العَقْلُ والقَدَرُ
الحمد لله، وبعد؛ فلقد جعل الحكيم القدير سبحانه للعقل البشري سُورَه
الذي يحمي له سلامته، وحَدَّهُ الذي يستحيل عليه اجتيازه، وسقفه الذي يعجز مهما
قويت حدّته وَذَكَتْ قريحته من اختراقه، (قد جعل الله لكل شيء قدرًا). فالمُدركاتُ
أكثر وأعظم وأخفى وأوسع من أن يحيط بها ذيّاك العقل الإنساني، (وما أوتيتم من
العلم إلا قليلًا)، رحمةً من الله تعالى لذلك العقل العظيم إن هو آمن بربه واتّبع
هديه ولم يكن من الكافرين الذين سخفت عقولهم وصغرت أحلامهم وانقلب إدراكهم فأهوى
بهم للدركات. ومع ذلك فلا يزال غرور كثير من الناس يكابر في ذلك، (يا أيها الإنسان
ما غرّك بربك الكريم . الذي خلقك فسواك فعدلك).
فأعظمُ ما في الإنسان عقلُهُ وقلبُهُ، فالعقلُ جوهرةٌ في الغايةِ من
النفاسة، والنهايةِ في الإعجاز، والقلب سيّدٌ مُختارٌ، يتلقّى من عقله ما يُعينه
على مراده، بهما عَلِمَ المرءُ وكُلّف وعَمِلَ وحرَث وجرَى في دار ابتلائه بما
جرَتْ به مقاديره. وَهَبهُ ربُّه عقلًا يُميّزُ به الطريقين، وقلبًا يختار به أيّ
السبيلين، وقدَرًا يحُوطه في الدارين، قد نُسجت حياتُه على منواله، وخُبِّئتْ
قابِلُ أعمالِه تحت ستار غيبِه، إرادتُه في خِيَارَيه تامّة، ومشيئته في طريقيه
مكتوبة، وهو بكلِّ ذلك تحت مظلّة قَدَرِه، يُيسَّرُ لإدراكه، ويعملُ مُختارًا
بموجبه، (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون). و"كُلٌّ مُيَسَّرٌ
لِما خُلِقَ لَهُ". (1) ﴿فَأمّا مَن أعْطى واتَّقى * وصَدَّقَ بِالحُسْنى *
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وأمّا مَن بَخِلَ واسْتَغْنى * وكَذَّبَ بِالحُسْنى
* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى﴾. فقدر الله تعالى سابق، وعمل عبده لاحِقٌ، وحُجّته
على عبده قائمة، فلا يعذِّب أحدًا إلا بعمله لا بمجرد قَدَرِه، (وما ربك بظلام
للعبيد).
إن دراسة مباحث علم القضاء والقدر لا بد فيها من مزيد حذر وتحفّظ
وتحرّز واحتراس، فهو مَزلّة أقدامٍ لأقوامٍ لم يتأدبوا بأدب التواضع لجهلهم
الطبيعي بمساربه وغموضه وحدوده التي لا يُرام ما وراءها، ولا تنكشف أستار أطرافها
إلا على نور الشرع لا غير. لأن القدر سرُّ الله تعالى، وقد أذن لنا سبحانه بأن بيّن
لنا قدْرَ ما نحتاجه من هذا العلم المقدس الشريف، وقلنا بشرفه وقدسيّته لتعلقه
بأسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله كالعلم والخلق والحكمة والمشيئة والإحاطة
والرحمة والعدل واللطف والبر والرزق وغيرها، بل قد جعله الله تعالى ركنًا سادسًا
للإيمان لا ينعقد دين المرء ولا يصح إسلامه إلا بالإيمان به.
فمِن رحمة الله تعالى بنا أن بيّن لنا قدْر ما نحتاجه من هذا العلم
دون ما لا حاجة لنا به في هذه الدار، ويكفينا فيه: معرفته، وحسن التصوّر لمراتبه
الأربع العلم والكتابة والمشيئة والخلق، وما يستتبع ذلك من مباحث كتلمّس بعض الحكم
الربانية في المقادير، وقضية عدم وجود الشرّ المطلق في العالم، ورحمة الله السابقة
غضبه، وعدله المطلق، وملكه التام، وخلقه كل شيء، ونحو تلك المباحث والحواشي دون
التعمّق الممنوع في أنفاق علومٍ لم يأذن سبحانه لنا بها، مع ما يتبع مُخالفَ ذلك
من عقابيل عقلية ومهالك فكرية ومزالق إيمانية، فالله تعالى أرحم بنا من أنفسنا
الأمارة.
وإذا أغلق الله تعالى عنّا
بابًا فليس مردّ ذلك حرماننا من شيء يقرّبنا إليه، بل حقيقتُه حشوُ كرامةٍ ربانيّة
عَلِمَها وقضى بها مَنْ خَلَقَنَا وحَدَّدَ مداركنا وقُوَانا، فَحَرَسَنا بذلك
وحفِظَنَا من مزالق لا تقوى على الثبات فيها عقولنا ولا أفئدتنا. ولقد روي عن علي
رضي الله عنه أنه قال لمن نازعه في القَدَرْ: "القدر سرُّ الله فلا
تكشفه". (2) أي لا تبحث عنه ولا تحاول كشفه، فلا يعلمه غير الله. فالقدر مبني
على علم الله وحكمته ومشيئته وربوبيته، والعبد – مهما كان حاله – عاجز عن إدراك
ذلك، ولله الحكمة البالغة وهو اللطيف الخبير.
فقدَرُ الله تعالى صادر عن
علمه وحكمته وقدرته سبحانه، وحكمته صفة من صفات جلاله وجماله، فكيف للعبد أن يدرك
إلا ما أذن الله تعالى له به. وعليه أن يتدبر قول الحكيم العليم الرحيم: (وعسى أن
تكرهوا شيئُا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا
شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون). فعلى المؤمن – الناصح لنفسه - أن
ينكمش على علمه الذي أذن الله له بمعرفته، وأن يقنع به ولا يحاول تجاوزه حتى لا
يكله الله تعالى إلى نفسه العاجزة الجاهلة القاصرة، فيضل ويعطب ويهلك.
ولقد نصحنا ورفق بنا ورحمنا من نهانا عن ذلك صلى الله عليه وسلم، فعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع
في القدر، فغضب حتى احمرَّ وجهه، حتى كأنّما فُقئ في وجنتيه الرّمان، فقال:
"أبهذا أُمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في
هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه". (3) فللعقل حدُّه ومنتهاه الذي لا
يسمح له شرعًا ولا قدرًا بتعديه مهما كابر وظن أنه كذلك.
وقال أبو المُظَفَّر
السمْعَاني: "سبيل المعرفة في هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة، دون محض
القياس والعقل، فمن عدل عن التوقيف فيه ضلَّ وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء
العين، ولا ما يطمئن به القلب، لأن القدر سِرٌّ من أسرار الله تعالى، اختص العليم
الخبير به، وضرب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم لما علمه من الحكمة،
فلم يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب". (4) وقال الآجُرِّيُّ رحمه الله في كتابه
العظيم "الشريعة": "لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث في القدر،
لأن القدر سرّ من أسرار الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر
واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمَن العبد أن يبحث عن القدر فيكذّب بمقادير
الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق".(5)
وليست علوم القدر بمعزل عن
غيرها من علوم كثيرة يستحيل على العقل البشري احتمالها؛ إما لأنها تفوق قدرة مدارك
العقل الإنساني، أو أنها متعلقة بعالَم غير عالمنا وإن تعلق بعضها بعالمنا ونحو
ذلك. واعتبر ذلك بما هو أشرف من هذا كله ألا وهو احتجاب الله تعالى عنا في الدنيا
لعدم قدرتنا على احتمال رؤية وجهه تبارك وتعالى في الحياة الدنيا حتى لا تحرقنا
سُبُحاتُ وجهه الجميل الجليل تبارك وتعالى وجلّ وتقدّس، ﴿قال رَبِّ أرِنِي أنْظُرْ
إلَيكَ قال لَنْ تَرانِي ولَكِنِ انْظُرْ إلى الجَبَلِ فَإنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ
فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ
مُوسى صَعِقًا فَلَمّا أفاقَ قال سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيكَ وأنا أوَّلُ
المُؤْمِنِينَ﴾، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : «قام فينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: "إن الله لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ،
يَخْفِض القِسْطَ ويرفَعُه، يُرْفَع إليه عملُ الليل قَبْلَ عَمَلِ النَّهار،
وعملُ النَّهار قَبْل عمل الليل، حِجَابُه النُّورُ، لو كَشَفَهُ لأحْرَقتْ
سُبُحَاتُ وجهه ما انتهى إليه بصرُه من خلقه". (6) وعن قتادة عن عبد الله بن
شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن
أي شيء كنتَ تسأله؟ قال: كنتُ أسأله: هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألتُ فقال:
"رأيتُ نورًا". (7) أي نور الحجاب. أما في الآخرة فإن أعظم نعيم الجنة
هو التّمتّع والتلذّذ برؤية الله تبارك وتعالى، فعن جرير بن عبد الله البجلي رضي
الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال:
"إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تُضَامُون في رؤيته، فإن استطعتم أن
لا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا". (8) وعن صهيب رضي
الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة؛
يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدُكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهَنا؟ ألم
تدخلنا الجنة، وتنجِّنا من النار؟ فيَكشِفُ الحجاب، فما أُعطوا شيئًا أحبّ إليهم
من النظر إلى ربهم". (9) نسأل الله الكريم من فضله.
ومن فروع هذا الباب الشريف معرفة أن فهمه يكون بأداةِ التفكّر فيه وهي
العقل الذكي المتحفّظ الملتزم بحدوده التي بيّنها له الوحي فلا يقول فيها بهوى،
ولا يخوض فيها بِغَيٍّ؛ فيزيغ عنها فيهلك، لأن موارد العقل اثنان لا غير:
الأول: المَكَنَةُ
والجوهر والآلة الإدراكية المميزة لحدود التصورات، وإحسان المقارنات، وهضم
المعلومات، وكشف المجهولات، بالعلم بحقائقها وحدودها ونحو ذلك.
الثاني: حقيقة الأمر
كما فهو، وحقائق الأمور سواء أكانت معنوية أم مادية لا تكون مُتيَقّنة إلا ما أذن
الشرع بإدراكها بالحواس إما على سبيل التجربة والتأمل والاختبار والاستمرار، أو عن
طريق الإخبار الشرعي ابتداءًا. فمهما علا كعب العقل واشتدّ في حدّته وتاه في غروره
واتّسع في مداركه فهو يَظَلُّ في كثير من الأمور – ولا بدّ - طفوليًّا ساذجًا
جاهلًا بتفاصيل ومآلات الحقائق المادية المعنوية الدنيوية، بلْه الحقائق الغيبية
والأخروية، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا).
ويُلحق بذلك معرفة العقل الذي توزن به الأمور في الشرع، فهل هو عقلُ
فلان أو عقل فلان، أم هو العقل المنتظم لدى العقلاء الذي لا يختلفون على تقريراته،
ولا يتنازعون في أحكامه؟
هو الثاني بلا ريب، لأن عقل الإنسان الواحد يعتريه الضعف، ويلحقه
النقص، ويدركه العجز، ويعترض له الوهم، ويمكر به الهوى، ويغطّيه النسيان، وغير ذلك
من نواقصه ونواقضه! بل يعتريه تبدّل الآراء في ثاني الحال، فيجد أن ما قرّره اليوم
هو عين ما نفاه غدًا، وما ظنّه يومًا واجب التصديق بوزن المناطقة - البعيد عن عصمة
الوحي المُنزّل - إذ به يرى خللًا فيه ينزله عن رتبة الواجب للجائز، وقد ينزل
بأَخَرَةٍ للمستحيل! (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)، ﴿ولا تَمْشِ
فِي الأرْضِ مَرَحًا إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ ولَنْ تَبْلُغَ الجِبالَ
طُولًا﴾.
للهِ في الآفاقِ آياتٌ لعلّ ... أقلّها هو ما إليه هداكَ
والكونُ مشحونٌ باسرارٍ إذا ... حاولتَ تفسيرًا لها أعياكَ
ربي لك الحمدُ العظيم لذاتِكَ ... حمدًا لكَ، ليس لواحدٍ إلّاكَ
إن لم تكن عيني تراكَ فإنّني ... في كلِّ شيءٍ استبينُ عُلاكَ
يا أيّها الإنسانُ مهلًا ما الذي ... بالله جل جلالُه أغراكَ
إنّ مشكلة العقل الكبرى ومعضلته العظمى أنه كائنٌ معنوي لا حسّي،
فالحاسّة مادة تُحسّ وتدرك بأمثالها ومتقابلاتها من الحواس، ولئن كان ميزان
الحسّيات ماديًّا فإن الاتفاق على حدوده سهل يسير، لذا فقد جعل البشر مكاييل
وموازين وأطوال ومقادير حسّيّة لكل مادة بحسبها منها الثقيل كالصخر والحديد
والرمل، ومنه الخفيف كالمعادن النفيسة والجواهر الغالية ونحوها، فصار لكل مادّة
محسوسة إجمالًا ميزانًا واضحًا متفقًا عليه في الجملة.
ولكن الأمر ليس كذلك في
المعنويات، فميزانها ليس بوضوح موازين الحسّ لصعوبة ضبط حدودها، لأنها مجرّد معنًى
في الذهن لا في خارجه من الحسّ المادّي، لذلك تقاس المعنويات بأمثالها أو أشباهها
من المعنويات، فالصبر والاحتمال والحب والبغض والتوكل والإيمان والفرح والذكاء
والرأي والحفظ والأمل والذكرى والألم واللذة والطموح والكسل والرغبة والجوع
والحنين والخوف والغبطة والرحمة والأسى ونحو ذلك مما لا يكاد يتناهى تنوعًا
واختلافًا وتباعدًا واقترابًا، فلا ضابط محدد يضمن اتحاد ذهنين فأكثر على تقدير
معنًى ما، لأنها غير منضبطة حِسًّا ولدخول الخيال والوهم فيها.
مع التنبيه إلى أن الإحكام في حسن التصور في الفطريات وما يتبعها
كالإيمان بالله وربوبيته ووحدانيته أوضح وأحكم وأتمّ من موازين الحسّ طرًّا، لأن
الوهم والخيال والتداخل والخطأ والخداع والنسيان والاشتباه والخداع ونحو ذلك يدخل
فيها ما لا يدخل في هذه الإيمانيات اليقينية القاطعة، ما لم تُشَبْ بخلل عقدي
يتنكّب بها عن سابلة الحق وطريق الهدى ونهج السعادة والفلاح، والله المستعان.
إذا تقرّر ذلك؛ فما هو العقل أو القواعد أو الحدود أو الميزان الذي
يصح أن يكون ميزانًا يُتَحاكم إليه عند اختلاف العقول؟
والجواب: أن العقل
بمفهومه العام منقسم إلى عقلين:
فالعقل الأول: هو
العقل الخاص بالفرد الواحد، وهو العقل الذي عليه مناط التكليف الشرعي، فيقال: فلان
عاقل وفلان غير عاقل.
والعقل الثاني: هو الأحكام
العقلية التي اجتمع عليها جملة العقلاء. فالعقل الذي يرجع إليه العقلاء عند
اجتماعهم أو اختلافهم، ويشيرون إليه بالأمور التي يقبلها ويقرّها العقل الصحيح أو
يردّها ويحيلها ونحو ذلك: فهو العقل المنتظم لمجمل آراء العقلاء، وهو القانون الذي
انتظم عقولهم إجماعًا أو أغلبيًا ساحقًا، فهو كالقواعد والموازين والحدود
والقوانين التي اجتمعت عليها عقول عامّة العقلاء، أو سوادهم الأعظم في بعض الأمور،
فإن خالفها أحدٌ يومًا قالوا: قد خالف العقل وشذّ بالرأي. وبهذا سار الناموس
الرباني على بني الإنسان، فلم يتركهم هملًا ولم يخلقهم سُدى، ولم يجعلهم أفرادًا
منعزلين لكل منهم نظامه وقانونه ومزاجه وطيشه وبهيميّته وشهوته في كل شيء، بل قد
جمع قرائحهم وألّف عقولهم على جملة من الأمور التي تنتظم أمورهم الكبار التي لا
يقوم معاشهم إلا بها، فاصطلحوا وتواطؤوا وتوافقوا - عفويًّا – بأمر ربهم الكوني
وتقديره الإلهي ورحمته الأزليّة السرمديّة على حدودٍ عقليّة ومدارك معرفيّة بها
يفقهون الحدّ الأدنى من الأمور الحياتية والمعاشية والمصيرية. ولعل هذا من أسباب
مراعاة الشريعةِ العرفَ السليمَ غير المُتعدّي حدود الشرع، فهو من هذا الباب ولو
من وجه.
واعلم أنّ من ثبت منهم على حدّ العقل الصحيح فلم ينفلت عقال عقله؛
فإنه ولا بد سينتظم له أمور حياته الأبدية الأخرويّة أيضًا، لذا كرّر الله تعالى
توبيخ من لا يُعمل عقله فيما ينفعه في آخرته بقوله: (أفلا تعقلون)، وإنما يكون
العقل وسيلة هدى لصاحبه إن عامل عقله بإنصاف فلم يتبع عنه هواه، ويتضح ذلك بأمرين:
أولاهما: أنها تدله
ضرورة على أمور الفطرة الأولى التي لم تنحرف بسيول ضلالات الآخرين. فلا زال في
باطن كل عقلٍ علمٌ كامنٌ يقتضي اعترافه وإيمانه بربوبية وإلهية الله تعالى ما لم
ينحرف بمؤثر خارجي يُنجّس علمه ويعكّر فهمه ويُظلِمُ معرفتَه.
إضافة إلى أن ذلك الحد الأدنى
من الحاجة المعرفية من الكلام والعلم والحياة والتدين والحرث والانتفاع بخير الأرض
والسماء بإذن الله تعالى للاستخلاف الآدمي في الأرض هو موجود معهم من حينهم، لأن
الله تعالى قد علّم آدم أسماء كل شيء، ويسّر له أسباب المعاش في الأرض له ولذريته،
فتعاقب نسله على قبول أحكام ما اجتمعت بداهتهم عليه ومما أثَرُوه عمن سبقهم من
آبائهم.
وعليه؛ فهذا التوافق والتواطؤ
العقلي والحضاري على كبريات ومحتّمات ومسلّمات أمور الحياة الدنيا والأخرى لم يبدأ
صدفة، بل ابتدأ بتعليم الله تعالى لآدم الذي نقلها لخلَفِه فسارت في الأجيال حافظة
لهم أسباب اجتماعهم وتفاهمهم وتعاونهم، ثم نُسي بعضها وبقي بعضها، وتراكمت خبراتهم
وتجاربهم في كل جهة من جهات الحس والمعنى مما يطيقون. والمقصود ان العقل الصحيح إن
سلم من مؤثر من خارج فهو يرجع بصاحبه إلى الفطرة الصحيحة والعقيدة النقية الأولى،
(فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ).
وثانيهما: أنها تلزمه
الاكتفاء بنبع الهدى الوحيد المتمثل بما جاء به المرسلون. وهذا جليّ ظاهر لا يتردد
فيه إلا جاهل أو مكابر، برهان ذلك: أن العاقل كلما قوي عقله واتسعت مداركه أيقن أن
ما يجهله أكثر مما يعلمه، وأن وراء هذا الكون المشهود والخلق البديع والجمال
الباهر والتناسق المعجز والدقة العجيبة والعظمة الهائلة أن وراء ذلك كله ربًّا
قديرًا وإلها يستحق توحيده بالتأله والعبادة، وأن العبد مهما وصل من قوة أو إرادة
أو علم فهو فقير بكلّيته لعون وتربية وحفظ وهداية سيده ومولاه، مهما شطّت به ظعائن
الهوى، وندّت منه كبائر الجحود، وهجمت عليه خواطر الشيطان، فإذا تدبر حاله ذلك علم
أن محدوديّة عقله مهما بلغت حدّته وسعته فإنها تُلزمه الاكتفاء بما جاء من المصدر
الوحيد الموثوق، الذي لا تنتهي أطرافه في هذه الدار الدنيا من علوم الشرع المنزل،
وهو العلم المحكم الكامل الفاذّ الجامع المانع، فإن بَحَثَ بجدٍّ وإخلاص للحقيقة
وَجَدَ أن الإسلام هو الدين الوحيد اللائق بعهد الله تعالى للبشر، لما فيه من
براهين عقلية ودلالات فطرية ولوازم معرفية تقوده للإيمان بالرسول محمد صلى الله
عليه وسلم الذي جاء بالهدى من الله تعالى، فإذا كان كذلك سلّم معاقد التسليم
وأزمّة الانقياد للشرع الإلهي الحنيف.
واعلم – رحمني الله وإياك -
أنّ المعيار الضابط لهذا العقل العام هو الشرع المطهر المصون، فما قرّره الشرع
صريحًا صحيحًا علِمنا أن العقل العام للعقلاء يقبله، وما نفاه الشرع أو منع منعه
ونحو ذلك فحينها نعلم يقينًا أنه مخالف للعقل الصحيح، ومحصّلة هذا أمران:
الأول: أنه لا تعارض
البتة بين النص الصحيح الصريح وبين العقل الصحيح، فإن ظهر تعارض فالأمر عائد إما
لعدم صحة النص (الكتاب والسنة) وإما لعدم صراحته، وبالتالي الخطأ في فهمه، وإما
لخطأ التقرير العقلي أصلًا، فإن كان النص صحيحًا صريحًا كنصوص الإيمان والصفات
واليوم الآخر والقدر والنبوات ونحو ذلك؛ فحينها يكون الخلل في التصور العقلي للشخص
الذي ظنّ وجود تعارض، إذ لا تعارض البتة بين ما قاله الله تعالى وبين ما خَلَقَه،
فالعقلُ خَلْقُه والشرعُ أمرُه، (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين).
الثاني: أنّ معيار
العقل السليم ومسبار الإدراك العميق هو الشرع الصحيح، ومن زعم التعارض بين دلائل
الشرع وموارد العقل فعليه أن يراجع ميزان دلائل وتصورات عقله مع ذلك العقل المنتظم
للعقلاء، وهو ما تبيّنه الشريعة الغراء، فإن هذا العقل الصحيح يستحيل أن يخالف
الشرع، (صنع الله اذي أتقن كل شيء)، (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت).
وبالجملة؛ فالعقل العاقل هو ذلك العقل المستضيء بالعلمِ المعصومِ من
الزيغ، أما العقل المنفلت من عقاله فهو ما نقص إدراكه بجهل، أو تعكّر تصوّره بكبر،
أو تساقطت قوّته بفساد قصد، أو انحرفت معرفته بتنكّب الوحي لما سواه، ففساد الماء
من المَيَّاحِ، وفساد الجدول من تلوّث ينبوعه، وفساد القصد ملوّث للبصيرة، فكما أن
صلاح القلب له تأثير مباشر على سلامة التصوّر وذكاء القريحة فالضدُّ بالضدِّ،
فالزكاء مورد الذكاء، وتدبر راشدًا مُسدّدًا مهديًّا قول الله عز وجل: (وقال الذين
أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم
كنتم لا تعلمون). وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.
إبراهيم الدميجي
12 رمضان / 1444
رابط المقال على شبكة الألوكة
1. مسلم (٦٨٣٠)
2. الطحاوية (93)
3. الترمذي (2133) وصححه
الألباني في صحيح الترمذي (2/223)
4. نقله عنه الحافظ ابن حجر
في فتح الباري (11/ 477)
5. الشريعة للآجري ( 149 )
6. مسلم (1/111)
7. مسلم (1/ 178) وقال ابن
القيم رحمه الله تعالى في الزاد (٣/ ٣٦ - ٣٨): "واختلف الصّحابة هل رأى ربه
تلك اللَّيلة أم لا؟ فصح عن ابن عبّاس أنّه رأى ربه، وصح عنه أنّه قال: رآه
بفؤاده. وصح عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله: ﴿ولَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهى﴾ [النجم ١٣، ١٤] إنّما هو جبريل.
وصح عن أبي ذر أنّه ساله: هل رأيت ربك؟ فقال: «نور أنّى أراه»، أي: حال بيني وبين
رؤيته نور، كما قال في لفظ آخر: «رأيت نورًا». وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي
اتفاق الصّحابة على أنّه لم يره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وليس قول ابن عبّاس: «إنّه
رآه» مناقضًا لهذا، ولا قوله: «رآه بفؤاده»، وقد صح عنه أنّه قال: «رأيت ربي تبارك
وتعالى»، ولكن لم يكن هذا في الإسراءِ، ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في
صلاة الصُّبح، ثمّ أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك اللَّيلة في منامه، وعلى
هذا بنى الإمام أحمد رمه الله تعالى وقال: نعم رآه حقًّا؛ فإنّ رؤيا الأنبياء حقّ
ولا بد. ولكن لم يقل أحمد رحمه الله تعالى: إنّه رآه بعيني رأسه يقظة. ومن حكى عنه
ذلك فقد وهم عليه، ولكن قال مرّة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده. فحكيت عنه روايتان،
وحكيت عنه الثّالثة من تصرف بعض أصحابه: أنّه رآه بعيني رأسه. وهذه نصوص أحمد
موجودة ليس فيها ذلك. وأمّا قول ابن عبّاس: إنّه رآه بفؤاده مرتين، فإن كان
استناده إلى قوله تعالى: ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى﴾ [النجم ١١]، ثمّ قال:
﴿ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى﴾ [النجم ١٣] والظاهر أنّه مستنده، فقد صح عنه ﷺ أن
هذا المرئي جبريل، رآه مرتين في صورته الّتي خُلِقَ عليها، وقول ابن عباس هذا هو
مستند الإمام أحمد في قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم".
8. البخاري 1/145 ( 554 ) ،
ومسلم 2/113 ( 633 ) ( 211 )
9. مسلم 1/112 (181) (297)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق