سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ
اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ
الفصل الأخير
(14)
وألقَتْ عَصَاها واستقرّ
بِهَا النّوَى
عُدْنَا من حيث جئنا مرددين: آيبون تائبون عابدون لربنا
حامدون. وقد انقشعت بحمد الله عن صاحبي غيومُ الكآبة, وخلفتها أضواء البشر
والسعادة. وبينا كنتُ أقود كان صاحبي يقرأ بصوت مسموع من كتابٍ نفيسٍ أدمن قراءته
_وحُقَّ له_ لابن القيم موسومٍ بالجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي, ويسمّيه
بعضهم اختصاراً الداء والدواء. وابن القيم من نوادر أطباء القلوب, وله في التصنيف
فيها الحظّ الأوفى رحمه الله ورحم شيخه والمؤمنين, وكان مما قرأه _مع شيء من
الاختصار_:
الْعَبْدُ لَا يَتْرُكُ مَا يُحِبُّهُ
وَيَهْوَاهُ، وَلَكِنْ
يَتْرُكُ أَضْعَفَهُمَا مَحَبَّةً
لِأَقْوَاهُمَا مَحَبَّةً، كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ
مَا يَكْرَهُهُ؛ لِحُصُولِ مَا مَحَبَّتُهُ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنْ كَرَاهَةِ
مَا يَفْعَلُهُ، أَوْ لِخَلَاصِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ خَاصِّيَّةَ
الْعَقْلِ إِيثَارُ أَعْلَى الْمَحْبُوبَيْنِ عَلَى أَدْنَاهُمَا، وَأَيْسَرِ
الْمَكْرُوهَيْنِ عَلَى أَقْوَاهُمَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ كَمَالِ
قُوَّةِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ.
وَلَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا إِلَّا بِأَمْرَيْنِ:
قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ، وَشَجَاعَةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ
ذَلِكَ وَالْعَمَلَ بِخِلَافِهِ يَكُونُ إِمَّا لِضَعْفِ الْإِدْرَاكِ بِحَيْثُ
إِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ مَرَاتِبَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى مَا هِيَ
عَلَيْهِ، إِمَّا لِضَعْفٍ فِي النَّفْسِ، وَعَجْزٍ فِي الْقَلْبِ، بِحَيْثُ لَا
يُطَاوِعُهُ عَلَى إِيثَارِ الْأَصْلَحِ؛ لِرَفْعِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الْأَصْلَحُ،
فَإِذَا صَحَّ إِدْرَاكُهُ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ، وَتَشَجَّعَ قَلْبُهُ
عَلَى إِيثَارِ الْمَحْبُوبِ الْأَعْلَى وَالْمَكْرُوهِ الْأَدْنَى فَقَدْ وُفِّقَ
لِأَسْبَابِ السَّعَادَةِ.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ شَهْوَتِهِ
أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ عَقْلِهِ وَإِيمَانِهِ، فَيَقْهَرُ الْغَالِبُ الضَّعِيفَ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ إِيمَانِهِ وَعَقْلِهِ أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ
شَهْوَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَرْضَى يَحْمِيهِ الطَّبِيبُ عَمَّا
يَضُرُّهُ، فَتَأْبَى عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَشَهْوَتُهُ إِلَّا تَنَاوُلَهُ، وَيُقَدِّمُ
شَهْوَتَهُ عَلَى عَقْلِهِ، وَتُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ: عَدِيمَ الْمُرُوءَةِ،
فَهَكَذَا أَكْثَرُ مَرْضَى الْقُلُوبِ يُؤْثِرُونَ مَا يَزِيدُ مَرَضَهُمْ،
لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ لَهُ.
فَأَصْلُ الشَّرِّ مِنْ ضَعْفِ
الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِ النَّفْسِ
وَدَنَاءَتِهَا، وَأَصْلُ الْخَيْرِ مِنْ كَمَالِ الْإِدْرَاكِ
وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا وَشَجَاعَتِهَا. فَالْحُبُّ وَالْإِرَادَةُ
أَصْلُ كُلِّ فِعْلٍ وَمَبْدَؤُهُ، وَالْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ أَصْلُ
كُلِّ تَرْكٍ وَمَبْدَؤُهُ، وَهَاتَانِ الْقُوَّتَانِ فِي الْقَلْبِ، أَصْلُ سَعَادَةِ
الْعَبْدِ وَشَقَاوَتِهِ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ
الِاخْتِيَارِيَّيْنِ إِنَّمَا يُؤْثِرُهُ الْحَيُّ لِمَا
فِيهِ مِنْ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي
يَلْتَذُّ بِحُصُولِهَا،أَوْ زَوَالِ الْأَلَمِ الَّذِي
يَحْصُلُ لَهُ الشِّفَاءُ بِزَوَالِهِ، وَلِهَذَا
يُقَالُ: شَفَى صَدْرَهُ، وَشَفَى قَلْبَهُ، وَقَالَ:
هِيَ الشِّفَاءُ لِدَائِي لَوْ
ظَفِرْتُ بِهَا ... وَلَيْسَ مِنْهَا شِفَاءُ الدَّاءِ
مَبْذُولُ
وَهَذَا مَطْلُوبٌ يُؤْثِرُهُ
الْعَاقِلُ بَلِ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ، وَلَكِنْ يَغْلَطُ
فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ غَلَطًا قَبِيحًا، فَيَقْصِدُ
حُصُولَ اللَّذَّةِ بِمَا يُعَقِّبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ
الْأَلَمِ، فَيُؤْلِمُ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ
أَنَّهُ يُحَصِّلُ لَذَّتَهَا، وَيَشْفِي قَلْبَهُ بِمَا
يُعَقِّبُ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَرَضِ، وَهَذَا
شَأْنُ مَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الْعَاجِلِ وَلَمْ
يُلَاحِظِ الْعَوَاقِبَ، وَخَاصَّةً الْعَقْلُ النَّاظِرُ
فِي الْعَوَاقِبِ، فَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ آثَرَ
لَذَّتَهُ وَرَاحَتَهُ فِي الْآجِلَةِ الدَّائِمَةِ
عَلَى الْعَاجِلَةِ الْمُنْقَضِيَةِ الزَّائِلَةِ،
وَأَسْفَهُ الْخَلْقِ مَنْ بَاعَ نَعِيمَ الْأَبَدِ وَطَيِّبَ
الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَاللَّذَّةَ الْعُظْمَى
الَّتِي لَا تَنْغِيصَ فِيهَا وَلَا نَقْصَ بِوَجْهٍ مَا،
بِلَذَّةٍ مُنْقَضِيَةٍ مَشُوبَةٍ بِالْآلَامِ
وَالْمَخَاوِفِ، وَهِيَ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ وَشِيكَةُ
الِانْقِضَاءِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فَكَّرْتُ فِيمَا
يَسْعَى فِيهِ الْعُقَلَاءُ، فَرَأَيْتُ
سَعْيَهُمْ كُلِّهِمْ فِي مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ وَإِنِ
اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ، رَأَيْتَهُمْ
جَمِيعَهُمْ إِنَّمَا يَسْعَوْنَ فِي دَفْعِ الْهَمِّ
وَالْغَمِّ عَنْ نُفُوسِهِمْ، فَهَذَا بِالْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ، وَهَذَا بِالتِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ،
وَهَذَا بِالنِّكَاحِ، وَهَذَا بِسَمَاعِ الْغِنَاءِ
وَالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ، وَهَذَا بِاللَّهْوِ
وَاللَّعِبِ، فَقُلْتُ: هَذَا الْمَطْلُوبُ مَطْلُوبُ
الْعُقَلَاءِ، وَلَكِنَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا غَيْرُ
مُوَصِّلَةٍ إِلَيْهِ، بَلْ لَعَلَّ أَكْثَرَهَا
إِنَّمَا يُوَصِّلُ إِلَى ضِدِّهِ، وَلَمْ أَرَ فِي
جَمِيعِ هَذِهِ الطُّرُقِ طَرِيقًا مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ
إِلَّا الْإِقْبَالَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ،
وَمُعَامَلَتَهُ وَحْدَهُ، وَإِيثَارَ مَرْضَاتِهِ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ.
فَإِنَّ سَالِكَ هَذَا الطَّرِيقِ إِنْ
فَاتَهُ حَظُّهُ مِنَ الدُّنْيَا فَقَدْ ظَفِرَ
بِالْحَظِّ الْعَالِي الَّذِي لَا فَوْتَ مَعَهُ، وَإِنْ
حَصَلَ لِلْعَبْدِ حَصَلَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ
فَاتَهُ فَاتَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَإِنْ ظَفِرَ بِحَظِّهِ
مِنَ الدُّنْيَا نَالَهُ عَلَى أَهْنَأِ الْوُجُوهِ،
فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْفَعُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ، وَلَا أَوْصَلُ
مِنْهَا إِلَى لَذَّتِهِ وَبَهْجَتِهِ وَسَعَادَتِهِ، وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيقُ.
وَالْمَحْبُوبُ قِسْمَانِ: مَحْبُوبٌ لِنَفْسِهِ،
وَمَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ، وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ، لَا
بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَحْبُوبِ لِنَفْسِهِ،
دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْمُحَالِ، وَكُلُّ مَا
سِوَى الْمَحْبُوبِ الْحَقِّ فَهُوَ مَحْبُوبٌ
لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُحَبُّ لِذَاتِهِ إِلَّا اللَّهَ
وَحْدَهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِمَّا يُحَبُّ فَإِنَّمَا
مَحَبَّتُهُ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى، كَمَحَبَّةِ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ
وَأَوْلِيَائِهِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِمَحَبَّتِهِ
سُبْحَانَهُ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّتِهِ، فَإِنَّ
مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ تُوجِبُ مَحَبَّةَ مَا
يُحِبُّهُ، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ،
فَإِنَّهُ مَحَلُّ فُرْقَانٍ بَيْنَ الْمَحَبَّةِ
النَّافِعَةِ لِغَيْرِهِ، وَالَّتِي لَا تَنْفَعُ بَلْ
قَدْ تَضُرُّ.
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إِلَّا مَنْ كَانَ
كَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَإِلَهِيَّتُهُ
وَرُبُوبِيَّتُهُ وَغِنَاهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ،
وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُبْغَضُ وَيُكْرَهُ
لِمُنَافَاتِهِ مَحَابِّهُ وَمُضَادَّتِهِ لَهَا، وَبُغْضُهُ
وَكَرَاهَتُهُ بِحَسَبِ قُوَّةِ هَذِهِ الْمُنَافَاةِ
وَضَعْفِهَا، فَمَا كَانَ أَشَدَّ مُنَافَاةً
لِمَحَابِّهِ، كَانَ أَشَدَّ كَرَاهَةً مِنَ الْأَعْيَانِ
وَالْأَوْصَافِ وَالْأَفْعَالِ وَالْإِرَادَاتِ
وَغَيْرِهَا، فَهَذَا مِيزَانٌ عَادِلٌ تُوزَنُ بِهِ
مُوَافَقَةُ الرَّبِّ وَمُخَالَفَتُهُ وَمُوَالَاتُهُ
وَمُعَادَاتُهُ، فَإِذَا رَأَيْنَا شَخْصًا يُحِبُّ مَا
يَكْرَهُهُ الرَّبُّ تَعَالَى وَيَكْرَهُ مَا
يُحِبُّهُ، عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ مِنْ مُعَادَاتِهِ
بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَيْنَا الشَّخْصَ يُحِبُّ
مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ،
وَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبَّ إِلَى الرَّبِّ
كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَآثَرَهُ عِنْدَهُ، وَكُلَّمَا
كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ
وَأَبْعَدَ مِنْهُ، عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ مِنْ مُوَالَاةِ
الرَّبِّ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
فَتَمَسَّكْ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي نَفْسِكَ وَفِي غَيْرِكَ، فَالْوِلَايَةُ عِبَارَةٌ
عَنْ مُوَافَقَةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ فِي
مَحَابِّهِ وَمَسَاخِطِهِ، وَلَيْسَتْ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ
وَلَا صَلَاةٍ وَلَا تَمَزُّقٍ وَلَا رِيَاضَةٍ.
وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ قِسْمَانِ
أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: مَا
يَلْتَذُّ الْمُحِبُّ بِإِدْرَاكِهِ
وَحُصُولِهِ.
وَالثَّانِي: مَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ،
كَشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ، قَالَ تَعَالَى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ
لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ" فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقِتَالَ مَكْرُوهٌ لَهُمْ مَعَ
أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى
أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ وَأَنْفَعِهِ، وَالنُّفُوسُ تَحْتَ
الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، ذَلِكَ شَرٌّ
لَهَا لِإِفْضَائِهِ إِلَى فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ،
فَالْعَاقِلُ لَا يَنْظُرُ إِلَى لَذَّةِ الْمَحْبُوبِ
الْعَاجِلِ فَيُؤْثِرُهَا، وَأَلَمِ الْمَكْرُوهِ
الْعَاجِلِ فَيَرْغَبُ عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ
شَرًّا لَهُ، بَلْ قَدْ يَجْلِبُ عَلَيْهِ غَايَةَ
الْأَلَمِ وَيُفَوِّتُهُ أَعْظَمَ اللَّذَّةِ، بَلْ
عُقَلَاءُ الدُّنْيَا يَتَحَمَّلُونَ الْمَشَاقَّ
الْمَكْرُوهَةَ لِمَا يُعْقِبُهُمْ مِنَ اللَّذَّةِ
بَعْدَهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً.
فَالْأُمُورُ أَرْبَعَةٌ: مَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، وَمَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَحْبُوبٍ،
وَمَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَحْبُوبٍ،
وَمَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، فَالْمَحْبُوبُ
الْمُوَصِّلُ إِلَى الْمَحْبُوبِ قَدِ اجْتَمَعَ
فِيهِ دَاعِيَ الْفِعْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ،
وَالْمَكْرُوهُ الْمُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ، قَدِ
اجْتَمَعَ فِيهِ دَاعِي التَّرْكِ مِنْ وَجْهَيْنِ.
بَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ
يَتَجَاذَبُهُمَا الدَّاعِيَانِ _وَهُمَا
مُعْتَرَكُ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ_ فَالنَّفْسُ
تُؤْثِرُ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا مِنْهَا، وَهُوَ
الْعَاجِلُ، وَالْعَقْلُ وَالْإِيمَانُ يُؤْثِرُ
أَنْفَعَهُمَا وَأَبْقَاهُمَا، وَالْقَلْبُ بَيْنَ
الدَّاعِيَيْنِ، وَهُوَ إِلَى هَذَا مَرَّةً، وَإِلَى
هَذَا مَرَّةً، وَهَاهُنَا مَحَلُّ الِابْتِلَاءِ شَرْعًا
وَقَدَرًا، فَدَاعِي الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ
يُنَادِي كُلَّ وَقْتٍ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، عِنْدَ
الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى، وَفِي
الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْعَبْدُ التُّقَى، فَإِنِ
اشْتَدَّ ظَلَامُ لَيْلِ الْمَحَبَّةِ، وَتَحَكَّمَ
سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ، يَقُولُ: يَا
نَفْسُ اصْبِرِي:
فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ
ثُمَّ تَنْقَضِي ... وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ
وَالْحُبُّ
أَصْلَ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ،
فَأَصْلُ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ حُبُّ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ، كَمَا أَصْلُ الْأَقْوَالِ الدِّينِيَّةِ
تَصْدِيقُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلُّ إِرَادَةٍ
تَمْنَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُزَاحِمُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ أَوْ شُبْهَةٍ تَمْنَعُ
كَمَالَ التَّصْدِيقِ، فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِأَصْلِ
الْإِيمَانِ أَوْ مُضْعِفَةٌ لَهُ، فَإِنْ قَوِيَتْ
حَتَّى عَارَضَتْ أَصْلَ الْحُبِّ وَالتَّصْدِيقِ كَانَتْ
كُفْرًا أَوْ شِرْكًا أَكْبَرَ، وَإِنْ لَمْ
تُعَارِضْهُ قَدَحَتْ فِي كَمَالِهِ، وَأَثَّرَتْ فِيهِ
ضَعْفًا وَفُتُورًا فِي الْعَزِيمَةِ وَالطَّلَبِ، وَهِيَ
تَحْجُبُ الْوَاصِلَ، وَتَقْطَعُ الطَّالِبَ،
وَتُنَكِّسُ الرَّاغِبَ، فَلَا تَصِحُّ الْمُوَالَاةُ
إِلَّا بِالْمُعَادَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ
إِمَامِ الْحُنَفَاءِ الْمُحِبِّينَ أَنَّهُ قَالَ
لِقَوْمِهِ: "أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ . أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِين" فَلَمْ
يَصِحَّ لِخَلِيلِ اللَّهِ هَذِهِ الْمُوَالَاةُ
وَالْخُلَّةُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ هَذِهِ
الْمُعَادَاةِ، فَإِنَّهُ لَا وَلَاءَ إِلَّا
بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، قَالَ تَعَالَى:
"قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا
بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى
تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدهُ"
وَقَالَ تَعَالَى: "وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ
مِمَّا تَعْبُدُونَ . إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينَ . وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً
فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" أَيْ جَعَلَ
هَذِهِ الْمُوَالَاةَ لِلَّهِ،
وَالْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ كَلِمَةً
بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَتَوَارَثُهَا الْأَنْبِيَاءُ
وَأَتْبَاعُهُمْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهِيَ كَلِمَةُ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الَّتِي
وَرَّثَهَا إِمَامُ الْحُنَفَاءِ لِأَتْبَاعِهِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
هذا
وكلمة التوحيد هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ،وَفَطَرَ اللَّهُ
عَلَيْهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلَيْهَا
أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ وَنُصِبَتِ الْقِبْلَةُ،
وَجُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ، وَهِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ
عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ
الْعَاصِمَةُ لِلدَّمِ وَالْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ فِي
هَذِهِ الدَّارِ، وَالْمُنْجِيَةُ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَهِيَ الْمَنْشُورُ
الَّذِي لَا يُدْخَلُ الْجَنَّةُ إِلَّا بِهِ،
وَالْحَبْلُ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ مَنْ لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِسَبَبِهِ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ،
وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ، وَبِهَا انْقَسَمَ
النَّاسُ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، وَمَقْبُولٍ
وَطَرِيدٍ، وَبِهَا انْفَصَلَتْ دَارُ الْكُفْرِ مِنْ دَارِ
الْإِيمَانِ، وَتَمَيَّزَتْ دَارُ النَّعِيمِ مِنْ دَارِ
الشَّقَاءِ وَالْهَوَانِ، وَهِيَ الْعَمُودُ الْحَامِلُ
لِلْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَ "مَنْ
كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ"رواه أحمد وأبو داود
والحاكم وصححه.
وَرُوحُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَسِرُّهَا: إِفْرَادُ
الرَّبِّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ،
وَتَبَارَكَ اسْمُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ، وَلَا
إِلَهَ غَيْرُهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ
وَالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَتَوَابِعِ
ذَلِكَ: مِنَ التَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالرَّغْبَةِ
وَالرَّهْبَةِ، فَلَا يُحَبُّ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا
كَانَ يُحَبُّ غَيْرَهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا
لِمَحَبَّتِهِ، وَكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ
مَحَبَّتِهِ، وَلَا يُخَافُ سِوَاهُ، وَلَا يُرْجَى
سِوَاهُ، وَلَا يُتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا
يُرْغَبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُرْهَبُ إِلَّا مِنْهُ،
وَلَا يُحْلَفُ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا يُنْظَرُ
إِلَّا لَهُ، وَلَا يُتَابُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا
يُطَاعُ إِلَّا أَمْرُهُ، وَلَا يُتَحَسَّبُ إِلَّا بِهِ، وَلَا
يُسْتَغَاثُ فِي الشَّدَائِدِ إِلَّا بِهِ، وَلَا
يُلْتَجَأُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُسْجَدُ إِلَّا لَهُ،
وَلَا يُذْبَحُ إِلَّا لَهُ وَبِاسْمِهِ، وَيَجْتَمِعُ
ذَلِكَ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: أَنْ لَا
يُعْبَدَ إِلَّا إِيَّاهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ
الْعِبَادَةِ، فَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ،وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى
النَّارِ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ.
وَمُحَالٌ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مَنْ تَحَقَّقَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ
الشَّهَادَةِ وَقَامَ بِهَا، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: "وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ"
فَيَكُونُ قَائِمًا بِشَهَادَتِهِ فِي
ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فِي قَلْبِهِ وَقَالَبِهِ،
فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ شَهَادَتُهُ
مَيِّتَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ نَائِمَةً، إِذَا
نُبِّهَتِ انْتَبَهَتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ
مُضْطَجِعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ إِلَى الْقِيَامِ
أَقْرَبَ، وَهِيَ فِي الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ
الرُّوحِ فِي الْبَدَنِ، فَرُوحٌ مَيِّتَةٌ، وَرُوحٌ
مَرِيضَةٌ إِلَى الْمَوْتِ أَقْرَبُ، وَرُوحٌ إِلَى
الْحَيَاةِ أَقْرَبُ، وَرُوحٌ صَحِيحَةٌ قَائِمَةٌ
بِمَصَالِحِ الْبَدَنِ. وَفِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا
يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلَّا وَجَدَتْ
رُوحُهُ لَهَا رَوْحًا" فَحَيَاةُ هَذِهِ الرُّوحِ
بِحَيَاةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِيهَا، فَكَمَا
أَنَّ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِوُجُودِ الرُّوحِ فِيهِ،
وَكَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ
فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ يَتَقَلَّبُ فِيهَا، فَمَنْ
عَاشَ عَلَى تَحْقِيقِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا فَرُوحُهُ
تَتَقَلَّبُ فِي جَنَّةِ الْمَأْوَى وَعَيْشُهُ
وَأَطْيَبُ عَيْشٍ قَالَ: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" فَالْجَنَّةُ مَأْوَاهُ يَوْمَ اللِّقَاءِ. وَجَنَّةُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ
وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ وَالْفَرَحِ
بِهِ وَالرِّضَا بِهِ، وَعَنْهُ مَأْوَى رُوحِهِ فِي
هَذِهِ الدَّارِ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّةُ
مَأْوَاهُ هَاهُنَا، كَانَتْ جَنَّةُ الْخُلْدِ
مَأْوَاهُ يَوْمَ الْمِيعَادِ، وَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ
الْجَنَّةَ فَهُوَ لِتِلْكَ الْجَنَّةِ أَشَدُّ حِرْمَانًا،
وَالْأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ وَإِنِ اشْتَدَّ
بِهِمُ الْعَيْشَ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا،
وَالْفُجَّارُ فِي جَحِيمٍ وَإِنِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِمُ
الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً " وَطِيبُ الْحَيَاةِ جَنَّةُ
الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: "فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ
أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا
حَرَجًا" فَأَيُّ نَعِيمٍ أَطْيَبُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ؟ وَأَيُّ عَذَابٍ
أَمَرُّ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ؟
وَقَالَ تَعَالَى: "أَلَا إِنَّ
أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" فَالْمُؤْمِنُ
الْمُخْلِصُ لِلَّهِ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا، وَأَنْعَمِهِمْ بَالًا، وَأَشْرَحِهِمْ صَدْرًا،
وَأَسَرِّهِمْ قَلْبًا، وَهَذِهِ جَنَّةٌ
عَاجِلَةٌ قَبْلَ الْجَنَّةِ الْآجِلَةِ.
وَكُلَّمَا كَانَ وُجُودُ الشَّيْءِ أَنْفَعَ
لِلْعَبْدِ وَهُوَ إِلَيْهِ أَحْوَجُ، كَانَ
تَأَلُّمُهُ بِفَقْدِهِ أَشَدَّ، وَكُلَّمَا كَانَ
عَدَمُهُ أَنْفَعَ لَهُ كَانَ تَأَلُّمُهُ بِوُجُودِهِ
أَشَدَّ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنْفَعُ
لِلْعَبْدِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ،
وَاشْتِغَالِهِ بِذِكْرِهِ، وَتَنَعُّمِهِ بِحُبِّهِ،
وَإِيثَارِهِ لِمَرْضَاتِهِ، بَلْ لَا حَيَاةَ لَهُ وَلَا
نَعِيمَ وَلَا سُرُورَ وَلَا بَهْجَةَ إِلَّا بِذَلِكَ،
فَعَدَمُهُ آلَمُ شَيْءٍ لَهُ، وَأَشَدُّهُ عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا تَغِيبُ الرُّوحُ عَنْ شُهُودِ هَذَا
الْعَذَابِ وَالْأَلَمِ لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِهِ،
وَاسْتِغْرَاقِهَا فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ، تَتَغَيَّبُ بِهِ
عَنْ شُهُودِ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ أَلَمِ الْفَوَاتِ
بِفِرَاقِ أَحَبِّ شَيْءٍ إِلَيْهَا، وَأَنْفَعِهِ لَهَا،
وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ السَّكْرَانِ الْمُسْتَغْرِقِ
فِي سُكْرِهِ، الَّذِي احْتَرَقَتْ دَارُهُ
وَأَمْوَالُهُ وَأَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ، وَهُوَ
لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي السُّكْرِ لَا يَشْعُرُ بِأَلَمِ ذَلِكَ
الْفَوَاتِ وَحَسْرَتِهِ، حَتَّى إِذَا صَحَا،
وَكُشِفَ عَنْهُ غِطَاءُ السُّكْرِ، وَانْتَبَهَ مِنْ
رَقْدَةِ الْخَمْرِ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ حِينَئِذٍ.
وَهَكَذَا الْحَالُ سَوَاءً عِنْدَ كَشْفِ الْغِطَاءِ، وَمُعَايَنَةِ طَلَائِعِ
الْآخِرَةِ، وَالْإِشْرَافِ عَلَى مُفَارَقَةِ
الدُّنْيَا وَالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ، بَلِ
الْأَلَمُ وَالْحَسْرَةُ وَالْعَذَابُ هُنَا أَشَدُّ
بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، فَإِنَّ الْمُصَابَ فِي
الدُّنْيَا يَرْجُو جَبْرَ مُصِيبَتِهِ بِالْعِوَضِ،
وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ أُصِيبَ بِشَيْءٍ زَائِلٍ لَا
بَقَاءَ لَهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ مُصِيبَتُهُ بِمَا لَا
عِوَضَ عَنْهُ، وَلَا بَدَلَ مِنْهُ، وَلَا نِسْبَةَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّنْيَا جَمِيعِهَا؟ فَلَوْ قَضَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ مِنْ هَذِهِ
الْحَسْرَةِ وَالْأَلَمِ لَكَانَ الْعَبْدُ جَدِيرًا
بِهِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لَيَعُودُ أَعْظَمَ
أُمْنِيَتِهِ وَأَكْبَرَ حَسَرَاتِهِ، هَذَا لَوْ كَانَ
الْأَلَمُ عَلَى مُجَرَّدِ الْفَوَاتِ، فَكَيْفَ
وَهُنَاكَ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى الرُّوحِ وَالْبَدَنِ بِأُمُورٍ
أُخْرَى وُجُودِيَّةٍ مَا لَا يُقَدِّرُهُ
قَدْرَهُ؟ فَتَبَارَكَ مَنْ حَمَّلَ هَذَا الْخَلْقَ
الضَّعِيفَ هَذَيْنِ الْأَلَمَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ
اللَّذَيْنِ لَا تَحْمِلُهُمَا الْجِبَالُ
الرَّوَاسِي.
فَاعْرِضْ عَلَى نَفْسِكَ الْآنَ أَعْظَمَ مَحْبُوبٍ لَكَ فِي الدُّنْيَا، بِحَيْثُ لَا تَطِيبُ لَكَ
الْحَيَاةُ إِلَّا مَعَهُ، فَأَصْبَحْتَ
وَقَدْ أُخِذَ مِنْكَ، وَحِيلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ
أَحْوَجَ مَا كُنْتَ إِلَيْهِ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُكَ؟ هَذَا
وَمِنْهُ كُلُّ عِوَضٍ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا عِوَضَ
عَنْهُ؟!
وَلَمَّا كَانَتِ
الْمَحَبَّةُ جِنْسًا تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ،
كَانَ أَغْلَبَ مَا يُذْكَرُ فِيهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا يُخْتَصُّ
بِهِ وَيَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَمَا لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ،
مِثْلَ الْعِبَادَةِ وَالْإِنَابَةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا
تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، وَكَذَا الْإِنَابَةُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمَحَبَّةَ
بِاسْمِهَا الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ" وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا
لِلَّهِ".
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ
الْمَحَبَّةِ الْمَذْمُومَةِ:
الْمَحَبَّةُ مَعَ اللَّهِ الَّتِي يُسَوِّي الْمُحِبُّ
فِيهَا بَيْنَ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلنِّدِّ الَّذِي اتَّخَذَهُ
مِنْ دُونِهِ.
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِهَا الْمَحْمُودَةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ
وَحْدَهُ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ أَصْلُ السَّعَادَةِ وَرَأْسُهَا الَّتِي
لَا يَنْجُو أَحَدٌ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا بِهَا، وَالْمَحَبَّةُ الْمَذْمُومَةُ
الشِّرْكِيَّةُ هِيَ أَصْلُ الشَّقَاوَةِ وَرَأْسُهَا الَّتِي لَا يَبْقَى
فِي الْعَذَابِ إِلَّا أَهْلُهَا، فَأَهْلُ الْمَحَبَّةِ الَّذِينَ أَحَبُّوا
اللَّهَ وَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ،
وَمَنْ دَخَلَهَا مِنْهُمْ بِذُنُوبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهَا مِنْهُمْ
أَحَدٌ.
وَمَدَارُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَمْرِ بِتِلْكَ الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا،
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْأُخْرَى وَلَوَازِمِهَا، وَضَرَبَ
الْأَمْثَالَ وَالْمَقَايِيسَ لِلنَّوْعَيْنِ، وَذَكَرَ قَصَصَ النَّوْعَيْنِ،
وَتَفْصِيلَ أَعْمَالِ النَّوْعَيْنِ وَأَوْلِيَائِهِمْ وَمَعْبُودَ كُلٍّ
مِنْهُمَا، وَإِخْبَارِهِ عَنْ فِعْلِهِ بِالنَّوْعَيْنِ، وَعَنْ حَالِ النَّوْعَيْنِ
فِي الدُّورِ الثَّلَاثَةِ: دَارِ الدُّنْيَا، وَدَارِ الْبَرْزَخِ، وَدَارِ
الْقَرَارِ، وَالْقُرْآنُ جَاءَ فِي شَأْنِ النَّوْعَيْنِ.
وَأَصْلُ
دَعْوَةِ جَمِيعِ المرُّسُلِينْ
أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، إِنَّمَا هِيَ عِبَادَةُ
اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الْمُتَضَمِّنَةُ لِكَمَالِ حُبِّهِ، وَكَمَالِ
الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ لَهُ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلَوَازِمِ ذَلِكَ
مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ
أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى
أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ"
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
إِلَّا مِنْ
نَفْسِي، فَقَالَ: "لَا يَا عُمَرُ
حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ" قَالَ:
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، قَالَ:
"الْآنَ يَا عُمَرُ" فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ مَحَبَّةِ عَبْدِهِ
وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوبِ تَقْدِيمِهَا عَلَى
مَحَبَّةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ،
فَمَا الظَّنُّ بِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوُجُوبِ
تَقْدِيمِهَا عَلَى مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ؟
وَمَحَبَّةُ الرَّبِّ
سُبْحَانَهُ تَخْتَصُّ عَنْ مَحَبَّةِ
غَيْرِهِ فِي قَدْرِهَا
وَصِفَتِهَا وَإِفْرَادِهِ سُبْحَانَهُ
بِهَا. فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، بَلْ مِنْ
سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَنَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، فَيَكُونُ إِلَهُهُ
الْحَقُّ وَمَعْبُودُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالشَّيْءُ
قَدْ يُحَبُّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَقَدْ يُحَبُّ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ
شَيْءٌ يُحَبُّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَا
تَصْلُحُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا لَهُ، وَ "لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" وَالتَّأَلُّهُ: هُوَ
الْمَحَبَّةُ وَالطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ.
وإلى هذا المكان أمسكت
العنان وصلى الله وسلم وبارك على محمد, ما ذرَّ ضوء النجوم, ودر نوء الغيوم, وما
كان كائن وزال زائل, ولله الحمد من قبل ومن بعد.
إبراهيم بن عبدالرحمن الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق