مشاريعُنا الفكريّة محتاجة لثلاثة
أشخاص
الحمد لله وبعد؛ فإنّ أي مشروع علميّ او فكريّ أو حتى دنيوي مادّي
مفتقر لثلاثية ذهنية أو واقعية، أي لثلاثة أشخاص يمتلك كل منهم موهبة تسدّ نقص
الآخرَين حتى يكتمل مشهد المشروع نظريًّا، ويندر أن تجتمع الثلاث مواهب في شخص
واحد، فجودة المشروع مطلب ليستتم بناؤه، ويؤتي أكله، وتُجنى ثمرته. وهي منقسمة
للتالي: موهبة خيال إنشائي، وموهبة نقد تفكيكي، وموهبة منطق رياضي. وإلى بيانها
بإيجاز:
الأول: شخص خيالي حالم،
ليرسم الصورة العامة للمشروع، ويبدأها ويصنعها خالية من التفاصيل، لأنه في الأغلب
لا يحسن رسم التفاصيل، إنما يكتفي برسم الصورة الجديدة المبدعة للمشروع أيًّا كان. لذلك فنحن
نحتاج للشخص الثاني.
الثاني: هو الشخصية
الناقدة المحلِّلة، وإن سمّاه بعضهم الفيلسوف (وأعني لباس الفيلسوف العام، وليس
بالضرورة حقيقته، فالمقصود هو طريقة التفكير الحُرّ لا غير)، ونحتاج مشاركته هنا لأن
طبع الفلسفة الهدم المُعلَّل لا البناء، لذلك نجد أن نجاح الفلاسفة يكون بالنقد
الذي يصاحبه أغلبيًّا التفكيك والهدم، لذا فلا تعجب أن الفلاسفة في الأغلب ناجحون
في الهدم وفاشلون في البناء، وقد يصح لنا القول: بأنهم أذكياء في النقد وهم دون ذلك في البناء، ومردُّ ذلك لالتزامهم المثالية الذهنية والبحث عن الكمال، فأسلحة الناقد أو لنتنزل ونقول: العقلية الملازمة لطبيعته الفلسفية
تكون مسلّطة على رؤية تفاصيل التفاصيل للعيوب، وسهولة نقدها، وتيسّرها عليه، وهدم
ما بُني عليها. وهذا باعترافهم أنفسهم.
لذلك فيسهل على الفيلسوف نقد مشروع فكري بصرامة حَدِّية، ومنطق ملزم، ولكنه يقف عند هذا الحد ويكتفي به في الأغلب، فإن هو حاول بنفسه أن يصلح ما هدم، أو أن يبني بديلًا صالحًا فشل فشلًا ذريعًا، وأتلف مشروع بنائه، ومزّق أرواقه مرّة تلو الأخرى، لعلمه بعدم قدرته على بناء شيء متكامل ذو قيمة عقلية سالمة من الإيراد المضاد، مع أن غيره من الناس قد لا يراها كذلك، وقد تكون جيدة، وهذا راجع لأنه بطبيعته النقدية الدقيقة يرى عيوب فكرته الجديدة أضعاف ما يراها غيره، فيصاب بإحباط وانكسار وإحساس مضاعف بالفشل، فينقلب على أفكاره البنائية تلك فينقضها بقلمه، أو يتلفها، ثم يدور في حلقة سوداويّة مفرغة.
وتأمل إتلاف ليوناردو دافنشي لأغلب مشاريعه قبيل انتهائه منها، وهو من رواد الفلسفة الفنية الجمالية قبيل إتمامها لعجزه عن التوفيق بين ما صنعه فنه وبين ما تخيله له مع كون الناس ينظرون للمتلَف الضائع من فنه أنه نادر وجميل، وهذا راجع لتلك العقلية القلقة المصرة التي تنحو إلى الكمال الواقعي وصعوبة التوفيق بين ماتراه العين ويراه العقل والخيال.
لذلك فالأغلب على الفلاسفة هو
الصقيع العقلي، والبرود العاطفي، والعجرفة الاجتماعية، والنهايات الحياتية البائسة،
سواء بالعيش في وحدة وانطواء، أو انتهاء بالانتحار عياذًا بالله تعالى.
وبالجملة؛ فنحن محتاجون لهذه
العقلية النقدية في رؤية عيوب مشاريعنا أثناء التخطيط لها، ولكننا نكتفي منهم بذلك
شاكرين، فقيمة كل امرئ ما يحسنه. ومع هذا فحسَنٌ جدًّا الاستفادة منهم في نقد
البدايات، وتقييم المسار بدون الاستمرار مع خيطهم التشاؤمي في الأغلب. لذا فنحن
مفتقرون للشخص الثالث.
الثالث: الرياضي
المنطقي المُجرّد، فليس لديه خيال الحالم الذي يبتدع الأفكار الجديدة، وينشئُ
التصورات المُستحدثة، ويصنع الفكرة من لا شيء، كما أنه سالم من النقد الحَدِّي
الصارم، الذي يؤول الى الهدم بعد النقد المفصّل الدقيق جدًّ.
وعليه؛ فدور هذا الشخص الثالث ــ وأعني به الرياضي المنطقي ــ هو أن
نعطيه المشروع الأولي للخيالي مع نقد الفيلسوف، فيسلّط النقد على البناء، ويكرّ
النظر بتدقيق منظّم، حتى يخرج لنا بحلٍّ وسطي يؤلف بين ذينك الشريكين المتشاكسين،
فيأخذ البناء ككتلة أولية، ويتجنّب العيوب التي بيّنها الناقد، ويربط بين الأشياء،
ويؤلف بين المتقاربات، ويقارب بين المتباعدات، حتى يصل بنا إلى فكرة كليّة سليمة
ابتداءً، ثم يرسم من بعد ذلك مشروعه البنائي المفصل، وينتهي بنا لمشروع متكامل قدر
الإمكان.
فهذا الرياضي لن يستطيع لوحده صنع شيء، فليست لديه موهبة الخيال، ولا
عقلية النقد العميق، إنما لديه موهبة العقل المنظم المنطق المتوازن، والصرامة
الجامعة للمتوافقات وإن بدا لغيره استحالة ذلك، فانتهى دوره للربط والتحليل والجمع
وإكمال الفراغات بحسب المواد التي قدمها السابقان: الخيالي والناقد، والله تعالى
يقول: (وتعاونوا على البر والتقوى).
فإن عُدِمَ أولئك الثلاثة لأيّ سبب؛ فلا أقلّ من تقمّص الشخصيات
الثلاث في ذات واحدة قدر الطاقة، ومع التمهّل والدُّربة والأناة، وقبل ذلك
الاستعانة بالله تعالى، والتوكل عليه، والصدق في بذل السبب المشرع؛ يكون الوصول
بتوفيق الله تعالى ومنته. وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم الدميجي
16/ 4/ 1445
aldumaiji@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق