لقبول المحل لا بد من
تفريغه من ضده
الحمد لله وحده،
أما بعد، فلا يجتمع النقيضان ولا يرتفعان جميعًا، فلا اجتماع للضدين ولا رفع
لكليهما، بل لابد من وجود أحدهما ورفع الآخر المضاد، وكما قيل: التخلية قبل
التحلية([1])، وهذا باب عظيم من
أبواب الفقه في الدين وهو لباب البراءة من الشـرك والكفر بالطاغوت أولاً، ثم
الشهادة بالتوحيد ثانيًا، وهذا مجتمع في كلمة التوحيد؛ لا إله إلا الله، وفي
التنزيل من قول إبراهيم خليل الرحمن: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ
لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ إِنَّنِي بَرَآءٞ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ ٢٦ إِلَّا ٱلَّذِي
فَطَرَنِي فَإِنَّهُۥ سَيَهۡدِينِ ٢٧﴾ [الزخرف: 26، 27]، وقال تعالى: ﴿فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ٢٥٦﴾ [البقرة: 257] ونحو ذلك.
قال ابن القيم ♫: «قبول المحل لما يوضع فيه مشروط
بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات
والإرادات.
فإذا كان القلب
ممتلئًا بالباطل اعتقادًا ومحبة؛ لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، فكما أن
اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع؛ لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا
إذا فرّغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة؛ لم يمكن
شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.
فكذلك القلبُ
المشغولُ بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به لا يمكن شغله بمحبة الله
وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه؛ إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، ولا حركة اللسان
بذكره والجوارح بخدمته؛ إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته؛ فإذا امتلأ القلب
بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع؛ لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة
أسمائه وصفاته وأحكامه.
وسرُّ ذلك أن إصغاء
القلب كإصغاء الأذن، فإذا صغى إلى غير حديث الله؛ لم يبق فيه إصغاء ولا فهم
لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله؛ لم يبق فيه ميل إلى محبته، فإذا نطق القلب
بغير ذكره؛ لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.
ولهذا في الصحيح عن
النبي ﷺ أنه قال: «لأن
يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتّى يَرِيَهُ خير له من أن يمتلئ شعرًا»([2])، فبيَّن أن الجوف
يمتلئ بالشعر.
فكذلك يمتلئ
بالشُّبه، والشكوك، والخيالات، والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا
تنفع، والمفاكهات، والمضحكات، والحكايات ونحوها.
وإذا امتلأ القلب
بذلك؛ جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته، فلم تجد فيه فراغًا لها
ولا قبولاً، فتعدَّتْهُ وجاوزته إلى محلّ سواه؛ كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من
ضدّها ولا منفذ لها فيه؛ فإنه لا يقبلها ولا تلج فيه، لكن تمر مجتازة لا مستوطنة. ولذلك
قيل:
|
نَزِّه
فؤادك من سوانا تلقنا |
|
فجَنابُنا
حِلٌّ لكل مُنَزَّه |
وقال ♫ في موطن آخر([4]): «والله سبحانه لم
يجعل لرجل من قلبين في جوفه، فبقدر ما يدخل القلب من همّ وإرادة وحب، يخرج منه همّ
وإرادة وحب يقابله.
فهو إناء واحد
والأشربة متعددة، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره، وإنما يمتلئ الإناء بأعلى
الأشربة إذا صادفه خاليًا، فأما إذا صادفه ممتلئًا من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما
فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم([5]):
|
أتاني
هواها قبل أن أعرف الهوى |
|
فصادف
قلبًا خاليًا فتمكَّنا |
ففقر صاحب هذه
الدرجة تفريغه إناءه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة؛ لأن كل شراب فمسكر
ولابد، وما أسكر كثيره فقليله حرام.
وأين سكر الهوى
والدنيا من سكر الخمر؟! وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في
إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى؟! ولا يفيق من سكره ولا يستفيق، ولو فارق هذا السكر
القلب لطار بأجنحة الشوق إلى الله والدار الآخرة، ولكن رضي المسكين بالدون، وباع
حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأخس الثمن، صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أي حظ أضاع
إذا فاز المحبون وخسر المبطلون. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة
إلا به.
إبراهيم بن
عبدالرحمن الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق