احذروا
كسر الباب!
الحمد لله وبعد: فلم يكن
الله سبحانه ليختار لنبيه سوى صفوة أمته وخلاصتهم ممن سيحيطون به ويحملون رسالته ويصونون
شريعته فهم صحابته الذين مات وهو راض عنهم واثق بهم محب لهم. فلهم عند ربه مكارم خاصة
بهم لا يدانيهم لها أيًّا من الأمة مهما علا كعب فضلهم, فقنطرتهم بعيدة المنال بل مستحيلة
النوال؛ لأن سبب فضلهم قد انقطع عما بعدهم. ومن تأمل سيرتهم أيقن صدقيّة تفضيلهم.
والطعن فيهم يتعدى بالتضمّن
للطعن في رسالتهم وهي الإسلام الخالص, وهذا من أهم ملاحظ الدفاع عنهم. وجملة ما روي
مما يغض منهم لا يخرج عن أن يكون مختلقًا أو مزيدًا أو منقوصًا مع قليلٍ صحيح ينغمر
في بحر فضلهم. فمما يؤسف له أن بعض المكثرين من الإخباريين فيهم تحامل وكذب كأبي مخنف
والواقدي وابن الكلبي وغيرهم.
ومن تأمل طبيعة الطاعنين
واللامزين وتدرجهم في النيل من الصحابة وجد أن القاعدة الابتدائية المضطردة له تبدأ
بالقدح في كاتب الوحي معاوية رضي الله عنه. لذا فعِرضه هو البوابة التي تدخل منها عاديات
الروافض وأشباههم. وقنطرة سب الصحابة هي استباحة عرض معاوية رضي الله عنه وعنهم, وتأمل
قول ابن المبارك رحمه الله: معاوية عندنا محنة ، فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتهمناه
على القوم، يعني الصحابة. وقال الربيع بن نافع الحلبي رحمه الله: معاوية ستر لأصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه.
وفوق ذلك فلمعاوية مناقب
خاصة منها كتابته الوحي ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له, فعند الترمذي وحسَّنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: "اللهم اجعله هاديا مهديا"
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "اللهم علمه الكتاب والحساب، وقِهِ العذاب" وعند ابن أبي شيبة وغيره
عن معاوية رضي الله عنه: ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه
وسلم يا معاوية، إذا ملكت فأحسن". وأخرج البخاري من طريق أم حرام بنت ملحان رضي
الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول جيش من أمتي يغزون
البحر قد أوجبوا" قالت أم حرام: قلت:
يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: "أنت فيهم" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر - أي القسطنطينية - مغفور لهم" فقلت:
أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: "لا" ومعاوية هو قائد الجيش الأول وابنه يزيد
هو قائد التالي. قال ابن حجر معنى أوجبوا: أي فعلوا فعلاً وجبت لهم به الجنة.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: لا تذكروا معاوية إلا بخير. وعن علي رضي الله عنه أنه قال بعد رجوعه من صفين:
أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية، فإنكم لو فقدتموها، رأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها
كأنها الحنظل. وقيل لابن عباس: هل لك في أمير معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال:
إنه فقيه.
وسأل رجلٌ المعافى بن عمران
فقال: يا أبا مسعود؛ أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟! فغضب غضباً شديداً
وقال: لا يقاس بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد، معاوية رضي الله عنه كاتبه وصاحبه
وصهره وأمينه على وحي الله عز وجل . وعن الأعمش أنه ذكر عنده عمر بن عبد العزيز وعدله،
فقال: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: يا أبا محمد تعني في حلمه؟ قال: لا والله بل في
عدله. وعن قتادة قال : لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم هذا المهدي.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة،
وهو أول الملوك، كان ملكه ملكاً ورحمة. وقال: فلم يكن من ملوك المسلمين خير من معاوية،
ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيراً منهم في زمان معاوية. وقال ابن خلدون: إن
دولة معاوية و أخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين وأخبارهم، فهو تاليهم
في الفضل والعدالة والصحبة.
إن معاوية من سادة الصحابة
رضي الله عنهم, فلا بد إذن من النظر لما روي عنه بعدل, نظرة شمولية كلية لا مجرد صور
مجتزأة من سياقاتها, أو روايات مفردة من مجمل الأحداث المؤثرة فيها. فما ورد مما شجر
في فتنة الاقتتال له محامل يجدها سليم الطوية على الأصحاب كلهم, كتأخير المبايعة للاقتصاص
من القتلة دون طلب الخلافة, ثم دخول أهل الفتنة بين الفريقين, ولله في ذلك حُكْم وحِكَم,
ونحو ذلك مما أورده الأئمة من معاذير له ولأصحابه ترفعهم فوق مستوى شبهات حب السلطة
ونحوها, إنما هي أولويات رأوا تقديمها مع عدم علمهم بما سيترتب على ذلك من مآسي, فمعلوم
أن ثّوَران وتسارع الأحداث الكبار تجعل حليم القوم حيرانًا, مع التسليم بأن أَولى الطائفتين
بالحق هو عليّ رضي الله عنه.
كذلك ما ذُكِر من تولية ابنه يزيد لما ظنّه يؤول
لحفظ بيضة الأمة من التصدع ووحدتها من الانشقاق بعدما رأى أنهار الدماء من قبل, هذا
وقد نتفق أو نختلف مع رؤيته ولكن لا بد من أخذ هذه الغاية الجليلة في الاعتبار. فابنه
يزيد ليس كما رواه الإخباريون واتهمه أعداؤه به من الفسق واللهو والفجور, فهو من جملة
التابعين وله سياسته وحزمه لولا تساهله مع قتلة السبط الشهيد الحسين رضي الله عنه,
وعدم اقتصاصه منهم, فقد اكتفى بسبهم ولعنهم, ولم يثبت أنه أمر بذلك أو فرح به أو أهان
أهل الحسين بل أكرمهم, وأشنع من ذلك فعله بأهل الحرة, وهو الجرم الذي لا يُمحى, مع
ذلك فهو من جملة المسلمين وهو قائد الجيش الذي قال صلى الله عليه وسلم فيهم إنهم قد
أوجبوا. فالعدل أن نَكِلَ أمره إلى الله وقد أفضى إلى ما قدّم.
و يروي ابن كثير أن عبد الله
بن مطيع مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى
عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب. فقال محمد:
ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده, فرأيته مواظباً على الصلاة متحرّياً للخير
يسأل عن الفقه ملازماً للسنة. قالوا: ذلك كان منه تصنعاً لك، فقال: وما الذي خاف مني
أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ ثُمَّ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان
أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا.
قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة،
ولست من أمركم في شيء.
قلت: ولا شك أن الخطأ في
العفو خير من الخطأ في العقوبة, فمظالم العباد شأنها عظيم, وكم لدماء الموتى من لاعق!
وقال شيخ الإسلام: افترق الناس في يزيد بن معاوية
بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط.. والقول الثالث: أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين,
له حسنات وسيئات, ولم يولد إلا في خلافة عثمان, ولم يكن كافراً, ولكن جرى بسببه ما
جرى من مصرع الحسين وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صحابياً ولا من أولياء الله الصالحين.
وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته,
وفرقة أحبته, وفرقة لا تسبه ولا تحبه, و هذا هو المنصوص عن الأمام أحمد وعليه المقتصدون
من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين.
قلت: فأمير المؤمنين معاوية
رضي الله عنه رأى أنه إن مات ولم يستخلف فستعود الفتنة جذعة, وهذا ما لا يطيقه مؤمن,
فاستشار أهل الشام، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية، فرشح ابنه يزيد,
فأجابه أهل الشام ومصر وغيرهم, ثم أرسل إلى المدينة يستشيرها فخالفه الحسين وابن الزبير
وابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عباس رضي الله عنهم وكلهم أفضل من ابنه, ولعله
خاف الافتراق والاختلاف فألزمهم بيعته, خاصة وأن مع ابنه مزيّة الجند والكثرة والخؤولة,
فظن أن سيُحسم الأمر قبل التفاقم.
وبالجملة فمن انطلق من قلب
سليم وفرح بوجود العذر؛ فسوف يجد لمعاوية أعذارًا فهو من جملة المجتهدين, ومن اجتهد
بعدل كان بين الأجر والأجرين, وأما من بدأ بسريرة غشٍّ ودغل؛ فسوف يجد من المرويات
المرسلة ما يُطعم حقده, والله الموعد. ثم يأتينا اليوم مِنْ فَجَرة الفَسَقة من يحكم
عليه بالنفاق والردة! ألا شُلَّ لسانُ من لَحِقَ الآل أو الأصحاب بسوء.
شاهد المقال أمران:
أحدهما: أن معاوية رضي الله
عنه بابٌ للصحابة, فمن رام كَسْره استباح سبهم ولو بعد حين. والثاني: أن من نظر لسيرته
بعدل وسلامة سريرة فسيجد له محامل حسنة في اجتهاداته التي قد يختلف معه فيها, فباب
اجتهاد أمثاله من الكبار واسع. وبخاصة في مسألتي
قتال علي رضي الله عنهما, وتولية ابنه يزيد من بعده.
ومضة: إذا أردت رؤية الجمال الحقيقي للوفاء؛ فتأمّل
فقط.. قبح الخيانة!
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق