إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 10 نوفمبر 2024

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ (6) وَباكيةٌ أخرى تُهِيجُ البَوَاكِيَا

 

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ

(6)

وَباكيةٌ أخرى تُهِيجُ البَوَاكِيَا

    هل يتسع القلب لحبيبتين؟ هذا سؤال وجده صاحبي مكتوباً في ورقة صفراء باهته, قد بلتها الشمس والريح والماء وأكلت أطرافَهَا, وتحت هذا السؤال رُسِمَتْ يمامتان وادعتان, والذَّكرُ منهما يفتلُ ريش الأنثى من أعلى رأسها, وقد رَنَتْ لصدره في مشهدٍ غاية في الرقة, وكأن السائل أجاب حروفه بريشته لا بقلمه!

    ناولني صاحبي الورقةَ قائلاً ما تقول؟ فقلت: على مذهب اليمام لا يجوز, لكن على بني الإنسان نعم! فقد عرفنا كثيراً من الرجال أحبوا أكثر من امرأة في وقت واحد, وهو غير ممتنع لا شرعاً ولا عقلاً ولاحساً, لكن تأبى ذلك الغواني اللطيفات والخرائد المرهفات, فيقلن: القلب مسكنُ واحدة, فإن شُوركت فَسَدَ الحب.

   والتحقيق: أن حب العشير التام يستغرق القلب, فلا يتسع في العادة لغيره, أما الوداد العادي والمحبة الطبيعية فلا تمنعان الشركة بين اثنتين بل أربع! فإن كان ثمّت واحدة غالبة على القلب؛ فنصيب الأخريات ينقص بحسب ما سلبت من نصيبهن من الوداد. كما أن كُرورَ الأيام وتتابع الليالي مُغرٍ بإعماق المحبة والوداد, وإحياءِ جذوة جمرة الحب الأولى مرة بعدَ مرات, وقد تذكو حيناً وتخمد أُخَر. ومناطُنَا هنا هو المحبة النفسانية, أما الشهوانية فلا حدّ لها. قال البحتري الطائي:

وكنت امرأً بالغورِ مني صريمة   ...   وأخرى بنجدٍ ما تعيدُ ولا تُبدي

فطوراً أكرّ الطرْفَ نحو تهامةٍ   ...   وطوراً أكرّ الطرف كراً إلى نجدِ

وأبكي إذا فارقت هنداً صبابةً   ...   وأبكي إذا فارقت دعداً على دعدِ

      وقبله قال جرير الخطفي اليربوعي:

أخالدَ قد عَلِقتُكِ بعد هندٍ   ...   فشيَّبَتْنِي الخوالدُ والهنودُ

هوىً بتهامةٍ وهوى بنجدٍ   ...   فقتّلَنِي التهائم والنجودُ

      وقال جرير كذلك:

إلى الله أشكو أن بالغورِ حاجةً   ...   وأُخرى إذا أبصرتُ نجداً بداليا

      ثم أخذنا العُصيَّ فتجوَّلْنا على الأقدام, فقلت له: هل من أبيات غائرة في الجزالة, عاليةٍ في الحسن, تكون مثنى أو فرادى, أين نفاضة جرابك؟

     ولما كان صاحبي لوذعيّاً ألمعياً أحوذيّاً, حاذقاً حسن التأمل في دقائق المحاسن ولطائف الشمائل, فهو من ذلك في أرفع المراتب؛ لم أعجب من حُسْنِ ردِّه الوافي إذ قال: خُذْهَا تقطرُ فتيتَ المسك وخالص العنبر, فمن ذلك قول لبيد:

وجلا السيولَ عن الطُّلول كأنّها   ...   زُبُرٌ تَجِدُّ متونَها أقلامُها

    فالسيل حين كشف عن الأطلال؛ صارت كأنها كتاب قد انمحى بعضه فأُعيد عليه وترك ما تبيّن منه, فالسيل هو القلم والأطلال هي الكتاب الباهت. وهذا البيت من بيت عجائب الشعر, وقد كان الفرزدق يسجد إذا أنشده, ويقول: إنا لنعرف مكان السجود من الشعر كما تعرفونه في القرآن! وهذا من رِقَّةِ دينه, فالقرآن لا يُضاهى, لاهُمَّ إن قصد السجود لله شكراً على ما أفرح وأسعد بإلهام المعاني الفائقة, وتسهيلها بالألفاظ الرائقة, وهذا من أعظم نعيم الدنيا عند أولئك القوم!

    وكان أبو بكر الخوارزمي يقول: أمير الشعراء العصريين أبو الطيب, وأميرُ شعره قصيدته التي مطلعها:

مَنِ الجآذِرُ في زِيّ الأعَارِيبِ  ...  حُمْرَ الحِلَى وَالمَطَايَا وَالجَلابيبِ

      وأميرُ هذه القصيدة قوله :

أَزُورُهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي  ...   وَأَنْثَنِي وَبَيَاضُ الصُّبْحِ يُغري بِي

       وقال الخوارزمي كذلك: أغزلُ بيت للعصريين قولُ أبي الطيّب :

قد كنتُ أُشفقُ من دمعي على بصري  ...   فاليومَ كلّ عزيزٍ بعدكم هَانا

      ومن غرر أبياته اليتيمات قوله :

وَمِنْ نَكَدِ الدُّنيا على الحُرِّ أَنْ يَرَى...  عدوّاً له ما من صداقتهِ بُدُّ

      وأنشد أبو الشيص الخزاعي, في معنًى فخم مبتكر:

وَقَفَ الهوى بي حيثُ أنْتَ فليسَ لي   ...   متأخَّرٌ عنه ولا مُتَقَدَّمُ

أَجِدُ الملامةَ في هواكَ لذيذةً   ...   حُبَّاً لذكركَ فليَلُمْنِي اللُّوَمُ

      وقال عبد الله بن علقمة:

أَثيبي بِودٍّ قبلَ أن يَشْحَطَ النَّوى   ...   وَتَنْأَى الليالي بالحبيبِ المفارقِ

      أما عروة بن الورد فهو أمير الصعاليك, وكان لا يُغِيرُ إلا على البخلاء الأشحّاء دون الكرماء الأسخياء, ثم يفرّقُ سَلَبَهُ على الفقراء, فسُمّي عروة الصعاليك وهم الفقراء, لذلك فعروة سابق لروبن هود اللص النبيل, ومن أحسن شعره المعبّر عن ذلك:

إني امرؤٌ عافى إنائيَ شرْكَةٌ   ...   وأنت امرؤٌ عافى إناؤكَ واحدُ

أَتهزأُ مِنِّي أَنْ سَمِنْتَ وأن تَرَى   ...   بجسمي شحوبٌ الحقِّ والحقُّ جاهدُ

أُفَرِّقُ جِسْمِي في جسومٍ كثيرةٍ   ...   وَأَحْسُو قَراحَ الماءِ والماء باردُ

    كذلك تأمل حكمة عنترة في لاميته في عبلة ابنة عمّه فهي قريبة من هذا السبيل:

بَكَرَتْ تُخَوِّفُنِي الحتوفَ كأنَّني   ...   أصبحتُ عن غَرَضِ الحتوفِ بمعزلِ

فأجبْتُهَا إن المنيةَ منهلٌ   ...   لا بد أن أُسقى بكأسِ المنهلِ

فَاقْنِي حياءكِ لا أبالك واعلمي   ...   أَنِّي امرؤ سأموتُ إن لم أقتلِ

    فعنترة قد جمع إلى المروءة الفروسية الحسية والمعنوية, وانظر لوصفه عفته:

وأغضُّ طرْفي إن بدتْ ليَ جارتي  ...  حتَّى يوارِي جارتي مأواها

إني امرؤٌ سمْحُ الخليقة ماجدٌ   ...   لا أتبعُ النَّفس اللجوجَ هواها   

    أما الأعشى فهو أحد أشعر العرب العرباء, وهو أحد أصحاب المعلّقات, وتسمّى المُذهبات, ويزعمون أنها كتبت بماء الذهب ثم عُلّقت في جوف الكعبة ولا يصح هذا الزعم البتة, فكتاب العرب لسانهم وقريحة محفوظهم, كما ليسوا بأهل ثراء حتى ينهجوا بها كظرفاء الملوك. ومن غُرَر قريضه:

قالوا الركوبَ فقلنا تلك عادتنا   ...   أو تنزلون فإنا معشر نُزُلُ

    وذكروا أن بيته هذا هو أشجع بيت قالته العرب, فهم يحسنون الطعان فرساناً وراجلة, وقد نشأوا عليه. والأعشى وُصف بقولهم: كان إذا مدح رفع, وإذا هجا وضع! وقال يسخر ويتوعد كسرى قبل يوم ذي قار:

واقعُدْ عليكَ التاجُ معتصباً به   ...   لا تطلبنّ سوامَنا فتُعَبَّدَا

    والسوام هي الإبل الراعية ويقال لها سائمة, والمقصود ديار العرب.

    أما زهير بن أبي سلمى فهو شاعر الحكمة والتأملات ومدح الفضائل, وله أبيات في الحكمة يحفظها العامّة إلى هذا الزمان. وهو والد كعب صاحب البردة, وهو مُعلّم الحطيئة الشعر, وقد كانت له في الشعر مدرسة خاصّة ولعله أخذها عن أستاذه أَوْس بنَ حَجَر التَّمِيمي القائل:

أَيَّتُها النَّفْسُ أَجْمِلي جَزَعاً ... إِنَّ الذي تَحْذَرِينَ قد وَقَعا

إنّ الذي جَمَّعَ السَّماحَةَ والنَّ ... جَدَةَ والبَأْسَ والنَّدَى جُمَعا

الأَلْمَعِيُّ الذي يَظُنُّ بِكَ الظَّ ... نَّ كأنْ قد رَأَى وقَدْ سَمِعا

    وزهير هو صاحب الحوليات, إذ ينظم القصيدة في أربعة أشهر, ثم يُدَقِّقُها أربعة أشهر, ثم يعرضها على شعراء قومه أربعة أشهر, فإذا كان رأس الحول صدح بها في عكاظ, فطارت بها العرب. وكان الحطيئة يقول: خير الشعر الحولي المحكّك. ومن حسين شعر زهير:

تداركْتُمَا عبْساً وذُبيانَ بعدما   ...   تفانوا ودقوا بينهم عطرَ منشمِ

وما الحرب إلا ما عرفْتُمْ وذقتُمُ   ...   وما هوَ عنها بالحديثِ المرجَّمِ

متى تبعثوها تبعثُوها ذميمة   ...   وتَضْرَ اذا أضريتموها فتضرمِ

     وقال في هَرِم بن سنان:

ولأَنت تفري ما خلقت وبعض   ...   القوم يخلق ثم لايفري

     ومعنى يخلق يقدّر. ومعنى يفري يقطع. فهو إذا عَزَمَ فَعَلَ ولم ينثنِ.  وقال زهير في  حصن بن حذيفة:

وأبيضَ فيَّاضٍ يداهُ غمامةٌ   ...   على معتَفِيهِ ماتُغبّ فواضلُه

تراهُ اذا ما جئتَهُ متهَلِّلاً   ...   كأنَّك تعطيهِ الذي أنتَ سائلُه

    والمُعتف هو السائل. ومعنى تغب أي تنقطع. وقال أيضاً:

وهل يُنبتُ الخطّيَّ إلا وشيجَهُ   ...   وتغرسُ إلا في منابتها النخلُ

      وقال أبوالطيب:

ومن ينفق الساعاتِ في جمعِ مالِهِ   ...   مخافةَ فقرٍ فالذي فعل الفقرُ

        وقال النابغة:

حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً   ...   وليس وراءَ الله للمرءِ مذهبُ

وإنَّك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ   ...   إذا طلعتْ لم يبدُ منهن كوكبُ

ألم تر أن الله أعطاك سُورَةً   ...   ترى كلَّ مَلْكٍ دونها يتذبذبُ

ولستَ بمستبق أخاً لا تلمنَهُ   ...   على شعثٍ أيّ الرجال المهذبُ

   والسُّورة هي المنزلة. وإذا أُطلق النابغة فهو الذبياني لأن هناك نوابغ سواه وأطلقوا عليهم ذلك لأنهم نبغوا في الشعر بعد الأربعين, وقال في قصيدته العينيَّة في اعتذاره للنعمان بن المنذر, وهو تشبيه لم يُسبق إليه ولم يُلحق به:

فإنَّكَ كالليلِ الذي هو مُدركِي   ...   وإن خِلْتُ أن المُنْتَأَى عَنْكَ واسعُ

أَبَى اللهُ إلا عدله ووفاءهُ   ...   فلا النكْرُ معروفٌ ولا العرفُ ضائعُ

     وفي مدح الغساسنة ينشد, وقد نقل أخيلته غير واحد من الشعراء:

إذا ما غزوا بالجيش حلّق فوقهم   ...   عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائبِ

على عارفاتٍ للطعان عوابسٍ   ...   بهن كلومٌ بين دام وجالبِ

ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفهم   ...   بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائبِ

      ولعامر المحاربي, في معنىً بديع جداً:

وكنا نجوماً كلما انقضَّ كوكبٌ   ...   بدا زاهرٌ منهن ليس بأقتما

      وقال طُفيل الغنوي في نفس معنى المحاربي ولعلّه أجود:

نجومُ ظلامٍ كلما غاب كوكبٌ   ...   بدا ساطعاً في حِندِس الليل كوكبُ

       ولعنترة, وتأمل تشبييهه العجيب للذباب حينما يَحُكُّ يديه في بعضهما بِرَجُلٍ أجذم يحاول قدح الزناد بذراعيه, وهذا من روائع التشبيه:

فترى الذبابَ بها يُغَنِّي وحده   ...   هزِجاً كفعلِ الشَّارب المترنِّمِ

غَرِداً يحكُّ ذراعَهُ بذراعِهِ   ...   فِعْلَ المُكِبِّ على الزِّنادِ الأجذمِ

    ثم قال: هل أُنبئك بخبر ابن عجلان؟ قلت: حيّهلاً بكما!

    فقال: ذكروا أن عبد الله بن عجلان النَّهدي القضاعي, صاحب هند النهدية, وهو أقل العشاق أياماً, خرج يوماً إلى شعب في نجد ينشد ضالَّةً, فشارف على ماء نهر يقال له غسّان, فلما علا ربوة تُشْرِفُ عليه إذ بنات قد خلعن ثيابهن يغتسلن في الماء, فكمن ينظر مستخفياً, فخرجن حتى بقيت هند وكانت طويلة الشعر, فأخذت تمشطه وتسرحه وتسببه على بدنها, وهو يتأمل شفوف بياض جسدها من خلال سواد شعرها, فتمكَّن الهوى من سويدائه, فنهض ليركب راحلته فعجز وأُقْعِدَ ساعةً مبهوتاً مما جرى من عقره، فلم يستطع ركوب ناقته بعدما كانت تصف أمامه ثلاث رواحل فيقفزها ويرتحل الرابعة, فقال وقد عرف ما داخله من الحب الذي اعجزه وعطل حركته:

لقد كنتُ ذا بأسٍ شديدٍ وهمَّةٍ   ...   إذا شئتُ لَمْساً للثُّريا لمستُهَا

أتَتْنِي سهامٌ من لحاظٍ فأرشقتْ   ...    بقلبي ولو استطيعُ رددتُّهَا

    ثم قال: هذه والله الضالة التي لا ترد, فخطبها إلى أبيها فزوَّجه, ومضى عليهما ثمان سنين في أحسن مقام وأهنأ حال, ولما لم تحبل منه أراد والده تزويجه فأبى, فلما ألحَّ عليه عرض عليها أن يأخذ غيرها, فأبت أن تكون مع أخرى, ثم إنه سَكِرَ يوماً فجمع أبوه وجوه الناس وطلبوا إليه فراقها فطلقها في حال سكره, فلما أفاق احتجبت عنه, وزُوّجت بعد لغيره, فذاب حاله كمداً, فمات عشقاً قبل الفيل بأربع سنين.

     وقيل: إنه ذهب إليها في مضارب زوجها, وكان من بني نمير, فرآها جالسة في حوض فدنا منها فتعانقا وسقطا ميتين.

    وبعض أخبار العشاق ومصارعهم هي من نسج أخيلة الرواة, وتمليحات القُصَّاص, ولكن لا علينا لئن كان صدقاً فليس بمستغرب، فلنعش جوهم العطريّ قليلاً, ولنَمْتَع فيه خطانا, ولنُمَتِّع به أرواحنا, فالخيال عند أهل الفن أجدى من الواقع وأمتع, فأحلام اليقظة والمنام تنفيس من كُربات الأيام, وإن كانت الحقائق بخلافها!

وما كُلُّ دارٍ أقفرتْ دارةُ الحِمى   ...   ولا كُلُّ بيضاء الترائبِ زينبُ

     وقد ذكروا أن ابن المولى الشاعر المدني وكان موصوفاً بالعفة وطيب الإزار، فأنشد عبدَ الملك شعراً له من جملته:

وأَبكي فلا ليلى بكتْ من صبابةٍ   ...   لباكٍ ولا ليلى لِذِي البذل تبذلُ

وأخنعُ بالعُتْبَى إذا كنتُ مُذْنباً   ...   وإن أذنبَتْ كنتُ الذي أتنصَّلُ

    فقال عبد الملك: من ليلى هذه؟ إن كانت حرّة لأزوجنّكها، وإن كانت أمة لأشترينها لك بالغة ما بلغت! فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنتُ لأصعّر وجه حرٍّ أبداً في حُرّتِه ولا في أمته، وما ليلى التي أَنِسْتُ بها إلا قوسي هذه, سمّيتها ليلى لأن الشاعر لا بد له من النسيب.

    ومن مشاهير العشاق كذلك ذو الرمة التميمي وصاحبته مَيّ، كذلك مالك أخو ذي الرمة وصاحبته جنوب الجعدية, وابن علقمة القحطاني وصاحبته حبيش الخريمية، والمُرَقّشُ الأكبر الضَّبعي وصاحبته أسماء, وهي ابنة عمة ومات من حبها بعد زواجها من غيره, ونصيب الزّنجي وصاحبته زينب الكنانية, وعتبة بن الحباب الأنصاري وصاحبته ريّا بنت الغطريف السللي، وكعب الطائي وصاحبته ميلاء ابنة عمه، والصّمة القشيري التغلبي وصاحبته ريا ابنة عمه, نعوذ بالله من نار الهوى.

    وقد أحسن  بَشّار ثم أحسن في صيد طريدة حسن التشبيه إذ قال:

أقولُ ولَيْلَتِي تَزْدادُ طُولاً ... أما لِلَّيْلِ بَعْدَهُمُ نَهارُ

جَفَتْ عَيْنِي عن التَغْمِيضِ حتَّى ... كأَنَّ جُفُونَها عَنْها قِصارُ

كأَنَّ جُفُونَها كُحِلَتْ بِشَوْكٍ ... فَليْسَ لِوَسْنَةٍ فِيها قَرارُ

    ومِن فَخَارِ الفرزدق الفاخِرِ:

يختلف الناسُ ما لم نجتمْع لهمُ ... ولا خلافَ إذا ما أجمعتْ مُضرُ

فينا الكواهلُ والأعناقُ تقدُمها ... فيها الرؤوسُ وفيها السَّمعُ والبصرُ

أما الملوكُ فإنا لا نلين لهم ... حتى يلينَ لضرس الماضِغ الحجرُ

    وبينا نسيرُ في الصَّحصحان عَنَّتْ على مَدِّ النظر تَبَّةٌ حمراء مشرفة على قاع مخضرٍّ فيه ألون الربيع فأضحى مرجاً رائقاً, فبلغنا التبّة وجلسنا عليها بين ثمامتين سلِمَتَا من مشافرِ النِّيب, مشرفين على ذلك المرج الذي يشرح الصدر منظره وهواؤه, فقلت: حدّثني عن نبات نجد الذي تغنّت به الأعاريب. فمدَّ يده لثمامة على يساره فكسر منها عوداً ولا كه بين أسنانه كهيئة المُتَطَعِّم المُتذوّق ثم لفظه وقال: نبدأ بهذا الثُّمام, وهو كما ترى نبْت ضعيف قصير لا يَطُول, وخُوصُهُ السَّلَب, يقال: أسلب الثّمام إذا أخرج خوصه. والناصِفَة الأرضُ التي تُنْبِتُ الثُّمَامَ وغيرَه. ويسمى الثمام الجَلِيل, وقد تمثّل بلال رضي الله عنه لما أصابته حمى يثرب:

ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أبِيتَنَّ لَيْلَة ... بِوَادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وهل أَرِدْنَ يَوْمًا مِياهَ مَجَنَّةٍ ... وهل يَبْدُوَنْ لِى شامةٌ وطَفِيلُ

     وقد ذكر الإذخر, ويسميه بعضهم السّاف, وهو نَبْتٌ طَيِّبُ الرّائِحَةِ؛ أما شامَة، وطَفِيل فهما جَبَلان مُشْرِفان على مَجَنَّة. وعندَ مَجَنَّة كانت تُقامُ سوقٌ للعَرَبِ فى الجاهِلِيّة. وقال الأَصْمَعِىّ: كانت بمَرِّ الظَّهْران, وهو وادي فاطمة حالياً. وكانت سوقُ مَجَنَّة تُقام عَشْرةَ أيّام من آخِر ذى القِعْدَة ، وبعضهم يذكر أنه مجنة جنوب مكة, وقَبْلَها سوق عُكاظ شرقيَّ الطائف مما يلي نجد شمال جبل حضن, بجوار عُشَيرَة والعَرْفَا حالياً.

      ومن نبات أرض العرب النَّصِيُّ وهو نَبْتٌ سَبْطٌ أبيضُ ناعِمٌ من أفضل المَرْعَى. ولا تسل عن جماله إذا تمايل وعكس بقدّه ضياء الشمس عند الأصيل كأنه مرآة صافية تعكس ضوء الشمس.

    ومن نباتها العَرَار, وطالما تغنى به الشعراء: وهو نبات نجديّ واحدته عرارة, ولها وردة ناعمة صفراء طيّبة الرَّائحة, قال الصِّمَة بن عبد الله القُشَيْري:

أقولُ لِصَاحبي والعِيسُ تَهْوِي ... بِنَا بَيْنَ المُنِيفَةِ فالضِّمَار

تمَتعْ مِنْ شِميم عَرَارِ نجْدٍ ... فَمَا بَعْدَ العَشِيَّةِ من عَرَارِ

ألا حَبَّذَا نفحاتُ نجدٍ   ...   ورياً روضه غبَّ القطارِ

    ومن نباتها الأُقْحوان, واحدته أقحوانه والجمع أقاحي, وهو نبت معروفٌ لا يكاد يخلو منه بلد ولا سهل ولا وَهَدٌ, وهو من نبات الربيع, طيب الرائحة خفيفها, أبيض النور, في وسطه دائرة صغيرة صفراء، وأوراق زهره مفلجة صغيرة، ناصعة البياض جداً يشبهون بها الأسنان، وهي زهرة في غاية الحسن والرقة والجمال واللطافة, وتسمّى القُرَّاص والقُحوان, وعند المصريين حوان, أما الفرس فيسمونه البَابُونَج .

وقد أحسن ظافر بن القاسم في قوله:

أنظر فقد أبدى الأقاحي مبسماً ... يفترّ ضحكاً فوق قدٍّ أملدِ

كفصوص درٍّ لطفت أجرامه ... وتنظمت من حول شمسة عَسْجَدِ

    ومن نبات بلاد العرب الأراك, وهو من شجر تهامة, ومن خير المراعي, وهو معدود من شجر الحمض, ويُستاك بقضبانه، واحدته أراكة, والبَرِيرُ ثَمَره, فإذا اسْودّ وبلغ قيل له: الكَبَاث, أما جذوره فهي خير المساويك, واحدها مسواك الأراك. وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرِّ الظهران نجني الكَبَاث, فقال: "عليكم بالأسود منه, فإنه أطيب" فقلت: أكنت ترعى الغنم؟ قال: "نعم, وهل من نبيٍّ إلا رعاها" ويروون عن علي رضي الله عنه أنه رأى فاطمة رضي الله عنها تستاك بالأراك, فتناوله منها ثم خاطبه:

حُظيتُ يا عودَ الأراك بثغرِهَا  ... ما خفتَ يا عود الأراك أراكا

لو كنتَ من أهل القتال قتلكَ  ...   لم ينج مني يا سواكُ سواكا

     ومن ظرف الحسن بن سهل ولطفه أنه كان في يده ضغث من أطراف الأراك، فسأله المأمون عنه: ما هذه؟ فقال : محاسنك يا أمير المؤمنين، تجنباً لأن يقول: مساويك. وقال إبراهيم المهدي راثياً ابنه:

سأبكيكَ ما أبقت دموعيَ والبُكَا ... بعينيَّ ماءً يا بنيَّ يُجِيبُ

وما غَارَ نجمٌ أو تغنَّتْ حمامةٌ ... أو اخضر في فرع الأراك قضيبُ

    وأصاب الأبيوردي عين الجمال بقوله:

رمى صاحبي منْ ذي الأراكِ بنظرةٍ  ... إلى الرَّملِ عجلى ثمَّ كرَّرها الوجدُ

وأتبعتُهَا أخرى فبي مثلُ ما بهِ ... أجلْ ما استطعتَ الطَّرفَ أسعدكَ يا سعدُ

متى طرَقَتْنِي نفحةٌ غَضَوِيَّةٌ  ...  يفوحُ بريّاها العَرارُ أوِ الرَّندُ

    والعرب إذا رأوا العرار اشتاقوا لنجد, وإن رأوا الأراك حنوا لتهامة.

     ومن نبات أرضهم الشِّيح, وهو نبت سهلي رائحته طيبة قوية, وهو كثير الأنواع ترعاه الماشية. والقيصومُ قريب من الشيح, وهو نَبْتٌ طيِّبُ الريحِ ومعدود من رياحين البر, وهو خاصٌّ ببلاد العرب. ويقال لمن خلصت بدويته: فلانٌ يمضغ الشيح والقيصوم. قال عمر بن أبي ربيعة:

إحْدَى بُنَيَّاتِ عَمِّي دون منزلها ... أرضٌ بقيعانها القَيْصُومُ والشِّيحُ

    ومن نباتها الأرطى واحدتُهَا أرطأة, تنبتُ عصيّاً من أصل واحد, تطول قدر القامة، وهي مرة تأكلها الإبل غضّةً, ويشبه الأرطى الغضا إلا أن الغضا أعظمهما, ويضرب المثل بحرّ جمره, وذئبُ الغضا من أفتك الذئاب, وسمّته سِيْدَ الغضا, وقالوا في المدح:

إذا سيم ريح الخَسف زَبْدٌ رأيتَه ... كسِيْدِ الغَضَا أرْبىَ لك المُتَظالعُ

    ومن نباتها الأثلُ, وهو شجر عظيم ظليل, وجذوعه سُقُف دورهم إن كانت بقُربه, وتشبهه الطرفاء إلا أنها أصغر, والأثل هو أكبر شجر بلاد العرب مع السِّدر البرِّي. قال ذو الرمّة:

نظرتُ إلى أظعان مَيٍّ كأنَّها  ...  ذرى النخل أو أثل تميل ذوائبُه

فأسبلت العينان والصَّدر كاتمٌ  ...   بمغرورق نمَّتْ عليه سواكبُه

     ومن نباتها الجثْجاث, وهو شجر أصْفَر مُرٌّ طيب الريح, تَسْتطيبُه العرب وتُكْثر ذكره في أشعارها, كذلك البَسْباسُ وهو طَيِّبُ الريح ويُشْبِه طَعْمُه طعم الجزر, وثالثهما الفشفاش.

    كذلك الرّمث, وهو نبات سهلي من أحماض المراعي, وله أنواع عديدة, ويقال: أرض رميثة إذا كانت كثيرة الرمث. ودخان الرمث يخالط سواده بياض, وهذا اللون الرمادي يسمى الأورق, ومنه سموا الذئب أورقاً والذئبة ورقاء, ومن شَمَطَ من الرجال كانت لحيته مقاربة للون الرِّمث يابساً أو لون دخانه.

   ولاحظ أن كل هذه المسميّات لنبات أرضهم قد سمّوا بها أولادهم, فسمّوا رمثة وطلحة وسمرة..وكحال بيئتهم وأدواتهم وبهائمهم فسمّوا غيثاً وحجراً وجبلاً وجملاً وأسداً وليثاً وثعلباً وسبيعًا وكلباً وثوراً وجحشاً وحماراً.. والآن: مطراً ورعداً وذئباً وصقراً وبازاً وشاهيناً وعقاباً وقعوداً ونجراً ومحماساً وفنجالاً.. وفي ما ذكرت لك من النبات مقنع, فهلم فقد شارفت شمس المغيب.

 

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

الأحد، 27 أكتوبر 2024

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ (5) وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

 

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ

(5)

وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ

    قصدنا خليج العرب _وإن رَغَمَتِ المجوسيَّة_ في رحلة سير طويلة, لنركب القارب, ونُجرِّبَ حظّنا في صيد الحوت, فلِصاحبي تجربة قديمة في سالف الأيام في مضمار البحار, وقد أحب أن يستدعي الذكريات بركوب صيد السمك! فوافقته مراعاة لخاطر الصحبة, وإلا فلا يعدل عندي شَمُّ عجاج الغيث المغبر بالترب العذي شيء, ولَنسيم صَبَا رياض نجدٍ في أنفي أطيب من رائحة العروس الخريدة في أنف العاشق الشبق, ولَقَطْعُ فيافيها وقت الربيع أحب إلي من حب الشيخ الموسر الكبير لابنه الواحد الصغير, ومن الأعور لعينه الباصرة, والأجذم ليده الناصرة. وشتان عندي بين طراد الخِرْبِ _وهو ذكر الحبارى_ بالحُرِّ , وبين صيد البحر! فليس لي في ركوب البحر منزع, خلا شاطئه فهو معينٌ ثَرٌّ لواردات الأبيات وجمالات التأملات وراحة التأوهات, أما ركوب البحر فيكفيني منه ساعات, شريطة أن يكون نهاراً فَلِلَّيلِ في ظهر البحر رهبة لا أُحبّذها, وكما  كتب عمروٌ لعمرَ يصف له البحر: البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير, دودٌ على عود!

    كنا نتحدّث ونحن في الطريق بنيِّتِنا في الانغماس في أغوار البحر, وضَرْبِ  أثباجه, وصراع أمواجه, وتطرقنا متذكّرين لمناقشة رواية إرنست همنجواي التي دوّنها في هافانا (الشيخ والبحر) التي قرأناها أيام الصّبا, ووددنا أن لم نقرأها حتى نعيد متعة قراءتها من جديد, أو أن ننساها مرات لنستمتع بحبكتها كرّات, إذ سجّل فيها مع حسن تصويره لروايته تأملاتِهِ العميقة في صراع الإنسان في حياته, وحكم الله النافذ بأقداره, وهي عندي مع رواية (موبي ديك, الحوت الأبيض) لهيرمان ملفيل في قمة الروايات البحريّة العالمية, لولا حشو لا طائل تحته في الثانية, ولعلَّهُ كَتَبَهَا لأدب المدفأة في ليالي شتاء القارة العجوز وابنتها الظالمة!

    بينما نحن نسير وقد اختصرنا الطريق عبر النزول إلى الصحراء دون الأسفلت, فلصاحبي فلسفةٌ مفادها: أن رؤية الصحاري البكر ليست كرؤية الصحاري المزوَّجات! وهكذا كنا نسير بفضل الله وستره, ثم جهاز تحديد المواقع الالكتروني, وقَتَلَتْ أرضٌ جاهلَها وقتلَ أرْضاً عالِمُهَا, مع أن صاحبي كان كما قيل: لا يَضِلّ حتى يضل النجم, ولا يهاب حتى يهاب السيل, وكان خير ما يكون حين لا تظن نفس بنفس خيراً!

وأصبرُ من عودٍ وأهدى إذا سرى   ...   من النجم في داجٍ من الأرض غيهبُ

    وبينا نحن مُجِدّان في ضرب ظهر الأرض بسياط الإطارات؛ لاحت لناظرينا واحة خلّابة, فما أن أَمْعَنَّا البصر وأنعمنا من بعده النظر؛ إلا وقد أزمعنا النزول وتأجيل البحر للغد أو بعد الغد فليس خلفنا ما يُبكى عليه! وكما قالت العامّة: "مقيمين, وعَلَى عِدٍّ" فملنا يسبقنا شوقنا إلى شجرات سرحٍ وطلحاتٍ, كأنهن الأبكار بالزينة متبرجات, قد نشرن الغدائر, وسرحن الضفائر, على شاطئ ماءٍ يحكي سلاسل الفضة واللؤلؤ, فنزل صاحبي وهو يشدوا مع جميل بثينة:

أَعُدُّ الليالي ليلةً بعدَ ليلةٍ   ...   وقد كنتُ دهراً لا أعدُّ اللياليا

وددتُّ على حب الحياةِ لو اْنني   ...   يُزاد لها في عمرها من حياتيا

ألم تعلمي يا عذبةَ الماءِ أنَّنِي   ...   أظلُّ إذا لم أُسقَ ماءُكِ صادِيا

لقد خفتُ أن ألقى المنية بغتةً   ...   وفي النفس حاجات إليكِ كما هيا

    نزلنا ضحى, والسماء ملبّدةٌ بغيوم ليست ثقيلة, ثم رويداً بدا حاجبُ الشمس الذهبي, بانقشاع ذوائب السحائب, إلا من قزعات يتهادين نحو الأُفُق, فكشفت الجاريةُ _وهي الشمس_ قناعها, ولمع في أجنحة الطير ضياؤها, وذَهَّبَتْ أطرافَ الماء بسبائكَ مسلسلةٍ متماوجةٍ تتهادى متنافرة متقاربة, في لوحة قشيبةٍ فارهة فاخرة, فَذُكَاءُ _وهي الشمس_ تسبح بجلالٍ ووقارٍ تحت قبة الفلك الزرقاء.

    أصلحنا شأننا واسترحنا عامة الضحى, وَغَزَالةُ _وهي شمس الضحى_ترسل شعاعها, حتى إذا مَتَعَ النهار, وانتعل كلُّ شيءٍ ظِلَّهُ, ورمت بَرَاح _وهي الشمس_ بجمَراتِ الظهر, غير أن النسيم البارد كسر حرّها, لكن الجَوْنَةُ _وهي الشمس_ أبت بعد ذلك إلا رِماحاً ماضية, فملنا إلى ظل دوحتنا نجرجر أذيال الاستسلام..

    إنها الشمس بفخامتها وجلالها وبهائها وحياتها وكبريائها, سخّرها الله تعالى لخلقه وجعلها من جملة رزقه, لكن أكثر الناس ضلوا فلم يهتدوا, وكفروا حيثُ أُمِروا أن يَشكُرُوا, هي أكثر وثنٍ عُبِد من دون الله تعالى, وقد تتابعت أمم الأوثان على عبادتها وتعاورت على تأليهها, فلم تكد تخلُ أُمَّةُ من تأليهها, فسمّتها العربُ الإلهة وعبدتها, وعبّدوا لها أبناءهم فسمّوا عبد شمس, ونحتت لها الصابئةُ الهياكل وعبدتها, وما من أمة وثنية إلا جعلتها ضمن معبوداتها إن لم تجعلْها الكبرى, وجعلوا لها يوماً وهو الأحد (sun dy) أي: يوم الشمس, وأقاموا احتفالات وقرابين يوم اعتدالها الربيعي..وهكذا استطالت ضروب الوثنية فيها. وكلما رحل نبي كريم خَفَتَ نور دعوته ورسالته, واستجرت الشياطين فئاماً من بني آدم إلى عبادة الكواكب, وأعظمها الشمس!

     حتى ضرب الخافقين وقرع الأُفُقَيْن ناموس الإسلام ببعثة سيد الأنام عليه الصلوات والبركات والسلام, بأعظم كتاب أوحاه رب العالمين, فأقام للشمس نطاقها الذي لا تتجاوزه, فأظهر الله في القرآن أنها عابدة مربوبة مسبِّحةٌ بحمد ربها, فقال جل شأنه وعز اسمه: "والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره" وقال سبحانه: "والشمس تجري لمستقرٍّ لها ذلك تقدير العزيز العليم" وقال جل وعز: "هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون" وقال سبحانه: "وسخر الشمس والقمر كلٌّ يجري لأجل مسمّى" وقال جل ذكره: "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء" وقال سبحانه وبحمده في آية حاسمة: "ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إيّاه تعبدون" ثم بيّن نهاياتها وفناءها وخرابها وموتها بقوله العظيم المزلزل: "إذا الشمس كوّرت" فالحمد لله على نعمة التوحيد, فاثبت عليه حتى تلقى ربك أيها الحنيف..

    مرت ساعةٌ هادئة وادعة, وسكنت الريح فلم يرفّ غصن, ولم تهتز ورقة, ولم تختلج موجة ماء. وقد اضطجع صاحبي ورفع ساقه متكئاً بفَرْشِ قدمه على جذع الشجرة, عابثاً بإبهام قدمه في لحائها التليد, منشداً مع أبي صخر الهذلي:

أمَا والَّذي أبْكَى وأضْحَكَ وَالَّذِي ... أماتَ وأحْيا والَّذي أمْرُهُ الأَمْرُ

لَقَدْ تَرَكَتْنِي أحْسُدُ الوَحْشَ أنْ أرَى ... ألِيفَينِ منْها لا يَرُوعُهُما الذُّعْرُ

فَيا حُبَّها زِدْني جَوَىَّ كُلَّ لَيْلةٍ ... ويَا سَلْوَةَ الأيَّامِ مَوْعِدُكِ الْحَشْرُ

    ثم رفع كأس ماء ووضعه على وجهه وهو يقول:

    أشهد لأبي حيّة النميري بحذقه في صيدِ نوادرِ المعاني, انظر إلى بيته هذا حين ألقاه تصويراً مدهشاً لدموعه, فصاد المعنى الجزل باللفظ الفحل:

نظرتُ كأنِّي من وراءِ زجاجةٍ   ...   إلى الدَّارِ من فرطِ الكآبةِ انظرُ

    ثم سكب شيئاً من الماء على طرف شدقه كأنه يُلدّ, ثم قال: يا صاحبي هات من عنديّاتك. قلت: لا تستسمنْ ذا ورم! قال: هاتها على علّاتها. قلت: بما أنك ذاهب للبحر فخذ بمعيتك هذه المقطوعة برمزيتها:

ما ذا أقولُ وقد تقولُ الأنجمُ   ...   يا ساهراً بَتَّ الفراقَ لكاعبِ

يا قاصداً ثَبَجَ البحارِ ألا ارْعَوِ   ...   فلكم تجندلَ في المحيطِ الضَّاربِ

كم عبقريٍّ جُنَّ من ذبلِ اللّمى   ...   أو شئتَ شهماً قد قضى من حاجبِ

لهفي على عمْرٍ تَقَضَّىْ غافلاً   ...   وتركتُ للنفس السفيهةِ غاربي

يا صاحبي إن جُزْتَ قبرَيَ هائماً   ...   فانصحْ لنفسِك واعتبر بتجاربي

   كما قلت:

أبشرْ خليي فقد أجلتْ لنا الكُتُبُ   ...   نصرٌ من الله في الكُفّارِ يلتهبُ

أنجِدْ أُخَيَّ ولا تلوِ على ضَعَةٍ ...  واشف صدوراً شواها القهر والكرب

أشرق بوجهك قد حانت بوادره   ...   وعدٌ من الله للأحرار يقتربُ

تنزيلُ مرحمةٍ تنزيلُ ملحمةٍ   ...    تجنيدُ ألويةٍ صَمْصَامُها النُّجُبُ

نِبراسها العلمُ والتَّقوى تُؤَجِّجُهَا   ...   فُرقَانها سائقٌ إن صاحتِ النُّوَبُ

أوَّاهُ ما أروعَ الأبطال إذ حمَلوا   ...   همّ الديانة إن خافوا وإن سَغَبُوا

ما قال واحدهم همّي الحطام فقد   ...   صاغتْ مبادِئَهُمْ طه فما انقلبُوا

تناثرَ العلمُ شهداً من ثغورهِمُ   ...   أكرمْ بِهِ منبعاً للدين ينسكِبُ

إن تُبْلَ معركةٌ تلقى الكرامَ بها   ...  في ساعةِ الكربِ دوماً غِيلُهم أَشِبُ

إذا المبادئُ لم تُحْمَلْ مكرَّمة   ...   على الرِّقابِ فلا الأنفالُ تُرتقبُ

    ثم قلت: يا صاحبي إني سائلٌ خبيرَ فِقْهِكَ في شأن المحبين عن الفراق والوصل هل يزيدان وهج الحبّ أم ينقصانه؟ وعن عِشْرَةِ المتحابَّيْن هل يدوم معها حبٌّ؟  

   فقال وقد اعتدل في جلسته وأخذ يرمي الماء بحصيّات بين يديه: الحب كالسَّعفة, سريعة الاشتعال متوهجة متوقدة, أما المودة فهي كجمر الغضا تحت الرماد, يُدفئُ ما حوله بدون توهُّجٍ ويطول وجوده, فمن الجمر ما يبقى أياماً تحت الرماد وليس كدقائق السَّعَف. لذا فحُسْنُ العشرة والمودة هي الباقية, أما الحب فيزول سريعاً إن لن يكن له روافد.

    أما الوصل العارض والفراق الدائم, فالحَقُّ فيه أن الفراق المُيْئِس مع طول الزمان وكرور الأيام يُبرد جذوة الحب الكامنة, ويُنسي صولة الغرام القاهرة, كما أن الوصل التام الذي ترتوي فيه الأعضاء, وتداخل معه الأنحاء, وتُلصق معه الأكباد عارية على طول الوساد, مؤذنٌ بغروب شمس الهوى, مُغيض لعيون آبار الجوى, وكما عند ابن ماجه وغيره وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يُر للمتحابين مثل النكاح" ففي النكاح راحة من لهيب العشق وسعير الوجد, ومن شواهد ذلك قول جميل بثينة:

يموتُ الهوى منِّي إذا ما لقيتُها   ...   ويحيا إذا فارقتها فيعودُ

    وكما قال برنارد شو: الزواج هو أكبر حماقة يرتكبها العشاق. وقد قصد بذلك برود العشق وفتوره, ولكنه غفل عن نعيم المودة والرحمة الباقية مع الزواج.

    ولسنا بسبيل مطلق الحب, لكنِّمَا قصدنا العشقَ المُمِضَّ فالبلوى فيه مشهورة, والعجيجُ فيه معتاد, أما المحبة فباقية ما دام معها حُسْنُ معشر وحلاوة أخلاق. لذلك شَرَعَهُ من خَلَقَ النفوس وهذَّبَهَا, ومعلومٌ أن الحب إذا نكح فسد, لذا فمن هام في حبّه فسببه غالباً هجر ووصل, فلا هو باليائس الناسي, ولا بالواصل الرّاسي, فتتشعَّبُهُ البلابلُ, وتقلقله الأوهامُ, وتُقصِّفه الأمانيُّ. فأحبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنعا, وهذا هو الغالبُ, وإن كان في بعض بني الإنسان مثنويّة. والشيء من غير معدنه أغرب, وكما قال ابن ميَّادة:

أبِيتُ أُمنِّي النَّفس من لاعجِ الهوَى ... إذا كادَ بَرْحُ الشَّوق يُتلِفها وجْدا

مُنًى إنْ تكنْ حقّاً تكنْ أفضلَ المنَى ... وإلاَّ فقد عِشنا بها زَمَناً رَغْدا

    ولما قال الحازمُ: الأماني تخدعك وعند الحقائق تدعك, والأمنيات رأس مال المفاليس, ردّ المتفائلُ: بل الأملُ رفيق مؤنس, إن لم يُبلغك فقد أمتعك وألهاك. فقال الحاكم بينهما: الأمل أمنيةٌ مع عمل, أما بدونه فسراب بِقِيعة..وما أضيق العيش لولا فسحةُ الأمل!

     وتأمّل كيف زوجوا ليلى العامرية بورد العقيلي, فمات قيس عشقاً وولهاً بعدما ذهب عقله! وزوجوا بثينة نبيهاً, فمات جميل من العشق! وزوجوا أسماء بنت عوف برجل من مراد, فمات المرقَّشُ الأكبر دَنَفاً وغراماً! وزوجوا عفراء بغير عروة, فمات عشقا وكلفاً, فندبته حتى لحقته!

    فكل هؤلاء حُرموا الوصل التام, فالوصل التام يُذهبُ وَهَجَ الحبِّ, ويُشبع جَوْعَتَه, فالحب إذا تَمَّ وَصْلُهُ هَدَأَ وبَرَدَ, كما أن اليأس يُجفِّفُ منبعه, فاليأس مُنسي, أما التحرُّقُ والانتظار فهو مشعلٌ في الفؤاد أوار الهوى في تنُّور الاشتياق والحُرَق! ولله أبي الطيّب إذ يقول:

وأحلى الهوى ما شَكَّ في الوصلِ ربُّهُ   ...   وفي الهجرِ فهو الدَّهر يرجو ويتّقي

    وإذ يقول:

وما صَبَابَةُ مشتاقٍ على أملٍ   ...   من اللقاء كمشتاقٍ بلا أملِ

والهجرُ أقتلُ لي مما أفارقهُ   ...   أنا الغريقُ فما خوفي من البللِ

    قلت جَذِلاً لِذِكْرِ أبي الطيب: لا غرو, فهو الشاعر المطبوع, والفحلُ المُفَلِّق, والمجرِّب الحكيم, قال فيه ابن رشيق بعدما ذكر شعراء: ثم جاء أبو الطيب, فملأ الدنيا وشغل الناس.

   أليس هو القائل:

نصيبُك في حياتك من حبيبٍ   ...   نصيبك في منامك من خيالِ

رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتَّى   ...   فؤادي في غِشاءٍ من نِبَالِ

فصرتُ إذا أصابَتْنِي سهامٌ   ...  تكسَّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ

وهانَ فما أبالي بالرزايا   ...   لأني ما انتفعتُ بأن أُبالي

    وكان الفيلسوف المتأمل المتشائم أبو العلاء المعري إذا ذكر الشّعراء يقول: قال أبونُوَاس كذا, قال أبو تمّام كذا, قال البُحْتُريّ كذا..فإذا ذكر المتنبي قال: قال الشاعر: كذا, فرُوجعَ فقال: أليس هو القائل:

بَلِيْتُ بِلى الأطلالِ إن لم أَقَفْ بها   ...   وقوفَ شحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمهُ

    ومن رائعاته السائرة:

زارني في الظلامِ يطلبُ سِتراً   ...   فافتضحنا بنورهِ في الظلامِ

   وقوله:

وما كنت ممن يدخل العشق قلبَهُ   ...   ولكن من يبصرْ جفونَكِ يعشقُ

    وقوله:

والهَمُّ يخترمُ الجسيمَ نحافةً   ...   ويُشيبُ ناصيةَ الصبيِّ ويُهْرِمُ

    كذلك وهو تصويرٌ غايةٌ في الحسن:

ومما شجاني أَنَّها يومَ ودَّعتْ   ...   تولَّتْ وماءُ العين في الجَفْنِ حائرُ

فلمَّا أشارتْ من بعيدٍ بنظرةٍ   ...   إليَّ التفاتاً أسلمتْهَا المحاجرُ

    ووقف البلغاء معجبين بقوله:

وخصرٍ تُثْبَتُ الأحداقُ فيهِ   ...   كأنَّ عليه من حَدَقٍ نطاقا

    قال صاحبي: أينك عن قوله الرائق, بجرسه الشائق, وقد عاش أهلُ الأندلس ليالاً ملاحاً يردّدونه:

بادٍ هواكَ صبرتَ أم لم تصبرا   ...   وبُكاكَ إن لم يجر دمعُك أو جَرَى

كم غَرَّ صبرُكَ وابتسامكَ صاحباً   ...   لمّا رآك وفي الحشا ما لا يُرى

أَمَرَ الفُؤادُ لِسَانَهُ وَجُفُونَهُ   ...    فَكَتَمْنَهُ وَكَفَى بجِسْمِكَ مُخبِرَا

    ولم يأت بعد المتنبي حتى زماننا هذا من يضارعه أو يقاربه في سهولة شعره الممتنعة, وقد يصيد بعضهم شيئاً من ذلك ولكن ليست كاستمرارية أبي الطيب.

    وقد أعجبني قولُه لأحد أصحابه وقد أكثر الإلمام به حين مَرِضَ واعتل, فلما أبلّ قطعه: وصلتني أعزَّك الله معتلاًّ, وقطعتني مُبِلّاً, فإن رأيت ألّا تُكَدِّرَ الصِّحةَ عليَّ, وتُحبِّبَ العِلَّة إليَّ فعلتَ.

    قلت وأنا أُقِرُّ قِدْرَ الطعام وأَزِنُهُ فوق الأثافي: هذا يوم من أيام أبي الطيب, قد تطارحنا فيه بديع شعره.. فهل لك في شعر الفروسية والحماسة؟ أم أن خمر أبي الروقاء ليست تسكرُ؟

    قال: بل هي أخت النسيب, ولا خير في نسيب لا يركب متن الجسارة! وغُرَرُ الحماسة عندي ثلاث, وليست بدون مذهّبة عمرو بن كلثوم التغلبي, إن لم يفقْنَها سبكاً وبراعة, ويكفيك منهن باذخةُ عنترة بن شداد العبسي إذ يقول:

حَكِّمْ سيُوفَكَ في رقابِ العُذَّل   ...    وإذا نزلتْ بدار ذلَّ فارحلِ

وإذا بُليتَ بظالمٍ كُنْ ظالماً   ...   وإذا لقيتَ ذوي الجهالة ِ فاجهلِ

وإذا الجبانُ نهاكَ يوْمَ كريهة ٍ  ...    خوفاً عليكَ من ازدحام الجحفلِ

فاعْصِ مقالَتهُ ولا تَحْفلْ بها   ...   واقْدِمْ إذا حَقَّ اللِّقا في الأَوَّلِ

واختَرْ لِنَفْسِكَ منْزلاً تعْلو به    ...   أَوْ مُتْ كريماً تَحْتَ ظلِّ القَسْطَلِ

فالموتُ لا يُنْجيكَ منْ آفاتِهِ   ...    حصنٌ ولو شيدتهُ بالجندلِ

موتُ الفتى في عزهِ خيرٌ له   ...   منْ أنْ يبيتَ أسير طرفٍ أكحلِ

إنْ كُنْتُ في عددِ العبيدِ فَهمَّتي   ...    فوق الثريا والسماكِ الأعزلِ

أو أنكرتْ فرسانُ عبس نسبتي    ...   فسنان رمحي والحسام يقرُّ لي

وبذابلي ومُهَنَّدِي نلتُ العلاَ    ...   لا بالقرابة ِ والعديدِ الأَجزلِ

ورميتُ مهري في العجاجِ فخاضهُ   ...    والنَّارُ تقْدحُ منْ شفار الأَنْصُلِ

خاضَ العجاجَ محجلاً حتى إذا    ...   شهدَ الوقعية َ عاد غير محجلِ

وأَنا ابْنُ سوْداءِ الجبين كأَنَّها   ...    ضَبُعٌ تَرعْرَع في رُسومِ المنْزلِ

الساق منها مثلُ ساق نعامة ٍ   ...    والشَّعرُ منها مثْلُ حَبِّ الفُلْفُلِ

والثغر من تحتِ اللثام كأنه    ...   برْقٌ تلأْلأْ في الظّلامَ المُسدَلِ

يا نازلين على الحِمَى ودِيارِهِ   ...   هَلاَّ رأيتُمْ في الدِّيار تَقَلْقُلي

قد طال عِزُّكُم وذُلِّي في الهوَى   ...    ومن العَجائبِ عزُّكم وتذَلُّلي

لا تسقِنِي ماءَ الحياة ِ بذلَّة ٍ    ...   بل فاسقني بالعزَّ كأس الحنظلِ

ماءُ الحياة ِ بذلة ٍ كجهنم    ...   وجهنم بالعزَّ أطيبُ منزلِ

    وهو شاعر جاهلي فلا تستغرب بيته الفاجر الأخير, والحمد لله على نعمة الإسلام.

    والثانية تُروى للسموأل بن عاديا الأزدي نِسْبَةً اليهوديُّ ديانةً, وعند آخرين أنها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي الشاعر العباسي, وإليه مال المتأخرون, والإقحام وارد والانتحال كذلك. والقصيدة من البراعة بمكان أرفع, وخصلتان تملأ رأس العربيِّ شمماً؛ الشجاعة والسخاء, وقد جعلهما الشاعر قطب رحى قصيدته, مع غفلته عن القضاء والقدر في الآجال:

إِذا المَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِن اللُّؤْمِ عِرْضَهُ   ...   فكُلُّ رِداءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ

وإِنْ هُو لَمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمَها ... فَلَيْسَ إلى حُسْنِ الثَّناءِ سبيلُ

وقائِلَةٍ ما بالُ أُسْرَةِ عادِيا ... تَبارَى وفِيهمْ قِلَّةٌ وخُمُولُ

تُعَيِّرُنا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنا ... فقلتُ لها إِنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ

وما ضَرَّنا أَنَّا قَلِيلٌ وجَارُنا ... عَزِيزٌ وجارُ الأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ

وما قَلَّ مَنْ كانَتْ بَقاياهُ مثْلَنا ... شَبابٌ تَسامَى لِلْعُلا وَكُهُولُ

يُقَرِّبُ حُبُّ المَوْتِ آجالنَا لَنا ... وتَكْرَهُهُ آجالُهُمْ فتَطُولُ

وما ماتَ مِنَّا سَيِّدٌ حَتْفَ أَنْفِهِ ... ولا طُلَّ مِنَّا حَيْثُ كانَ قَتِيلُ

تَسِيلُ على حَدِّ الظُّباتِ نُفُوسنا ... ولَيْسَتْ على غَيْرِ الظُّباتِ تَسِيلُ

صَفَوْنا فَلَمْ نَكْدَرْ وأَخْلَصَ سِرَّنا ... إِناثٌ أَطابَتْ حَمْلَنا وفُحُولُ

عَلَوْنا إِلى خَيْرِ الظُّهُورِ وحَطَّنا ... لِوَقْتٍ إِلى خَيْرِ البُطُونِ نُزُولُ

فنَحْنُ كماءِ المُزْنِ ما فِي نِصابِنا ... كهَامٌ ولا فِينا يُعَدُّ بَخِيلُ

ونُنْكِرُ إِنْ شِينَا على النَّاسِ قَوْلَهُمْ ... ولا يُنْكِرُونَ القَوْلَ حِينَ نَقُولُ

إِذا سَيِّدٌ مِنَّا خَلا قامَ سَيِّدٌ ... قَؤُولٌ لِما قال الكِرامُ فَعُولُ

وما أُخْمِدَتْ نارٌ لنَا دُونَ طارِقٍ ... ولا ذَمَّنا في النَّازِلِينَ نَزِيلُ

وَأيَّامُنا مَشْهُورَةٌ في عَدُوِّنا ... لَها غُرَرٌ مَعْلُومَةٌ وحُجُولُ

وأَسْيافُنا في كُلِّ شَرْقٍ ومَغْرِبٍ ... بِها مِن قِراعِ الدَّارِعينَ فُلُولُ

مُعَوَّدَةً أَلاَّ تُسَلَّ نِصالُها ... فتُغْمَدَ حتَّى يُسْتَباحَ قَبِيلُ

سَلِي إِنْ جَهِلْت النَّاسَ عَنَّا وعَنْهُمُ ... فلَيْسَ سَواءً عالِمٌ وجَهُولُ

فإِنَّ بَنِي الدَّيّان قُطْبٌ لقَوْمِهِمْ ... تَدُورُ رحَاهُمْ حَوْلَهُمْ وتَجُولُ

    وثالثتها لبشار بن برد العقيلي, وهذا الرجل من أعاجيب البشر, ومن أهل الّلسَنِ والّلقن, وقد كان مثجّاً يسيل غرباً:

إِذَا المَلِكُ الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ ... مَشَيْنا إِليهِ بالسُّيوفِ نُعاتِبُهْ

وكُنَّا إِذا دَبَّ العَدُوُّ لِسُخْطِنا ... ورَاقَبَنا في ظاهِرٍ لا نُراقِبُهْ

دَلَفْنا له جَهْراً بكُلِّ مُثَقَّفٍ ... وأَبْيَضَ تَسْتَسْقِي الدِّماءَ مَضَاربُهْ

وجَيْشٍ كمِثْلِ الليلِ يَرْجُفُ بالحَصَى ... وبالشَّوْكِ والخَطِّيِّ حُمْرٌ ثَعالِبُهْ

غَدوْنا لهُ والشَّمسُ في خِدْرِ أُمِّهَا ... تُطالِعُنا والطَّلُ لم يَجْرِ ذائِبُهْ

بِضَرْبٍ يَذُوقُ المَوْتَ من ذاقَ طَعْمَهُ ... وتُدْرِكُ مَنْ نَجَّى الفِرارُ مثَالِبُهْ

كَأَنَّ مُثارَ النَقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنا ... وأَسْيافَنَا لَيْلٌ تَهاوَى كَواكِبُهْ

وأَرْعَنَ تَعْشَى الشَّمسُ دُونَ حَدِيدِه ... وتَخْلِسُ أَبْصارَ الكُماةِ كَتائِبُهْ

تَغَصُّ به الأَرضُ الفَضَاءُ إِذا غَدا ... تُزاحِمُ أَركانَ الجِبال مَناكِبُهْ

     فلما سمع الناس قصيدته الجبّارة تناقلوها وطاروا بها, وقال له بعضهم متعجّباً: إنك تقول:

كأنّ مُثَارَ النقعِ فوق رُؤوسنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهَاوَى كواكبُهْ

 ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه, فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط؟ فقال: إن عدم النظر, يقوِّي ذكاء القلب, ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء, فيتوفر حسه وتذكو قريحته.

    وقيل لبشار: إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت! قال: وما ذاك؟ قال: بينما تقول شعراً تثير به النقع وتخلع به القلوب مثل قولك :

إذا ما غَضِبنا عَضْبَةً مُضَرِيَّةً ... هَتكنا حِجابَ الشمس أو تُمْطِرَ الدَّمَا

إذا ما أعَرْنا سَيِّداً من قبيلةٍ ... ذُرَى مِنْبرٍ صلَّى علينا وسَلَّمَا

     ثم نراك تقول:

رَبَابَةُ رَبَّةُ البيتِ ... تَصُبُّ الخلَّ في الزَّيتِ

لها عَشْرُ دَجَاجَاتٍ ... ودِيكٌ حَسَنُ الصّوتِ

     فقال: لكلٍّ وجهٌ وموضعٌ, فالقول الأول جِدٌّ, وهذا قلته في ربابة جاريتي, وأنا لا آكل البيض من السوق, وربابة هذه لها عشر دجاجات وديك, فهي تجمع لي البيض وتحفظه عندها, فهذا عندها من قولي أحسن من:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنزِلِ ...  بسقط اللوى بين الدَّخول فحوملِ

    ثم قام صاحبي وهزَّ جذع شجرة قريب وتابع قوله: ومن معلقة ابن كلثوم, والتي لا بد أنها قد مرّت على قريحة قصيدة عبيد بن الأبرص الأسدي, فهي على طريقتها وسَنَنِهَا وشعاعها وإن كان التغلبيُّ قد فاق:

هَلاَّ سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْ ... دَةَ يومَ وَلَّوْا أَيْنَ أَينا

أَيَّامَ نَضْرِبُ هامَهُمُ ... بِبَواتِرٍ حتَّى انْحَنَيْنا

    وقد قام عمرو بن كلثوم بها مُفَلِّقاً قصائدَ غيره, في سوق عكاظ وفي موسم الحج وحُقّ له, فهي من نوادر الحماسيات المجلجلة, وقال وكأنما جدّه لأُمِّهِ الزير سالم يرافقه بقريضه:

أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِـكِ فَاصْبَحِينَا  ... وَلاَ تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا

وَمَا شَـرُّ الثَّلاَثَةِ أُمَّ عَمْـروٍ  ...   بِصَاحِبِكِ الَّذِي لاَ تَصْبَحِينَا

وَإِنَّا سَوْفَ تُدْرِكُنَا الْمَنَايَـا   ...  مُقَـدَّرَةً لَنَـا وَمُقَدَّرِيـنَا

قِفِي قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ظَعِينَا  ...  نُخَبِّرْكِ الْيَقِيـنَ وَتُخْبِرِينَـا

قِفِي نَسْأَلْكِ هَلْ أَحْدَثْتِ صَرْمَاً   ...  لِوَشْكِ البَيْنِ أَمْ خُنْتِ الأَمِينَا

بِيَوْمِ كَرِيهَةٍ ضَرْبَاً وَطَعْنَاً  ...  أَقَرَّ بِـهِ مَوَالِيـكِ العُيُونَـا

وَإِنَّ غَدَاً وَإِنَّ اليَـوْمَ رَهْـنٌ   ...  وَبَعْدَ غَدٍ بِمَلاَ تَعْلَمِينَـا

تُرِيكَ إذا دَخَلَتَ على خَلاَءٍ ... وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونَ الكاشِحينَا

ذِراعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ... تَرَبَّعَتِ الأَجَارِعَ والمُتُونَا

وَثَدْياً مِثْلَ حُقِّ العاجِ رَخْصاً ... حَصَاناً من أَكُفّ اللامِسِينَا

وَنَحْراً مِثْلَ ضوْءِ البَدْرِ وَافَى ... بِأَتمامٍ أَنَاساً مُدْلَجينَا

وَمَتَنَيْ لَدْنَةٍ طَالَتْ وَنَالَتْ ... رَوادِفُهَا تَنُوءُ بِمَا يَليِنَا

وَمَأْكَمَةً يَضيقُ البابُ عَنْهَا ... وَكَشْحاً قد جُنِنْتث بِهِ جُنُونَا

تَذَكّرْتُ الصِّبا واشْتَقْتُ لمّا ... رَأَيتُ حُمُولَها أُصُلاً حُدِينَا

وَأَعرَضتِ اليَمَامَةُ واشْمَخَرّتْ ... كَأَسيافٍ بِأَيدي مُصلِتينَا

أَبا هِندٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَينا ... وَأَنْظِرْنا نُخَبّرْكَ اليَقينَا

بِأَنّا نُورِدُ الرّاياتِ بِيضاً ... ونُصْدِرُهنّ حُمراً قَد رَوِينَا

فإنَّ الضِّغنَ بَعْدَ الضّغنِ يَفْشُو ... عَلَيْكَ وَيُخرجُ الدَّاءَ الدَّفينَا

وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ طِوالٍ ... عَصَينا المَلْكَ فيها أَنْ نَدينَا

وَسَيِّدِ مَعْشرٍ قَدْ تَوّجُوهُ ... بتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَرِينَا

تَرَكنا الخَيلَ عاكِفَةً عَليْهِ ... مُقَلَّدَةً أَعِنّتَها صُفُونَا

وَقَدْ هَرّتْ كِلابُ الحَيّ مِنّا ... وَشَذَّبْنا قَتَادَةَ مَنْ يَليِنَا

نَعُمّ أُناَسَنا وَنَعِفُّ عَنهم ... وَنَحمِلُ عَنْهُمُ ما حَمَّلُونَا

وَرِثنا المَجدَ قد عَلِمتْ مَعَدٌّ ... نُطاعِنُ دُونَهُ حتى يَبِينَا

ونحنُ إذا عِمادُ الحَربِ خَرّتْ ... على الأحفاض نَمنَعُ مَن يَلينا

نُطاعِنُ ما تَراخَى النّاسُ عنّا ... ونَضرِبُ بالسّيوفِ إذا غُشينَا

بسُمرٍ مِنْ قَنَا الخطيّ لُدْنٍ ... ذَوابِلَ أَو بِبِيض يَعْتَليِنَا

نَشُقّ بها رُؤوسَ القَومِ شَقّاً ... ونَخْتَلِبُ الرّقابَ فَيَخْتَلِينَا

تَخَالُ جَماجِمَ الأبطالِ مِنْهُمْ ... وُسُوقاً بالأماعِزِ يَرْتَمِينَا

نَجُذّ رُؤوسَهُم في غَيرِ وِترٍ ... ولا يَدرُونَ ماذا يَتّقُونَا

كَأَنَّ ثِيابَنا مِنّا وَمِنْهُم ... خُضبْنَ بأُرْجُوانٍ أَو طُلِينَا

كَأَنَّ سُيُوفَنا فِينَا وَفِيهِمْ ... مَخَاريقٌ بِأَيْدي لاعِبِينَا

بِفِتيانٍ يَرَوْنَ القَتْلَ مَجداً ... وَشِيبٍ في الحُرُوبِ مُجَرَّبِينَا

يُدَهدُونَ الرّؤوس كَمَا تُدَهدي ... حَزاوِرَةٌ بِأَبْطَحِها الكُرِينَا

بِأَيِّ مَشيئَةٍ عَمرَو بنَ هِنْدٍ ... نَكُونُ لِقَيْلكُمْ فيها قَطينَا

وَإنَّ قَنَاتَنا يا عَمُرو أَعْيَتْ ... على الأعداءِ قَبْلَكَ أَنْ تَلِينَا

متى تُعقَد قَرينَتُنا بِحَبلٍ ... تَجُذِّ الحبلَ أو تَقِصِ القرِينَا

ونحنٌُ الحابِسونَ لِذي أُراطٍ ... تَسِفُّ الجِلّةَ الخُورَ الدَّرِينَا

فكُنّا الأيْمَنينَ إذا أَلتَقَينَا ... وكانَ الأيسَرينَ بَنُوا أَبِينَا

فَصالُوا صَوْلَةً فيمَنْ يَليهِمْ ... وصُلنا صَوْلَةً فِيمَنْ يَلينَا

فآبُوا بالنِّهابِ وبالسّبَايَا ... وأُبْنَا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا

وَتَحمِلُنا غَداةَ الرَّوْعِ جُرْدٌ ... عُرِفنَ لَنَا نَقائِذَ وافْتُلينَا

وَرَدْنَ دَوارِعاً وَخَرَجْنَ شُعثاً ... كَأَمْثَالِ الرّصائِعِ قَد بَلينَا

ورِثناهُنّ عَن آبَاءِ صِدْقٍ ... وَنُورِثُها إذا مِتْنَا بَنِينَا

وَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُن غيرَ فَخْرٍ ... إذا قُبَبٌ بِأَبْطَحِهَا بُنِينَا

بِأَنَّا العاصِمُونَ إذا أُطِعنا ... وَأَنَّا الغارِمُونَ إذا عُصِينَا

وَأَنَّا المُنْعِمُونَ إذا قَدَرْنَا ... وَأَنّا المُهْلِكُونَ إذا أُتِينَا

وَأَنّا الحاكِمُونَ بما أَرَدْنا ... وأَنّا النّازِلونَ بِحَيْثُ شَينَا

وَأَنّا التّارِكُونَ لِمَا سَخِطنا ... وَأَنّا الآخِذُونَ لِمَا هَوِينَا

وَأَنّا الطّالِبونَ إذا نَقَمنا ... وأَنّا الضّارِبُونَ إذا ابتُلينَا

وأَنّا النّازِلُونَ بِكُلّ ثَغْرٍ ... يَخَافُ النّازِلُونَ بِهِ المَنُونَا

وَنشْرَبُ إنْ وَرَدْنا الماءَ صَفواً ... وَيَشْرَبُ غَيْرُنا كَدَراً وطِينَا

قَرَيناكُمْ فَعَجَّلْنا قِراكُمْ ... قُبَيلَ الصُّبحِ مِرْدادةً طَحُونَا

متى نَنقُلْ إلى قومٍ رَحَانَا ... يكونوا في اللِّقاءِ لَهَا طَحِينَا

على آثارِنا بِيض حِسَانٌ ... نُحاذِرُ أَنْ تُفارِقَ أَو تَهُونَا

وما مَنَع الظَّعائنَ مِثلُ ضرْبٍ ... تَرَى منهُ السَّواعِدَ كالقُلِينَا

إذا ما المَلْكُ سامَ النَّاسَ خَسفاً ... أَبَينا أَنْ نُقِرَّ الخَسَفَ فينَا

أَلا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا ... فَنَجهَلَ فوقَ جَهلِ الجاهِلينَا

وَنَعدو حَيْثُ لا يُعْدَى عَلَينا ... ونَضرِبُ بالمَواسي مَنْ يَلينَا

أَلا لا يَحْسَبِ الأعداءُ أَنَّا ... تَضعضعنا وأَنَّا قَد فَنِينَا

تَرانا بارِزِينَ وكلُّ حيٍ ... قَدِ اتَّخَذَوا مَخَافَتَنا قَرِينَا

كَأَنّا والسّيُوفُ مُسَلَّلاتٌ ... وَلَدْنا النّاسَ طُرّاً أَجمَعِينَا

مَلأْنا البَرَّ حتى ضاقَ عَنّا ... كَذاك البَحرَ نَملَؤهُ سَفِينَا

إذا بَلَغَ الفِطَامَ لَنا رَضيعٌ ... تَخِرُّ لَهُ الجَبابرُ ساجِدينَا

لَنَا الدُّنيا وَمَنْ أَضحَى عَلَيها ... ونَبطِشُ حينَ نَبطِشُ قَادِرِينَأ

تَنادَى المُصعَبانِ وآلُ بَكْرٍ ... ونادَوا يا لَكِندَةَ أَجْمَعِينَا

فإنْ نَغْلِبْ فغَلاَّبُونَ قِدْماً ... وَإنْ نُغلَبْ فَغَيْرُ مُغَلَّبينَا

    ولا شك أن الفخر الجاهلي قد تجاوز أصحابه حدود الطبيعة, ولكن لا حدود في الفخر عند سكان ذلك الزمان. وهي بلا شك معلّقة فاخرة فارهة, سهلة المأخذ قريبة المعنى عالية الصيت, وإن طبول الحرب فيها لتصكّ أذنيك, وبنو تغلب يعظمونها جداً, ويرويها صغارُهُمْ وكِبَارُهم حتى حسدتهم القبائل عليها فهجتهم بذلك, قال بعض شعراء بكر بن وائل وهم خصومهم وبنو عمومتهم!:

ألْهَى بني تَغْلِبٍ عن كل مَكْرُمةٍ ... قصيدةٌ قالها عمرُو بن كلثومِ

يَرْوُونها أبداً مُذْ كان أوَّلُهم ... يا للرجالِ لِشِعْرٍ غيرِ مسؤومِ

    وهو أبو الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك التغلبي الرَّبَعِي، وأمُّهُ هي ليلى بنت الفارس الشاعر الشهير المهلهل بن ربيعة المشهور بالزير سالم. وقد كان عمرو من أعزِّ الناس نفساً، وهو من الفُتَّاكِ الشجعان، ساد قومه تغلب وهو فتىً وعُمِّرَ طويلاً, وهو قاتل الملك عمرو بن هند, وذلك أن أُمَّ عمرو بن هند ادّعت يوماً أنها أشرف نساء العرب, فهي بنت ملوك الحيرة وزوجة ملك وأم ملك, فقالت إحدى جليساتها: ليلى بنت المهلهل أشرفُ منك, فعمُّها كليب وأبوها المهلهل, وزوجها كلثوم بن مالك أفرس العرب وولدها عمرو بن كلثوم سيد قومه, فأجابتها:  لأجعلنَّها خادمةً لي. ثم طلبت من ابنها عمرو بن هند أن يدعو عمرو بن كلثوم وأمه لزيارتهم فكان ذلك. وأثناء الضيافة حاولت أم الملك أن تُنْفذ عهدها؛ فأشارت إلى جفنةِ طعامٍ وقالت: يا ليلى ناوليني تلك الجفنة, فأجابتها: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها, فلمّا ألحّت عليها _ولعلّها أهانتها_ صرخت : يا ويلتاه, يا لذل تغلب! فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم وكان جالساً مع عمرو بن هند, فقام إلى سيف معلق وقتله به, ثم أَمَرَ رجاله خارج القصر فقاموا بنهبه. فانظر كيف تفعل الأنفة والحمية العربية صانعة مجد فرسانها, وللأسف والعجب أن نرى ونسمع أن بعض العرب العرباء ذووا العزة القعساء قد انتحلوا مذهباً رديئاً خسيساً يبيحُ عرض أحدهم وشرفه بما أسموه المتعة! فيا لَلعار والشنار!

     ولمّا حارب بنو تغلب المنذر بن ماء السماء لحقوا بالشام خوفاً منه، فمرّ بهم عمرو بن أبي حجر الغسّاني فلم يستقبلوه. وركب عمرو بن كلثوم فلقيه، فقال له الملك: ما منع قومك أن يتلقوني? قال: لم يعلموا بمرورك. فقال: لئن رجعت لأغزونّهم غزوة تتركهم أيقاظاً لقدومي. فقال عمرو: ما استيقظَ قوم قط إلاّ نَبُلَ رأيهم وعزّت جماعتهم، فلا توقظن نائمَهُم. فقال: كأنك تتوعّدني بهم، أما والله لتعلمنّ إذا نالت غطاريف غسّان الخيل في دياركم أن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها تجتثُّ أصولهم وينفى فلُّهم إلى اليابس الجرد والنازح الثمد. فرجع عمرو بن كلثوم عنه وجمع قومه وقال:

ألا فاعلمْ أبيتَ اللعنَ أنّا  ... على عمدٍ سنأتي ما نريدُ
ستعلمُ أنّ محملنا ثقيلٌ  ... وأنّ زِنادَ كبَّتنا شديدُ
وأنّا ليس حيٌّ من مَعِدٍّ  ... يوازينا إذا لُبسَ الحديدُ

فلما عاد الحارث الأعرج غزا بني تغلب، فاقتتلوا واشتد القتال بينهم, ثم انهزم الحارث وبنو غسّان, وقُتِلَ أخو الحارث في عدد كثير، فقال عمرو بن كلثوم:

هلاّ عطفتَ على أخيكَ إذا دَعَا  ...  بالثَّكْلِ ويل أبيك يا ابنَ أبي شَمِرْ
قذفَ الذي جشّمت نفسك واعترف  ... فيها أخاك وعامر بن أبي حُجُرْ

 إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

*****