الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على
نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان، أما بعد؛ فإنّ لكل عمل قلب ثماره،
ولما كان الافتقار من أوسع الأعمال كانت ثماره كثيرة جليلة، فمنها:
أولًا: تحقيق العبودية لله تعالى، وتجريد التوحيد له، وصدق التوجه
إليه، والإخلاص له، فالافتقار كنز من كنوز التوحيد، بل هو مادّته التي قامت فروعه
على ساقها. «فبالتوحيد يَقوى ويستغني، ومن سَرِّهُ أن يكون أقوى الناس، فليتوكل
على الله؛ وبالاستغفار يُغفَر له. فلا يزول فقرُه وفاقتُه إلا بالتوحيد، لابدَّ له
منه، وإلاّ فإذا لم يحصل له لم يزل فقيرًا محتاجًا لا يحصل مطلوبه معذَّبًا، والله
تعالى لا يغفر أن يُشرَك به. وإذا حَصَل مع التوحيد الاستغفار حَصَل غناه وسعادته،
وزال عنه ما يُعذَّب به، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهو مفتقر دائمًا إلى التوكل عليه
والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلابدَّ أن يشهد دائمًا فقرَه إليه
وحاجته في أن يكون معبودًا له وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا
ملجأ منه إلا إليه. قال تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ
أَوْلِيَاءَهُ) أي يخوفكم أولياءه (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ). هذا هو الصواب الذي علمِه جمهور المفسرين([1]) كابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة والنخعي، وأهل
اللغة كالفراء([2]) وابن قتيبة([3]) والزجاج([4]) وابن الأنباري. وعبارة الفراء: يخوِّفكم بأوليائه، كما
قال: (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ
لَدُنْهُ) أي ببأسٍ، وقوله: (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) [غافر: ١٥] أي: بيوم التلاق. وعبارة الزجاج: يُخوِّفكم من أوليائه.
قال أبو بكر الأنباري([5]): والذي نختاره في الآية أن المعنى يخوفكم أولياءه، يقول
العرب: أعطيتُ الأموال، أي أعطيتُ القومَ الأموالَ، فيحذفون المفعول الأول،
ويقتصرون على ذكر الثاني»([6]).
«وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة الله،
قال تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون
عليه وكيلا } { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل
سبيلا } [الفرقان: ٤٤] فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه فقد اتخذ إلهه هواه، أي
جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه. فهم
يتخذون أندادًا من دون الله يحبونهم كحب الله.
ولهذا قال الخليل: { لا أحب الآفلين } [الأنعام: ٧٦] فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع، ولكن كان أحدهم يعبد ما
يستحسنه ويظنه نافعًا له كالشمس والقمر والكواكب، والخليل بيّن أن الآفل يغيب عن
عابده، وتحجبه عنه الحواجب، فلا يَرى عابدَه، ولا يسمع كلامه، ولا يعلم حاله، ولا
ينفعه ولا يضره بسبب ولا غيره. فأي وجه لعبادة من يأفل؟!
وكلما حقق العبد الإخلاص في قول:
لا إله إلا الله؛ خرج من قلبه تألّهُ ما يهواه، وتُصرف عنه المعاصي والذنوبُ، كما
قال تعالى{ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين }
فعلّل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين. وهؤلاء هم الذين قال
فيهم: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال الشيطان: { قال فبعزتك لأغوينهم
أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين }. [ص: ٨٢،
٨٣].
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال:
«من قال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه؛ حرمه الله على النار»([7]) فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار، فمن دخل النار من
القائلين: لا إله إلا الله لم يحقق إخلاصها المُحرِّم له على النار، بل كان في قلبه
نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار.
والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل،
ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلاة أن يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: ٥] والشيطان يأمر بالشرك، والنفس تطيعه في ذلك فلا تزال
النفس تلتفت إلى غير الله، إما خوفًا منه، وإما رجاءً له، فلا يزال العبد مفتقرًا
إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك»([8]).
ثانيًا: القرب من الله تعالى عبر باب الانكسار والخشوع. «فالافتقار
يورث العبد ذلًّا لمولاه الحق، وخشوعًا وعبوديّة ورقًّا ورقّة وانكسارًا، فإن
هذه الكسرة الخاصة لها تأثير عجيب في المحبة لا يعبر عنه، ويحكى عن بعضهم أنه قال:
«دخلتُ على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن
من الدخول([9]) حتى جئت باب الذل والافتقار، فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه
ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته؛ فإذا هو سبحانه قد أخذ
بيدي وأدخلني عليه».
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ؓ يقول: «من
أراد السعادة الأبدية؛ فليلزم عتبة العبودية».
والقصد: أن هذه الذلة والكسرة الخاصة
تُدخله على الله، وترميه على طريق المحبة، فيفتح له منها باب لا يفتح له من غير
هذه الطريق. وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من
المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار، وازدراء النفس
ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزًا
وتفريطًا وذنبًا وخطيئة نوع آخر وفتح آخر([10]).
والسالك بهذه الطريق غريب في الناس، هم
في واد وهو في واد، وهي تسمى طريق الطير، يسبق النائم فيها على فراشه السُّعاة([11])، فيصبح وقد قطع الطريق وسبق الركب، بينا هو يحدثك وإذا
به قد سبق الطرف وفات السعاة، والله المستعان وهو خير الغافرين»([12]).
ثالثًا: تحصيل الغنى، فعلى قدر افتقار العبد الفقير لمولاه
الغني يكون لطفه ومدده ورحمته. فمن أراد الغنى فليزم عتبة الغني، وليقرع بابه بيد
الافتقار والانكسار والمسكنة، وليبشر بالعطاء الجزيل والمنائح الجسيمة، فليعظم
الرغبة فالكريم سبحانه لا يتعاظمه شيء أعطاه.
رابعًا: ــ وهو ومن كبريات ثمراته ــ سعادة العبد التامة
وسروره العظيم وفلاحه المؤكد، وذلك إنّما يكون بكمال افتقاره إلى الله.
ولما كان كل طريق فلاح موصدٌ سوى طريق الافتقار
للإله الحق فلا سعادة على الحقيقة إلا به، فلا سرور ولا فرح ولا نعيم ولا فرَج ولا
توفيق إلا بتحقيق الافتقار إلى الله الذي هو لُباب العبودية وقلبُها. «والعبد كلما
كان أذلَّ لله وأعظم افتقارًا إليه وخضوعًا له كان أقرب إليه، وأعزّ له، وأعظم لقدره.
فأسعد الخلق أعظمهم عبودية لله.
وأما المخلوق فكما قيل: احتج إلى من شئت
تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، ولقد صدق
القائل:
بين التذلل والتدلل نقطة |
|
في رفعها تتحير الأفهامُ([13]) |
فأعظم ما يكون العبد قدرًا وحرمة عند
الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه. فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم؛ كنت
أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم ــ ولو في شربة ماء ــ نقص قدرك عندهم بقدر
حاجتك إليهم. وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كله لله، ولا يشرك به شيء.
ولهذا قال حاتم الأصم، لما سئل: فيم السلامة
من الناس؟ قال: أن يكون شيئُك لهم مبذولًا، وتكون من شيئهم آيسًا، لكن إن كنت معوضًا
لهم عن ذلك وكانوا محتاجين، فإن تعادلت الحاجتان؛ تساويتم، كالمتبايعين ليس
لأحدهما فضل على الآخر، وإن كانوا إليك أحوج خضعوا لك.
فالرب سبحانه: أكرمُ ما تكون عليه أحوج
ما تكون إليه وأفقر ما تكون إليه. والخلق: أهونُ ما يكون عليهم أحوج ما يكون
إليهم. لأنهم كلهم محتاجون في أنفسهم، فهم لا يعلمون حوائجك، ولا يهتدون إلى
مصلحتك، بل هم جهلة بمصالح أنفسهم، فكيف يهتدون إلى مصلحة غيرهم فإنهم لا يقدرون
عليها، ولا يريدون من جهة أنفسهم، فلا علم ولا قدرة ولا إرادة.
والرب تعالى يعلم مصالحك ويقدر عليها،
ويريدها رحمة منه وفضلًا. وذلك صفته من جهة نفسه، لا شيء آخر جعله مريدًا راحمًا،
بل رحمته من لوازم نفسه، فإنه كتب على نفسه الرحمة، ورحمته وسعت كل شيء. والخلق
كلهم محتاجون، لا يفعلون شيئًا إلا لحاجتهم ومصلحتهم. وهذا هو الواجب عليهم
والحكمة، ولا ينبغي لهم إلا ذلك، لكن السعيد منهم الذي يعمل لمصلحته التي هي
مصلحة، لا لما يظنه مصلحة وليس كذلك.
فهم ثلاثة أصناف: ظالم، وعادل، ومحسن.
فالظالم: الذي يأخذ منك مالًا أو نفعًا
ولا يعطيك عوضَه، أو ينفع نفسَه بضررك.
والعادل: المكافئُ، كالبائع لا لك ولا
عليك، كل به يقوم الوجود، وكل منهما محتاج إلى صاحبه، كالزوجين والمتبايعين
والشريكين.
والمحسن الذي يُحسن لا لعوض يناله منك،
فهذا إنما عمل لحاجته ومصلحته، وهو انتفاعه بالإحسان، وما يحصل له بذلك مما تحبه
نفسه من الأجر، أو طلب مدح الخلق وتعظيمهم، أو التقرب إليك، إلى غير ذلك. وبكل حال
ما أحسنَ إليك إلا لما يرجو من الانتفاع. وسائر الخلق إنما يكرمونك ويعظمونك
لحاجتهم إليك، وانتفاعهم بك، إما بطريق المعاوضة؛ لأن كل واحد من المتبايعين
والمتشاركين والزوجين محتاج إلى الآخر، والسيّد محتاج إلى مماليكه وهم محتاجون
إليه، والملوك محتاجون إلى الجند والجند محتاجون إليهم. وعلى هذا بُني أمر العالم.
وأما بطريق الإحسان منك إليهم. فأقرباؤك
وأصدقاؤك وغيرهم إذا أكرموك لنفسك، فهم إنما يحبونك ويكرمونك لما يحصل لهم بنفسك
من الكرامة، فلو قد ولّيْتَ ولّوا عنك وتركوك، فهم في الحقيقة إنما يحبون أنفسهم
وأغراضهم.
فهؤلاء كلهم من الملوك إلى من دونهم تجدُ
أحدَهم سيدًا مطاعًا، وهو في الحقيقة عبد مطيع. وإذا أوذي أحدهم بسبب سيده أو
من يطيعه تغيّر الأمر بحسب الأحوال.
ومتى كنت محتاجًا إليهم؛ نقص الحب والإكرام
والتعظيم بحسب ذلك وإن قضوا حاجتك. والرب تعالى يمتنع أن يكون المخلوق مكافيًا له
أو متفضلًا عليه؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول إذا رُفعت مائدته: «الحمد لله حمدًا
كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، غير مَكْفِيٍّ ولا مكفور ولا مودَّع ولا مستغنى عنه
ربّنا» رواه البخاري من حديث أبي أمامة([14]) بل ولا يزال الله هو المنعم المتفضل على العبد، وحده لا
شريك له في ذلك؛ بل ما بالخلق كلهم من نعمة فمن الله.
وسعادة العبد في كمال افتقاره إلى
الله، واحتياجه إليه، وأن يشهد ذلك ويعرفه ويتصف معه بموجبه، أي بموجب علمه ذلك.
فإن الإنسان قد يفتقر ولا يعلم، مثل أن يذهب ماله ولا يعلم، بل يظنه باقيًا، فإذا
علم بذهابه صار له حال آخر. فكذلك الخلق كلهم فقراء إلى الله، لكن أهل الكفر
والنفاق في جهلٍ بهذا وغفلة عنه وإعراض عن تذكره والعمل به. والمؤمن يقرّ بذلك
ويعمل بموجب إقراره، وهؤلاء هم عباد الله.
فالإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله
بالذات، وفقره من لوازم ذاته، يمتنع أن يكون إلا فقيرًا إلى خالقه. وليس أحدٌ غنيًّا
بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغنيُّ عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه. فالعبد فقير
إلى الله من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته.
والإنسان يذنب دائمًا فهو فقير مذنب، وربُّه
تعالى يرحمه ويغفر له، وهو الغفور الرحيم، فلولا رحمته وإحسانه؛ لما وُجِد خير
أصلًا، لا في الدنيا ولا في الآخرة. ولولا مغفرته لما وُقيَ العبد شرّ ذنوبه.
وهو محتاج دائمًا إلى حصول النعمة ودفع الضر والشر، ولا تحصل النعمة إلا برحمته،
ولا يندفع الشر إلا بمغفرته، فإنه لا سبب للشر إلا ذنوب العباد، كما قال تعالى: { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [النساء: ٧٩] والمراد بالسيئات: ما يسوء العبد من المصائب.
وبالحسنات: ما يسرّه من النعم، كما قال: { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [الأعراف: ١٦٨].
فالنعم والرحمة والخير كله من الله فضلًا
وجودًا من غير أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حق. وإن كان تعالى عليه حق لعباده،
فذلك الحق هو أحقَّه على نفسه، وليس ذلك من جهة المخلوق، بل من جهة الله، كما قد
بسط هذا في مواضع.
والمصائب بسبب ذنوب العباد وكسبهم، كما
قال: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }. [الشورى: ٣٠].
والنعم وإن كانت
بسبب طاعات يفعلها العبد فيثيبه عليها فهو سبحانه المنعم بالعبد وبطاعته
وثوابه عليها، فإنه سبحانه هو الذي خلق العبدَ وجعله مسلمَا طائعَا، كما قال
الخليل: { الذي خلقني فهو يهدين } وقال: {
واجعلنا مسلمين لك } وقال: { اجعلني مقيم الصلاة } وقال: { وجعلنا منهم أئمة يهدون
بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } فسأل ربه أن يجعله مسلمًا وأن يجعله
مقيم الصلاة. وقال: { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } الآية, قال
في آخرها: { فضلًا من الله ونعمة }. [الحجرات: ٧ - ٨].
وعند أبي داود وابن حبان: «اهدنا سبل
السلام، ونجّنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا شاكرين لنعمتك مُثنين بها عليك،
قابليها، وأتممها علينا»([15]) وفي الفاتحة: { اهدنا الصراط
المستقيم } [الفاتحة: ٦] وفي الدعاء الذي رواه الطبراني عن ابن عباس قال: مما دعا
به رسول الله ﷺ عشية عرفة: «اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري
وعلانيتي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل
المشفق، المقرّ بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل،
وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبتُه، وذل لك جسده، ورغم لك أنفه. اللهم
لا تجعلني بدعائك رب شقيًّا، وكن بي رؤوفًا رحيمًا، يا خير المسئولين، ويا خير المعطين»([16]).
ولفظ العبد في
القرآن يتناول من عَبَدَ الله، فأما عبدٌ لا يعبده فلا يطلق عليه لفظ عبدِه([17])، كما قال: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وأما قوله: { إلا من اتبعك
من الغاوين } فالاستثناء فيه منقطع، كما قاله أكثر المفسرين والعلماء. وقوله: {
عينا يشرب بها عباد الله }, { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا }, { واذكر
عبدنا داود } و{ نعم العبد إنه أواب }, { واذكر عبدنا أيوب }, { واذكر عبادنا
إبراهيم وإسحاق ويعقوب } { فوجدا عبدا من عبادنا }, { سبحان الذي أسرى بعبده }, {
إنه كان عبدا شكورا }, { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا }, { فأوحى إلى عبده
ما أوحى }, { وأنه لما قام عبد الله يدعوه }, { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده
}, ونحو هذا كثير.
وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات
كلها، كقوله{ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم }, { إن كل من في
السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا }. [مريم: ٩٣]. وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في الدجال: «فيوحي
الله إلى المسيح أن لي عبادًا لا يَدَان([18]) لأحد بقتالهم» وهذا كقوله: { بعثنا عليكم
عبادا لنا } [الإسراء: ٥] فهؤلاء لم يكونوا مطيعين لله، لكنهم مُعَبَّدون مذلّلون
مقهورون يجري عليهم قدره.
وأما فقر المخلوقات إلى الله، بمعنى:
حاجتها كلها إليه، وأنه لا وجود لها ولا شيء من صفاتها وأفعالها إلا به؛ فهذا أول
درجات الافتقار، وهو افتقارها إلى ربوبيته لها، وخلقه وإتقانه، وبهذا الاعتبار
كانت مملوكة له، وله سبحانه الملك والحمد([19]).
والمقصود: أن سعادة العبد في كمال
افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه، أي في أن يشهد ذلك ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من
الذل والخضوع والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء فيطغى،
كما قال تعالى: { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } وقال: { وإذا أنعمنا على
الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } وفي الآية الأخرى : { كان
يئوسا } [الإسراء: ٨٣]([20]).
ومما ينبغي أن يُعلم أنه «لا سعادة
للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده، وهو
معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه.
ومعلوم أن كل حيٍّ سوى الله سبحانه من ملك
أو إنس أو جن أو حيوان فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ولا يتم ذلك إلا
بتصوّره للنافع والضار، والمنفعة من جنس النعيم واللذة، والمضرة من جنس الألم والعذاب.
فلابد له من أمرين: أحدهما: معرفة ما هو
المحبوب المطلوب الذي ينتفع به ويلتذ بإدراكه.
والثاني: معرفة المعين الموصل المحصل
لذلك المقصود. وبإزاء ذلك أمران آخران، أحدهما: مكروه بغيض ضار. والثاني: مُعينٌ
دافع له عنه. فهذه أربعة أشياء:
أحدهما: أمر هو محبوب مطلوب الوجود. الثاني:
أمر مكروه مطلوب العدم. الثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب. الرابع:
الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد، بل
ولكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها.
فإذا تقرر ذلك،
فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، الذي يراد وجهه، ويُبتغَى
قربه، ويُطلب رضاه. وهو المعين على حصول ذلك. وعبودية ما سواه والالتفات إليه
والتعلق به هو المكروه الضار، والله هو المعين على دفعه. فهو سبحانه الجامع لهذه
الأمور الأربعة دون ما سواه، فهو المعبود المحبوب المراد، وهو المعين لعبده على
وصوله إليه وعبادته له.
والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدرته،
وهو المعين لعبده على دفعه عنه، كما قال أعرفُ الخلق به: «أعوذ برضاك من سخطك،
وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك»([21]) وقال: «اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك،
وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا
إليك»([22]) فمنه المنجَى، وإليه الملجأ، وبه الاستعاذة من شر ما هو
كائن بمشيئته وقدرته. فالإعاذة فعلُه، والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خلقه
بمشيئته.
فالأمر كله له، والحمد كله له، والملك
كله له، والخير كله في يديه، لا يحصي أحدٌ من خلقه ثناءً عليه، بل هو كما أثني على
نفسه، وفوق ما يثني عليه كل أحد من خلقه.
ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في
تحقيق معنى قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) [الفاتحة: ٥] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل
الوجوه. والمستعان هو الذي يُستعان به على المطلوب. فالأول([23]): من معنى ألوهيته، والثاني([24]) من معنى ربوبيته. فإن الإله هو الذي تألهه القلوب محبةً
وإنابة وإجلالًا وإكرامًا وتعظيمًا وذلًّا وخضوعًا وخوفًا ورجاءً وتوكُّلًا. والرب
هو الذي يُربى عبده، فيعطيه خلقَهُ ثم يهديه إلى مصالحه. فلا إله إلا هو، ولا رب
إلا هو، فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل، فكذلك إلهية ما سواه.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين
في مواضع من كتابه كقوله: (فاعبده وتوكل
عليه) [ هود : 123 ] وقوله عن نبيه شعيب: (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه
أنيب [ هود : 88 ] وقوله: وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده [ الفرقان : 58
] وقوله: وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [
المزمل : 8 ] وقوله: قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب [ الرعد : 30
] وقوله عن الحنفاء أتباع إبراهيم عليه السلام: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا
وإليك المصير [الممتحنة: ٤] » ([25]).
وقال ابن القيم في رسالته لبعض إخوته في
الإيمان موضّحًا محاور استجلاب السعادة واستثباتها وزيادتها وهي ثلاث: شكر النعمة،
والصبر على البلاء، والتوبة من الذنب: «بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم، اللهُ سبحانه وتعالى المسؤول المرجوّ الإجابة أن يتولاكم
في الدنيا والآخرة، وأن يسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، وأن يجعلكم ممن إذا أنعم
عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر. فإن هذه الأمور الثلاثة عنوان سعادة
العبد([26])، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها
أبدًا. فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث:
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه فقيدُها الشكر، وهو مبني
على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وتصريفها في مرضاة
وليها ومسديها ومعطيها. فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الثاني: محنٌ من الله تعالى يبتليه بها ففرضُه فيها الصبر والتسلّي.
والصبر: حبس النفس عن التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن
المعصية كاللطم وشق الثياب ونتف الشعر ونحوه. فمدار الصبر على هذه الأركان
الثلاثة.
فإذا قام به العبد كما ينبغي؛
انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البليّة عطيّة، وصار المكروه محبوبًا، فإن
الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته. فإن لله
تعالى على العبد عبودية الضراء، وله عبودية عليه فيما يكره كما له عبودية
فيما يحب. وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في
المكاره. ففيه تفاوت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى. فالوضوء
بالماء البارد في شدة الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية،
ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية.
هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد
عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية،
ونفقته في الضراء عبودية. ولكن فرق عظيم بين العبودتين، فمن كان عبدًا لله في
الحالتين، قائمًا بحقه في المكروه والمحبوب فذلك الذي تناوله قوله تعالى: { أليس الله بكاف عبده } [الزمر: ٣٦] وفي القراءة الأخرى ﴿عباده﴾ وهما سواء لأن المفرد مضاف، فيعمّ الجميع. فالكفاية
التامة مع العبودية التامة والناقصة بحسَبها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد
غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ولما علم عدو الله إبليس أن
الله تعالى لا يُسلم عباده إليه ولا يسلطه عليهم قال: { فبعزتك لأغوينهم أجمعين *
إلا عبادك منهم المخلصين } وقال تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا
فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو
منها في شك } [سبأ: ٢٠ - ٢١].
فلم يجعل لعدوه سلطانًا على عباده
المؤمنين، فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه وتحت كنفه، وإن اغتال عدوُّه أحدَهم كما يغتال
اللصُّ الرجلَ الغافل؛ فهذا لا بد منه. لأن العبد قد بُلي بالغفلة والشهوة
والغضب، ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة ولو احتزر العبد ما
احتزر فلا بد له من غفلة، ولا بد له من شهوة، ولا بد له من غضب.
وقد كان آدم أبو البشر ﷺ من أحلم الخلق وأرجحهم
عقلًا وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيه، فما الظنّ بفراشة
الحلم، ومن عقله في جنب عقل أبيه كتفلة في بحر؟! ولكن عدو الله لا يَخلُص إلى
المؤمن إلا غِيلةً على غرة وغفلة، فيوقعه، ويظن أنه لا يستقبل ربه عز وجل بعدها،
وأن تلك الوقعة قد اجتاحته وأهلكته. وفضل الله تعالى ورحمته وعفوه ومغفرته وراء
ذلك كله.
فإذا أراد الله بعبده خيرا فتح له من
أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه
ودوام التضرع والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به رحمه،
حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه!
وهذا معنى قول بعض السلف([27]): إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة
يدخل بها النار. قالوا: كيف؟! قال: «يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه منه مشفقًا
وجلًا باكيًا نادمًا مستحييًا من ربه تعالى، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له؛
فيكون ذلك الذنب أنفعُ له من طاعات كثيرة، بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها
سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة.
ويفعل الحسنة، فلا يزال يمنُّ بها على
ربه، ويتكبّر بها، ويرى نفسه، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلتُ وفعلتُ،
فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة؛ ما يكون سبب هلاكه.
فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين
خيرًا ابتلاه بأمر يكسره به، ويذلّ به عنقه، ويصغّر به نفسه عنده. وإن أراد به غير
ذلك خلّاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.
فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق:
أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك. فمن أراد
الله به خيرًا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار
إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبرِّه
وغناه وحمده.
فالعارفُ سائر إلى الله تعالى بين هذين
الجناحين، لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد
أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: «العارف يسير إلى الله
بين مشاهدة المنّة ومطالعة عيب النفس والعمل» وهذا معنى قوله ﷺ في الحديث الصحيح من
حديث بريدة رضي الله تعالى عنه: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي
لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت. أعوذ بك من شر
ما صنعتُ، أبوء بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»([28]) فجمع في قوله صلي الله عليه وسلم «أبوء لك بنعمتك
عليّ، وأبوء بذنبي» مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد
والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار
والافتقار والتوبة في كل وقت، وأن لا يرى نفسه إلا مفلسًا.
وأقرب باب دخل منه العبد على الله
تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالًا ولا مقامًا ولا سببًا يتعلق به، ولا وسيلة
منه يمنّ بها، بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصِّرْف والإفلاس المحض،
دخول من كَسَر الفقر والمسكنة قلبَه، حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع.
وشملته الكسرة من كل جهاته، وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل، وكمال فاقته وفقره إليه، وأن
في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقةٌ تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك
وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين؛ هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله تعالى
عليه ويتداركه برحمته.
ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا
حجاب أغلظ من الدعوى. والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل، وذل تام.
ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين
المتقدمين: وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي
تورث الذل التام. وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين
الأصلين؛ لم يظفر عدوُّه به إلا على غرّه وغيلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل
ويجبره ويتداركه برحمته»([29]).
خامسًا: من ثمار الافتقار: الانكفاف عن العصيان، خشية الخذلان
وحياء من الرحمن.
فالمؤمن يخشى الله ويتقيه، ويزع نفسه ما
اسطاع عن معاصيه، ويعلم أنه مهما احتجب عن أعين الناس فعين الله لا تُخطيه، ويعلم
أنه كادح إلى ربه كدحًا فملاقيه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في شأن الرجل
الذي يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فينزع عنها: «هذا كقوله تعالى{ وأما
من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن
الجنة هي المأوى } وقوله: { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [الرحمن: ٤٦] قال
مجاهد وغيره من المفسرين: «هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه بين يدي الله؛
فيتركها خوفًا من الله»([30]).
وإذا كان وجلُ القلب من ذكره، يتضمن
خشيته ومخافته؛ فذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور. قال سهل بن
عبد الله: «ليس بين العبد وبين الله حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إليه
أقرب من الافتقار، وأصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله»([31]) ويدل على ذلك قوله تعالى: { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة
للذين هم لربهم يرهبون } فأخبر أن الهدى والرحمة للذين يرهبون الله. قال مجاهد
وإبراهيم: "هو الرجل يريد أن يذنب الذنب فيذكر مقام الله فيدع الذنب"
وهؤلاء هم أهل الفلاح المذكورون في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم
المفلحون } وهم المؤمنون, وهم المتقون المذكورون في قوله تعالى { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } كما قال
في آية البر: { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } وهؤلاء هم المتبعون للكتاب
كما في قوله تعالى: { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } [طه: ١٢٣] وإذا لم يضل فهو متبع مهتد، وإذا لم يشق فهو مرحوم.
وهؤلاء هم أهل الصراط المستقيم الذين
أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا
الضالين. فإن أهل الرحمة ليسوا مغضوبًا عليهم، وأهل الهدى ليسوا ضالين، فتبين أن
أهل رهْبةِ الله يكونون متقين لله، مستحقين لجنته بلا عذاب. وهؤلاء هم الذين أتوا بالإيمان
الواجب.
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: { إنما يخشى الله من عباده العلماء } والمعنى: أنه لا يخشاه
إلا عالم؛ فقد أخبر الله أن كل من خشي الله فهو عالم, كما قال في الآية الأخرى: {
أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [الزمر: ٩] والخشية أبدا متضمنةٌ للرجاء، ولولا ذلك لكانت قنوطًا،
كما أن الرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمنًا. فأهل الخوف لله والرجاء له هم
أهل العلم الذين مدحهم الله.
وقد روي عن أبي حيان التيمي أنه قال: «العلماء
ثلاثة، فعالم بالله ليس عالما بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم
بالله عالم بأمر الله»([32]) فالعالم بالله هو الذي يخافه، والعالم بأمر الله هو الذي
يعلم أمره ونهيه. وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم
لله، وأعلمكم بحدوده»([33]) وإذا كان أهل الخشية هم العلماء الممدوحون في الكتاب
والسنة لم يكونوا مستحقين للذم، وذلك لا يكون إلا مع فعل الواجبات»([34]).
سادسًا: ومن ثمرات صدق الافتقار إلى الله: سكينة القلب وزهادته في
الدنيا.
فلا تقلقله زعازع الدنيا فهو لا يراها
مستحقة لذلك الهم والغم إذ هو مُعرِضٌ بقلبه عنها وإن كانت يديه فيها، بل حاله
سكوتُ اللسان عن حديث الدنيا ذمًّا أومدحًا، فمن اهتم بأمر وكان له في قلبه موقع؛
اشتغل لسانه بما فاض على قلبه من أمره مدحًا أو ذمًّا، فإنه إن حصلت له مدَحَها،
وإن فاتته ذّمها. ومدحُها وذمُّها علامة موضعها من القلب وخطرها، فحيث اشتغل
اللسان بذمها كان بذلك لخطرها في القلب، لأن الشيء إنما يُذم على قدر الاهتمام به
والاعتناء بشفاء الغيظ منه بالذم([35]).
«وكذلك تعظيم الزهد فيها إنما هو على
قدر خطرها في القلب، إذ لولا خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر، وكذلك مدحها
دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإن من أحب شيئًا أكثر من ذكره.
وصاحب هذه الدرجة لا يضبطها مع وجودها
ولا يطلبها مع عدمها، ولا يفيض من قلبه على لسانه مدح لها يدل على محبتها، ولا
يفيض من القلب على اللسان ذم يدل على موقعها وخطرها. فإن الشيء إذا صغر أعرض القلب
عنه مدحًا أو ذمًّا.
وكذلك صاحب هذه الدرجة سالم عن النظر
إلى تركها، وهو الذي تقدم من ذكر خطر الزهد فيها، لأن نظر العبد إلى كونه تاركًا
لها زاهدًا فيها تتشرف نفسه بالترك وتتلذذ به؛ دليل على شغله بها، ولو على وجه
الترك، وذلك من خطرها وقدرها([36]). ولو صغرت في القلب لصغر تركها والزهد فيها، ولو اهتم
القلب بمهم من المهمات المطلوبة التي هي فاقات أهل القلوب الأرواح لذهل عن النظر
إلى نفسه بالزهد والترك.
فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأمراض
كلها من مرض الضبط والطلب والذم والمدح والترك، فهي بأسرها وإن كان بعضها ممدوحًا
في العلم مقصودًا يستحق المتحقق به الثواب والمدح، لكنها آثار وأشكال مشعرة بأن
صاحبها لم يذق حال الخلوِّ والتجريد الباطن، فضلًا عن أن يتحقق من الحقائق
المتوقعة المتنافس فيها.
فصاحب هذه الدرجة متوسط بين درجتي
الداخل بكليّته في الدنيا قد ركن إليها واطمأن إليها واتخذها وطنًا وجعلها له
سكنًا، وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه، وتخلّص من قيودها ورعونتها وآثارها،
وارتقى إلى ما يسرّ القلب ويحييه ويفرحه ويبهجه من جذَبات العزَّة. فهو في البرزخ
كالحامل المُقْرِب([37])، ينتظر ولادة الروح والقلب صباحًا ومساءً، فإن من لم
تولد روحه وقلبه ويخرج من مشيمة نفسه، ويتخلّص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته، فهو
كالجنين في بطن أمه الذي لم ير الدنيا وما فيها؛ فهكذا هذا الذي بَعْدُ في مشيمة
النفس والظلمات الثلاث التي هي ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى، فلا بد من
الولادة مرتين، كما قال المسيح للحواريين: «إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا
مرتين»([38]).
والمقصود: أن القلوب في هذه الولادة
ثلاثة:
قلب لم يولد ولم يأَنِ له، بل هو جنين
في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال.
وقلب قد وُلد وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة،
وتخلّص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرّت عينه بالله، وقرت عيونٌ به
وقلوب، وأنست بقربه الأرواح، وذكّرت رؤيته بالله، فاطمأن بالله وسكن إليه وعكف بهمته
عليه، وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى. لا يقر بشيء غير الله، ولا يسكن إلى
شيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضًا، لا يجد من الله عوضًا
أبدًا. فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبتُه قُوتُه، ومعرفتُه أنيسُه.
عدوُّه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافيا، ووليُّه من ردّه إلى الله وجمع
قلبه عليه وإن كان البعيد المناويا. فهذان قلبان متباينان غاية التباين.
وقلب ثالث في البرزخ، ينتظر الولادة
صباحًا ومساءً، قد أصبح على فضاء التجريد، وآنس من خلال الديار أشعة التوحيد. تأبى
غلَبات الحب والشوق إلا تقربًا إلى مَنِ السعادةُ كلُّها بقربه، والحظُّ كل الحظّ
في طاعته وحبه. وتأبى غلَبات الطباع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه. فهو بين الداعيَين
تارة وتارة، قد قطع عقبات وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلوات([39]).
والمقصود: أن صاحب هذا المقام إذا تحقق
به ظاهرًا وباطنًا، وسلِم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده؛ فهو
فقير حقيقي، ليس فيه قادح من القوادح التي تحطه عن درجة الفقر.
واعلم أنه يحسن إعمال اللسان في ذم
الدنيا في موضعين:
أحدهما: موضع التزهيد فيها للراغب.
والثاني: عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها، ولا يأمن من إجابة الداعي.
فيستحضرُ في نفسه قلّة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها، فإنه إن تمَّ عقلُه وحضر
رشدُه زهد فيها ولا بد.
وهناك درجة أرفع من الأولى وأعلى،
والأُولى كالوسيلة إليها، لأن في الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أن يتألَّه غير مولاه
الحق، وأن يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يفرّق همومه في غير محابّه، وأن يؤثر
عليه في حال من الأحوال. فيوجبُ له هذا الخلوُّ وهذه المعاملة صفاءَ العبودية،
وعِمارة السرِّ بينه وبين الله، وخلوص الوداد والمحبة، فيصبح ويمسي ولا هم له غير
ربه، قد قطع همُّه بربِّه عنه جميع الهموم، وعطّلت إرادتُه جميع الإرادات، ونسخت
محبتُه له من قلبه كلَّ محبة لسواه، كما قيل:
لقد كان يسبي القلبَ في كل ليلة |
|
ثمانون بل تسعون نفسًا وأرجحُ |
والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في
جوفه، فبقدر ما يدخل القلبَ من همّ وإرادة وحب؛ يخرج منه همٌّ وإرادةٌ وحبٌّ
يقابله، فهو إناء واحد والأشربة متعددة، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره،
وإنما يمتلئ الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأما إذا صادفه ممتلئًا من
غيره لم يساكنه حتى يَخرج ما فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى |
|
فصادف قلبًا خاليًا فتمكّنا([41]) |
ففقرُ صاحب هذه الدرجة تفريغُه
إنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، لأن كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة
فمسكرٌ ولا بدّ، «وما أسكر كثيره فقليله حرام»([42]) وأين سكرُ الهوى والدنيا من سكر الخمر؟! وكيف يوضع شراب
التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمرِ الدنيا والهوى، ولا يفيق
من سكره ولا يستفيق؟!
ولو فارق هذا السكرُ القلبَ لطار بأجنحة الشوق إلى الله والدار الآخرة، ولكن رضي المسكينُ بالدون، وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأخسِّ الثمن صفقةَ خاسرٍ مغبون، فسيعلمُ أيَّ حظ أضاع إذا فاز المحبون، وخسر المبطلون! »([43]). وبالله التوفيق والاعتصام والاستغناء والاستعانة.
وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله
وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
إبراهيم الدميجي
22/ 4/ 1445
aldumaiji@gmail.com
([9]) وهذا من شطحاتهم، فالله واسع عليم
محيط لا يشغله شأن عن شأن، ولا مخلوق عن سواه وهو على كل شيء قدير، وإنما أُتي بعضهم
مما يسمّونه الغيرة عليه وهذا لا يصح ولا يجوز، فلا يقاس بخلقه سبحانه، وشأن
محبّته أعظم من ذلك كثيرًا (ليس
كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى: ١١] وكأن مقصود ابن القيم ؒ في إيراد هذا الكلام
التنبيهُ إلى أن باب الذل والمسكنة قد غفل عنه الكثير مع أنه أقرب باب لتحصيل
العبودية لرب العالمين، وهذا مقصد شريف ومرمى حسن.
([10]) وتأمل لفظ
العبد الذي هو سمة أفضل الخلائق وأكمل الرسل، وانظر الكلام على ذلك في باب العبودية
من هذا الكتاب.
([15]) أبو داود (969)
وسكت عنه فهو صالح على طريقته، ابن حبان (996) وجوَّد إسناده الهيثمي في المجمع
(10/182) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد (490) بنحوه.
([16]) أورده الهيثمي
في مجمع الزوائد (3/255) وقال: «رواه الطبراني في الصغير والكبير وزاد: «الوجل المشفق»
وفيه يحيى بن صالح الأبلي، قال العقيلي: روى عنه يحيى بن بكير مناكير.
وبقية رجاله رجال الصحيح».
([17]) أي: العبودية
الاختيارية التي يُحمد ويُثاب عليها وليست الاضطرارية، فكل من سوى الله فهو عبدٌ
لله.
([19]) فالفقر إلى الربوبية اضطراري، أما الفقر إلى الألوهية
والعبودية فاختياري، وهو محكّ دعوة المرسلين لأنه تحقيق «لا إله إلا الله».
([28]) رواه البخاري
(6306) وليس عنده لفظ:« العبد» وإن كان عند غيره، وزاد: «من قالها من النهار
موقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو
موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة»، و«أبوء»: أعترف.
([30]) نقل البغوي في
تفسيره (8/ 330) عن مقاتل قال في الآية: «هو الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه
للحساب فيتركها».
([32]) ذكر ابن أبى
حاتم في تفسيره (10/ 3180) من طريق سفيان عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: «كان
يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله، وعالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر
الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله. فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله ويعلم
الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم
الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض
ولا يخشى الله».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق