سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ
(5)
وَيَبْقَى العُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
قصدنا خليج العرب _وإن رَغَمَتِ المجوسيَّة_
في رحلة سير طويلة, لنركب القارب, ونُجرِّبَ حظّنا في صيد الحوت, فلِصاحبي تجربة
قديمة في سالف الأيام في مضمار البحار, وقد أحب أن يستدعي الذكريات بركوب صيد السمك!
فوافقته مراعاة لخاطر الصحبة, وإلا فلا يعدل عندي شَمُّ عجاج الغيث المغبر بالترب
العذي شيء, ولَنسيم صَبَا رياض نجدٍ في أنفي أطيب من رائحة العروس الخريدة في أنف
العاشق الشبق, ولَقَطْعُ فيافيها وقت الربيع أحب إلي من حب الشيخ الموسر الكبير
لابنه الواحد الصغير, ومن الأعور لعينه الباصرة, والأجذم ليده الناصرة. وشتان عندي
بين طراد الخِرْبِ _وهو ذكر الحبارى_ بالحُرِّ , وبين صيد البحر! فليس لي في ركوب
البحر منزع, خلا شاطئه فهو معينٌ ثَرٌّ لواردات الأبيات وجمالات التأملات وراحة
التأوهات, أما ركوب البحر فيكفيني منه ساعات, شريطة أن يكون نهاراً فَلِلَّيلِ في
ظهر البحر رهبة لا أُحبّذها, وكما كتب
عمروٌ لعمرَ يصف له البحر: البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير, دودٌ على عود!
كنا نتحدّث ونحن في الطريق بنيِّتِنا في
الانغماس في أغوار البحر, وضَرْبِ أثباجه,
وصراع أمواجه, وتطرقنا متذكّرين لمناقشة رواية إرنست همنجواي التي دوّنها في
هافانا (الشيخ والبحر) التي قرأناها أيام الصّبا, ووددنا أن لم نقرأها حتى نعيد
متعة قراءتها من جديد, أو أن ننساها مرات لنستمتع بحبكتها كرّات, إذ سجّل فيها مع
حسن تصويره لروايته تأملاتِهِ العميقة في صراع الإنسان في حياته, وحكم الله النافذ
بأقداره, وهي عندي مع رواية (موبي ديك, الحوت الأبيض) لهيرمان ملفيل في قمة
الروايات البحريّة العالمية, لولا حشو لا طائل تحته في الثانية, ولعلَّهُ كَتَبَهَا
لأدب المدفأة في ليالي شتاء القارة العجوز وابنتها الظالمة!
بينما نحن نسير وقد اختصرنا الطريق عبر
النزول إلى الصحراء دون الأسفلت, فلصاحبي فلسفةٌ مفادها: أن رؤية الصحاري البكر
ليست كرؤية الصحاري المزوَّجات! وهكذا كنا نسير بفضل الله وستره, ثم جهاز تحديد
المواقع الالكتروني, وقَتَلَتْ أرضٌ جاهلَها وقتلَ أرْضاً عالِمُهَا, مع أن صاحبي
كان كما قيل: لا يَضِلّ حتى يضل النجم, ولا يهاب حتى يهاب السيل, وكان خير ما يكون
حين لا تظن نفس بنفس خيراً!
وأصبرُ من عودٍ وأهدى إذا سرى ...
من النجم في داجٍ من الأرض غيهبُ
وبينا نحن مُجِدّان في ضرب ظهر الأرض بسياط
الإطارات؛ لاحت لناظرينا واحة خلّابة, فما أن أَمْعَنَّا البصر وأنعمنا من بعده
النظر؛ إلا وقد أزمعنا النزول وتأجيل البحر للغد أو بعد الغد فليس خلفنا ما يُبكى
عليه! وكما قالت العامّة: "مقيمين, وعَلَى عِدٍّ" فملنا يسبقنا شوقنا إلى
شجرات سرحٍ وطلحاتٍ, كأنهن الأبكار بالزينة متبرجات, قد نشرن الغدائر, وسرحن
الضفائر, على شاطئ ماءٍ يحكي سلاسل الفضة واللؤلؤ, فنزل صاحبي وهو يشدوا مع جميل
بثينة:
أَعُدُّ الليالي ليلةً بعدَ ليلةٍ ...
وقد كنتُ دهراً لا أعدُّ اللياليا
وددتُّ على حب الحياةِ لو اْنني ...
يُزاد لها في عمرها من حياتيا
ألم تعلمي يا عذبةَ الماءِ أنَّنِي ...
أظلُّ إذا لم أُسقَ ماءُكِ صادِيا
لقد خفتُ أن ألقى المنية بغتةً ...
وفي النفس حاجات إليكِ كما هيا
نزلنا ضحى, والسماء ملبّدةٌ بغيوم ليست
ثقيلة, ثم رويداً بدا حاجبُ الشمس الذهبي, بانقشاع ذوائب السحائب, إلا من قزعات
يتهادين نحو الأُفُق, فكشفت الجاريةُ _وهي الشمس_ قناعها, ولمع في أجنحة الطير ضياؤها,
وذَهَّبَتْ أطرافَ الماء بسبائكَ مسلسلةٍ متماوجةٍ تتهادى متنافرة متقاربة, في
لوحة قشيبةٍ فارهة فاخرة, فَذُكَاءُ _وهي الشمس_ تسبح بجلالٍ ووقارٍ تحت قبة الفلك
الزرقاء.
أصلحنا شأننا واسترحنا عامة الضحى,
وَغَزَالةُ _وهي شمس الضحى_ترسل شعاعها, حتى إذا مَتَعَ النهار, وانتعل كلُّ شيءٍ
ظِلَّهُ, ورمت بَرَاح _وهي الشمس_ بجمَراتِ الظهر, غير أن النسيم البارد كسر
حرّها, لكن الجَوْنَةُ _وهي الشمس_ أبت بعد ذلك إلا رِماحاً ماضية, فملنا إلى ظل
دوحتنا نجرجر أذيال الاستسلام..
إنها الشمس بفخامتها وجلالها وبهائها وحياتها
وكبريائها, سخّرها الله تعالى لخلقه وجعلها من جملة رزقه, لكن أكثر الناس ضلوا فلم
يهتدوا, وكفروا حيثُ أُمِروا أن يَشكُرُوا, هي أكثر وثنٍ عُبِد من دون الله تعالى, وقد
تتابعت أمم الأوثان على عبادتها وتعاورت على تأليهها, فلم تكد تخلُ أُمَّةُ من
تأليهها, فسمّتها العربُ الإلهة وعبدتها, وعبّدوا لها أبناءهم فسمّوا عبد شمس,
ونحتت لها الصابئةُ الهياكل وعبدتها, وما من أمة وثنية إلا جعلتها ضمن معبوداتها
إن لم تجعلْها الكبرى, وجعلوا لها يوماً وهو الأحد (sun dy) أي: يوم الشمس, وأقاموا احتفالات وقرابين يوم اعتدالها الربيعي..وهكذا
استطالت ضروب الوثنية فيها. وكلما رحل نبي كريم خَفَتَ نور دعوته ورسالته, واستجرت
الشياطين فئاماً من بني آدم إلى عبادة الكواكب, وأعظمها الشمس!
حتى ضرب الخافقين وقرع الأُفُقَيْن ناموس
الإسلام ببعثة سيد الأنام عليه الصلوات والبركات والسلام, بأعظم كتاب أوحاه رب
العالمين, فأقام للشمس نطاقها الذي لا تتجاوزه, فأظهر الله في القرآن أنها عابدة
مربوبة مسبِّحةٌ بحمد ربها, فقال جل شأنه وعز اسمه: "والشمس والقمر والنجوم
مسخرات بأمره" وقال سبحانه: "والشمس تجري لمستقرٍّ لها ذلك تقدير العزيز
العليم" وقال جل وعز: "هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً لتعلموا
عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون" وقال
سبحانه: "وسخر الشمس والقمر كلٌّ يجري لأجل مسمّى" وقال جل ذكره:
"ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم
والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له
من مكرم إن الله يفعل ما يشاء" وقال سبحانه وبحمده في آية حاسمة: "ومن
آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي
خلقهن إن كنتم إيّاه تعبدون" ثم بيّن نهاياتها وفناءها وخرابها وموتها بقوله
العظيم المزلزل: "إذا الشمس كوّرت" فالحمد لله على نعمة التوحيد, فاثبت
عليه حتى تلقى ربك أيها الحنيف..
مرت ساعةٌ هادئة وادعة, وسكنت الريح فلم يرفّ
غصن, ولم تهتز ورقة, ولم تختلج موجة ماء. وقد اضطجع صاحبي ورفع ساقه متكئاً بفَرْشِ
قدمه على جذع الشجرة, عابثاً بإبهام قدمه في لحائها التليد, منشداً مع أبي صخر الهذلي:
أمَا والَّذي أبْكَى وأضْحَكَ وَالَّذِي
... أماتَ وأحْيا والَّذي أمْرُهُ الأَمْرُ
لَقَدْ تَرَكَتْنِي أحْسُدُ الوَحْشَ أنْ
أرَى ... ألِيفَينِ منْها لا يَرُوعُهُما الذُّعْرُ
فَيا حُبَّها زِدْني جَوَىَّ كُلَّ لَيْلةٍ
... ويَا سَلْوَةَ الأيَّامِ مَوْعِدُكِ الْحَشْرُ
ثم رفع كأس ماء ووضعه على وجهه وهو يقول:
أشهد لأبي حيّة النميري بحذقه في صيدِ نوادرِ
المعاني, انظر إلى بيته هذا حين ألقاه تصويراً مدهشاً لدموعه, فصاد المعنى الجزل
باللفظ الفحل:
نظرتُ كأنِّي من وراءِ زجاجةٍ ... إلى
الدَّارِ من فرطِ الكآبةِ انظرُ
ثم سكب شيئاً من الماء على طرف شدقه كأنه
يُلدّ, ثم قال: يا صاحبي هات من عنديّاتك. قلت: لا تستسمنْ ذا ورم! قال: هاتها على
علّاتها. قلت: بما أنك ذاهب للبحر فخذ بمعيتك هذه المقطوعة برمزيتها:
ما ذا أقولُ وقد تقولُ الأنجمُ ...
يا ساهراً بَتَّ الفراقَ لكاعبِ
يا قاصداً ثَبَجَ البحارِ ألا ارْعَوِ ...
فلكم تجندلَ في المحيطِ الضَّاربِ
كم عبقريٍّ جُنَّ من ذبلِ اللّمى ...
أو شئتَ شهماً قد قضى من حاجبِ
لهفي على عمْرٍ تَقَضَّىْ غافلاً ...
وتركتُ للنفس السفيهةِ غاربي
يا صاحبي إن جُزْتَ قبرَيَ هائماً ...
فانصحْ لنفسِك واعتبر بتجاربي
كما قلت:
أبشرْ خليي فقد أجلتْ لنا الكُتُبُ ...
نصرٌ من الله في الكُفّارِ يلتهبُ
أنجِدْ أُخَيَّ ولا تلوِ على ضَعَةٍ
... واشف صدوراً شواها القهر والكرب
أشرق بوجهك قد حانت بوادره ...
وعدٌ من الله للأحرار يقتربُ
تنزيلُ مرحمةٍ تنزيلُ ملحمةٍ ...
تجنيدُ ألويةٍ صَمْصَامُها النُّجُبُ
نِبراسها العلمُ والتَّقوى تُؤَجِّجُهَا ...
فُرقَانها سائقٌ إن صاحتِ النُّوَبُ
أوَّاهُ ما أروعَ الأبطال إذ حمَلوا ...
همّ الديانة إن خافوا وإن سَغَبُوا
ما قال واحدهم همّي الحطام فقد ...
صاغتْ مبادِئَهُمْ طه فما انقلبُوا
تناثرَ العلمُ شهداً من ثغورهِمُ ...
أكرمْ بِهِ منبعاً للدين ينسكِبُ
إن تُبْلَ معركةٌ تلقى الكرامَ بها ...
في ساعةِ الكربِ دوماً غِيلُهم أَشِبُ
إذا المبادئُ لم تُحْمَلْ مكرَّمة ...
على الرِّقابِ فلا الأنفالُ تُرتقبُ
ثم
قلت: يا صاحبي إني سائلٌ خبيرَ فِقْهِكَ في شأن المحبين عن الفراق والوصل هل
يزيدان وهج الحبّ أم ينقصانه؟ وعن عِشْرَةِ المتحابَّيْن هل يدوم معها حبٌّ؟
فقال وقد اعتدل في جلسته وأخذ يرمي الماء
بحصيّات بين يديه: الحب كالسَّعفة, سريعة
الاشتعال متوهجة متوقدة, أما المودة فهي كجمر الغضا تحت الرماد, يُدفئُ ما حوله
بدون توهُّجٍ ويطول وجوده, فمن الجمر ما يبقى أياماً تحت الرماد وليس كدقائق السَّعَف.
لذا فحُسْنُ العشرة والمودة هي الباقية, أما الحب فيزول سريعاً إن لن يكن له روافد.
أما الوصل العارض والفراق الدائم, فالحَقُّ فيه
أن الفراق المُيْئِس مع طول الزمان وكرور الأيام يُبرد جذوة الحب الكامنة, ويُنسي
صولة الغرام القاهرة, كما أن الوصل التام الذي ترتوي فيه الأعضاء, وتداخل معه
الأنحاء, وتُلصق معه الأكباد عارية على طول الوساد, مؤذنٌ بغروب شمس الهوى, مُغيض
لعيون آبار الجوى, وكما عند ابن ماجه وغيره وصححه الألباني أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "لم يُر للمتحابين مثل النكاح" ففي النكاح راحة من لهيب
العشق وسعير الوجد, ومن شواهد ذلك قول جميل بثينة:
يموتُ الهوى منِّي إذا ما لقيتُها ...
ويحيا إذا فارقتها فيعودُ
وكما قال برنارد شو: الزواج هو أكبر حماقة
يرتكبها العشاق. وقد قصد بذلك برود العشق وفتوره, ولكنه غفل عن نعيم المودة والرحمة
الباقية مع الزواج.
ولسنا بسبيل مطلق الحب, لكنِّمَا قصدنا
العشقَ المُمِضَّ فالبلوى فيه مشهورة, والعجيجُ فيه معتاد, أما المحبة فباقية ما
دام معها حُسْنُ معشر وحلاوة أخلاق. لذلك شَرَعَهُ من خَلَقَ النفوس وهذَّبَهَا, ومعلومٌ
أن الحب إذا نكح فسد, لذا فمن هام في حبّه فسببه غالباً هجر ووصل, فلا هو باليائس
الناسي, ولا بالواصل الرّاسي, فتتشعَّبُهُ البلابلُ, وتقلقله الأوهامُ, وتُقصِّفه
الأمانيُّ. فأحبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنعا, وهذا هو الغالبُ, وإن كان في بعض بني
الإنسان مثنويّة. والشيء من غير معدنه أغرب, وكما قال ابن ميَّادة:
أبِيتُ أُمنِّي النَّفس من لاعجِ الهوَى
... إذا كادَ بَرْحُ الشَّوق يُتلِفها وجْدا
مُنًى إنْ تكنْ حقّاً تكنْ أفضلَ المنَى
... وإلاَّ فقد عِشنا بها زَمَناً رَغْدا
ولما قال الحازمُ: الأماني تخدعك وعند
الحقائق تدعك, والأمنيات رأس مال المفاليس, ردّ المتفائلُ: بل الأملُ رفيق مؤنس,
إن لم يُبلغك فقد أمتعك وألهاك. فقال الحاكم بينهما: الأمل أمنيةٌ مع عمل, أما
بدونه فسراب بِقِيعة..وما أضيق العيش لولا فسحةُ الأمل!
وتأمّل كيف زوجوا ليلى العامرية بورد العقيلي,
فمات قيس عشقاً وولهاً بعدما ذهب عقله! وزوجوا بثينة نبيهاً, فمات جميل من العشق!
وزوجوا أسماء بنت عوف برجل من مراد, فمات المرقَّشُ الأكبر دَنَفاً وغراماً! وزوجوا
عفراء بغير عروة, فمات عشقا وكلفاً, فندبته حتى لحقته!
فكل هؤلاء حُرموا الوصل التام, فالوصل التام
يُذهبُ وَهَجَ الحبِّ, ويُشبع جَوْعَتَه, فالحب إذا تَمَّ وَصْلُهُ هَدَأَ وبَرَدَ,
كما أن اليأس يُجفِّفُ منبعه, فاليأس مُنسي, أما التحرُّقُ والانتظار فهو مشعلٌ في
الفؤاد أوار الهوى في تنُّور الاشتياق والحُرَق! ولله أبي الطيّب إذ يقول:
وأحلى الهوى ما شَكَّ في الوصلِ ربُّهُ ...
وفي الهجرِ فهو الدَّهر يرجو ويتّقي
وإذ يقول:
وما صَبَابَةُ مشتاقٍ على أملٍ ...
من اللقاء كمشتاقٍ بلا أملِ
والهجرُ أقتلُ لي مما أفارقهُ ... أنا
الغريقُ فما خوفي من البللِ
قلت جَذِلاً لِذِكْرِ أبي الطيب: لا غرو, فهو
الشاعر المطبوع, والفحلُ المُفَلِّق, والمجرِّب الحكيم, قال فيه ابن رشيق بعدما
ذكر شعراء: ثم جاء أبو الطيب, فملأ الدنيا وشغل الناس.
أليس هو القائل:
نصيبُك في حياتك من حبيبٍ ...
نصيبك في منامك من خيالِ
رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتَّى ...
فؤادي في غِشاءٍ من نِبَالِ
فصرتُ إذا أصابَتْنِي سهامٌ ...
تكسَّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ
وهانَ فما أبالي بالرزايا ...
لأني ما انتفعتُ بأن أُبالي
وكان الفيلسوف المتأمل المتشائم أبو العلاء
المعري إذا ذكر الشّعراء يقول: قال أبونُوَاس كذا, قال أبو تمّام كذا, قال البُحْتُريّ
كذا..فإذا ذكر المتنبي قال: قال الشاعر: كذا, فرُوجعَ فقال: أليس هو القائل:
بَلِيْتُ بِلى الأطلالِ إن لم أَقَفْ
بها ... وقوفَ شحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمهُ
ومن رائعاته السائرة:
زارني في الظلامِ يطلبُ سِتراً ...
فافتضحنا بنورهِ في الظلامِ
وقوله:
وما كنت ممن يدخل العشق قلبَهُ ...
ولكن من يبصرْ جفونَكِ يعشقُ
وقوله:
والهَمُّ يخترمُ الجسيمَ نحافةً ...
ويُشيبُ ناصيةَ الصبيِّ ويُهْرِمُ
كذلك وهو تصويرٌ غايةٌ في الحسن:
ومما شجاني أَنَّها يومَ ودَّعتْ ...
تولَّتْ وماءُ العين في الجَفْنِ حائرُ
فلمَّا أشارتْ من بعيدٍ بنظرةٍ ...
إليَّ التفاتاً أسلمتْهَا المحاجرُ
ووقف البلغاء معجبين بقوله:
وخصرٍ تُثْبَتُ الأحداقُ فيهِ ...
كأنَّ عليه من حَدَقٍ نطاقا
قال صاحبي: أينك عن قوله الرائق, بجرسه
الشائق, وقد عاش أهلُ الأندلس ليالاً ملاحاً يردّدونه:
بادٍ هواكَ صبرتَ أم لم تصبرا ...
وبُكاكَ إن لم يجر دمعُك أو جَرَى
كم غَرَّ صبرُكَ وابتسامكَ صاحباً ...
لمّا رآك وفي الحشا ما لا يُرى
أَمَرَ الفُؤادُ لِسَانَهُ وَجُفُونَهُ ... فَكَتَمْنَهُ وَكَفَى بجِسْمِكَ مُخبِرَا
ولم يأت بعد المتنبي حتى زماننا هذا من
يضارعه أو يقاربه في سهولة شعره الممتنعة, وقد يصيد بعضهم شيئاً من ذلك ولكن ليست
كاستمرارية أبي الطيب.
وقد أعجبني قولُه لأحد أصحابه وقد أكثر الإلمام
به حين مَرِضَ واعتل, فلما أبلّ قطعه: وصلتني أعزَّك الله معتلاًّ, وقطعتني
مُبِلّاً, فإن رأيت ألّا تُكَدِّرَ الصِّحةَ عليَّ, وتُحبِّبَ العِلَّة إليَّ فعلتَ.
قلت وأنا أُقِرُّ قِدْرَ الطعام وأَزِنُهُ
فوق الأثافي: هذا يوم من أيام أبي الطيب, قد تطارحنا فيه بديع شعره.. فهل لك في
شعر الفروسية والحماسة؟ أم أن خمر أبي الروقاء ليست تسكرُ؟
قال: بل هي أخت النسيب, ولا خير في نسيب لا
يركب متن الجسارة! وغُرَرُ الحماسة عندي ثلاث, وليست بدون مذهّبة عمرو بن كلثوم
التغلبي, إن لم يفقْنَها سبكاً وبراعة, ويكفيك منهن باذخةُ عنترة بن شداد العبسي
إذ يقول:
حَكِّمْ سيُوفَكَ في رقابِ العُذَّل ... وإذا نزلتْ بدار ذلَّ فارحلِ
وإذا بُليتَ بظالمٍ كُنْ ظالماً ...
وإذا لقيتَ ذوي الجهالة ِ فاجهلِ
وإذا الجبانُ نهاكَ يوْمَ كريهة ٍ ... خوفاً عليكَ من ازدحام الجحفلِ
فاعْصِ مقالَتهُ ولا تَحْفلْ بها ...
واقْدِمْ إذا حَقَّ اللِّقا في الأَوَّلِ
واختَرْ لِنَفْسِكَ منْزلاً تعْلو به ...
أَوْ مُتْ كريماً تَحْتَ ظلِّ القَسْطَلِ
فالموتُ لا يُنْجيكَ منْ آفاتِهِ ... حصنٌ ولو شيدتهُ بالجندلِ
موتُ الفتى في عزهِ خيرٌ له ... منْ أنْ يبيتَ أسير طرفٍ أكحلِ
إنْ كُنْتُ في عددِ العبيدِ فَهمَّتي ... فوق الثريا والسماكِ الأعزلِ
أو أنكرتْ فرسانُ عبس نسبتي ...
فسنان رمحي والحسام يقرُّ لي
وبذابلي ومُهَنَّدِي نلتُ العلاَ ...
لا بالقرابة ِ والعديدِ الأَجزلِ
ورميتُ مهري في العجاجِ فخاضهُ ... والنَّارُ تقْدحُ منْ شفار الأَنْصُلِ
خاضَ العجاجَ محجلاً حتى إذا ...
شهدَ الوقعية َ عاد غير محجلِ
وأَنا ابْنُ سوْداءِ الجبين كأَنَّها ... ضَبُعٌ تَرعْرَع في رُسومِ المنْزلِ
الساق منها مثلُ ساق نعامة ٍ ... والشَّعرُ منها مثْلُ حَبِّ الفُلْفُلِ
والثغر من تحتِ اللثام كأنه ...
برْقٌ تلأْلأْ في الظّلامَ المُسدَلِ
يا نازلين على الحِمَى ودِيارِهِ ...
هَلاَّ رأيتُمْ في الدِّيار تَقَلْقُلي
قد طال عِزُّكُم وذُلِّي في الهوَى ... ومن العَجائبِ عزُّكم وتذَلُّلي
لا تسقِنِي ماءَ الحياة ِ بذلَّة ٍ ...
بل فاسقني بالعزَّ كأس الحنظلِ
ماءُ الحياة ِ بذلة ٍ كجهنم ...
وجهنم بالعزَّ أطيبُ منزلِ
وهو شاعر جاهلي فلا تستغرب بيته الفاجر
الأخير, والحمد لله على نعمة الإسلام.
والثانية تُروى للسموأل بن عاديا الأزدي نِسْبَةً
اليهوديُّ ديانةً, وعند آخرين أنها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي الشاعر
العباسي, وإليه مال المتأخرون, والإقحام وارد والانتحال كذلك. والقصيدة من البراعة
بمكان أرفع, وخصلتان تملأ رأس العربيِّ شمماً؛ الشجاعة والسخاء, وقد جعلهما الشاعر
قطب رحى قصيدته, مع غفلته عن القضاء والقدر في الآجال:
إِذا المَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِن اللُّؤْمِ
عِرْضَهُ ... فكُلُّ
رِداءٍ يَرْتَدِيهِ جَمِيلُ
وإِنْ هُو لَمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمَها
... فَلَيْسَ إلى حُسْنِ الثَّناءِ سبيلُ
وقائِلَةٍ ما بالُ أُسْرَةِ عادِيا ... تَبارَى
وفِيهمْ قِلَّةٌ وخُمُولُ
تُعَيِّرُنا أَنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنا
... فقلتُ لها إِنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ
وما ضَرَّنا أَنَّا قَلِيلٌ وجَارُنا
... عَزِيزٌ وجارُ الأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ
وما قَلَّ مَنْ كانَتْ بَقاياهُ مثْلَنا
... شَبابٌ تَسامَى لِلْعُلا وَكُهُولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوْتِ آجالنَا لَنا
... وتَكْرَهُهُ آجالُهُمْ فتَطُولُ
وما ماتَ مِنَّا سَيِّدٌ حَتْفَ أَنْفِهِ
... ولا طُلَّ مِنَّا حَيْثُ كانَ قَتِيلُ
تَسِيلُ على حَدِّ الظُّباتِ نُفُوسنا
... ولَيْسَتْ على غَيْرِ الظُّباتِ تَسِيلُ
صَفَوْنا فَلَمْ نَكْدَرْ وأَخْلَصَ سِرَّنا
... إِناثٌ أَطابَتْ حَمْلَنا وفُحُولُ
عَلَوْنا إِلى خَيْرِ الظُّهُورِ وحَطَّنا
... لِوَقْتٍ إِلى خَيْرِ البُطُونِ نُزُولُ
فنَحْنُ كماءِ المُزْنِ ما فِي نِصابِنا
... كهَامٌ ولا فِينا يُعَدُّ بَخِيلُ
ونُنْكِرُ إِنْ شِينَا على النَّاسِ قَوْلَهُمْ
... ولا يُنْكِرُونَ القَوْلَ حِينَ نَقُولُ
إِذا سَيِّدٌ مِنَّا خَلا قامَ سَيِّدٌ
... قَؤُولٌ لِما قال الكِرامُ فَعُولُ
وما أُخْمِدَتْ نارٌ لنَا دُونَ طارِقٍ
... ولا ذَمَّنا في النَّازِلِينَ نَزِيلُ
وَأيَّامُنا مَشْهُورَةٌ في عَدُوِّنا
... لَها غُرَرٌ مَعْلُومَةٌ وحُجُولُ
وأَسْيافُنا في كُلِّ شَرْقٍ ومَغْرِبٍ
... بِها مِن قِراعِ الدَّارِعينَ فُلُولُ
مُعَوَّدَةً أَلاَّ تُسَلَّ نِصالُها
... فتُغْمَدَ حتَّى يُسْتَباحَ قَبِيلُ
سَلِي إِنْ جَهِلْت النَّاسَ عَنَّا وعَنْهُمُ
... فلَيْسَ سَواءً عالِمٌ وجَهُولُ
فإِنَّ بَنِي الدَّيّان قُطْبٌ لقَوْمِهِمْ
... تَدُورُ رحَاهُمْ حَوْلَهُمْ وتَجُولُ
وثالثتها لبشار بن برد العقيلي, وهذا الرجل
من أعاجيب البشر, ومن أهل الّلسَنِ والّلقن, وقد كان مثجّاً يسيل غرباً:
إِذَا المَلِكُ الجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ
... مَشَيْنا إِليهِ بالسُّيوفِ نُعاتِبُهْ
وكُنَّا إِذا دَبَّ العَدُوُّ لِسُخْطِنا
... ورَاقَبَنا في ظاهِرٍ لا نُراقِبُهْ
دَلَفْنا له جَهْراً بكُلِّ مُثَقَّفٍ
... وأَبْيَضَ تَسْتَسْقِي الدِّماءَ مَضَاربُهْ
وجَيْشٍ كمِثْلِ الليلِ يَرْجُفُ بالحَصَى
... وبالشَّوْكِ والخَطِّيِّ حُمْرٌ ثَعالِبُهْ
غَدوْنا لهُ والشَّمسُ في خِدْرِ
أُمِّهَا ... تُطالِعُنا والطَّلُ لم يَجْرِ ذائِبُهْ
بِضَرْبٍ يَذُوقُ المَوْتَ من ذاقَ طَعْمَهُ
... وتُدْرِكُ مَنْ نَجَّى الفِرارُ مثَالِبُهْ
كَأَنَّ مُثارَ النَقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنا
... وأَسْيافَنَا لَيْلٌ تَهاوَى كَواكِبُهْ
وأَرْعَنَ تَعْشَى الشَّمسُ دُونَ حَدِيدِه
... وتَخْلِسُ أَبْصارَ الكُماةِ كَتائِبُهْ
تَغَصُّ به الأَرضُ الفَضَاءُ إِذا غَدا
... تُزاحِمُ أَركانَ الجِبال مَناكِبُهْ
فلما سمع الناس قصيدته الجبّارة تناقلوها
وطاروا بها, وقال له بعضهم متعجّباً: إنك تقول:
كأنّ مُثَارَ النقعِ فوق رُؤوسنا ... وأسيافَنا
ليلٌ تَهَاوَى كواكبُهْ
ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه, فمن أين لك هذا
ولم تر الدنيا قط؟ فقال: إن عدم النظر, يقوِّي ذكاء القلب, ويقطع عنه الشغل بما ينظر
إليه من الأشياء, فيتوفر حسه وتذكو قريحته.
وقيل لبشار: إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت!
قال: وما ذاك؟ قال: بينما تقول شعراً تثير به النقع وتخلع به القلوب مثل قولك :
إذا ما غَضِبنا عَضْبَةً مُضَرِيَّةً
... هَتكنا حِجابَ الشمس أو تُمْطِرَ الدَّمَا
إذا ما أعَرْنا سَيِّداً من قبيلةٍ ... ذُرَى
مِنْبرٍ صلَّى علينا وسَلَّمَا
ثم نراك تقول:
رَبَابَةُ رَبَّةُ البيتِ ... تَصُبُّ الخلَّ
في الزَّيتِ
لها عَشْرُ دَجَاجَاتٍ ... ودِيكٌ حَسَنُ
الصّوتِ
فقال:
لكلٍّ وجهٌ وموضعٌ, فالقول الأول جِدٌّ, وهذا قلته في ربابة جاريتي, وأنا لا آكل البيض
من السوق, وربابة هذه لها عشر دجاجات وديك, فهي تجمع لي البيض وتحفظه عندها, فهذا عندها
من قولي أحسن من:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنزِلِ
... بسقط اللوى بين الدَّخول فحوملِ
ثم قام صاحبي وهزَّ جذع شجرة قريب وتابع
قوله: ومن معلقة ابن كلثوم, والتي لا بد أنها قد مرّت على قريحة قصيدة عبيد بن
الأبرص الأسدي, فهي على طريقتها وسَنَنِهَا وشعاعها وإن كان التغلبيُّ قد فاق:
هَلاَّ سَأَلْتَ جُمُوعَ كِنْ ... دَةَ يومَ
وَلَّوْا أَيْنَ أَينا
أَيَّامَ نَضْرِبُ هامَهُمُ ... بِبَواتِرٍ
حتَّى انْحَنَيْنا
وقد
قام عمرو بن كلثوم بها مُفَلِّقاً قصائدَ غيره, في سوق عكاظ وفي موسم الحج وحُقّ
له, فهي من نوادر الحماسيات المجلجلة, وقال وكأنما جدّه لأُمِّهِ الزير سالم
يرافقه بقريضه:
أَلاَ هُبِّي
بِصَحْنِـكِ فَاصْبَحِينَا ... وَلاَ
تُبْقِي خُمُورَ الأَنْدَرِينَا
وَمَا
شَـرُّ الثَّلاَثَةِ أُمَّ عَمْـروٍ
... بِصَاحِبِكِ الَّذِي لاَ تَصْبَحِينَا
وَإِنَّا
سَوْفَ تُدْرِكُنَا الْمَنَايَـا ... مُقَـدَّرَةً
لَنَـا وَمُقَدَّرِيـنَا
قِفِي
قَبْلَ التَّفَرُّقِ يَا ظَعِينَا ... نُخَبِّرْكِ الْيَقِيـنَ وَتُخْبِرِينَـا
قِفِي
نَسْأَلْكِ هَلْ أَحْدَثْتِ صَرْمَاً ... لِوَشْكِ
البَيْنِ أَمْ خُنْتِ الأَمِينَا
بِيَوْمِ
كَرِيهَةٍ ضَرْبَاً وَطَعْنَاً ... أَقَرَّ بِـهِ مَوَالِيـكِ العُيُونَـا
وَإِنَّ
غَدَاً وَإِنَّ اليَـوْمَ رَهْـنٌ ... وَبَعْدَ
غَدٍ بِمَلاَ تَعْلَمِينَـا
تُرِيكَ إذا دَخَلَتَ على خَلاَءٍ ... وَقَدْ
أَمِنَتْ عُيُونَ الكاشِحينَا
ذِراعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ ...
تَرَبَّعَتِ الأَجَارِعَ والمُتُونَا
وَثَدْياً مِثْلَ حُقِّ العاجِ رَخْصاً
... حَصَاناً من أَكُفّ اللامِسِينَا
وَنَحْراً مِثْلَ ضوْءِ البَدْرِ وَافَى
... بِأَتمامٍ أَنَاساً مُدْلَجينَا
وَمَتَنَيْ لَدْنَةٍ طَالَتْ وَنَالَتْ
... رَوادِفُهَا تَنُوءُ بِمَا يَليِنَا
وَمَأْكَمَةً يَضيقُ البابُ عَنْهَا ...
وَكَشْحاً قد جُنِنْتث بِهِ جُنُونَا
تَذَكّرْتُ الصِّبا واشْتَقْتُ لمّا ...
رَأَيتُ حُمُولَها أُصُلاً حُدِينَا
وَأَعرَضتِ اليَمَامَةُ واشْمَخَرّتْ
... كَأَسيافٍ بِأَيدي مُصلِتينَا
أَبا هِندٍ فَلا تَعْجَلْ عَلَينا ... وَأَنْظِرْنا
نُخَبّرْكَ اليَقينَا
بِأَنّا نُورِدُ الرّاياتِ بِيضاً ... ونُصْدِرُهنّ
حُمراً قَد رَوِينَا
فإنَّ الضِّغنَ بَعْدَ الضّغنِ يَفْشُو
... عَلَيْكَ وَيُخرجُ الدَّاءَ الدَّفينَا
وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ طِوالٍ ... عَصَينا
المَلْكَ فيها أَنْ نَدينَا
وَسَيِّدِ مَعْشرٍ قَدْ تَوّجُوهُ ... بتاجِ
المُلكِ يَحمي المُحجَرِينَا
تَرَكنا الخَيلَ عاكِفَةً عَليْهِ ... مُقَلَّدَةً
أَعِنّتَها صُفُونَا
وَقَدْ هَرّتْ كِلابُ الحَيّ مِنّا ... وَشَذَّبْنا
قَتَادَةَ مَنْ يَليِنَا
نَعُمّ أُناَسَنا وَنَعِفُّ عَنهم ... وَنَحمِلُ
عَنْهُمُ ما حَمَّلُونَا
وَرِثنا المَجدَ قد عَلِمتْ مَعَدٌّ ...
نُطاعِنُ دُونَهُ حتى يَبِينَا
ونحنُ إذا عِمادُ الحَربِ خَرّتْ ... على
الأحفاض نَمنَعُ مَن يَلينا
نُطاعِنُ ما تَراخَى النّاسُ عنّا ... ونَضرِبُ
بالسّيوفِ إذا غُشينَا
بسُمرٍ مِنْ قَنَا الخطيّ لُدْنٍ ... ذَوابِلَ
أَو بِبِيض يَعْتَليِنَا
نَشُقّ بها رُؤوسَ القَومِ شَقّاً ... ونَخْتَلِبُ
الرّقابَ فَيَخْتَلِينَا
تَخَالُ جَماجِمَ الأبطالِ مِنْهُمْ ...
وُسُوقاً بالأماعِزِ يَرْتَمِينَا
نَجُذّ رُؤوسَهُم في غَيرِ وِترٍ ... ولا
يَدرُونَ ماذا يَتّقُونَا
كَأَنَّ ثِيابَنا مِنّا وَمِنْهُم ... خُضبْنَ
بأُرْجُوانٍ أَو طُلِينَا
كَأَنَّ سُيُوفَنا فِينَا وَفِيهِمْ ...
مَخَاريقٌ بِأَيْدي لاعِبِينَا
بِفِتيانٍ يَرَوْنَ القَتْلَ مَجداً ...
وَشِيبٍ في الحُرُوبِ مُجَرَّبِينَا
يُدَهدُونَ الرّؤوس كَمَا تُدَهدي ... حَزاوِرَةٌ
بِأَبْطَحِها الكُرِينَا
بِأَيِّ مَشيئَةٍ عَمرَو بنَ هِنْدٍ ...
نَكُونُ لِقَيْلكُمْ فيها قَطينَا
وَإنَّ قَنَاتَنا يا عَمُرو أَعْيَتْ
... على الأعداءِ قَبْلَكَ أَنْ تَلِينَا
متى تُعقَد قَرينَتُنا بِحَبلٍ ... تَجُذِّ
الحبلَ أو تَقِصِ القرِينَا
ونحنٌُ الحابِسونَ لِذي أُراطٍ ... تَسِفُّ
الجِلّةَ الخُورَ الدَّرِينَا
فكُنّا الأيْمَنينَ إذا أَلتَقَينَا ...
وكانَ الأيسَرينَ بَنُوا أَبِينَا
فَصالُوا صَوْلَةً فيمَنْ يَليهِمْ ... وصُلنا
صَوْلَةً فِيمَنْ يَلينَا
فآبُوا بالنِّهابِ وبالسّبَايَا ... وأُبْنَا
بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا
وَتَحمِلُنا غَداةَ الرَّوْعِ جُرْدٌ
... عُرِفنَ لَنَا نَقائِذَ وافْتُلينَا
وَرَدْنَ دَوارِعاً وَخَرَجْنَ شُعثاً
... كَأَمْثَالِ الرّصائِعِ قَد بَلينَا
ورِثناهُنّ عَن آبَاءِ صِدْقٍ ... وَنُورِثُها
إذا مِتْنَا بَنِينَا
وَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُن غيرَ فَخْرٍ
... إذا قُبَبٌ بِأَبْطَحِهَا بُنِينَا
بِأَنَّا العاصِمُونَ إذا أُطِعنا ... وَأَنَّا
الغارِمُونَ إذا عُصِينَا
وَأَنَّا المُنْعِمُونَ إذا قَدَرْنَا
... وَأَنّا المُهْلِكُونَ إذا أُتِينَا
وَأَنّا الحاكِمُونَ بما أَرَدْنا ... وأَنّا
النّازِلونَ بِحَيْثُ شَينَا
وَأَنّا التّارِكُونَ لِمَا سَخِطنا ...
وَأَنّا الآخِذُونَ لِمَا هَوِينَا
وَأَنّا الطّالِبونَ إذا نَقَمنا ... وأَنّا
الضّارِبُونَ إذا ابتُلينَا
وأَنّا النّازِلُونَ بِكُلّ ثَغْرٍ ... يَخَافُ
النّازِلُونَ بِهِ المَنُونَا
وَنشْرَبُ إنْ وَرَدْنا الماءَ صَفواً
... وَيَشْرَبُ غَيْرُنا كَدَراً وطِينَا
قَرَيناكُمْ فَعَجَّلْنا قِراكُمْ ... قُبَيلَ
الصُّبحِ مِرْدادةً طَحُونَا
متى نَنقُلْ إلى قومٍ رَحَانَا ... يكونوا
في اللِّقاءِ لَهَا طَحِينَا
على آثارِنا بِيض حِسَانٌ ... نُحاذِرُ أَنْ
تُفارِقَ أَو تَهُونَا
وما مَنَع الظَّعائنَ مِثلُ ضرْبٍ ... تَرَى
منهُ السَّواعِدَ كالقُلِينَا
إذا ما المَلْكُ سامَ النَّاسَ خَسفاً
... أَبَينا أَنْ نُقِرَّ الخَسَفَ فينَا
أَلا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا ... فَنَجهَلَ
فوقَ جَهلِ الجاهِلينَا
وَنَعدو حَيْثُ لا يُعْدَى عَلَينا ... ونَضرِبُ
بالمَواسي مَنْ يَلينَا
أَلا لا يَحْسَبِ الأعداءُ أَنَّا ... تَضعضعنا
وأَنَّا قَد فَنِينَا
تَرانا بارِزِينَ وكلُّ حيٍ ... قَدِ اتَّخَذَوا
مَخَافَتَنا قَرِينَا
كَأَنّا والسّيُوفُ مُسَلَّلاتٌ ... وَلَدْنا
النّاسَ طُرّاً أَجمَعِينَا
مَلأْنا البَرَّ حتى ضاقَ عَنّا ... كَذاك
البَحرَ نَملَؤهُ سَفِينَا
إذا بَلَغَ الفِطَامَ لَنا رَضيعٌ ... تَخِرُّ
لَهُ الجَبابرُ ساجِدينَا
لَنَا الدُّنيا وَمَنْ أَضحَى عَلَيها
... ونَبطِشُ حينَ نَبطِشُ قَادِرِينَأ
تَنادَى المُصعَبانِ وآلُ بَكْرٍ ... ونادَوا
يا لَكِندَةَ أَجْمَعِينَا
فإنْ نَغْلِبْ فغَلاَّبُونَ قِدْماً ...
وَإنْ نُغلَبْ فَغَيْرُ مُغَلَّبينَا
ولا شك أن الفخر الجاهلي قد تجاوز أصحابه حدود
الطبيعة, ولكن لا حدود في الفخر عند سكان ذلك الزمان. وهي بلا شك معلّقة فاخرة
فارهة, سهلة المأخذ قريبة المعنى عالية الصيت, وإن طبول الحرب فيها لتصكّ أذنيك,
وبنو تغلب يعظمونها جداً, ويرويها صغارُهُمْ وكِبَارُهم حتى حسدتهم القبائل عليها
فهجتهم بذلك, قال بعض شعراء بكر بن وائل وهم خصومهم وبنو عمومتهم!:
ألْهَى بني تَغْلِبٍ عن كل مَكْرُمةٍ
... قصيدةٌ قالها عمرُو بن كلثومِ
يَرْوُونها أبداً مُذْ كان أوَّلُهم ...
يا للرجالِ لِشِعْرٍ غيرِ مسؤومِ
وهو أبو الأسود عمرو بن كلثوم بن مالك التغلبي
الرَّبَعِي، وأمُّهُ هي ليلى بنت الفارس الشاعر الشهير المهلهل بن ربيعة المشهور
بالزير سالم. وقد كان عمرو من أعزِّ الناس نفساً، وهو من الفُتَّاكِ
الشجعان، ساد قومه تغلب وهو فتىً وعُمِّرَ طويلاً, وهو قاتل الملك عمرو بن هند, وذلك أن
أُمَّ عمرو بن هند ادّعت يوماً أنها أشرف نساء العرب, فهي بنت ملوك الحيرة وزوجة ملك وأم ملك, فقالت إحدى جليساتها: ليلى
بنت المهلهل أشرفُ منك, فعمُّها كليب وأبوها المهلهل, وزوجها كلثوم بن مالك أفرس
العرب وولدها عمرو بن كلثوم سيد قومه, فأجابتها: لأجعلنَّها خادمةً لي. ثم طلبت من ابنها عمرو
بن هند أن يدعو عمرو بن كلثوم وأمه لزيارتهم فكان ذلك. وأثناء الضيافة
حاولت أم الملك أن تُنْفذ عهدها؛ فأشارت إلى جفنةِ طعامٍ وقالت: يا ليلى ناوليني
تلك الجفنة, فأجابتها: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها, فلمّا ألحّت عليها _ولعلّها
أهانتها_ صرخت : يا ويلتاه, يا لذل تغلب! فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم وكان جالساً مع عمرو بن هند,
فقام إلى سيف معلق وقتله به, ثم أَمَرَ رجاله خارج القصر فقاموا
بنهبه. فانظر كيف تفعل الأنفة والحمية العربية صانعة مجد فرسانها, وللأسف والعجب
أن نرى ونسمع أن بعض العرب العرباء ذووا العزة القعساء قد انتحلوا مذهباً رديئاً
خسيساً يبيحُ عرض أحدهم وشرفه بما أسموه المتعة! فيا لَلعار والشنار!
ولمّا
حارب بنو تغلب المنذر بن ماء السماء لحقوا بالشام خوفاً منه، فمرّ بهم عمرو بن أبي حجر
الغسّاني فلم يستقبلوه. وركب عمرو بن كلثوم فلقيه، فقال له الملك: ما منع قومك أن
يتلقوني? قال: لم يعلموا بمرورك. فقال: لئن رجعت لأغزونّهم غزوة تتركهم
أيقاظاً لقدومي. فقال عمرو: ما استيقظَ قوم قط إلاّ نَبُلَ رأيهم وعزّت جماعتهم، فلا
توقظن نائمَهُم. فقال: كأنك تتوعّدني بهم، أما والله لتعلمنّ إذا نالت غطاريف
غسّان الخيل في دياركم أن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها تجتثُّ أصولهم وينفى
فلُّهم إلى اليابس الجرد والنازح الثمد. فرجع عمرو بن كلثوم عنه وجمع قومه وقال:
ألا فاعلمْ أبيتَ اللعنَ أنّا ... على عمدٍ سنأتي ما نريدُ
ستعلمُ أنّ محملنا ثقيلٌ ... وأنّ زِنادَ كبَّتنا شديدُ
وأنّا ليس حيٌّ من مَعِدٍّ ... يوازينا
إذا لُبسَ الحديدُ
فلما عاد الحارث الأعرج غزا
بني تغلب، فاقتتلوا واشتد القتال بينهم, ثم انهزم الحارث وبنو غسّان, وقُتِلَ
أخو الحارث في عدد كثير، فقال عمرو بن كلثوم:
هلاّ عطفتَ على أخيكَ إذا دَعَا ... بالثَّكْلِ ويل أبيك يا ابنَ أبي شَمِرْ
قذفَ الذي جشّمت نفسك
واعترف ... فيها أخاك وعامر بن أبي حُجُرْ
aldumaiji@gmail.com
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق