(وعسى أن تكرهوا
شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم)
الحمد لله العليم القدير الحكيم اللطيف البر الرفيق، قال في محكم تنزيله: (وعسى
أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا
تعلمون).
فالخير كل الخير في الثقة بالله تعالى والتسليم لأمره والرضا بتدبيره، ومن
سعادة المؤمن أن يقول كل صباح ومساء ثلاثًا: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا
وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدًا عبده ونبيه ورسوله وصفيه وخليله وكليمه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه
ومن تبعهم بإحسان. أما بعد يا عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون.
إيها المؤمن: إن مما يعين على الثقة والرضا والتسليم؛ اليقين بأن تدبير الله
للعبد أجدى وأنفع من تدبير العبد لنفسه، وأن العاقبة غيب لا يعلمه إلا مولاه، فخير
له أن يرضى بتدبير من هو أرحم به من نفسه.
وتدبر راشدًا قصة الخضر مع موسى
عليهما السلام في السفينة والغلام والجدار، وما تحتها من معان عظيمة في الرضا
والتسليم والحمد والشكر لله رب العالمين، وهي قصة تختصر كثيرا من معاني القدر
الجميلة، فتارة يُبتلى المرء بمصيبة تكون دافعة لمصيبة أشدّ وأشق وأعظم كأصحاب السفينة، فلولا كسرها لصودرت ونهبت وربما قُتل أصحابها، وتارة يُبتلى
العبدُ بمصيبة – ظاهرًا- لكنها في الحقيقة هي الباب الذي يؤدي إلى منح ونعم وألطاف
ودفع بأس كقتل الغلام الذي لو بقي لأرهق والديه بكفره وطغيانه، ولكن رحيله كان
رحمة به أولًا، ثم بوالديه ثانيًا لأنهم عُوضوا عنه بذرية طيبة صالحة حتى ورد أنها
كانت بنتًا فتزوجها نبيٌّ فولدت له نبيًّا! ولو بقي أخوها لاختلف الحال، وثالثًا
رحمة بالذرية الجديدة، فالحمد لله على كل حال في حكمته ولطفه ورحمته وعلمه وتدبيره،
وله الحكمة البالغة واللطف التام والعلم الشامل والمنّة الكاملة على كل خلقه.
وتارة يلطف الله تعالى بعبده وينعم
ويرفق ويرزق ويكرم ويدفع بلاءات عديدة بدون مسّ عبده بمصيبة من تلك الجهة كجدار
الغلامين، وهذا هو الأكثر والأغلب والأعمّ من فعل الله تعالى بعباده، (الله لطيف
بعباده)، فهم محوطون بنعم لا يحصونها ولا ينتبهون لها ولا يعلمونها مع أنهم منغمسون
فيها (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم). وسيأتي تفصيلها في كتاب
الشكر بإذن الله تعالى. وسنذكر ما تيسر من أخبار وفوائد تلك القصة الهائلة مع شرح
الإمام البغوي لها في تفسيره القيم، قال في قوله تعالى: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا )، "قال:
{ فَانْطَلَقَا } يمشيان على الساحل يطلبان سفينة يركبانها، فوجدا سفينة فركباها،
وعن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "مرّت بهم سفينة فكلّموهم أن
يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نَوْلٍ (1) فلما لججوا البحر أخذ الخضر
فأسًا فخرق لوحًا من السفينة"، (2) فذلك قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا
رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ } له موسى: { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ
أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } أي: منكرًا، والإمرُ في كلام العرب:
الداهية، وأصله: كل شيء شديد كثير. وقال القتيبي: { إِمْرًا } أي: عجبًا. وروي أن
الخضر لما خرق السفينة لم يدخلها الماء. وروي أن موسى لما رأى ذلك أخذ ثوبه فحشى
به الخرق.
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ
لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا
زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) }، قال أبي بن كعب
عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كانت الأولى من موسى نسيانًا، والوسطى
شرطًا، والثالثة عمدًا". (3) { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا
غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ
جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } في القصة أنهما خرجا من البحر يمشيان، فمرّا بغلمان
يلعبون، فأخذ الخضر غلامًا ظريفًا وضيء الوجه، فأضجعه ثم ذبحه بالسكين. قال السدي:
كان أحسنهم وجهًا، وكان وجهه يتوقّد حسنًا. قال ابن عباس: كان غلامًا لم يبلغ
الحنث. وهو قول الأكثرين. قال ابن عباس: لم يكن نبي الله يقول: (أقتلت نفسا زكية)
إلا وهو صبي لم يبلغ. وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن
الغلام الذي قتله الخَضِرُ طُبِعَ كافرًا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانًا
وكفرًا". (4) { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا } أي: منكرًا. قال قتادة:
النُّكر أعظم من الإمر؛ لأنه حقيقة الهلاك، وفي خرق السفينة كان خوف الهلاك.
قوله عز وجل: { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ
فَخَشِينَا } أي: فعلمنا { أَنْ يُرْهِقَهُمَا } يغشيهما { طُغْيَانًا وَكُفْرًا }
قال سعيد بن جبير: فخشينا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه. { فَأَرَدْنَا
أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً } أي: صلاحًا وتقوى {
وَأَقْرَبَ رُحْمًا }، قال قتادة: أي: أوصل للرحم وأبرّ بوالديه. قال الكلبي:
أبدلهما الله جارية، فتزوجها نبيّ من الأنبياء، فولدت له نبيًّا فهدى الله على
يديه أمة من الأمم.
قال مطرف: فرح به أبواه حين وُلد، وحزنا عليه حين قتل. ولو بقي لكان فيه
هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من
قضائه فيما يحب. وقال عز وجل: { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا
صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا). (5)
ومن هذا الباب الجليل الشريف قد ذكر ابن القيم رحمه الله فائدة نفيسة في
قوله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي
أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) وقوله عز و جل: (وان
كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)، قال رحمه الله تعالى: "فالآية
الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية، والثانية في النكاح الذي هو كمال
القوة الشهوانية. فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه، وهذا
المكروه خير له في معاشه ومعاده، ويحب الموادعة والمتاركة وهذا المحبوب شرّ له في
معاشه ومعاده، وكذلك يكره المرأة لوصفٍ من أوصافها وله في إمساكها خير كثير لا
يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله في إمساكها شرّ كثير لا يعرفه!
فالإنسان كما وصفه به خالقه ظلوم جهول، فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما
يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره
ونهيه.
فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضرّ الأشياء عليه
على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه، فاذا قام بطاعته وعبوديته مخلصًا له؛ فكل ما
يجري عليه مما يكرهه يكون خيرًا له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته؛ فكل ما هو فيه
من محبوب هو شرّ له.
فمن صحت له معرفة ربه والفقه في
أسمائه وصفاته علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب
من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره
أعظم منها فيما يحب. فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارِّها
وأسباب هلكتها في محبوباتها.
فانظر إلى غارس جنة من الجنات خبير
بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح، حتى إذا أثمرت أشجارُها أقبل عليها
يُفصِّل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خلّيت على حالها لم تطب ثمرتُها،
فيُطَعّمها من شجرة طيّبة الثمرة حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل
يقلّمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها، ويذيقها ألم القطع والحديد
لمصلحتها وكمالها، لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك.
ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب
كل وقت، بل يعطّشها وقتًا ويسقيها وقتًا، ولا يترك الماء عليها دائمًا وإن كان ذلك
أنضر لورقها وأسرع لنباتها. ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زيّنت بها من الأوراق
فيُلقي عنها كثيرًا منها لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها
واستوائها، كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد ويلقي عنها كثيرًا
من زينتها وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهّمتْ أن ذلك
إفساد لها وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها.
وكذلك الأب الشفيق على ولده، العالم
بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بَضَعَ جلده وقَطَعَ عروقه
وأذاقه الألم الشديد، وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه، وكان ذلك
رحمة به وشفقة عليه. وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه؛
لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حمية
له ومصلحة، لا بخلًا عليه.
فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين
وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم اذا أنزل
بهم ما يكرهون؛ كان خيرًا لهم من أن لا ينزله بهم، نظرًا منه لهم وإحسانا إليهم
ولطفًا بهم، ولو مُكّنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علمًا
وإرادة وعملًا، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته، أحبوا أم
كرهوا.
فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته
فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهلة به وبأسمائه وصفاته فنازعوه
تدبيره وقدحوا في حكمته ولم ينقادوا لحُكمه، وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم
الباطلة وسياساتهم الجائرة، فلا لربهم عرفوا، ولا لمصالحهم حصّلوا" (6) والله
الموفق.
ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في
الدنيا قبل الآخرة في جَنّة لا يشبهها فيها إلا نعيم الآخرة، فإنه لا يزال راضيًا
عن ربه. والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين، فإنه طيّب النفس بما يُجري عليه من
المقادير التي هي عين اختيار الله له، وطمأنينته إلى أحكامه الدينية، وهذا هو
الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا. وما ذاق طعم
الإيمان من لم يحصل له ذلك.
ثم ليعلم أنّ اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه. فربما سأل سيلًا
سَالَ به! وروي أنّ أحد السلف كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد فهتف به هاتف
(7): "إنك أن غزوتَ أُسرتَ، وإن أُسِرْت تنصّرت".
فإذا سلّم العبد تحكيمًا لحكمته وحكمه، وأيقن أن الكل ملكه؛ طاب قلبه، قُضيت
حاجته أو لم تقض. فإذا رأى يوم القيامة أن ما أُجيب فيه قد ذهب، وما لم يُجب فيه
قد بقي ثوابه، قال: ليتك لم تجب لي دعوة قط. فافهم هذه الأشياء، وسلّم قلبك من أن
يختلج فيه ريب أو استعجال". (8) والحمد لله رب العالمين.
.......................................
1.
أي: مجّانًا بلا أجرة.
2.
البخاري (1 / 218)
3.
البخاري: (5 / 326)، مسلم (4 / 1847-1850)
4.
مسلم (2661)
5.
تفسير البغوي (5/ 190-194) باختصار.
6.
الفوائد (1 / 91- 94)
7.
الهاتف: صوت غير مُشاهد، وقد يكون في النفس وقد يكون في الخارج، وقد يكون
ملَكًا وقد يكون من الجانّ، ولا يؤخذ منه يقين، لكنه يستفيد منه من كان خبيرًا في
ذلك، غير متهالكٍ على تَطَلُّبِ الكرامات، ولا منخدعٍ بخداع ومكر الشياطين، وقد
أشار شيخ الإسلام لذلك في كلامه عن أنواع الوحي في الكيلانية (1 / 50) ومجموع
الفتاوى (١٢/٣٩٨). قال رحمه الله تعالى: "الوحي هو الإعلام السريع الخفي:
إمّا في اليقظة، وإمّا في المنام. فإن رؤيا الأنبياء وحيٌ، ورؤيا المؤمنين جزء من
ستة وأربعين جزءًا من النبوة، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح.
وقال عبادة بن الصامت - ويروى مرفوعًا-: "رؤيا المؤمن كلامٌ يكلّمُ به الربُّ
عبدَهُ في المنام". وكذلك في اليقظة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي
فعمر"، وفي رواية في الصحيح: "مُكَلَّمُون". وقد قال تعالى: (وإذ
أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي)، وقال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن
أرضعيه). بل قد قال تعالى: (وأوحى في كل سماء أمرها)، وقال تعالى: (وأوحى ربك إلى
النحل). فهذا الوحي يكون لغير الأنبياء، ويكون يقظةً ومنامًا.
وقد يكون بصوتِ هَاتِفٍ، يكونُ الصوتُ في نفس
الإنسان ليس خارجًا عن نفسه يقظة ومنامًا، كما قد يكون النُّور الذي يراه أيضًا في
نفسه. فهذه الدرجة من الوحي التي تكون في نفسه مِن غيرِ أن يسمعَ صوتَ مَلَكٍ في أدنى المراتب وآخرها، وهي أولها باعتبار السالك". أهـ. وانظر تفصيل
الشيخ في المكاشفات والمشاهدات في مجموع الفتاوى (١١ / ٦٣٦) في كلام متين مركّز.
ومن جميل الأخبار في هواتف الجانّ ما
ذكره الشيخ في الصارم المسلول (1 / 156) في بيان انتقام بعض صالحي الجن من جنّي
فاجر قد سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رحمه الله تعالى: "وقد ذكروا
أنّ الجن الذين آمنوا به كانت تقصد من سَبَّهُ من الجنِّ الكفّار فتقتله، قبل
الهجرة وقبل الإذن في القتال لها وللإنس. فيُقُرّها على ذلك، ويشكر ذلك لها. قال
سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه: حدثني محمد بن سعيد ـ يعني عمهـ قال: قال محمد بن
المنكدر: إنّه ذكر له عن ابن عباس أنّه قال: هَتَفَ هاتفٌ من الجِنِّ على جبل أبي
قبيس فقال:
قَبَّحَ اللهُ رأيكم آلَ فِهْرٍ ... ما
أدَقَّ العقولَ والأحلام
حينَ تُغْضِي لِمَنْ يَعِيبُ عليها ...
دينَ آبائهَا الحُمَاةَ الكرام
حالفَ الجنّ جِنَّ بُصْرَى عليكُم ...
ورجالَ النخيلِ والآطام
تُوشِكُ الخيل أنْ تروْهَا نهارًا ...
تقتلُ القومَ في بِلادِ التّهَام
هل كريمٌ منكمُ لهُ نَفْسُ حُرٍّ
... ماجدُ الجَدَّتَينِ والأعمام
ضاربًا ضربةً تكونُ نَكَالًا ...
ورواحًا من كُرْبَةٍ واغتمام
قال ابن عباس: فأصبحَ هذا الشعر حديثًا لأهلِ
مكة يتناشدونه بينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا شيطانٌ
يُكَلّمُ الناس في الأوثان، يقال له مِسْعَرٌ، واللهُ مُخْزِيهِ". فمكثوا
ثلاثة أيام، فإذا هاتفٌ يهتفُ على الجبل يقول:
نحنُ قَتَلْنَا في ثلاثٍ مِسْعَرًا ...
إذْ سَفَّهَ الحَقَّ وَسَنَّ المُنْكَرَا
قَنَّعْتُهُ سَيْفًا حُسَامًا
مُبَتَّرًا ... بِشَتْمِهِ نَبَيَّنَا المُطَهَّرَا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا
عفريتٌ من الجنِّ اسمه سمحج. آمن بي، سمَّيتُهُ عبدَ الله. أخبرَنِي أنّه في
طلَبِهِ منذ ثلاثة أيام". فقال عليٌّ: جزاهُ الله خيرًا يا رسول الله.
وانظره أيضًا في الدلائل لأبي نعيم (١/ ٣٠) كما ذكره الحافظ ابن كثير في البداية
والنهاية (٢/ ٣٤٨). والشيء بالشيء يذكر؛ فمن جميل الهواتف الجنّية ما روته أسماء
بنت أبي بكر رضي الله عنهما فيما نقله السهيلي رحمه الله تعالى في الروض الأنف
(٤/١٨٥): "قال ابن إسحاق: فَحُدّثْت عَنْ أسماءَ بِنت أبِي بكرٍ أنّها قالت:
لمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وأبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، أتانا نَفَرٌ مِن قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أبُو جَهْلِ بنِ هِشامٍ، فَوَقَفُوا عَلى بابِ أبِي بَكر، فَخَرَجْتُ إلَيهِم؛ فقالوا:
أيْنَ أبُوك يا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ؟ قالَتْ: قُلْت: لا أدْرِي واَللهِ أيْنَ أبِي.
قالَتْ: فَرَفَعَ أبُو جَهْلٍ يَدَهُ، وكانَ فاحِشًا خَبِيثًا، فَلَطَمَ خدّى لطمة
طرح منها قرطى. قالَت: ثُمّ انصَرَفُوا. فَمَكَثْنا ثَلاثَ لَيالٍ، وما نَدرِي أين
وجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، حَتّى أقْبَلَ رَجُلٌ مِن الجِنّ مِن أسْفَلِ مَكّةَ،
يَتَغَنّى بِأبْياتٍ مِن شَعَرِ غِناءِ العَرَبِ، وإنّ النّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ،
يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وما يَرَوْنَهُ، حَتّى خَرَجَ مِن أعَلى مَكّةَ وهُوَ
يَقُولُ:
جَزى اللهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزائِهِ
… رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُما نَزَلا بِالبِرّ ثُمّ تَرَوّحا …
فَأفْلَحَ مَن أمْسى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكانُ
فَتاتِهِمْ … ومقعدُها للمؤمنين بمَرْصَدِ
فَلَمّا سَمِعْنا قَوْلَهُ عَرَفْنا
حَيْثُ وجه رسول الله ﷺ، وأنّ وجْهَهُ إلى المَدِينَةِ".
8.
الفوائد (1 / 91- 94)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق