الحَسَدُ
آكلُ الحسنات
الحمد لله وبعد، فإن المؤمن حريصٌ على
تنقيةِ قلبِه وتصفيةِ صدره وغسْلِ روحِه من سيئات الأخلاق ودنيا النفوس. ولقد تأملت
سيءَ الأخلاق فما رأيت أشأمَ من خَصلتي الكبر والحسد، ثم تدبرتُها في القرآن فوجدتُهما
سبب إبلاسِ إبليسَ في الشرِّ، وارتكاسِهِ في الخذلان، ووقوعِه في اللعنة والرجم.
لقد حسد آدمَ وتكبّر عليه، فأخلِق بمن تشبّه
به في سواد قلبه أن يَمتنعَ الخيرُ عن قلبه ومِن قلبه، فحُبُّ الخيرِ للناس مفتقرٌ
لقلبٍ واسع طاهر، ونيّةٍ طيبة حسنة، وقبل ذلك لمحضِ توفيقٍ من الرحمن.
والشيطانُ حريص على تلويث قلوبِ العباد بسواد خبثه
وقتار شؤمه، ولم يجد من رواحله كالحسد والكبر. فعند أحمدَ بسند حسنٍ عن الزبير بن العوام
رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "دَبَّ إليكم دَاءُ
الأُممِ قَبلَكم: الحسدُ والبغضاءُ، وَهي الْحَالِقةُ أمَا إنَّي لا أَقُولُ: تَحْلِقُ
الشَّعْرَ، ولكن تَحْلِقُ الدَّينَ، والَّذي نَفْسي بِيدِه لا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنُون حتى تَحابُّوا، أَلا أدُّلكم على مَا تَتَحَابُّونَ
بِهِ؟ افْشُوا السلامَ بينَكم".
فالمؤمن الناصح لنفسه يحرسُها من آكِلِ
الحسناتِ الحسد، ولا يسكنُ الحسدُ إلا قلبَ وضيعٍ، ولا يتمكنُ إلا من نفسِ خسيس، أما
المؤمن فيردُّه إيمانه ويحجُزُه ورعه، وأما العاقل فيُثنِيهِ عقلُهُ، وأمّا الشريف
فيستحي لشرفِهِ. وقيل لبعضهم: ما بالُ فلانٍ يُبغضك؟ قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري
في البلد، وشريكي في الصناعة، فذكر جميع دواعي الحسد.
أخي المؤمن: إياك والحسد! فإنه آكل الحسنات،
فيأكلها كما تأكل النار الحطب، وموبِقُ إبليسَ في أسحقِ الدركات، وهو أوَّلُ ذنبٍ عُصيَ
اللهُ به، واعلم أنه لا يجتمع في قلبٍ حسدٌ مع حبِّ الخيرِ للناس، فلا بدَّ لأحدهما
أن يُزيحَ مكانَهُ أو بعضَهُ للآخر. فاغسِلْ قلبك من حوبات الذنوب، وطهّر صدرك من نجاسات
الأحقاد والشحناء ولوْثات الحسد والبغضاء. ومن توكل على ربه وفوض إليه أمره أوشك أن
يصل لتوفيقه ورضوانه بإذنه تعالى ورحمته، فليس مع الرحمن يأسٌ.
واعلم أنّ كثيرًا من نعرات الشقاق بين
الناس فسببُها الخفيُّ حسدٌ كامنٌ في الضمائر، مستترٌ عن الظواهر، ولكن تشمّه الأرواح،
وتستوحشه النفوس، ويُظهره الخذلان، ويُختم بسوء العاقبة والحرمان.
والحاسد معترض على قدر الله تعالى بحاله: قال الله
تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله). وعن
ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ألا لا تعادُوا نِعَمَ الله، قيل: ومن يعادي نعم الله؟
قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
أيا حاسدًا لي على
نعمتي ... أتدري على من أساتَ الأدب
أسأت على الله في
حُكْمِهِ ... لأنّك لم ترضَ لي ما وهب
والحاسد سقيم غَمِّهِ وقتيل هَمِّهِ، وذكروا
عن الإمام الشافعي قوله: إن سمعتَ بسفينة تمشي على الرمل فصدّق، لكن إياك أن تصدّق
أن حاسدًا يبيتُ قرير العين! وقال عمر رضي الله عنه: يكفيكَ من الحاسد أنه يغتمّ وقتَ
سرورك. وقال الفقيه أبو الليثِ السَّمَرْقَندي رحمة الله تعالى علينا وعليه: تَصِلُ
إلى الحاسد خمسُ عقوبات قبل أن يصل حسدُهُ إلى المحسود: غَمٌّ لا ينقطع، ومصيبةٌ لا
يُؤجرُ عليها، ومذمّةٌ لا يُحمدُ عليها، وسَخَطُ الربِّ، ويُغلق عنه باب التوفيق. فالحاسد
شقيٌّ مكلوم مهموم، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: لم أرَ ظالمًا أشبه بالمظلوم
من حاسد.
وقال الأصمعي: رأيتُ أعرابيًّا قد بلغ عمرُه مئةً
وعشرين سنة، فقلت له: ما أطولَ عُمُرَك، فقال: تركتُ الحسدَ فبقِيتُ. كما قيل: قاتلَ
اللهُ الحسدَ ما أعدلَهَ، بدأَ بصاحبه فقتلَه، فالنارُ تأكلُ بعضَها إن لم تجد ما تأكلُه.
ولقد تأملت في الناس فرأيت أن الحسد يستتر
خلف كثير مما يسمّونه أسباب كراهية، فَجُزْ ناديهم بطهارة قلبك وسلامة صدرك وحسن ظنك.
وإن البرَّ يا صاحبي أسلافٌ.
والحسد والكبر خصلتا إبليس، ومطيّتاه لغزو
قلوب العباد، ولو رُفع الحسدُ من الأرض؛ لأغلقت المحاكمُ أبوابَها. ومن الخطأ أن
تطلب ألّا تُحسد فلكل نعمةٍ حاسد.
وقال ابن تيمية: "قد يبتلى بعض المنتسبين
إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم
مطلقًا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم". وأرى العداوةَ لا أَرَى أسبابَها!
لذلك فعند كلامك على الأقران - مهما كان حالهم وعلمهم ومقامهم - حاذر أن تلامس المقارنة
بينهم، لأن هذا من شأنه أن يثير الحسد الكامن في قلوبهم. قال ابن تيمية: الحسد مرض
غالب، لا يخلص منه إلا القليل من الناس!
ولقد صدق أبو الأسود الدؤلي إذ قال:
"إذا أردت أن تعظم فمُت". فالميِّتُ تكبُرُ محاسنُه، وتُنسى معايبه، وتَدفِنُ
الرحمةُ به الحسدَ عليه. وبالتغافل عن الحُساد يستريح الفؤاد.
فاحرص - رعاك الله – على سلامة صدرك وليكُنْ
قلبُك طاهرًا من كل ما يُشينُهُ، فلا تحمِلْ
على الناس لأجل دنيا.
وسلامة الصدر هي الطريق لحسن النصح للمسلمين،
فمن أراد بلوغ مرتبة أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه فليبدأ بتفقّد سلامة صدره لهم. فالمؤمن
قلبُه سليمٌ، وصدرُهُ سليمٌ، ونصحُه للناس صافٍ مُتدفِّقٌ، يُحب لهم ما يُحب لنفسه
من خيري الآخرة والدنيا.
وصدره سالم من سواد الحسد، وقَتَرَةِ الحِقد،
ودخانِ الضغينة، فهو سليمٌ كقلب الطيرِ البريء، طهَّر قلبَه من نتنِ معصية، وقُبح خطيئةٍ
وضِرَامِ بغضاءٍ لمسلم، ومثلُ هذا موعودٌ برحمة ربه وجزيل هباته. (جزاؤهم عند ربهم
جناتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن
خشي ربه).
وهل تعلم سرَّ استنارةِ الوجوه وانفساحِ
الصدور: إنه القلب السليم! فتفقّد – رحمك الله - طهارةَ قلبك، وسلامةَ
صدرك، فإنها من نفيسِ رأس مالك في الدار الآخرة، فنِعَمّا طهارةُ القلبِ ذخيرةٌ بين
يديك غدًا، وأكرِمْ بها قربانًا وزُلفى إلى مولاك أبدًا، أن تكون من الذين قال
الله تعالى فيهم: (من أتى الله بقلب سليم).
فإن السعيد من ولد آدم هو من اتقى الله
تعالى حق التقوى، وتحلى بسلامة الصدر وطهارة القلب، فالفائز عند الله غذًا هو من سَلِمَ
صدره اليومَ. والمؤمنُ طاهرُ القلب كأبيه آدم عليه السلام، فإن خُدِعَ يومًا لطيبته
فلهُ سلَفٌ صالحٌ بأبيه، الذي لم يكن يتصوّر أن هناك من سيقسم بالله كاذبًا (وقاسمهما
إني لكما لمن الناصحين).
إنّ سلامةَ الصدرِ خلق شريف، يتحلّى به
أهلُ المروءاتِ العظيمةِ، والنفوسِ الساميةِ والرغائبِ الكبرى في فلاح الدار الآخرة.
وكان السلف رحمهم الله يحفظون لسالمِ الصدر هذه الخَصلةَ ويحمدونه عليها. قال اياسُ
بنُ معاوية: كان أفضلُهُم عندَهم أسلَمُهُم صدورًا وأقلُّهُم غِيبة.
ومن كان قلبه سليمًا الحسدِ وصدرُهُ خاليًا
من الحقدِ فقد تنعّم بشيء من نعيم الجنة، فمِنْ نفيسِ نعيمِهَا سلامةُ صدورِ سكانِها
وراحتُهم، قال ربنا تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين).
وسلامة الصدر منحةٌ من الله تعالى ومحض
فضل من لدنه، يختص به من أراد توفيقه من خواصِّ عباده. وسئل الإمام أحمد: ما التوفيق؟
فقال: ألّا يكلك الله إلى نفسك. فالقلبُ قُلَّبٌ مالم يعصمه مولاه، والصدر
ضيّق ما لم يفسحه الله، والهم ملازم ما لم يرفعه الله. (إن في ذلك لآيات لأُولي النهى).
إنّ سالمَ الصدرِ على عباد الله يعيشُ بين
الناسِ وجنتُهُ في صدره، وبستانُه في قلبه، وسعادته وسكينته في روحه، ينظرُ إليهم بعيني
قلبِه السليمِ، وصدرِهِ الناصحِ الناصعِ الواسعِ، فلا يرى شيئًا من نَكَدِهِم عليه
يستحقُّ ذلك المقابلَ، فينقلبُ إليهم سليمَ الصدرِ، حسَنَ الظنِّ، مُحبًّا لهم كل خيرٍ
يُطيقه، مُسديًا لهم كل فائدة يسطِيعها، لعِلمِه أنه لم يُخلق لحملِ همومِ دنيا وغمومِ
فانية.
إنه فقط يحمل هم آخرته، ويسعى لتحصيل رضى
مولاه، فإن صادَفَهُ ظلمٌ له أو أذىً؛ لم يتكدّرْ تَكَدُّرَ الهلوعين، ولم تَضِقْ نفسُهُ
بأمرٍ هو عند الناسِ عظيمٌ وعندَ الأتقياءِ تافه.
فَمَا كُلُّ ما راجتْ عند الناس عظمَتُهُ عظيمًا،
وما كلُّ ما تهالك الناس على تحصيله يستحق، ولا كلّ ما حَمَلَ الناسُ همَّ إزاحتِه
واجتنابِه حقيقٌ بذلك، فالميزانُ هو ميزانُ الآخرة، وإنما المعوّلُ على رضى الرحمن.
ومن كان معيارُهُ الآخرة؛ نَفَذَتْ بصيرتُه، واستقام عمله، ومن كان ميزانُهُ العاجلة؛
عمي قلبه وانتكس عمله. (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار).
والدنيا كَدرٌ وكَبَدٌ وعناء فلا تفرح بها
ولا تحزن لها ولا تعطها فوق قدرها، ولن يُنالُ منها نعيمٌ إلا وفي طَرَفِهِ بؤسٌ، وما
تحت الخضراءِ وفوقَ الغبراءِ بمستريحٍ (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
إذا أنتَ لم تشربْ
مِرَارًا على القَذَى ... ظمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مَشَارِبُه
إبراهيم الدميجي