حروف
نفيسة للعلامة السعدي رحمه الله في حقوق طلبة العلم على بعضهم
قال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه
الله تعالى:
أما الواجب على أهل العلم من العلماء الكبار
ومَن دونهم ، والطلبة فيما بينهم: فعلى كل منهم أن يحب للآخر ما يحب لنفسه ، وهذا واجب
عمومي على جميع المسلمين.
لكن أهل العلم عليهم من هذا الحقِّ
أعظمُ مما على غيرهم ؛ لما تميَّزوا به ، ولما خصهم الله بهم .
وعلى كل منهم أن يدين لله ويتقرب إليه بمحبته
جميعَ أهل العلم والدين ، فإن هذا الحب من أعظم ما يقرِّب إلى الله ، ومن أكبر الطاعات
.
وهذا الحب يتبع ما اتصف به الإنسان من الأمور
التي يحبها الله ورسوله ، من العلم والاشتغال به ، والعمل ، فإن نفس الاشتغال بالعلوم
الشرعية وتوابعها من أجلِّ الطاعات .
ثم حصول العلم للشخص هو من الأوصاف
التي يُحَبُّ لأجلها ، ثم
تعليمه للناس وعمله مما يجب أن يُحَب عليه .
فكل هذه الأمور موجودة في أهل العلم ، فلهم
من الحق على أهل العلم وعلى غيرهم أن يميِّزوا بهذا عن غيرهم ؛ لما لهم من المميزات
.
وإذا عثر أحدهم وغلط في مسألة علمية تعيَّن
ستر ما صدر منه ، ونصيحته بالتي هي أحسن .
ومن أعظم المحرمات وأشنع المفاسد:
إشاعة عثراتهم ، والقدح
فيهم في غلطاتهم ، وأقبح من هذا: إهدار محاسنهم عند
وجود شيء من ذلك .
وربما يكون - وهو الواقع كثيرًا - أن الغلطات
التي صدرت منهم لهم فيها تأويل سائغ ، ولهم اجتهادهم فيه ، معذورون ، والواقع فيهم غير معذور .
وبهذا وأشباهه يظهر لك الفرق بين
أهل العلم الناصحين ، والمنتسبين للعلم من أهل البغي والحسد والمعتدين .
فإن أهل العلم الحقيقي قصدهم : التعاون على
البر والتقوى ، والسعي في إعانة بعضهم بعضًا في كل ما عاد إلى هذا الأمر ، وستر عورات
المسلمين ، وعدم إشاعة غلطاتهم ، والحرص على تنبيههم بكل ما يمكن من الوسائل النافعة
، والذب عن أعراض أهل العلم والدين ، ولا ريب أن هذا من أفضل القربات .
ثم لو فُرض أن ما أخطؤوا فيه أو عثروا ؛ ليس
لهم فيه تأويل ولا عذر لم يكن من الحق والانصاف أن تُهدر المحاسن ، وتمحى الحقوق الواجبة
بهذا الشيء اليسير ، كما هو دأب أهل البغي والعدوان ، فإن ضرره كبير ، وفساده مستطير
.
أي عالم لم يخطئ ؟! وأي حكيم لم يعثر ؟!
وقد عُلمت نصوص الكتاب والسنة التي فيها الحث
على المحبة والائتلاف ، والتحذير من التفرق والاختلاف ، وأعظم
من يُوَجَّه إليهم هذا الأمر: أهل العلم والدين .
ومتى أخلوا بذلك ، وحل محله البغي والحسد ،
والتباغض والتدابر؛ تبعهم الناس ، وصاروا أحزابًا وشيَعًا ، وصارت الأمور في أطوار التغالب وطلب الانتصار ، ولو بالباطل
، ولم يقفوا على حد محدود ، فتفاقم الشر ، وعظم الخطر ، وصار المتولي أكبرها : من كان
يُرجى منهم - قبل ذلك - أن يكونوا أول قامع للشر !
وإذا تأملت الواقع ؛ رأيت أكثر الأمور
على هذا الوجه المحزن ! ولكنه مع ذلك ؛ يوجد أفراد من أهل العلم والدين ثابتين على
الحق ، قائمين بالحقوق الواجبة والمستحبة ، صابرين على ما نالهم في هذا السبيل من قدح
القادح ، واعتراض المعترض ، وعدوان المعتدين .
فتجدهم متقربين إلى الله بمحبة أهل العلم ،
جاعلين محاسنهم وتعليمهم ونفعهم نصب أعينهم ، قد أحبوهم لما اتصفوا به ، وقاموا به
من هذه المنافع العظيمة ، غير مبالين بما جاء منهم إليهم من القدح والاعتراض ، حاملين
ذلك على التأويلات المتنوعة ، ومقيمين لهم الأعذار الممكنة .
وما لم يُمكنهم مما نالهم منهم أن يجدوا له
محملًا؛ عاملوا الله فيهم ؛ فعفوا عنهم لله ، راجين أن يكون أجرهم على الله ، وعفوا
عنهم لما لهم من الحق الذي هو أكبر شفيع لهم .
فإن عجزوا عن هذه الدرجة العالية
، التي لا يكاد يصل إليها الواحد بعد الواحد؛ نزلوا إلى درجة الإنصاف ، وهي الاعتبار ما لهم من المحاسن ، ومقابلتها
بالإساءة الصادرة منهم إليهم ، ووازنوا بين هذه وهذه .
فلابد أن يجدوا جانب الإحسان أرجح من جانب الإساءة
، أو متساويين ، أو ترجح الإساءة ، وعلى كل حال من هذه الاحتمالات فيعتبرون ما لهم
وما عليهم .
وأما من نزل عن درجة الإنصاف ؛ فهو بلا شك ظالم
ضار لنفسه ، تارك من الواجبات عليه بمقدار ما تعدى من الظلم .
فهذه المراتب الثلاث: مرتبة الكمال ، ومرتبة الإنصاف ، ومرتبة الظلم؛
تميِّز كل أحوال أهل العلم ومقاديرهم ودرجاتهم ، ومن هو القائم بالحقوق ، ومن هو التارك.
والله تعالى المعين الموفق.
الرياض الناضرة (٨٩_٩٢)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق