"في
شأن الاحتفاء بالآثار" بيانٌ محرّر للإمام ابن باز رحمه الله تعالى.
الحمد لله, وصلى الله وسلم على رسول الله, وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهداه.
أما بعد: فقد اطلعت على ما نشرته صحيفة ... بقلم الأخ... تحت عنوان:
(الآثار الإسلامية) فألفيت الكاتب المذكور يدعو في مقاله المنوه عنه إلى تعظيم الآثار
الإسلامية, والعناية بها , يخشى أن تندثر ويجهلها الناس...الخ.
رأيت أن أعلق على هذا المقال بما يوضح الحق ويكشف اللبس بالأدلة الشرعية
والآثار السلفية, وأن أفصل القول فيما يحتاج إلى تفصيل, لأن التفصيل في مقام الاشتباه
من أهم المهمات, ومن خير الوسائل لإيضاح الحق, عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
« الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
» رواه مسلم, فأقول والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به:
قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو رد » أخرجه الشيخان وفي لفظ لمسلم : « من عمل عملا ليس عليه أمرنا
فهو رد » وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه
قال « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة أما بعد فإن خير
الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل
بدعة ضلالة » رواه مسلم.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وهذه الآثار التي ذكرها الكاتب كغار حراء
وغار ثور وبيت النبي صلى الله عليه وسلم ودار الأرقم بن أبي الأرقم ومحل بيعة الرضوان
وأشباهها إذا عظمت وعبدت طرقها وعملت لها المصاعد واللوحات لا تزار كما تزار آثار الفراعنة,
وآثار عظماء الكفرة, وإنما تزار للتعبد والتقرب إلى الله بذلك. وبذلك نكون بهذه الإجراءات
قد أحدثنا في الدين ما ليس منه, وشرعنا للناس ما لم يأذن به الله وهذا هو نفس المنكر
الذي حذر الله عز وجل منه في قوله سبحانه: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ
مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » وبقوله صلى الله عليه وسلم: « لتتبعن سنن من كان
قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى؟
قال فمن » متفق على صحته , ولو كان تعظيم الآثار بالوسائل التي ذكرها الكاتب وأشباهها
مما يحبه الله ورسوله لأمر به صلى الله عليه وسلم أو فعله, أو فعله أصحابه الكرام رضي
الله عنهم, فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الدين بل هو من المحدثات التي حذر
منها النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها أصحابه رضي الله عنهم. وقد ثبت عن أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أنكر تتبع آثار الأنبياء, وأمر بقطع الشجرة التي بويع
النبي صلى الله عليه وسلم تحتها في الحديبية لما قيل له إن بعض الناس يقصدها, حماية
لجناب التوحيد وحسما لوسائل الشرك والبدع والخرافات الجاهلية, وأنا أنقل لك أيها القارئ
ما ذكره بعض أهل العلم في هذا الباب لتكون على بينة من الأمر: قال الإمام أبو بكر محمد
بن الوليد الطرطوشي في كتابه (الحوادث والبدع) صفحة (135): (فصل في جوامع البدع) ثم
قال: وقال المعرور بن سويد خرجنا حجاجا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلقينا مسجدا
فجعل الناس يصلون فيه قال عمر أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم باتباع مثل هذا حتى
اتخذوها بيعا فمن عرضت له فيها صلاة فليصل ومن لم تعرض له صلاة فليمض ثم نقل في صفحة
(141) عن محمد بن وضاح أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى
الله عليه وسلم , لأن الناس كانوا يذهبون تحتها فخاف عمر الفتنة عليهم. ثم قال ابن
وضاح : ( وكان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي
بالمدينة ما عدا قباء وأحد , ودخل سفيان بيت المقدس وصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا
الصلاة فيها, وكذلك فعل غيره أيضا ممن يقتدى به, ثم قال ابن وضاح : فكم من أمر هو اليوم
معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى, وكم من متحبب إلى الله بما يبغضه الله
عليه ومتقرب إلى الله بما يبعده منه ). انتهى كلامه رحمه الله. وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله في صفحة (133) من جزء (26) من مجموع الفتاوى ما نصه: ( وأما صعود الجبل
الذي بعرفة ويسمى جبل الرحمة فليس سنة, وكذلك القبة التي فوقه التي يقال لها قبة آدم
لا يستحب دخولها ولا الصلاة فيها, والطواف بها من الكبائر وكذلك المساجد التي عند الجمرات
لا يستحب دخول شيء منها ولا الصلاة فيها, وأما الطواف بها أو بالصخرة أو بحجرة النبي
صلى الله عليه وسلم وما كان غير البيت العتيق فهو من أعظم البدع المحرمة ). وقال في
صفحة (144) من الجزء المذكور: (وأما زيارة المساجد التي بنيت بمكة غير المسجد الحرام
كالمسجد الذي تحت الصفا وما في سفح أبي قبيس ونحو ذلك من المساجد التي بنيت على آثار
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كمسجد المولد وغيره فليس قصد شيء من ذلك من السنة,
ولا استحبه أحد من الأئمة, وإنما المشروع إتيان المسجد الحرام خاصة, والمشاعر عرفة
ومزدلفة ومنى والصفا والمروة , وكذلك قصد الجبال والبقاع التي حول مكة غير المشاعر
عرفة ومزدلفة ومنى , مثل جبل حراء والجبل الذي عند منى الذي يقال إنه كان فيه قبة الفداء
ونحو ذلك فإنه ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك بل هو بدعة.
وكذلك ما يوجد في الطرقات من المساجد المبنية على الآثار والبقاع التي يقال إنها من
الآثار لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم زيارة شيء من ذلك), وقال في صفحة (134) من
الجزء (27) من المجموع المذكور: ( فصل: وأما قول السائل هل يجوز تعظيم مكان فيه خلوق
وزعفران لكون النبي صلى الله عليه وسلم رؤي عنده؟ فيقال بل تعظيم مثل هذه الأمكنة واتخاذها
مساجد ومزارات لأجل ذلك هو من أعمال أهل الكتاب الذين نهينا عن التشبه بهم فيها, وقد
ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان في السفر فرأى قوما يبتدرون مكانا فقال: ما
هذا؟ فقالوا: مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: ومكان صلى فيه رسول
الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ من أدركته فيه الصلاة
فليصل وإلا فليمض , وهذا قاله عمر بحضرة من الصحابة رضي الله عنهم, ومن المعلوم أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في أسفاره في مواضع, وكان المؤمنون يرونه في المنام
في مواضع, وما اتخذ السلف شيئا من ذلك مسجدا ولا مزارا, ولو فتح هذا الباب لصار كثير
من ديار المسلمين أو أكثرها مساجد ومزارات فإنهم لا يزالون يرون النبي صلى الله عليه
وسلم في المنام وقد جاء إلى بيوتهم, ومنهم من يراه مرارا كثيرة, وتخليق هذه الأمكنة
بدعة مكروهة إلى أن قال: ولم يأمر الله أن يتخذ مقام نبي من الأنبياء مصلى إلا مقام
إبراهيم بقوله: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } كما أنه لم يأمر
بالاستلام والتقبيل لحجر من الحجارة إلا الحجر الأسود, ولا بالصلاة إلى بيت إلا البيت
الحرام , ولا يجوز أن يقاس غير ذلك عليه باتفاق المسلمين بل ذلك بمنزلة من جعل للناس
حجا إلى غير البيت العتيق , أو صيام شهر مفروض غير صيام رمضان, وأمثال ذلك. ثم قال:
وقد تبين الجواب في سائر المسائل المذكورة بأن قصد الصلاة والدعاء عندما يقال أنه قدم
نبي أو أثر نبي أو قبر بعض الصحابة أو بعض الشيوخ أو بعض أهل البيت أو الأبراج أو الغيران
من البدع المحدثة المنكرة في الإسلام لم يشرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه, ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين
بل هو من أسباب الشرك وذرائعه ) والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الجواب, ثم قال في
صفحة (500) من الجزء المذكور: (ولم يكن أحد من الصحابة بعد الإسلام يذهب إلى غار ولا
يتحرى مثل ذلك فإنه لا يشرع لنا بعد الإسلام أن نقصد غيران الجبال ولا نتخلى فيها..
إلى أن قال: وأما قصد التخلي في كهوف الجبال وغيرانها, والسفر إلى الجبل للبركة مثل
جبل الطور وجبل حراء وجبل ثور أو نحو ذلك فهذا ليس بمشروع لنا بل قد قال صلى الله عليه
وسلم: « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد » رواه البخاري انتهى كلامه رحمه الله.
وقال ابن القيم رحمه الله في (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان) صفحة
(204) بعد كلام له سبق في التحذير من قصد القبور للتبرك بها, والدعاء عندها: ( وقد
أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير فروى غير واحد عن المعرور بن سويد قال صليت مع عمر
بن الخطاب رضي الله عنه في طريق مكة صلاة الصبح ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين
يذهب هؤلاء؟ فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم فهم يصلون
فيه فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس
وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمش ولا يتعمدها ، وكذلك
أرسل عمر رضي الله عنه أيضا فقطع الشجرة التي بايع تحتها أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم ) انتهى كلامه رحمه الله.
وكلام أهل العلم في هذا الباب كثير لا نحب أن نطيل على القارئ بنقله,
ولعل فيما نقلناه كفاية ومقنعا لطالب الحق.. إذا عرفت ما تقدم من الأدلة الشرعية وكلام
أهل العلم في هذا الباب علمت أن ما دعا إليه الكاتب المذكور من تعظيم الآثار الإسلامية
كغار ثور ومحل بيعة الرضوان وأشباهها وتعمير ما تهدم منها والدعوة إلى تعبيد الطرق
إليها, واتخاذ المصاعد لما كان مرتفعا منها كالغارين المذكورين واتخاذ الجميع مزارات
ووضع لوحات عليها, وتعيين مرشدين للزائرين- كل ذلك مخالف للشريعة الإسلامية التي جاءت
بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها, وسد ذرائع الشرك والبدع وحسم الوسائل
المفضية إليها. وعرفت أيضا أن البدع وذرائع الشرك يجب النهي عنها ولو حسن قصد فاعلها
أو الداعي إليها لما تفضي إليه من الفساد العظيم وتغيير معالم الدين وإحداث معابد ومزارات
وعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله عز وجل: { الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ
دِينًا{
فكل شيء لم يكن مشروعا في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه رضي الله
عنهم لا يمكن أن يكون مشروعا بعد ذلك, ولو فتح هذا الباب لفسد أمر الدين ودخل فيه ما
ليس منه, وأشبه المسلمون في ذلك ما كان عليه اليهود والنصارى من التلاعب بالأديان وتغييرها
على حسب أهوائهم واستحساناتهم وأغراضهم المتنوعة, ولهذا قال الإمام مالك بن أنس إمام
دار الهجرة في زمانه رحمه الله كلمة عظيمة وافقه عليها أهل العلم قاطبة, وهي قوله:
(لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها), ومراده بذلك أن الذي أصلح أولها هو التمسك
بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والسير على تعاليمهما, والحذر مما خالفهما,
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا هذا الأمر الذي صلح به أولها, ولقد صدق في ذلك رحمه الله
فإن الناس لما غيروا وبدلوا واعتنقوا البدع وأحدثوا الطرق المختلفة تفرقوا في دينهم,
والتبس عليهم أمرهم وصار كل حزب بما لديهم فرحون وطمع فيهم الأعداء, واستغلوا فرصة
الاختلاف وضعف الدين, واختلاف المقاصد, وتعصب كل طائفة لما أحدثته من الطرق المضلة,
والبدع المنكرة حتى آلت حال المسلمين إلى ما هو معلوم الآن من الضعف والاختلاف وتداعي
الأمم عليهم, فالواجب على أهل الإسلام جميعا هو الرجوع إلى دينهم والتمسك بتعاليمه
السمحة وأحكامه العادلة, وأخذها من منبعها الصافي: الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة,
والتواصي بذلك, والتكاتف على تحقيقه في جميع المجالات التشريعية والاقتصادية والسياسية
والاجتماعية وغير ذلك, والحذر كل الحذر من كل ما يخالف ذلك أو يفضي إلى التباسه أو
التشكيك فيه, وبذلك ترجع إلى المسلمين عزتهم المسلوبة, ويرجع إليهم مجدهم الأثيل وينصرهم
الله على أعدائهم ويمكن لهم في الأرض كما قال عز وجل: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ
بِي شَيْئًا }
وقال سبحانه : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } (1) { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ
عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }
وأما اقتراح الكاتب إدراج تاريخ هذه الآثار ضمن المقررات المدرسية على
مختلف المراحل فهذا حق ولا مانع منه إذا كان ذلك على سبيل الدعوة إلى التأسي برسول
الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من المشاق والأذى الشديد في سبيل الدعوة إلى الحق,
والتذكير بأحواله صلى الله عليه وسلم في بيته, وفي دار الأرقم , وفي غار ثور وحراء
, والاستفادة من الآيات والمعجزات التي حصلت في غار ثور , في مكة المكرمة , وفي طريق
الهجرة, وفي المدينة المنورة , وكون الله سبحانه حماه من مكائد أعدائه في جميع مراحل
الدعوة. لا شك أن التحدث عن هذه الأمور وما فيها من العبر والمعجزات, والدلالة على
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما دعا إليه, والشهادة له بأنه رسول الله حقا,
وما أيده الله به من الآيات والمعجزات كل ذلك مما يقوي الإيمان في القلوب, ويشرح صدور
المسلمين, ويحفزهم إلى التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والسير على منهاجه, والصبر
على دعوته, وتحمل ما قد يعرض للمسلم ولا سيما الداعية إلى الحق من أنواع المشاق والمتاعب,
ولقد أدرك علماء المسلمين هذه المعاني الجليلة, وصنفوا فيها الكتب, والرسائل وذكروها
في المقررات المدرسية على اختلاف أنواعها ومراحلها, ولا ريب أنه ينبغي للمسئولين عن
التعليم في جميع البلاد الإسلامية أن يعنوا بهذا الأمر, وأن يعطوه ما يستحقه من إيضاح
وتفصيل حتى تكون ناشئة المسلمين على غاية من البصيرة بما كان عليه نبيهم وإمامهم سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة, والأعمال الصالحة والجهاد الطويل
والصبر العظيم حتى لحق بربه وصار إلى الرفيق الأعلى عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا, وأن يوفقهم وقادتهم للتمسك بدين الله
والاستقامة عليه وتحكيمه, والتحاكم إليه, والسير على منهاجه القويم الذي ارتضاه لعباده
وتركهم عليه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , وسار عليه صحابته الكرام, وأتباعهم بإحسان,
إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وآله وصحبه. مجموع فتاوى ابن
باز - (1 / 401_410)
وقال رحمه الله تعالى _ردّا على مجموعة كتّاب في
نفس الموضوع ولكن من جوانب بعضها مختلف, كالسياحة ونحوها_ :
...ونظرا لما يؤدي إليه إحياء الآثار المتعلقة بالدين من مخاطر تمس العقيدة
أحببت إيضاح الحق وتأييد ماكتبه أهل العلم في ذلك والتعاون معهم على البر والتقوى والنصح
لله ولعباده وكشف الشبهة وإيضاح الحجة فأقول:
إن العناية بالآثار على الوجه الذي ذكر يؤدي إلى الشرك بالله جل وعلا;
لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها، والشرك بالله أنواعه كثيرة
غالب الناس لا يدركها، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة
يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها، وما فيها من أشجار أو أحجار، ويصلي عندها ويدعو
من نسبت إليه ظنا منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه ولحصول الشفاعة، وكشف الكربة ويعين
على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية في نفوسهم والذين يستغلون مثل هذه الآثار
لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم حتى يحصل بسبب ذلك على بعض الكسب المادي, وليس هناك
غالبا من يخبر زوارها بأن المقصود العبرة فقط بل الغالب العكس ويشاهد العاقل ذلك واضحا
في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة وأصبحوا يعبدونها من دون الله، ويطوفون بها
كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها أولياء فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله صلى
الله عليه وسلم, كما أن الشيطان لا يفتر في تحين الأوقات المناسبة لإضلال الناس، قال
الله تعالى عن الشيطان إنه قال: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
} { إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وقال أيضا سبحانه عن عدو الله الشيطان
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } {
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } وقد أغوى آدم فأخرجه
من الجنة مع أن الله سبحانه وتعالى حذره منه وبين له أنه عدوه كما قال تعالى: في سورة
طه { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَى }
ومن ذلك قصة بني إسرائيل مع السامري حينما وضع لهم من حليهم عجلا ليعبدوه
من دون الله فزين لهم الشيطان عبادته مع ظهور بطلانها، وثبت في جامع الترمذي وغيره
بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم
يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات
أنواط فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت
بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؛ لتركبن سنن من كان قبلكم » شبه قولهم
اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة
فدل ذلك على أن الاعتبار بالمعاني والمقاصد لا بمجرد الألفاظ، ولعظم جريمة الشرك وخطره
في إحباط العمل نرى الخليل عليه السلام يدعو الله له ولبنيه السلامة منه قال الله تعالى:
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ
} الآية فإذا خافه الأنبياء والرسل - وهم أشرف الخلق وأعلمهم بالله وأتقاهم له - فغيرهم
أولى وأحرى بأن يخاف عليه ذلك ويجب تحذيره منه كما يجب سد الذرائع الموصلة إليه.
ومهما عمل أهل الحق من احتياط أو تحفظ فلن يحول ذلك بين الجهال وبين المفاسد
المترتبة على تعظيم الآثار; لأن الناس يختلفون من حيث الفهم والتأثر والبحث عن الحق
اختلافا كثيرا ولذلك عبد قوم نوح عليه السلام ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا مع أن الأصل
في تصويرهم هو التذكير بأعمالهم الصالحة للتأسي والاقتداء بهم لا للغلو فيهم وعبادتهم
من دون الله ولكن الشيطان أنسى من جاء بعد من صورهم هذا المقصد وزين لهم عبادتهم من
دون الله وكان ذلك هو سبب الشرك في بني آدم روى ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه .
عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا
} قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما
هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا
وسموها بأسمائهم؛ ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت .
أما التمثيل بما فعله اليهود والنصارى ، فإن الله جل وعلا أمر بالحذر
من طريقهم; لأنه طريق ضلال وهلاك ولا يجوز التشبه بهم في أعمالهم المخالفة لشرعنا،
وهم معروفون بالضلال واتباع الهوى والتحريف لما جاء به أنبياؤهم فلهذا، ولغيره من أعمالهم
الضالة نهينا عن التشبه بهم وسلوك طريقهم والحاصل أن المفاسد التي ستنشأ عن الاعتناء
بالآثار وإحيائها محققة ولا يحصى كميتها وأنواعها وغاياتها إلا الله سبحانه، فوجب منع
إحيائها وسد الذرائع إلى ذلك ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم
أعلم الناس بدين الله وأحب الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكملهم نصحا لله
ولعباده ولم يحيوا هذه الآثار ولم يعظموها ولم يدعوا إلى إحيائها.
بل لما رأى عمر رضي الله عنه بعض الناس يذهب إلى الشجرة التي بويع النبي
صلى الله عليه وسلم تحتها أمر بقطعها؛ خوفا على الناس من الغلو فيها والشرك بها فشكر
له المسلمون ذلك وعدوه من مناقبه رضي الله عنه .
ولو كان إحياؤها أو زيارتها أمرا مشروعا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم
في مكة وبعد الهجرة أو أمر بذلك أو فعله أصحابه أو أرشدوا إليه، وسبق أنهم أعلم الناس
بشريعة الله وأحبهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وأنصحهم لله ولعباده ولم يحفظ عنه صلى
الله عليه وسلم ولا عنهم أنهم زاروا غار حراء حين كانوا بمكة أو غار ثور، ولم يفعلوا
ذلك أيضا حين عمرة القضاء، ولا عام الفتح ولا في حجة الوداع ولم يعرجوا على موضع خيمتي
أم معبد ولا محل شجرة البيعة فعلم أن زيارتها وتمهيد الطرق إليها أمر مبتدع لا أصل
له في شرع الله ، وهو من أعظم الوسائل إلى الشرك الأكبر ولما كان البناء على القبور
واتخاذ مساجد عليها من أعظم وسائل الشرك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعن
اليهود والنصارى على اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد وأخبر عمن يفعل ذلك أنهم شرار الخلق.
وقال فيما ثبت عنه في صحيح مسلم رحمه الله عن جندب بن عبد الله البجلي
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ألا وإن من كان قبلكم كانوا
يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
» ، وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال « نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه » زاد الترمذي بإسناد صحيح
« وأن يكتب عليه » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .
وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة على وجوب سد الذرائع القولية والفعلية،
واحتج العلماء على ذلك بأدلة لا تحصى كثرة، وذكر منها العلامة ابن القيم رحمه الله
في كتابه [إعلام الموقعين] تسعة وتسعين دليلا كلها تدل على وجوب سد الذرائع المفضية
إلى الشرك والمعاصي وذكر منها قول الله تعالى { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } الآية وقوله صلى
الله عليه وسلم: « لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس
» رواه مسلم, سدا لذريعة عبادة الشمس من دون الله .
ومنعا للتشبه بمن فعل ذلك كما ذكر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها
مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها
عيدا وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها وحرم
ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة .
فالواجب على علماء المسلمين وعلى ولاة أمرهم أن يسلكوا مسلك نبي الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في هذا الباب وغيره، وأن ينهوا عما نهى عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسدوا الذرائع والوسائل المفضية إلى الشرك والمعاصي
والغلو في الأنبياء والأولياء حماية لجناب التوحيد وسدا لطرق الشرك ووسائله والله المسئول
أن يصلح أحوال المسلمين وأن يفقههم في الدين وأن يوفق علماءهم وولاة أمرهم لما فيه
صلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة وأن يوفق قادة المسلمين لتحكيم شريعة الله والحكم
بها في كل شئونهم وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم, إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى
الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
مجموع فتاوى ابن باز - (3 / 335_340) وانظر ردّه على من نادى بالاحتفاء
بآثار مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في مجموع فتاواه: (1/ 391_400)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق