حمد الجاسر العَلَم العلّامة
إذا ما الهوى يوماً
تصدّع شمله ... فأخْلِقْ بشمل الصبر أن يتصدّعا
لبعض الأنفس والوجوه والبقاع والكتب
والمجلات ذكريات لها ضوعُ نسيم مسكيّ ينتشر بين جنبات الحنين, معلنًا شوقه لمن يحب
ولهفه للقياه, أعظمها بإطلاق: "من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت"
الحراك الثقافي أيًّا كان لونه وتيّاره لا بد أن يمر بتموجات ومنعطفات
وتعثر وقفز وطفولة ونضج وشيخوخة.. لذا كان من الجيد صقل تجربة الماضين بالنقد
الهادئ الهادف الواعي من لدن أهل حدب ونصح واختصاص.
ومن يمّم وجهه شطر الكتابات التراثية للجزيرة العربية في الزمن الحاضر
فلا بد أن يقف متشوّقًا متلذّذًا لتدوينات الراحل علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر
رحمه الله تعالى. (1328_1421) فهذا الإنسان النادر قد حباه الله صفات ووفقه لأسباب
أهّلته لتسنّم الريادة في تأريخ وبلدانيّة وأدب ولغة ونسب جزيرة العرب خلال الثلث
الآخر من القرن الرابع عشر الهجري.
كما كان عضوًا في المجامع العربية الكبيرة وقد قال عنه طه حسين في
مجمع اللغة القاهري: الأمر عندنا في شأن جزيرة العرب هو ما اختاره الشيخ حمد
الجاسر فهو أعلمنا به.
ومن خلال تأمل صفاته الشخصية وسماته النفسية يبرز لنا الذكاء العربي
المتوهّج مع ذاكرة تبزّ الحاسوبات المتطورة, إلى جَلّد وصبر ودأب في تقليب صحائف
الكتب الورقية وصفائح المواضع المكانية, إضافة لحسٍّ أدبي مرهف, ودعابة نجدية
خفيفة ظل, وتواضع حقيقي لا مزيف, واستمتاع وإمتاع في الرحلات وتوثيقها, ولعل ضعف
بنيته الجسدية قد أوقد في روحه جذوة التحدي والمغامرة؛ فضعف المؤمن في جسده وقوته
في قلبه, ولا يستطاع العلم براحة الجسد.
لعلّامتنا الموسوعي تراث منوع زاخر بين كتب محررة ورسائل محقّقة
ومقالات موعبة في العمق التراثي المعرفي, سواء في تحديد المواضع أو المباحث
اللغوية أو التراجم أو الرحلات أو الخيل أو الأنساب, وقد جاوزت تدويناته الألف!
لقد كان الشيخ حمد مشروعًا يمشي على رجلين, فواضح لدى أول مطالعةٍ
لتراثه أن لديه رسالة واضحة المعالم قد رسم أطرافها بدقة متناهية يريد إبلاغها
لمستحقيها من رواد المعرفة وأًهيل التراث, ويكأنّ هناك سلكًا لامعًا ينتظم جميع
مؤلفاته مهما اختلفت ألوانها.
ومن أمْثَلِ كتبه القيمة تحقيقه الدقيق لكتاب المناسك وأماكن طرق الحج
ومعالم الجزيرة للإمام الحربي وكتابه القيم _ وكان كثيرًا ما يحيل إليه _ أبو علي
الهَجري وأبحاثه في تحديد المواضع.
أما مقالاته فلها صفتي
الشمولية والتحرير مع إيجاز جميل لأهم عناصر الموضوع, واعتبر ذلك بمقاله الماتع
العميق (الآثار الإسلامية في مكة المشرفة) وأصله محاضرة في جامعة أم القرى ثم نشره
في مجلة العرب, وهو عبارة عن بحث تأريخي ينسف كثيرًا من متعلّقات أهل الخرافة
والتبرّك غير المشروع في بطاح مكة الشريفة, وقد أثاروا عليه حينها رياحًا قصفتْهَا
زوبعتُه العلمية الدامغة بقوة البرهان لا بسلاطة اللسان؛ إذ من مزايا هذا الفذّ
كراهته للخصام والمماحكة وقراع الجدل, قُصاراه أن يرصف درره بهدوء, ثم يرحل بسلام.
أما واسطة عقد مشاريعه فهي مجلة العرب التي كانت كالعلم الشامخ والغيث
المُشام مطلع كل شهرين (عددان مزدوجان) ابتداء من (1386) فما هو إلا أن تصدر حتى
تتلقفها أصابع العطاش للفوائد والفرائد من متخصصين وهُواة. وقد بذر الراحل شجرتها
بنفسه وسقاها وأترعها حتى قامت كدوحة مأهولة, وآتت أكلها طيّبا حلوا نضيجًا.. كما
دفع عنها بعون الله عاديات الحسدة والمخالفين بلطف وتودد وحسن سياسة منه رحمه
الله. وهذه المجلة هي إحدى ثمار مشروعه التراثي دار اليمامة التي أنتجت كذلك مجلة
اليمامة وجريدة الرياض.
فقد كان يكتب فيها بقلمه _ ولا يكتفي بمقال افتتاحي _ ويرد على القراء
تساؤلاتهم بوافر العلم والأدب والحلم والموضوعية, ويستكتب القامات العظيمة من كبار
كتاب وأدباء ومؤرخي ذلك الوقت كابن خميس وابن عقيل والعبودي والعقيلي والعلي
والأحمد في كثير من أهل اليراعات البارعة في صقل العقل بمداد الحكمة, وإشباع النفس
برقة الأدب, وإرواء المشاعر بلطف المسامرة وحسن المساجلة.
ثم أذن الله بهبوب رياح الفناء على تلك المجلة الفاخرة فأحالت مرابعها
يبابًا بعدما قطعت من عمرها سنين عددًا, فكان خاتمها عدد ذي الحجة (1433) بعد
ثمانية وأربعين من الأعوام.
هذا وقد مرت المجلة بمرحلتين: الفتوة مع الكهولة حتى رحيل الشيخ حمد
سنة 21 ثم هبط سهم القيمة النوعية لغروب أرطبونها الأول, وهذا _ في ظني _ أكبر
الأسباب, فقد كانت المجلة شبه مركزية, كما لا يطبع فيها مداد حرف بدون موافقة
الجاسر رحمه الله, ومن ثم حاول الفريق التالي متابعة المسيرة ولكن تبين لهم كم هو
شاق ذلك الطريق, وكم هو عظيم ذلك الرائد الراحل التي حملها على كتفية قرابة 34 سنة
حتى غدت مرجعًا تراثيّا فكريّا بلدانيّا. ولحال مجلة العرب أشباه كالمجلة العربيّة
التي خبت حينما ترجّل عنها الأديب الخلوق حمد القاضي, وكخفوت وهج مجلة المعرفة
حينما رحل عن تحريرها الأخ زياد الدريس وهكذا.. الشاهد أن هذه الصدمة العثارية لا
بد أن تصيب _ مؤقتًا _ المؤسسة الثقافية بخروج روادها على حسب ثقلهم ومركزيتهم,
لذلك فمن المفيد لكل مشروع ثقافي يراد له الاستمرارية تشكيل فريق متجدد ذي رؤية
متقاربة وأهداف محددة ورسالة سامية تتجاوز الأنا للجماعة, والوطن الصغير للكبير,
والزمن الحاضر للمستقبل, فتمزج الأصالة بالمعاصرة, وتصقل حماسة الشباب بحكمة
الشيوخ, وتبني أسسًا وقواعد عليها يقوم ساق منارة المعرفة!
لقد كان الفقيد رهيف الإحساس لنقاء التوحيد وصفاء الفطرة, وكثيرًا ما كانت
تكدّره قالات مناوئي الدعوة السلفية, فيردها بأسلوب لطيف مختصر مباشر حاسم, فمن
ذلك أنه كان لا يكاد يفوّت نقيصة ضد التوحيد وأهله وتصنيفاتهم في مقالات كتّاب
مجلته دون أن يهمّش بردّ من ذلك القبيل الآنف. فهي أصالة وصفاء لا تقبل الشوب
والكدر بدعوى التعدّدية. ولا غرو فقد تربى على أيدي فطاحلة العلم كالشيخين العتيق
وابن إبراهيم رحمهما الله, وقد تولى قضاء ضبا فترة بأمر شيخه ابن إبراهيم.
وكان آخر ما سطره يراعه الشائق جملة تختصر حياته الروحية والعلمية,
فقد كتب وهو على السرير الأبيض قبيل الرحيل: فإذا عزمت فتوكل على الله, توكلت على
الله.
وختامًا هل من رافع للواء مجلة فكرية تراثية تاريخية أدبية معجمية
بلدانية تجمع تليد الأصالة النقية إلى طريف المعاصرة الفتية؟ لعله. فالأمة ولود,
والخير من معدنها متتابع. والله المستعان.
بارقة: لطيفة عزيزة تلك اللحظات التي تستدعي هتافنا مع الصمّة القشيري:
وأذكر أيام الحمى
ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا
وليست عشيات الحمى
برواجع ... عليكَ ولكنْ خلِّ عينيك تدمعا
إبراهيم الدميجي
الاقتصادية
الاقتصادية
aldumaiji@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق