, وجمع عليه شملَه, وأتته
الدنيا وهي راغمة" رواه أحمد.
ومدار
ذلك كله على الاستقامة باطنًا وظاهرًا, ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى: (فاستقم
كما أمرت) وقال سبحانه: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا
هم يحزنون)
وهذه
الاستقامة ترقى بصاحبها إلى الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه, وهي أعلى
درجات الغنى.
فأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عز وجل إياك
قبل ذكرك له, وأنه تعالى ذَكَرَكَ فيمن ذَكَرَهُ من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك
وطاعتك وذكرك, فقدّر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئًا
البتة, وذكرك تعالى بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله, قال تعالى: (هو
سماكم المسلمين من قبل) فجعلك أهلًا لما لم تكن أهلًا له قط, وإنما هو الذي أهّلك
بسابق ذكره, فلولا ذكره لك بكل جميل أولاكَهُ لم يكن لك إليه سبيل.
ومن الذي ذَكَرَكَ باليقظة حتى استيقظت وغيرك في
رقدة الغفلة مع النوّام؟ ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها وأوقعها في قلبك
وبعث دواعيك وأحيى عزماتك الصادقة عليها حتى ثبت إليه وأقبلت عليه, فذقت حلاوة
التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذي ذكرك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها, وتوجّهت
نحوه سبحانه ركائبها, وعمَر قلبك بمحبته بعد طول الخراب, وآنسك بقربه بعد طول
الوحشة والاغتراب؟ ومن تقرب إليك أولًا حتى تقربت إليه, ثم أثابك على هذا التقرب
تقربًا آخر, فصار التقرب منك محفوفًا بتقربين منه تعالى, تقرّبٌ قبله وتقرب بعده,
والحب منك محفوفًا بحبين منه, حب قبله وحب بعده, والذكر منك محفوفا بذكرين ذكر
قبله وذكر بعده؟
فلولا سابق ذكره إياك لم يكن من ذلك كله شيء,
ولا وصل إلى قلبك ذرة مما وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل
عليه والإنابة إليه والتقرب إليه. فهذه كلّها آثارُ ذكرِه لك.
ثم إنه سبحانه ذَكَرَكَ بنعمه المترادفة
المتواصلة بعدد الأنفاس, فله عليك في كل طرفة عين ونفس نِعَمٌ عديدة, ذكرك بها قبل
وجودك, وتعرّف بها إليك, وتتحبّب بها إليك, مع غناه التام عنك وعن كل شيء, وإنما
ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده, إذ هو الجواد المحسنُ لذَاتِه, لا لمعاوضة, ولا لطلب
جزاء منك, ولا لحاجة دعته إلى ذلك, كيف وهو الغني الحميد؟
فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكَرك
بها, فلتعظُمْ عندك لذكره لك بها, فإنه ما حَقَرَكَ مَن ذَكَرَكَ بإحسانه, وابتدأك
بمعروفه, وتحبّب إليك بنعمته, هذا كله مع غناه عنك.
فإذا شهد العبدُ ذكرَ ربه تعالى له, ووصل شاهدُه
إلى قلبه؛ شغله ذلك عما سواه, وحصل لقلبه به غنى عالٍ لا يشبهه شيء. وهذا كما يحصل
للمملوك الذي لا يزال أستاذه وسيده يذكُرُه ولا ينساه, فهو يحصل له - بشعوره بذكر
أستاذه له - غنًى زائد على إنعام سيده عليه وعطاياه السنية له, فهذا هو غنى ذكرِ
الله للعبد.
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه
تبارك وتعالى: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, ومن ذكرني في ملأ ذكرته في
ملأ خير منهم" فهذا ذكرٌ ثانٍ بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأول الذي ذكره
به حتى جعله ذاكرًا, وشعورُ العبد بكلا الذكرين يوجب له غنًى زائدًا على إنعام ربه
عليه وعطاياه له.
والمقصودُ: أن شعور العبد وشهوده لذكر الله له
يغني قلبَه ويسدّ فاقته, وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم, فإن الفقر من كل خير
حاصلٌ لهم, وما يظنون أنه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر أسباب فقرهم.
وجميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه فإن
العبد يستغني بها بقدر حظّه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها. فمن شهد مشهد علوّ
الله على خلقه, وفوقيّته لعباده, واستواءه على عرشه, كما أخبر به أعرَفُ الخلق
وأعلمهم به الصادق المصدوق, وتعبّد بمقتضى هذه الصفة, بحيث يصير لقلبه صَمَدٌ يعرج
القلب إليه, مناجيًا له, مطرقًا, واقفًا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك
العزيز, فيشعر بأن كَلِمَه وعَمَله صاعد إليه, معروض عليه بين خاصته وأوليائه؛
فيستحيي أن يصعد إليه من كَلِمِهِ ما يخزيه ويفضحه هناك.
ويشهد
نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من
الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء
وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس, إلى غير ذلك من التصرفات في
المملكة التي لا يتصرف فيها سواه, فمراسمه نافذةٌ فيها كما يشاء, (يدبر الأمر من
السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون) فمن أعطَى
هذا المشهد حقّه معرفة وعبودية؛ استغنى به.
وكذلك من
شهدَ مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات ولا
في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال, بل أحاط بذلك علمه كله علمًا تفصيليًّا, ثم
تعبّد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه؛ عَلِمَ
أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه,
علانية له بادية, لا يخفى عليه منها شيء.
وكذلك إذا أشعر قلبه صفةَ سمعه سبحانه لأصوات
عباده على اختلافها وجهرها وخفائها, سواء عنده من أسرَّ القول ومن جهر به, لا
يشغله جهرٌ من جهر عن سمعه لصوت من أسرَّ, ولا يشغله سمعٌ عن سمع, ولا تغلّطه
الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها, بل هي عنده كلها كصوت واحد, كما أن خلق
الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة.
وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله, الذي
يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء, ويرى تفاصيل خلق الذرّة
الصغيرة ومخّها وعروقها ولحمها وحركتها, ويرى مدّ البعوضة جناحها في ظلمة الليل.
وأعطى
هذا المشهد حقه من العبودية, فحرس حركاته وسكناتِه, وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه,
ومشاهدةٍ لا يغيب عنه منها شيء.
وكذلك إذا شهد مشهد القيّومية الجامع لصفات
الأفعال, وأنه قائم على كل شيء, وقائم على كل نفس, وأنه بكمال قيوميته لا ينام,
ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار, وعمل
النهار قبل الليل, لا تأخذه سنة ولا نوم, ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفعِ
مشاهد العابدين, وهو مشهد الربوبية.
وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم
الحنفاء, وهو شهادة أن لا إله إلا هو, وأن إلهية ما سواه باطل ومحال كما أن ربوبية
ما سواه كذلك, فلا أحدَ سواه يستحق أن يُؤله ويُعبد ويُصلّى له ويُسجَد, ويستحق
نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله, فهو المُطاع وحده على
الحقيقة, والمألوه وحده, وله الحكم وحده. فكل عبوديةٍ لغيره باطلةٌ وعناءٌ وضلال,
وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها, وكل غنى لغيره فقر وفاقة, وكل عز بغيره ذل وصغار,
وكل تكثّرٌ بغيره قلة وذلّة. فكما استحال أن يكون للخلق ربٌّ غيره؛ فكذلك استحال
أن يكون لهم إله غيره, فهو الذي انتهت إليه الرغبات, وتوجّهت نحوه الطلبات.
فمشهد
الألوهية هو مشهد الحنفاء, وهو مشهدٌ جامع للأسماء والصفات, وحظ العباد منه بحسب
حظهم من معرفة الأسماء والصفات.
فهذا
المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها, وكل مشهد سواه فإنما هو مشهد لصفة من صفاته, فمن
اتّسع قلبه لمشهد الإلهية, وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل
والتعظيم والقيام بوظائف العبودية, فقد تم له غناه بالإله الحق, وصار من أغنى
العباد.
فيا لَه
من غنًى ما أعظم خطره, وأجلَّ قدره, تضاءلت دونه الممالكُ فما دونها, وصارت
بالنسبة إليه كالظل من الحامل له, والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث
النفس, ويطرده الانتباهُ من النوم.
واعلم أن أعلى درجات الغنى بالرب سبحانه الفوزُ
بوجوده, والفرحُ كلُّ الفرح به، وهذا الغنى هو أعلى درجاتِ الغنى.
إبراهيم الدميجي
3ـ11-1437