كيف تتخَطّا مرحلة الـ(لو)
الحمد لله وحده، والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإنّ (لو) أحبولة الشيطان، يصطاد بها ضيّقي
الصدور، أو ضعيفي البصائر، فلا يستطيع الشيطان بلوغ مآربه من المرء في هذا إلا من
باب الجهل بالشرع أو الجهالة فيه، أي ضعف العلم والبصيرة أو وَهَن اليقين والإرادة، لذلك
نوه الله تعالى للجمع بين العلم والإيمان، فقال سبحانه: (وقال الذين أوتوا العلم
والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث)، فالعلم نور والإيمان مَرْكَبٌ،
فبالنور تصل سفينة الإيمان شاطئ النعيم بإذن الله تعالى، فالنور لا يكفي والراحلة
لا تكفي، بل لا بد من اجتماعهما للوصول لعلّيين برحمة أرحم الراحمين تبارك وتعالى.
فما أحوج الناس في هذا
الزمان للتواصي بالحق والصبر فيه عبر طَرْق هدايات الشريعة هذا الموضوع الذي لا
تنفك أسبابه عن هجومها على أفئدة الناس وعلى صدورهم على الدوام عند أدنى عثرة فُجاءة،
أو تلاشي أمنية، أو فوات رغيبة، فلو اعتنقته أفئدتهم على وفق الشرع ورَضُوا ما
آتاهم الله تعالى لأراحوا أنفسهم من زفرات الخيبات، وحسرات الفوائت، وجرعات الغيض،
وزعزعة سكينة القلوب. ذلك أنّ الإنسان في مراحل حياته وسيرورة أيامه يمرّ ولا بدّ بمنعطفات
حرجة في حياته، (لتركبن طبقًا عن طبق) وحالًا بعد حال، فيترتب على اختياره لمنعطفاته
الحياتية أمور كبار أو صغار بحسب حجم هذا الأمر، وكم من أمر صغير تترتب عليه
العظائم!
لذلك شرع الله تعالى
المشاورة والاستخارة والتوكل، فقال سبحانه: (وشاورهم في الأمر)، وقال سبحانه: (ولما
توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)، وقال
سبحانه: (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين). وعن جابر رضي الله عنه
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة في الأمور كلها، كالسورة من
القرآن..". (1) وقال صلى الله عليه وسلم: "احرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ".
(2)
ولا جرَم في شأن تقديم
الشريعة أمر الرضا بالله تعالى في كل أمر، فإن الفرح بتحصيل المرغوب أو دفع
المرهوب أو الحزن أو الحسرة أو الغضب لفواته لها أثر مباشر في سكينة الإنسان
وراحته وطمأنينته، مهما كانت جهة المُقدَّرِ الربّاني أو الاختيارِ الإنساني، سواء
أكان ذلك الأمر فقد حبيب، أو خسارة مكتسب، أو تسلّط ظالم، أو مرض عضال، أو اختيار
قسم الدراسة، أو العمل، أو الزواج، أو المسكن، أو السفر، أو إجراء صفقة ما، أو
اختيار ما.. ونحو ذلك. ولا يكاد ينفكّ أحد عن ذلك، فقطب
رحى الراحة في الرضا. والدنيا إنما هي مزرعة وحرث وميدان عمل.
والمقصود؛ بيان أنّ لفظ
ومعنى (لو) لها استدعاء وحضور في حياة أكثر الناس، وأكثر استعمالاتها شيوعًا
التحسّر والتلهّف والتسخّط على ماضٍ انقضى اعتراضًا على القدر، وهذا هو المذموم.
وبالجملة؛ فلفظ (لو) له
أحوال:
الأول: أن يقولها اعتراضًا على القدر وتسخّطًا له، فهذا محرم.
الثاني: أن يقولها لمجرد الخبر المحض، فهي مباحة في الأصل، ولكن
يختلف حكمها بحسب صدق الخبر أو كذبه.
الثالث: أن يقولها لبيان ما ينبغي فعله مما فات من الطاعات من
غير تسخط، فهذا مشروع.
الرابع: أن يقولها للتمنّي في المستقبل، فهي بحسب ما تمنّاه من
خير أو شرّ.
بيان ذلك: أن لفظ
(لو) له أحوال قد بينها الكتاب وفصلتها السنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ
إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ، وَفي كُلٍّ خَيرٌ. احرِصْ عَلَى مَا
يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ. وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ
لَوْ أنّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللّهِ، وَمَا
شَاءَ فَعلَ؛ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ". (3)
وعليه فالحال الأول للفظ
(لو) هو أن يقولها اعتراضًا على القدر وتسخطًا، فهذا من عمل الشيطان. وكثير ممن
يقولونها إنما يقولونها تسخّطًا واعتراضًا على القدر وذمًّا للمقضيّ، وهذا هو
الممنوع المذموم، وهو لا يغني عن صاحبه شيئًا سوى ألم الحسرة ووزر الذنب، فلا هو
بالذي سلم من المؤلم، ولا هو بالذي تقلّد مكرمة الصابرين الراضين الحامدين
الشاكرين.
والاعتراض على القضاء وتسخّطه من خصال
المنافقين، ولا غَرْوَ؛ فليس لهم زادٌ من رضًا يسافرون به في تخوم ابتلاءات الدنيا
كحال المتقين الفائزين الحائزين رضا الآخرة برضاهم في الدنيا. فقلب المنافق فارغ
من الرضا بالله تعالى، لهذا فمن وسائل طرد النفاق عن حمى القلب ترديد ذكر الرضا
طرفي النهار قال رسول الله ﷺ: «ما من عبد مسلم يقول حين يُصبح وحين
يُمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا، إلا كان حقًا
على الله أن يرضيه يوم القيامة». (4)
قال الله تعالى ذامًّا المنافقين
واصفًا مقالهم وحالهم مع مُرّ المقادير وشديدات الأقضية: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ
لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عمران:154] وقال سبحانه: (الَّذِينَ
قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)، فهم يعترضون على
مواقع القدر بهذا، وفيه من سوء الأدب مع الله تعالى ما فيه، (ما لكم لا ترجون لله
وقارا). قال ابن باز رحمه الله تعالى: "قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن
لو تفتح عمل الشيطان" يعني تفتح عن العبد عمل الشيطان ووساوسه وتشكيكه،
فينبغي للمؤمن ألا يستعملها حتى لا يقع في حبائل الشيطان ووساوسه وتشكيكه، وإملائه
ما لا ينبغي، فإن الأمور بيد الله تعالى، هو الذي قدّرها جل وعلا، فإذا فعل المؤمن
ما شرع الله من العلاج، من السفر، ومن الإقامة، ومن الأكل ومن غير ذلك من الأسباب
التي تعاطاها، ثم غلبه القدر؛ فليقل: قَدَرُ الله، وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه
راجعون، فليس الأمر بيده، بل بيد الله تعالى؛ ولهذا قال تعالى: (وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ
وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وقال النبي ﷺ: "ما
من عبد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجِرْنِي في مصيبتي،
واخلف لي خيرًا منها، إلا آجَرَهُ الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها"، (5)
فالمؤمن هكذا تحت القدر، لكن لا يمنعه القدر من تعاطي الأسباب، يفعل الأسباب
التي يستطيعها، فإذا قدر أن الأسباب لن تنفع؛ فلا يجزع، ولا يقل: لو لو، بل يقول:
قدر الله وما شاء فعل، إنا لله وإنا إليه راجعون، مثلاً ذهب بالمريض إلى الطبيب
الفلاني، أو المستشفى الفلاني، أو المستوصف الفلاني فلم يقدر نفع الأسباب؛ فلا يقل
بعد موته: لو أني سافرت به إلى الخارج، لو أني ذهبت إلى المستشفى الآخر، لو أني
ذهبت إلى فلان، هذا ما ينفع قد مضى الأمر، والله تعالى لو شاء ذلك لوقع، لكن هذه
المنية انتهت، والأجل قد تم، فلا ينبغي الاعتراض بقول: لو لو.
أما إذا كان قول (لو) لبيان ما ينبغي، مثل ما
قال ﷺ: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت". (6) هذا ليس
للاعتراض، ولكن لبيان الأفضل، مثل لو علمت أن هذا واقع لفعلت كذا وكذا، مما يبين
للناس أنه الأفضل وأنه الأحرى، ولو علمت أن فلانًا موجودًا لزرته، ولو علمت أن
فلانًا مريضًا لعدته، أو ما أشبه ذلك مما يسفر عن أسفه على ما فات عليه، ليس على
سبيل الاعتراض، هذا لا خلاف في هذا الباب، وإنما الممنوع هو الاعتراض على القدر،
وأما إخباره وأنه لو كان كذا لفعل كذا، لو كان فلانًا موجودًا لقرأت عليه، لو كان
العالم موجودًا لقرأت عليه، لو علمت أن فلانًا مريضًا لزرته، لو استقبلت من أمري
ما استدبرت ما سفرت إلى كذا، وما أشبه ذلك، ليس هذا من باب الاعتراض". (7) وقال
العثيمين رحمه الله تعالى في كلامه على قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لو
تفتح عمل الشيطان": "كلمة (لو) في هذا المقام إنما تفتح باب الندم
والحزن، ولهذا نهى عنها رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن
الإسلام لا يريد من الإنسان أن يكون محزونًا ومهمومًا بل يريد منه أن يكون منشرح
الصدر وأن يكون مسرورًا طليق الوجه، ونبه الله المؤمنين لهذه النقطة بقوله:
{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ
بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.. والمهم أن الشرع يحب من المرء أن
يكون دائمًا في سرور، ودائمًا في فرح ليكون متقبلًا لما يأتيه من أوامر الشرع؛ لأن
الرجل إذا كان في ندم وهم وفي غم وحزن لا شك أنه يضيق ذرعًا بما يلقى عليه من أمور
الشرع وغيرها، ولهذا يقول الله تعالى لرسوله دائمًا: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ
وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}.
وهذه النقطة بالذات تجد بعض الغيورين على دينهم
إذا رأوا من الناس ما يكرهون تجدهم يؤثّر ذلك عليهم، حتى على عبادتهم الخاصة، ولكن
الذي ينبغي أن يتلقوا ذلك بحزم وقوة ونشاط، فيقوموا بما أوجب الله عليهم من الدعوة
إلى الله على بصيرة، ثم إنه لا يضرّهم من خالفهم". (8)
ومن ذلك قول شيخ الإِسلام
ابن تيمية رحمه الله تعالى في توجيهه النافع الشهير: "كثير من الناس إذا رأى
المنكر أو تغيُّرَ كثيرٍ من أحوال الإِسلام جزع وَكَلَّ وناحَ كما ينوح أهل
المصائب، وهو منهيّ عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإِسلام
وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأن يؤمن بأن العاقبة للتقوى،
كما قال رب العزة جلا وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ
هُمْ مُحْسِنُونَ)". (9)
الثاني: أن يقولها لمجرد الخبر المحض، فهي بحسب الخبر إن صدقًا
وإن كذبًا. كقوله: لو كنت متفرغًا للقيتك، أو لو مررت بلدتك لزرتك ونحو ذلك. فإن (لو)
هنا هي لمجرد الإخبار، فهذه لا بأس بها، وهي بحسب الخبر إن صدقًا وإن كذبًا، فيجوز
إلا إن كان كاذبًا في خبره. مثاله قول عمرو بن معدي كرب الزبيدي اليماني معاتبًا قومه
إذ لم يصدقوا في الحرب فلم يستحقوا مدحته:
فلوْ أنَّ قَوْمي أَنطَقَتْني رماحُهُمْ ... نَطَقْتُ
ولكنَ الرماحَ أَجرَّتِ (10)
والإجرار: هو شقُّ لسان
الفصيل لئلّا يرضع أمه، ويجعل في لسانه عود صغير ليمنعه من خُلْفِ أمه. يقول: لو
أنهم أبلوا في الحرب بلاء حسنًا لمدحتهم وذكرت بلاءهم ولكن قصروا فأجرُّوا لساني
فما أنطق بمدحهم.
الثالث: أن يقولها لبيان ما ينبغي فعله مما فات، فهذا مشروع لأنه
خال من الاعتراض على المقادير. فتكون هنا للتأسف على فوات قربة وطاعة، فهذه محمودة
إن كانت لتربية النفس وتأديبها وزجرها عن تفويت خير الآخرة فيما يُستقبل مع الرضا
بالقضاء الذي قد نفذ، فهو يقولها تربية لنفسه فيما يُستقبل لا في تسخّطها على ما
فات. وكذلك لو قالها لبيان ما ينبغي، وكذا لبيان فضل العمل الفائت، أو أن يقولها
تطييبًا لقلوب أصحابه وحثًّا للناس على فعله للائتساء والاقتداء، ويحمل عليه قوله
صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي
ولجعلتها عمرة". (11) وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن النبي ﷺ لم يقل: «لو
استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة» لأجل أن الذي فعله
مفضول، ففعله هو الأفضل، وإنما أراد تطييب قلوب أصحابه لما شَقَّ عليهم أن يحلّوا
من إحرامهم، وفي هذا تأليف للقلوب، فجمع الله له الأجرين: أجر فعل الأفضل، وأجر ما
اختار من موافقتهم على ما أمرهم به لولا سوق الهدي، وذلك لأن في سوق الهدي من
تعظيم شعائر الله ما ليس في التمتع والتحلل والإحرام ثانيًا، فيكون القارن الذي
ساق الهدي أفضل من المتمتع الذي لم يسق الهدي. (12)
الرابع: أن يقولها للتمنّي في المستقبل، فهي بحسَب ما تمنّاه من
خير أو شرّ. فتكون محمودة إن كانت عن صادق أمنية صالحة، ومن ذلك قوله صلى الله
عليه وسلم: "إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو
يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه
الله علمًا، ولم يرزقه مالًا، فهو صادق النية، يقول: لو أنّ لي مالًا لعملت بعمل
فلان، فهو بنيّته، فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا (13)،
فهو يخبط في ماله (14) بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه،
ولا يعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبث المنازل (15) وعبد لم يرزقه الله مالًا
ولا علمًا، فهو يقول: لو أنّ لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيّته، فوزرهما
سواء". (16)
فالنيّة تدرِكُ ما لا يدركُ العمل، "إنما
الأعمال بالنيات" (17). ومردّ ذلك إلى أن الغرض من التقوى هو صلاح القلب،
حتى وإن خلت اليد من مال يثبت به حبه لربه تعالى بإنفاقه في مرضاته، أو عجز الجسد
عن الوقوف بين يديه ليقوم في صلاته، أو لم تطق صحته صيام هاجرة، أو منعت المرأة من
صلاة لعذرها الشهري، أو عجز العبد عن الوصول لمشاعر الحج أو الجهاد باللسان أو باليد
ونحو ذلك، فالعبرة بما في القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "التقوى
ههنا"، (18) فالعبرة والمعوّل على ما في القلب، أما الجوارح فأعوان لهذا
القلب، وجنود له، ينفذ القلب بواسطتها ما يريد، قال تبارك وتعالى: (لن ينال الله
لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم).
فهياكل العبادات قوالب لإحسان
العبودية لله تعالى، وإذا تدبرت الوحي وجدت أن صلاح القلب هو الغاية لكل عبادة
بدنية أو مالية أو غيرها، فتلك العبادات تصقله وتهذبه وتصفيه وتنيره وتطيبه، فلا
غنى عنها، ولا قوام لها إلا به، فهي أركانٌ عملية للعبادة مقصودة لذاتها، فهي
عبادة، وثمرتها صلاح القلب، لذلك فالعبادة تكون فاسدة في حال فسد القلب فيها
كالرياء.
ومن هنا كان أمر أعمال القلب
في الغاية القصوى والأَمَدِ الغائي لكل مؤمن موفق، فترى صاحب أعمال القلب العظيمة
يسبق بمراحل من دونه في مراتب أعمال القلوب وإن كان المسبوق أكثر اجتهادًا في
أعمال البدن، (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
والإيمان في القلب والجوارح
كالشجرة، فأصولها القلب وفروعها الجوارح، فإذا فسد جذع الأصل فسيظهر عرق فساده في الفروع
والأغصان والأوراق والثمار، وإن طاب طابت، ومتى رأينا فسادًا في ثمرة أو غصن
استدللنا بذلك على فساد في الجذع بحسبه، وفي هذا ردّ على من زعم أن فساد الظاهر لا
علاقة له بفساد الباطن، كلا؛ بل لولا فساد في الباطن ما ظهر فساد الظاهر، ولا عكس،
فقد يفسد الباطن ويبقى الظاهر مزيّفًا إلى حين، (ولتعرفنهم في لحن القول). ونحن قد
أمرنا بمعاملة الناس بحسَب ما ظهر منهم، وما أبدوه لنا من صفحاتهم، ونكل حقائق
ما في قلوبهم لعلام الغيوب، فلا ننقب
العيوب ولا نزكّيها.
قال شيخنا عبد الكريم الخضير
حفظه الله تعالى: "إذا ظهر على الجوارح شيء من المخالفات هل يمكن أن يحتج هذا
المخالف بأن التقوى ههنا؟ نقول: لو كان في هذا المخفي شيء، أو أن التقوى موجودة في
هذا القلب لظهرت على الجوارح؛ لأن ما ظهر على الجوارح من المخالفات برهان على
تكذيب الدعوى التي هي التقوى، لما استدل الصحابي بقوله جل وعلا: ﴿لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا
اتَّقَواْ﴾ [(٩٣) سورة المائدة] قال: يشرب الخمر وهو تقي، قال له عمر رضي الله عنه: «أخطأتْ أستُك الحفرة، لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر». (19)
وهذا الذي تظهر عليه علامات الفسوق يحلق لحيته، ويشرب ما يشرب علنًا، ويسبل ثيابه، أو عنده مخالفات، يقول: التقوى ههنا! هذا لو اتقى الله ما حصلت منه هذه
الأمور، فقد كذب دعواه بفعله، وليس في هذا مستمسك للعصاة المعلنين بمعاصيهم أن
يقولوا: التقوى ههنا، لو اتقى الله، جل وعلا، ما فعل هذه المعاصي". (20)
هذا؛ ومما يلحق بذلك لفظ
(لولا) فهي (لو) المنفية، قال العثيمين رحمه الله تعالى: "إسناد الشيء إلى سببه
ينقسم إلى أقسام:
الأول: قسم يكون شركًا أكبر، مثل أن يقول: لولا الوليّ فلان
لهلكت، والولي فلان هذا مدفون مقبور لا ينفع أحدًا شيئًا، فلا يصدر هذا القول إلا
من شخص يعتقد أنّ لهذا الوليّ المدفون تصرّفًا في الكون، فيكون شركًا أكبر مخرجًا
عن الملة.
الثاني: أن يضيف الشيء إلى سببه المعلوم شرعًا أو المعلوم حسًّا.
فهذا جائز ولا بأس به، مثل أن تقول: لولا أنّ فلانًا توضأ لم تصح صلاته، هذا صحيح
واقع، لو لم يتوضأ لم تصح صلاته هذا السبب الشرعي.
أما السبب الحسي فكأن يسقط
في بئر فيخرجه رجل آخر فيقول: لولا فلان أخرجني لهلكت، فهذا أيضا صحيح، لكن لا
يعتقد أن فلانًا هو الذي استقلّ، لكن يسَّره الله له فأنقذه، ومنه قول الرسول عليه
الصلاة والسلام في عمه أبي طالب حيث أخبر أن عمه أبا طالب في ضحضاح من نار وعليه
نعلان يغلي منهما دماغه قال: "ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"
(21) هذا جائز، لأنه صدر من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو في كلام العلماء كثير
من إضافة الشيء إلى سببه المعلوم حسًّا أو شرعًا. (22)
الثالث: أن يضيفه إلى السبب مع الله مقرونًا بالواو، فهذا لا
يجوز، بل هو من الشرك، لكنه شرك أصغر، إلا أن يعتقد أن الثاني الذي مع الله له تصرّف
كتصرف الله فيكون شركًا أكبر، مثل أن يقول: لولا الله وفلان لحصل كذا وكذا، فهذا
لا يجوز، حتى وهو يعتقد أن الله فوق كل شيء، بل يقول: لولا الله ثم فلان.
أما إن اعتقد أن الله وفلان
سواء في التأثير فهذا شرك أكبر، وعلى هذا فإذا كان خبرًا فإنه لا بأس به، أو إذا
كان مستندًا إلى سبب صحيح فإنه لا بأس به". (23)
وشاهد المقال: أنّ الناس
حيال فوات مرغوبهم أو حصول مرهوبهم على درجات ودركات؛ فقد يجزعون، وقد يصبرون،
وأقلهم من يرضون، وأقل قليلهم من يحمدون ويشكرون، (إنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
والآن حان وقت إجابة السؤال
الكبير: كيف تتخطّا مرحلة الـ(لو)؟ وسأوجز الجواب في عشرة أمور:
الأول: تحريكُ نَوَابِهِ القلب لرسوخ يقينيّة نفاد القضاء
والقدر، وأنّ ما قضاه الله فهو لا بد كائن، قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبة في الأرض
ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) وقال تعالى:
(إنا كل شيء خلقناه بقدر)، وقال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أنّ ما أصابك
لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك". (24) فقدر الله ماض، وقضاؤه
نافذ، مهما كابر الإنسان.
الثاني: العلم اليقينيّ بأنّ اختيار الله لك خير من اختيارك
لنفسك، وأنّك مهما أوتيت من علم وحكمة وقدرة فلن تختار الطريق الأنسب لك لا بعلمك
وحكمتك ولا بإرادتك وعملك.
الثالث: العلم بأن صواب الاختيار والمسار ليس محصورًا في ذلك الإطار
الضيق من تحقيق مشتهى نفسك العجلى ونظرتها القاصرة، بل هو عبارة عن لوحة كبيرة
تندرج فيها أمور كثيرة متشابكة من مصير دينك ودنياك، ومع اجتماع كل عناصر اللوحة
ينبثق الاختيار الأصوب والأفضل، فميزان الاختيار الصائب ضخم جدًّا ودقيق جدًّا،
فلا يهمل أي أمر من أمورك مهما صغر آنيًّا في عينك، أو عزب عن ذاكرتك، أو نحو ذلك،
وليس هذا لأحد إلا لعلام الغيوب سبحانه.
الرابع: العلم بأنّ الأمور المؤلمة في ابتدائها فإنها تؤول إلى
سعادة في نهاياتها لمن اتقى الله تعالى، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، والعبرة
بكمال النهايات لا نقص البدايات، ومن كانت بداياته محرقة كانت نهاياته مشرقة بإذن
الله تعالى. فكل أمور الدين والدنيا يعتريها ما يعتريها من المشاق والآلام، فإذا
علمت أن أشرف الخلق وأكملهم وأطيبهم قد صُبت عليه صنوف البلايا من موت البنين
والبنات والوالدين والأعمام والزوجة المحبة، وابتلي بقاطعي الأرحام، ومؤذي
الجيران، والماشين بالبهتان، والمحاربين له في نفسه وعرضه وأصحابه، فصبر وصابر،
ورضِيَ فأُرضِي، وحمِد فحُمد، وشكر فشُكِر، فكان سيد ولد آدم طرًّا، ومقدمهم يوم
يقوم الأشهاد، فمن تأمل سيرته علم أن البلاءَ رَحِمُ الفرح، والامتحان معراج
العُلى، واليقين سلّم الفلاح، والرضا باب الجنة، (ولسوف يعطيك ربك فترضى).
الخامس: العلم بحقيقة الدنيا، فإنّ ذلك يثمر الزهد فيها، ويتبين
لك أنها لا تستحق، فحينها تستحيل لواعج الحسرات إلى مرهم وترياق، (ما عندكم ينفد
وما عند الله باق)، (وللآخرة خير لك من الأولى)، (والآخرة خير وأبقى)، (وما هذه
الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون)، وقال
صلى الله عليه وسلم: "لو أنّ الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء". (25) وقال صلوات الله وسلامه وبركاته عليه: "لغدوة في سبيل الله - أو روحة- خير من الدنيا وما فيها، ولموضع سوط
أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها". (26) ولما تعجّب الصحابة من نعومة وجمال جبّة سندس كانت لأكيدر دومة (27)
قال صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من هذه؟ فو الذي نفسي بيده، لمناديل سعد
بن معاذ في الجنة خير منها". (28)
وعليه، فالدنيا ليست بشيء في
عين المبصر الحقيقي ببصيرته وهدى الله له، لا بعجلته وطيشه وطفولة رغباته وصغر أمنياته.
ومن كان كذلك فلن يأسَ على فائت، ولن يفرح باطلًا بِمُؤْتَى، وستذوب لوعاتُه كَنَدَى
الصباح عند تذكّر الرُّجعى، وسيوقن حينها أنّ الدنيا لا تستحق الغضب لأجلها،
والحزن من أحوالها، والخوف من أهوالها، والأسى منها ولها. فرضوان الله تعالى هو
غاية الأماني، ونهاية الآمال، وسقف الرغبات، فمن وجد الله فما ذا فقد؟ ومن فقد
رضوانه فما ذا وجد؟!
والمقصود؛ أنّ الميزان
الحقيقي هو ميزان الآخرة، فمن ضبط رمّانة ميزانه على ذلك استقامت له جادة السعداء،
ولاحت له رفقة الأنبياء، واتبع الرسول بإحسان، فكان من الفائزين.
السادس: انتظار الأجر بالرضا بالقضاء، فالراضي موفور الحظ مغذوّ
النصيب، قال رسول الله ﷺ: «ما من عبد مسلم
يقول حين يُصبح وحين يُمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ
نبيًا، إلا كان حقًا على الله أن يرضيه يوم القيامة». (29) فكيف لعاقل أن لا ينتظر كنوز العطايا وذخائر المزايا؟! وعند
الله للأتقى مزيدُ.
ورَبِّكَ مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةٍ ... وَلَكِنَّ
تَقْوَى الله خَيْرُ الذَّخَائِرِ
السابع: التلذّذ بالبلاء الذي لا بدّ منه، ولا حيلة في دفعه، فان
كان لدنيا فهو الصبر والرضا والحمد والشكر، وإن كان للدين فهو أعظم وأعلى وأجلى
وأسعد، كان مالك رحمه الله تعالى يقول: لا تغبطوا أحدًا لم يصبه في هذا الأمر بلاء، يقول: إن الله لا بد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ﴾. (30)
الثامن: العيش بحسن الظن بالله تعالى،
فالله عند ظن عبده به فليظن به ما شاء، فأحسن الظن كل الحسن بربك تعالى الذي لا
يأتي بالخير إلا هو، لا يدفع الشر إلا هو، ولا إله إلا هو. واعلم أن انتظار الفرج
عبادة المتوكّلين الموقنين، وكل عسر يتبعه فرج ويسر، فما ابتلَى ليُعذِّب ولكن ليُهذِّب،
والبلاء يجمع بينك وبين الله والعافية تجمع بينك وبين نفسك، ويا ابن آدم لقد بورك
لك في حاجة اكثرت فيها من قرع باب سيدك سبحانه.
فلا تظنن بربّك ظنّ سوء ... فإنّ الله أولى بالجميلِ
ولا تظنن بنفسك قطّ خيرًا ... فكيف بظالمٍ جانٍ جهولٍ
وظُنَّ بنفسك السُّوءى تجدْها ... كذلك خيرها كالمستحيلِ
وما بكَ من تقى فيها وخير ... فتلك مواهبُ الرّبّ الجليلِ
وليس لها ولا منها ولكن ... مِن الرّحمن فاشكر للدّليلِ
التاسع: مجاهدة النفس لله تعالى، فإن النفس جزوع هلوع حرون جهول
لعوب، محتاجة لزمّها على التقوى، وجرّها لمراتع الهدى، والرفق بها، حتى تذوق فتعرف
فتغترف فتشتاق فتسير فتعتاد وتثبت فتصل بإذن الله تعالى، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ)، وقال: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ). فجاهد نفسك في
الله تعالى، واحزم معها، وارفق بها، ودارِها، وراعِها، ومن ثبت نبت، (وَاللَّهُ
وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).
العاشر: العلم بأنّك قد بذلت وسعك بالاستخارة والاستشارة وبذل
الوسع والتوكل على الله تعالى والاستعانة به وحسن الظن به، وهذا أقصى ما عليك، فلم
يبق إلا ثلج اليقين بحسن الخَلَفِ، وبحر الرضا بتدبير المولى.
على العبدِ أن يسعَى إلى الخيرِ جهده ...
وليس عليه أن تتمّ المقاصدُ
وإنّي لكثير الوقوف والاستدعاء والتأمل
والتلذّذ والتعلّم من كلام لأنس رضي الله عنه في وصف تسليم رسول الله صلى الله
عليه وسلم لربه في الأقدار، قال أنسٌ: "والله لقد خدمتهُ تسع سنينٍ، ما
علمتهُ قال لشيءٍ صنعتُه لم فعلتَ كذا وكذا، أو لشيء تركتُه هلاَّ فعلتَ كذا وكذا".
(31) فأيُّ تسليم ورضًا وراحة كهذا، (وإنك لعلى خلق عظيم)، (وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين)، "أيّها الناس، إنّما أنا رحمة مهداة". (32) والرحمة المهداة للبشرية
من لدن الرحمن الرحيم لا تكون إلا كاملة.
وإذا رَحِمْتَ فأنتَ أمٌّ أوْ أبٌ … هذانِ في الدُّنْيا هُما الرُّحَماءُ
صلوات الله وبركاته وسلامه ورحماته عليه
وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، وبالله وحده التوفيق، وعليه التكلان، وإليه المآب.
إبراهيم الدميجي
8/12/1444
.......................................
1. البخاري
(٦٣٨٢)
2. مسلم
8/56 ( 2664 ) ( 34 )
3. مسلم
8/56 ( 2664 ) ( 34 )
4. أحمد
(18967) (4/337) من حديث أنس، وفيه سابق بن ناجية لم يوثقه غير ابن حبان. وقال
محققو المسند: صحيح لغيره. وجود سنده النووي في الأذكار، وحسّنه ابن باز في تحفة
الأخيار. وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد (11102) وهو حديث صحيح.
5. مسلم
(918)
6. البخاري
(7229) مسلم (١٢١١) (١٣٠)
7. شرح
كتاب التوحيد (64) باب ما جاء في (لو)
8. كتاب
مجموع فتاوى ورسائل العثيمين. المناهي اللفظية (٤٩٥)
9. فتاوى
شيخ الإِسلام ابن تيمية (١٨/ ٢٩٧)
10.
وهو من الطويل، وهذه الأبيات معدودة هي من جزيل قصائد
الحماسة، وهي عشرة أبيات، قال عمرو:
ومُردٍ عَلَى جُردٍ شَهِدْتُ طِرادَها ... قُبيلَ طُلُوعِ
الشَّمْس أَو حينَ ذَرَّتِ
صَبحْتُهُمُ بيضاءَ يَبرُقُ بَيْضُها ... إذَا نظرَتْ
فِيها العيونُ ازمَهرَّتِ
ولمَّا رأيتُ الخيلَ زُورًا كأنَّها ... جداولُ زرعٍ أُرْسلت
فاسبطَرَّتِ
وجاشت إِلَيَّ النفسُ أولَ وهلةٍ ... فَرُدَّتْ علَى
مكرُوهِها فاستقرَّتِ
عَلَامَ تقولُ الرُمحُ يُثقلُ عاتِقِي ... إذَا أنَا لم
أطعنْ إِذا الخيلُ ولَّتِ
عقرْتُ جوادَ ابنْي دُريدٍ كليهِما ... ومَا أخَذَتْني
فِي الخُتُونِة عِزَّتي
لَحَا اللُه جَرْمًا كلّما ذَرَ شارقٌ ... وُجُوهَ كلابٍ
هارشتْ فازْبَأرَّتِ
ظللتُ كَأَنِّي للرماحِ دريئةً ... أُقاتِلُ عَنْ أبناءِ
جَرْمٍ وفرَّتِ
فلمْ تُغنِ جرمٌ نهدَها إِذْ تلاقتا ... وَلَكِن جَرْمًا
فِي اللِّقَاء ابذَعَرَّتِ
فلوْ أنَّ قومِي أنطقتِني رمَاحُهُمْ ... نطقتُ ولكِنَّ
الرماحَ أَجَرَّتِ
وكان من قصة هذه الأبيات أن
جَرْمًا ونهدًا – وهما قبيلتان من قضاعة – كثرت بطونهم فتلاحَوا فاقتتلوا وتفرّقوا
وتشتت أمرهم، وحرّش الشيطان بينهم فقطّعوا أرحامهم ووقع الشر بينهم، فلحقت نهد بن
زيد ببني الحارث بن كعب فحالفوهم، ولحقت جرم بن ربان ببني زبيد فحالفوهم، ثم وقعت
الحرب بين الحارث وبني زبيد واستتبع ذلك أن تحارب نهدٌ جرْمًا، فتحاربت بنو الحارث
وبنو زبيد في الحرب التي كانت بينهم فالتقوا، وعلى بنى الحارث عبد الله بن عبد
المدان، وعلى بنى زبيد عمرو بن معدي كرب الزّبيدىّ، فتعبّى القوم، فاستعدّت جرم
لنهد، وتواقع الفريقان، فاقتتلوا، فكانت الدّبرة يومئذ على بنى زبيد وانهزموا، وقد
فرّت جرم عن حلفائها من زبيد، فهزمت بنو زبيد قوم عمرو بن معدي كرب، وانخذلت عنها
جرم التي لم ترع حق الحلف. فهتف عمرو بهذه الأبيات الشامخة الخامشة المتألمة
الأبيّة، ورويّها الرائق الماتع الفريد.
والمرد: جمع أمرد. الجرد:
جمع أجرد، وهو الفرس القصير الشعر. الطراد: هو مطاردة الفرسان بأن يجعل بعضهم على
بعض في الحرب. ذرّت الشمس: طلعت وظهرت أول طلوعها. صبحتهم: جئتهم بالكتيبة صباحًا.
بيضاء: يريد كتيبة بيضاء عليها بياض الحديد. بَيْضُها: قلانس الحديد على رؤوسها،
واحدها بيضة. ازمهرّت: احمرت من الغضب. الزُّور: جمع أزور وزوراء؛ وهو المعوجّ
العنق. ورويت "رهوًا": أي سراعًا متتابعة. الجداول: الأنهار الصغار.
اسبطرّت: امتدّت في سرعة. جاشت: ارتفعت من فزع، وهذا ليس لكونه جبانًا، بل هو بيان
حال النفس، ونفس الجبان والشجاع سواء فيما يدهمها عند الوهلة الأولى، ثم يختلفان،
فالجبان يركب نفرته، والشجاع يدفعها فيثبت. لذلك قال: فرُدّتْ على مكروهها: أي رددّتُها
على الشدة. ومن ذلك قول ابن الإطنابة:
أَبَتْ لِي عِفّتِي وأبَى بَلائي ... وأخذي الْحَمدَ
بِالثّمنِ الرَّبيحِ
وإجْشَامِي على الْمَكْرُوه نَفسِي ... وضَرْبي هَامة
البطلِ المُشِيحِ
وَقَوْلِي كُلّمَا جَشأتْ وجَاشَتْ ... مَكَانَكِ، تُحْمَدِي
أَو تَستَرِيحي
لِأدْفَعَ عَن مآثرَ صالحاتٍ ... وأحمي بعدُ عَن عِرضٍ
صَحِيحِ
أما الختونة التي ذكرها عمرو
فهي من الختن أي المصاهرة، والختن: أبو امرأة الرجل وأخو امرأته وكل ما كان من قبل
امرأته، والاسم الختونة. وقد ذكر الله القرابات في قوله تعالى: (وهو الذي خلق من
الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا) فالقرابات بالنسب عصبة وخؤولة، وصهرا
بالنكاح، ورضاعًا.
أما قوله: لحاه الله: أي أهلكه،
وهو دعاء، وأصل اللحو نزع قشر العود. ذرّ شارقٌ: طلعت الشمس. وجوهَ: بالنصب على
الذمّ والشم، أو بدل من «جرمًا». هارشت: من المهارشة، وهي تَقَاتُل الكلاب. ازبأرّت:
انتفشت حتى ظهر أصول شعرها وتجمّعت للوثب. الدريئة: الحلقة التي يتعلم الرامي
الطعن والرمي عليها، فقوله: «ظللت كأني للرماح دريئة» أي: بقيت في نهاري منتصبًا
في وجوه الأعداء والطعن يأتيني من جوانبي أذب عن جرم، ويجوز أن يكون المعنى: كأني
للرماح صيد. نَهْد: قبيلة. لم تغنها جرم: لم تقاومها ولم تكفها ولكنها فرّت منها. وأضاف نهدًا إلى ضمير جرم لاعتقادهم الاكتفاء بها. ابذعرّت:
تفرقت وتبدّدت. أجَرَّتِ: الإجرار: أن يُشق لسان الفصيل ويوضع فيع عويد لئلا يرضع.
يقول: لو أن قومي قاتلوا وأبلوا لذكرت ذلك وفخرت بهم، ولكن رماحهم أجرتني، أي:
قطعت لساني عن مدحهم لفرارهم، أراد أنهم لم يقاتلوا. وقال الجاحظ في البيان والتبيّن (2/١٥٤) «الجرار: عود
يعرض في فم الفصيل أو يشقّ به لسانه لئلّا يرضع أمه. فيقول: قومي لم يطعنوا
بالرماح فأثني عليهم ولكنهم فروا فأمسكت كالفصيل الذي في فمه جرار". وانظر: شرح
الأصمعيات: (121-122) ومعجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع للبكري (١/٤١).
وأقول: لعلّ سبب جرم سيوفها
عن نهد تذكّر الأرحام، فمعاداة الأقارب شر وبلاء، الرابح فيها خاسر، والمنتصر
مهزوم، كما قال البحتري في صلح بني تغلب وهي في الغاية من وصف آلام الصِّلة
الجميلة التي اغتالتها فتائل الغضب وقلائد الشيطان:
وَفُرْسَانِ هَيْجَاءٍ تَجِيْشُ صُدُوْرُهَا ... بِأَحْقَادِهَا
حَتَّى تَضِيْقُ دُرُوْعُهَا
تُقتِّلُ مِنْ وَتْرٍ أَعَزَّ نُفُوْسِهَا ... عَلَيْهَا
بِأَيْدٍ مَا تَكَادُ تُطِيْقُهَا
إِذَا احتَرَبَتْ يَوْمًا فَفَاضَتْ دِمَاؤُهَا ...
تَذَكَّرَتِ القُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوْعُهَا
شَواجرُ أَرْمَاحٍ تُقَطّعُ بَينَهُمُ ... شَوَاجِرَ أَرحامٍ
مَلُومٌ قَطُوعُهَا
فبعضهم يسفك دم بعض ويده لا تكاد
تطاوع وتْره، والدماء تفيض على الثرى، والدموع تسيل على المآقي، والرماح تقطّع
علائق الأرحام. والله المستعان.
والشاعر هو عمرو بن معدي كرب بن ربيعة بن عبد الله
الزبيدي. ويكنى أبا ثور، من الشعراء المخضرمين، ولد سنة ٥٢٥ م، أي حوالي مئة سنة
قبل الهجرة، وتوُفِّي سنة ٢١/ ٦٤٢. فارس اليمن المشهور، وصاحب غارات مذكورة، وفد
على المدينة سنة ٩ هـ، في وفد مَذْحِج في عشرة من بني زبيد، فأسلموا وعادوا. ولما
توفي النبي ﷺ ارتد عمرو في اليمن، ثم رجع إلى الإسلام، فبعثه أبو بكر إلى الشام،
فشهد اليرموك، وفقد فيها إحدى عينيه. وبعثه عمر إلى العراق، فشهد القادسية، وكان
عصيّ النفس، أبيًّا. وشهد القادسية وهو ابن مئة وست سنين فيما يزعمون، وأبلى فيها
بلاء عظيمًا. واختلف في وفاته، فقيل في القادسية وقيل بعد وقعة نهاوند.
11.
البخاري (7229) مسلم (١٢١١) (١٣٠)
12.
وانظر: الفتاوى (٢٦/ ٨٩ - ٩٢)
13.
أي: علمًا نافعًا يحجزه عن الحرام
ويدفعه للإحسان والتقوى.
14.
لاحظ وصف فعله في ماله بالخبط، إشارة
لعدم الاتزان والاقتصاد والتحرّز والتورع.
15.
وذلك لخبث طويته، وخسّة، طينته وسوء
معدنه، فإنه قد تمنّى الحرام حتى وإن لم يكُ متمكّنًا منه.
16.
أحمد (18031) بسند حسن من حديث أبي
كبشة الأنماري، وله شاهد صحيح من حديث أبي هريرة، ذكره الأرناؤوط. ورواه الترمذي (
2325 ) وقال: حسن صحيح. وصححه الألباني.
17.
البخاري 1/2 ( 1 ) ومسلم 6/48 ( 1907 )
18.
مسلم (٦٤٨٢)
19.
نقلها ابن تيمية في مجموع الفتاوى (١١/٤٠٥)
وقوله: "اخطأتْ.." مثل يُضْرب لمن لم يصب مَوضِع الصواب.
وهذه الحادثة لها فوائد جمّة فقهية
ومسلكية، وقد جرت لقدامة بن مظعون رضي الله عنه، وهو أحد الصحابة الأخيار، إذ جلس يومًا
مع بعض الصحابة يتذاكرون القرآن، فتلوا قول الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا
وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [المائدة:٩٣]..الآية. فقالوا: "الحمد
لله، نحن ممن آمن، ونحن على صلاح وتقوى، وليس علينا جناح فيما طعمنا"، فجاءوا
بالخمر فشربوها ظنّا أنها حلال لهم. فعلم عمر رضي الله عنه بخبرهم، فجاء بقدامة
ومن كان معه، وجمع لهم الصحابة، فسألوا قدامة بن مظعون لِمَ؟ فتأوّل لهم الآية،
فقال له عمر بن الخطاب: "أخطأت أستك الحفرة، لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر".
ثم قال لمن حوله من كبار الصحابة: سلوهم فإن شربوها مستحلّين كفروا، وإن شربوها
متأوّلين جُلدوا، فأقيم عليهم الحدّ، وفي هذا دليل على منع التكفير بالتأويل
والشبهة.
وبقي قدامة بن مظعون رضي الله عنه دهرًا
يبكي على نفسه، حتى خُشي أن يصل به الأمر إلى اليأس من رحمة الله تعالى، فجاء به
عمر رضي الله عنه مرة أخرى، ثم قال له: "لا أدري أيّ ذنبيك أعظم: استحلالك
الخمر؟ أم يأسك من رحمة الله؟ وتلا عليه أول سورة غافر: ﴿غَافِرِ الذَّنْبِ
وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر:٣] فذهب ما به وصلح حاله رضي الله عنه وعن عمر.
20.
شرح الأربعين النووية عبد الكريم
الخضير (١٤/٢١)
21.
البخاري (3883) ومسلم (208)
22.
ولا شك أن الأكمل والأجمل أن يقول:
لولا الله، أو لولا أن الله يسّر بفلان ونحوه، فهذا أفضل وأحسن، أما الحديث ففيه
بيان الجواز، والله أعلم.
23.
لقاء الباب المفتوح (29) وانظر: شرحه
لكتاب التوحيد (46) فتاوى ابن عثيمين (3/130)
24.
أبو داود (4701) وصححه الألباني.
25.
ابن ماجه ( 4110 ) والترمذي ( 2320 )
وقال: "حديث صحيح غريب". وصححه الألباني في الصحيحة ( 940 )
26.
أحمد (15563) وصححه محققوه الأرناؤوط
وأصحابه.
27.
أي: حاكم
دومة الجندل، وقد أسرته خيل خالد بن الوليد رضي الله عنه بأمر الرسول صلى الله
عليه وسلم أثناء غزوة تبوك في قصة جميلة حوت كثيرًا من دلائل نبوته صلى الله عليه
وسلم.
28.
البزار في مسنده (3/257- 258) قال
الألباني لما ساق سنده: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات على شرط مسلم. السلسلة
الصحيحة (3346)
29.
أحمد (18967) (4/337) من حديث أنس،
وفيه سابق بن ناجية لم يوثقه غير ابن حبان. وقال محققو المسند: صحيح لغيره. وجود
سنده النووي في الأذكار، وحسّنه ابن باز في تحفة الأخيار. وله شاهد من حديث أبي
سعيد الخدري عند أحمد (11102) وهو حديث صحيح.
30.
خرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة
والتاريخ (١/ ٤٧٤، ٦٦٠) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (٣٨/ ٣٤٣)، وأبو العرب
التميمي في المحن (٢٩٧) وورد بنحوه عن عمر بن عبد العزيز وكذلك الإمام أحمد رحمهم
الله تعالى.
31.
مسلم (٢٣١٠)
32.
ابن سعد في الطبقات (١/ ١٩٢)، وابن
الأعرابي في المعجم ٢/ ٥٥٦ (١٠٨٨)، والبيهقي في الدلائل (١/ ١٥٩)، وصحيح الألباني
إسناده مع إرساله في السلسلة (٤٩٠). وله شواهد.