قبسات
من الحنيف العفيف (1/ 2)
كتاب الله مورد نقي للعلم
ومنهل فياض للإيمان, ومتى يمَّمْتَ وجهك بصفاء عقل ونقاء نفس لعمود نوره؛ تدفّقت في
روحك معاني الجلال والجمال والكمال لهذا الكلام الرباني الإلهي.
ومهما عبَّ الأولون من معين
هدايته فلن يُنضبوه, وكم ترك الأولون للآخرين من هداياته وعلومه وعجائبه! إنه كتاب
الله وكفى!
وسنقف هنيهات على شاطئ بحر
النبي الكريم ابن الكرام يوسف عليه السلام, ورشفات تدبريّة من سحِّ غيث سُورته وسيرته.
"إذ قال يوسف"
اسم جميل, وحروفه رقيقه, وجرسه عذب, ومعناه في العبرانية (الله يعطي/ عطاء الله) لقد
هذّب الإسلام أسماء العرب, فما كانوا يسمُّون بنيهم بأسماء الأنبياء إلا على سبيل الندرة,
وكانوا يعبّدون أسماء أبنائهم لغير الله, كما كانوا يسمّون بالمكروهات والمستبشعات,
فجاء الإسلام فهذب ذلك كلّه, فأمر بألا يُعبّد الاسم إلا لله وحده, وأغرى بذلك على
سبيل الابتداء؛ فأحبُّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن... وبأسماء الأنبياء
ثم أجِلَّةِ الصحابة... وغيّر الأسماء المكروهة, وأوصى بمراعاة معاني الأسماء... فحسنت
حينئذ أسماء العرب.
"ويتم نعمته عليك"
تنبأ له بالنبوّة, وهذا من وحي الله له. أما متى أوحي إليه فلعله حينما كان في الجبّ,
وهو الأظهر لقوله سبحانه: "وأوحينا إليه لتنبأنهم بأمرهم هذا" أو أن زمان
الوحي قد تأخر حتى: "ولما بلغ أشده آتيناه حكمًا وعلمًا" فيكون هذا توقيت
إيتائه الحكم والعلم والنبوة, أما الجبّ فلعله كان إلهامًا خاصًّا, أي أنه أخصّ من
إلهام أم موسى "وأوحينا إلى أم موسى" والنحل "وأوحى ربك الى النحل"
"إن ربك حكيم عليم"
تربية الصبي على التعلق بربه تعالى منذ نعومة أظفاره, وهذا منهاج الأنبياء في التربية
فإحسان التعلق بالله هو معدن الفلاح بحذافيره، منه بدأ الإسلام وإليه يعود الإيمان
وعليه قام الإحسان.
"وشروه بثمن بخس"
ومن كان يتصوّر أن بضاعته نبي كريم يوحى إليه؟!
"أو نتخذه ولدًا كذلك
ومكنّا ليوسف في الأرض" إما أنه انتقال زماني, أو هو التمهيد لتحمّل أعباء الوزارة,
فقد تربى على يد خازن أرض النيل الذي جعله كابنه تمهيدًا لوزراته المُرتقبة خلف سجف
الغيب, لذلك ذكرها هنا فقال: "كذلك مكنّا ليوسف في الأرض" وإنما هي التهيئة
للتمكين, وإذا أراد الله أمرًا هيّأ له أسبابه.
ومن فروع تلك السنة الربانية في سورة يوسف أيضًا
أن امرأة العزيز قد أنطقها الله باكرًا إذ اعترفت أمام لداتها ومنافساتها ببراءة يوسف,
بل والمبالغة في وصف صيانته وعفافه: "فاستعصم" حتى إذا استدعاهن الملك بعد
سنين قائلًا: "ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه" أُسقط في يدها ولم يك بدّ
من اعترافها أمام الملك, لأن النساء سيشين بما فاهت به أمامهن خوفًا من بطش الملك الذي
توعدهنّ جميعًا بهيبة مقامه وإن تخلفت حروف مقاله.
ومن فروعها كذلك أن الفتى الذي أنجاه الله من السجن,
ونسي وصية يوسف له, ذكّره الله ذلك بالرؤيا العجيبة للملك التي أعجزت المعبرين, وهذافي
القرآن كثير.
"إن كان قميصه قدّ من
قبل" حسن ابتداء لقوّة الحِجَاج, فبدأ بذكر الأمر الباطل ليسقط ومن ثمّ ينفرد
الحق بالوضوحوالمنعة.
"استغفري لذنبك"
أمرها بالاستغفار "إنا لنراها في ضلال مبين" شهادة النسوة بذم الخنا
"ملك كريم" إيمان بالملائكة, بل والقوم يؤمنون بأصل الربوبية "إن الله
لا يهدي كيد الخائنين" فأصول الأخلاق ومجمل الغيبيات كانت موجودة حتى مع كفرهم
وشركهم, ولعلّ هذا من آثار انبياء سبقوا "ومنهم من لم نقصص عليك" وكم في
نفوس الأمم من بقايا أنوار النبوات التي لم يكد يبق لها الشرك والجهل باقية!
"إلا حاجة في نفس يعقوب
قضاها" بذل الأسباب اتقاء العين. وفي هذا إشارة إلى أن عمله هذا قد تسبّب في نُجْعِ
مقصوده, مع أن الأمر كله بيد الله, "ما كان يغني عنهم من الله من شيء"
"ارجعوا إلى أبيكم"
وَحَشَتْهُ معصيته لأبيه في أخيه, فنأى باسم أبيه الشريف أن ينسب إليه نفسه المقصّرة,
فهو كبيرهم عقلًا وخلقًا وربّما سنًّا, ولعلّه القائل أوّلًا: "لا تقتلوا يوسف"
لكن غلبته كثرتهم وضعفه. أما يوسف الصدّيق فقال متلذّذًا بالقرب الشعوري: "أبي"
"يا أسفى على يوسف" الشجى يبعث الشجى, ولما تفاقم الأمر أيقن الفرج,
فقال محسنًا الظن فيمن لا يأتي الخير إلا من قبله أن يأتيه بثلاثتهم: "عسى الله
أن يأتيني بهم جميعًا" والرزايا إذا توالت تولّت.
"إني لأجد ريح يوسف"
لعله شمّه بروحه, وقد شمّ ابن النضر ريح الجنة ولمّا يمُت,وللأرواح شأن أيُّما شأن!
"فارتدّ بصيرًا"
ولم يقل مبصرًا, مبالغة في الإبصار, وإيماء
إلى مدح بصيرته التي تحققت بحسن ظنه بربه الكريم الرحيم.
"يا أبانا استغفر لنا
ذنوبنا" حسنُ تلطّف, فقد استعطفوه أولًا بندائه باللفظ المحبَّبِ المذيب لصمِّ
الجلاميد. "يا أبانا" ثم طلبوا منه أن يستغفر لهم الله, وفي هذا توبة لله
وأوبةٌ لعهده, وتعظيم لجنابه, ولعلمهم أن أباهم النبيّ الكريم يحبّ توبتهم لله واستغفاره
لذنبهم قَبْلَ اعتذارِهم له, حتى وإن أبكوه أربعين سنة حتى ابيضّت عيناه من الحزن والكظْم.
لذاك قالوا: "استغفر لنا" ولم يقولوا: اعف عنا.
ثم استكانوا معترفين بالذنب,
فسمّوا أعمالهم ذنوبًا, ومن أعظمها غدرهم بيوسف. ثم اعترفوا بخطئهم العمد فقالوا:
"إنا كنا خاطئين" ولم يقولوا: مخطئين. وهذا عينُ ما قالوه ليوسف لما فاجأهم
بتعرّف نفسه إليهم فقالوا حينها: "تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين"
فاستفادوا منه العفو المباشر عنهم لمّا أسندوا نعمته ونصره لله وحده, إذ الأنبياء لا
ينتصرون لأنفسهم قط بل لله فقط, ولا يحبون حمد ذواتهم بل حمد الحميد المجيد.
...يتبع
ومضة: سيأتيك يوم لن تجد من والديك
سوى الذكريات, فاصنع الآن ما تريد تذكّره غدًا.
إبراهيم الدميجي
الاقتصادية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق