أحكامُ تَمَنِّي الموت خشيةَ الفتنةِ أو غيرها
الحمد الله الذي جعل الموت راحةً
لولّيِّه من وَصَبِ الدنيا ونَصَبِ لأوائها، ونهايةً سعيدةً لعبده من ضيقها
وعَنَتِهَا وكَدَرِهَا وعَنائِها، ومعبرًا وحيدًا للوصولِ إليه تعالى ولقائه
ورؤيته وسَلامِه في دار السلام، قال صلى الله عليه وسلم: "تعلمُوا أنّه لن
يرَى أحدٌ مِنكُم ربه عز وجل حَتّى يَمُوت". (1) والرب تبارك وتعالى يُبشّر عباده
بلقياه في الدار الآخرة بقوله سبحانه: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت).
فالموت هو الباب الوحيدُ للقاء وليِّ
الله تعالى ربّه تعالى، وهو طريق الوصول للجنة والدار الآخرة، ولقاء الأحباب كرسول الله صلى الله عليه وسلم
والمرسلين والصحابة والسابقين، وكأحباب المؤمن من خاصته الذين سبقوه كوالديه أو
أجداده أو زوجه وذريته وأقاربه وجيرانه وأحبابه الذين فَرَطُوهُ بالرحيل للدار
الآخرة، لذلك قال غير واحد من الصحابة عند موتهم: مرحبًا بحبيب جاء على فاقه! (2)
فهذا معاذٌ رضي الله عنه يقول عند احتضاره: "مرحبًا بالموت مرحبًا! زائرٌ
مُغبٌّ، وحبيبٌ جاء على فاقةٍ"، (3) وكذلك بلال رضي الله عنه حين قالت زوجته
عند موته: واكَرْباه! قال: "لا، بل واطَرَباه! غدًا ألقى الأحبة محمدًا وحزبه".
(4) وقال حذيفة رضي الله عنه حين احتُضِر: "جاء حبيب على فاقة، لا أفلح من نَدِم".
(5) يعني على التمنّي. وقال عمّار رضي الله عنه بصفّين: "اليوم ألقى الأحبةَ
محمدًا وحزبه". (6) وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "أُحِبُّ الموتَ
اشتياقًا إلى ربي". (7)
أما الكافر فحين يأتيه موتُه فلا شيء
يكرهه أكثرَ مما أمامه، فيضيقُ واسعُه، ويستوحشُ أُنسُه، ويخاف حينَ لات مأمنٍ،
ويهلك حين يفوته النجاء، ويوقن حينها بأن الله هو الحق المبين، (وما الحياة الدنيا
إلا متاع الغرور).
فنفسَك
لُمْ، ولا تَلُمِ المطايا … ومُتْ كَمَدًا، فليس لك اعتذارُ
وقد يأخذه ابتداءُ وهمِه إلى لقيا
أحبته الغابرين، لكن هيهات فلا سعادة في الآخرة لكافر، فإنهم يتبرؤون من بعضهم،
قال تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)، وقال سبحانه وتعالى: (إنه
من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من انصار)، ولما
منّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليهودي الزبير بن باطا القُرَظِي بشفاعة
خطيبِه صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن الشماس لِيَدٍ كانت لليهودي عليه في
الجاهلية، فوهبه نفسَه وأهلَه ومالَه، وبعد أن توثّق من ذلك كله سأل عن أحبابه من
اليهود الذي ذُبحوا، فأخبره، فقال بكل خيبة وخذلان وحسرة: "فإني أسألك يا
ثابت بيدي عندك إلّا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما
أنا بصابرٍ فَتْلَةَ دلوِ ناضح حتى ألقى الأحبة"! فقدّمه ثابتٌ فضرب عنقه.
فلما بلغ أبا بكر الصديق، قوله: "ألقى الأحبة"، قال: "يلقاهم في
نار جهنم خالدًا مخلدًا". (8)
إذا الحياة لغير الله وجهتها ... فطولها في صميم الأمر نقصانٌ
فدَربُها ضيعةٌ تُفضي لمهلَكَةٍ ... وزادُها
جلمدٌ في شكلِ عِقيانِ
فعش إذا شئتَ أو فلتمتْ كمدًا ... فالموت والعيش بعد اليوم سيّانُ!
وبعدُ؛ فكثيرٌ من الناس يسألُ عند كثرة
الفتن واضطراب أحوال الفرد أو الجماعة سؤالًا يدلّ على حرصهم على لقاء ربهم تبارك
وتعالى وهم أنقياء أتقياء معافَون، فيقول القائل منهم: هل تمنّي الموت من
رُخَصِ الفتن؟
والجواب: أن الأصل للمؤمن تمنّي بقاءه
في الحياة ليعبد ربه ويستكثر من خيره، فكل يوم يمرّ عليه يزيد فضله وأجره وذخره
إلى منقلبه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "خيرُكم من طال عمره وحسن
عمله". (9) والمؤمن مسلّمٌ أمره إلى ربه ووليّه، فيرضى بما قضى الله له
بالبقاء أو الرحيل، ويجاهد نفسه على إرضاء ربه تبارك وتعالى.
بيد أنه يرخّص في الفتن ما لا يُرخص في
غيرها، وذلك لأن الفتن سبب في اضطراب الأمور، وانقلاب القلوب، وانتكاس الأحوال، واختلال
الأديان، إلا من عصم الله تعالى بحياة صالحة رشيدة، أو موت مُسلّمٍ مُذهِب، فقد روى
الترمذي رحمه الله تعالى (10) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حديث اختصام الملأ الأعلى: «اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ..»
الحديث، وقد حمل الإمام مالك (11) دعاء عمر رضي الله عنه: "اللهم كبرت سنّي، وضعفت قوّتي، وانتشرت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط" الذي رواه عنه في موطئه فقال: "ولا أرى عمر دعا على نفسه بالشهادة إلا أنه خاف التحوّل من
الفتن، وقد كان يحب البقاء في الدنيا"، وكان من دعائه رضي الله عنه في آخر
عمره: «اللَّهمَّ ارزقني شهادة في سَبِيلك، واجعل موتي في بَلدِ رسولك. قالت حفصة:
فقلت: أنّى يكون هذا؟ قال: يأْتِيني به اللهُ إذا شاء». (12) وقد استجاب الله
دعاءه، فتوفّاه صدّيقًا شهيدًا رضي الله عنه.
وعليه؛ فلا يُشرع تمنّي الموت عند الضرر إلا إن خاف المؤمن على دينه،
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
يتمنّينّ أحدُكم الموتَ لضرّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما
كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". (13) وفي
رواية قال أنس: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنّين
أحدُكم الموت"، لتمنّيته. (14) فدل الحديث على النهي عن تمنّي الموت لأجل
مصائب الدنيا، لما في ذلك من الجزع، وعدم الصبر على المُقدّر، وعدم الرضا بالقضاء،
وهذ من رِقّة الدين، وضعف اليقين في الأغلب. ولا يلزم من وجود ذلك ضعف الإيمان لكل
من تمنّى الموت لضرر الدنيا، بل قد يكون سبب تمنّيه جهله بالحُكم الشرعي وعدم
بلوغه النهي، أو نسيانه وغيبته عن باله حين أمنيته، سيّما والغالب اختلال المزاج
عند من تمنّى هذه الأمر الشديد جدًّا.
كم من هُمومٍ أحرَقتْ كبدي التي ...
بجوانحي لكنّني أتجلّدُ
أوّاهُ دمعي لا تَبُحْ سِرّي الذي ...
أكننتُهُ قلبًا حزينًا يكمدُ
لكنّما اللّوعاتُ حينَ أوارُها ...
تجثوا على القلبِ القوي فيهمدُ
تتهشّمُ الأضلاعُ من رجْعِ
الصّدَى ... مِنْ أنَّةٍ مكلومةٍ تتردَّدُ
وعلى كل حال؛ فالمؤمن مُفَتَّنٌ تَوَّابٌ، وقد يَرِد على قلب المؤمن
أحيانًا عوارض من ذلك بلا استمرار، بسبب واردٍ غير مُحتمل، أو مزاجٍ تَكَدَّرَ، أو
قلبٍ غَضِبَ، أو نفسٍ نَفَهَتْ، أو غفلةٍ تمكّنت، كتب الله النقص والخطأ والخطيئة
على عباده لعلهم إليه يرجعون، والله تعالى يغفر لعباده ويعفو عنهم ما داموا غير
مُصِرّين، قال سبحانه: (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ
تَذَكَّرُوا فَإذا هُمْ مُبْصِرُون)، والطائف: لَمَّةُ الشيطان ووسوستُه وتغطيته ذكرَ القلب على وجه السرعة
والمباغتة بنسيان أو غفلة أو ضعف إرادة ونحو ذلك. وتدبّر كيف وصفهم سبحانه في ثاني
الحال بقوله الأكرم: (فإذا هم مبصرون): فأتى بـ"إذا" الفُجائية المقتضية
سرعة تنبههم من غفلتهم ويقظتهم من سِنَتهم واغتسالهم بالذكر من درن الغفلة.
وعن قيس بن أبي حازم قال: دخلنا على خبّاب رضي الله عنه وقد أكتوى
سبع كيّات في بطنه، فقال: لو ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو
بالموت لدعوتُ به. (15) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "لا يتمنّى أحدكم الموت، ولا يدعُ به من قبل أن يأتيَه، إنّه
إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيرًا". (16)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا
يتمنّينّ أحدكم الموت، إما محسن، فلعله يزداد خيرًا، وإما مسيء لعله يستعتب".
(17)
ويا ربّ عامِلنِي بما أنتَ أهلهُ ...
فذنبي عظيمٌ والرّحيلُ دَنَا لِيَا
وقد تمنّاه بعض الصحابة
خوفًا على دينهم، فعن عُلَيمٍ قال: كنا جلوسًا على سطح معنا رجل من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم، قال يزيد: لا أعلمه إلا عبسًا الغفاري، والناس يخرجون في
الطاعون، فقال عبس: يا طاعون خذني، ثلاثًا يقولها، فقال له عليم: لم تقول هذا؟ ألم
يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّى أحدكم الموت، فإنه عند
انقطاع عمله، ولا يردّ فيستعتب" فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "بادروا بالموت ستًّا: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم،
واستخفافًا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوًا يتّخذون القرآن مزامير يقدمونه يغنّيهم،
وإن كان أقلّ منهم فقهًا". (18)
وقد تمنّى سيّد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه الموت ودعا لنفسه به
بشرطه، ولعله قد نوى الدعاء بالشهادة لأنّ إصابته كانت في المعركة، ولعله كذلك خشي
أن يضعف إيمانُه بعد توقف حرب قريش، فأحَبَّ أن يلقى ربه وهو في الغاية من
الإيمان، فالجهاد يغذّي جذوة إيمان القلب ما لا يُلحق به في السِّلم، فعن عائشة رضي
الله عنها أن سعدًا أصيب يوم الخندق في أكحله (19) فحَسَمَهُ (20) رسولُ الله صلى
الله عليه وسلم بيده بمِشْقَصٍ، وضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب.. الحديث،
وفيه: أن سعدًا قال: «اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحبّ إلي أن أجاهدهم فيك من قوم
كذّبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظنّ أنك قد وضعْتَ الحرب بيننا وبينهم، فإن كان
بقي من حرب قريش شيء فأبقني لهم حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت وضعت الحرب فافجُرْها،
واجعل موتي فيها، فانفجرت من لُبَّتِه – وفي لفظ: من ليلته -، فلم يرعهم - وفي
المسجد خيمة من بني غفار - إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة، ما هذا
الذي يأتينا من قبلكم؟ فإذا سعد يغذو جُرحه دمًا، فمات منها». (21)
لئن عَزّ ديني واستُبيحتْ جوارحي ...
فأينَ مقامُ العِزِّ إلا مقاميا
فسعدٌ رضي الله إنما تمنّى الشهادة في سبيل الله لأنه قد جُرِحَ هذا
الجُرح الذي دعا به في المعركة، وهذا حسن مطلوب؛ لأنه طلب الشهادة هو ذروة
الإيمان، وهو دليل على الصبر والثبات والرضا بما يصيبه في ذلك مِمَّا يقدّره الله
عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي
نفسي بيده، وددتُ أني أقاتِل في سبيل فأُقتل، ثُمَّ أحيا، ثُمَّ أقتل، ثُمَّ أحيا،
ثُمَّ أقتل". (22)
فيا ربّ هلْ إلّا بكَ النَّصر يُبتغَى
… عليهم، وهلْ إلّا عليكَ المُعَوَّلُ
وحال المؤمن محبة الحياة على طاعة الله تعالى، فلا يزال صدرُه
بستانًا من ذكر ربه، وقلبه منشرحًا بدعاء مولاه، مستأنسًا بقرب إلهه، يرتفعُ عند
ربه مع امتداد أعماله في الحياةِ، ويزداد أجرُه بتوالي الصالحات، ويعْمُرُ عُمُرَه
بالقُرُبات، قد شَامَتْ بصيرتُه أعالي الجنات، فرَفَعَ همَّتَهُ لأعلى الدرجات،
وَوَضَعَ الدنيا حيث وضعها ربه، (بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى)، (والآخِرَةُ
خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى). فالحياة هي القالَبُ الذي يسعى به العبد للقُرُبات،
والمَحَلُّ الذي يفوز منه برضوان رب البريات تبارك وتعالى.
ولمّا حضرت
معاذًا رضي الله عنه الوفاة قال: "انظروا أصبحنا؟"، فأُتي فقيل: لم تُصبح، فقال: "انظروا
أصبحنا؟"، فأُتي فقيل له: لم تُصبح، حتى أُتي في بعض ذلك فقيل: قد أصبحت،
قال: "أعوذ بالله من ليلةٍ صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت مرحبًا! زائرٌ
مُغبٌّ، وحبيبٌ جاء على فاقةٍ، اللَّهمَّ إنِّي قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك،
اللَّهمَّ إنّك تعلم أنِّي لم أكن أحبُّ الدُّنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار،
ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب
عند حِلَقِ الذِّكر". (23) وقد كان معاذٌ رضي الله عنه ممن أوتوا العلم
والإيمان والحكمة ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أقسم على محبته،
فهنيئًا لمعاذٍ تلك الخصوصية النبوية. ومن مواعظه الجليلة قوله الرضيِّ لأبي إدريس
الخولاني رحمه الله تعالى: "إنّك تجالس قومًا لا محالة يخوضون في الحديث،
فإذا رأيتهم غفلوا، فارغب إلى ربِّك تعالى عند ذلك رغباتٍ». (24)
وأوصى ابنه وصية حادبٍ ناصح مشفق: "يا بُنيَّ، إذا صلَّيت صلاةً،
فصلِّ صلاة مودِّعٍ: لا تظنُّ أنّك تعود إليها أبدًا، واعلم يا بنيَّ أنّ المؤمن
يموت بين حسنتين: حسنةٍ قدَّمها، وحسنةٍ أخَّرها". (25) فالحياة بالإيمان هي
الحياة التي تستحق أن تُسمّى حياة، ثم تكمل بنعيم الجنة كما قال سبحانه: (وما
هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ
الحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). ووعْدُ الآخرة قريب، ومهما عاش المرء فهو
إلى الوفاة يسير، (إنما توعدون لآت). إليكَ.. وإلّا لا تُشَدُّ الركائبُ.
يحبّ الفَتى طولَ البَقاء وإنّهُ ... على ثِقَة أنّ البَقاءَ فناءُ
وتأمّل الرغائب العُمَرِيّة في الحياة، قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: "لولا ثلاثٌ في الدنيا لما أحببتُ البقاءَ فيها؛ لولا أن أحمِل أو
أجهِّز جيشًا في سبيل الله، ولولا مكابدةُ هذا الليل، ولولا مجالسةُ أقوام ينتقونَ
أطايبَ الكلام كما يُنتقى أطايبُ الثمر؛ لما أحببتُ البقاء". (26) وتأمّل
اتفاق أسباب حبّه للحياة مع أسباب معاذ وأبي الدرداء، لا جَرَم فالقَبَسُ واحدٌ،
رضي الله عنهم.
ولما اشتكى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عام الفتح في مكة، وعادَه
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا رسول الله؛ أُخَلَّفُ بعدَ أصْحَابي (27)
قال: "إنَّكَ لَن تُخَلَّفَ فَتَعملَ عَمَلًا تبتَغي بِهِ وجه اللهِ إلا
ازدَدت بِه دَرَجةً ورِفعَةً، ولعلَّكَ أن تُخَلَّفَ حتّى ينتفعَ بكَ أقوامٌ
ويُضَرَّ بِكَ آخرون". (28) فتدبر هذه البشرى لكل من عاش على الإيمان، وفيه:
فضيلةُ طول العمر للازدياد في العمل الصالح، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولعلّك
أنّ تُخلّف حتى ينتفعَ بك أقوامٌ"، أي: يطيل الله عمرك، وكذلك كان، فإنه
عاش بعد ذلك أزيدَ من أربعين سنة، بل قريبًا من خمسين عامًا، أذ كنت وفاته سنة
خمسٍ وخمسين من الهجرة، وقيل: سنة ثمان
وخمسين، وهو المشهور، فيكون قد عاش بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين، أو ثمانيًا
وأربعين. وقوله صلى الله عليه وسلم: "حتّى يَنتَفِعَ بِكَ أقوامٌ ويُضَرَّ
بِكَ آخرون"، أي: ينتفع بك المسلمون بعلمك وعملك ودعوتك ودعائك وجهادك في
سبيل الله تعالى، فعاش حتّى فتح الله به وبمن معه العراق وغيره، وانتفع به أقوامٌ في دينهم ودنياهم.
وفي الحديث آية وبرهان لنبوة
النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر بطول عمره وبعمله الصالح ونفعه المتعدّي قبل
وقوعه بكل هذه السنين. وقد قالها وسعدٌ في غمرة المرض الشديد الذي خشي على نفسه
منه، ففي صدر الحديث قال: "عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
في وجع أشْفَيْتُ منه على الموت، فقلت: يا رسول الله بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا
ذو مال.." الحديث.
قال النووي رحمه الله تعالى: "في هذا الحديث فضيلة طُول العُمرِ
للازديادِ من العملِ الصّالح، والحَثِّ على إرادة وجهِ اللَّهِ تعالى بالأعمال".
(29) لذلك كان شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى يقول بمشروعية الدعاء بموجب هذا
الحديث فيقول الداعي: اللهم أطل عمري في طاعتك. ونحو ذلك. فالدنيا مزرعة الآخرة
حتى آخر رمق فيها، وقد ذكروا أنّ الجنيد رحمه الله تعالى كان يقرأ القرآن وهو في
سياق الموت ويصلّي، فختم، فقيل له: في مثل هذه الحال يا أبا علي؟ فقال: "ومَن
أحَقّ منّي بذلك، وها هي تُطوى صحيفةُ عملي"، ثم كَبَّر ومات رحمه الله
تعالى. (30)
لَهفِي على عمْرٍ تَقَضّى غافلًا ...
وتركتُ للنفسِ السفيهةِ غارِبي
يا صاحبي إن جُزتَ قبرِيَ هائمًا ...
فانصح لنفسك واعتبرْ بتجاربي
وعن أبي سلمة رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان
رجلان من بَلي من قضاعة أسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستُشهِد أحدُهما،
وأُخِّرَ الآخرُ سنة. قال طلحة بن عبيد الله: فأُريت الجنة، فرأيتُ فيها المُؤخَّرَ
منهما أُدخل قبل الشهيد! فعجبتُ لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقال رسول الله ﷺ: "أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة، (31)
أو كذا وكذا ركعةً صلاةَ السَّنَة". (32) وفي رواية: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "فما بينهما أبعدُ مما بين السماء والأرض". (33)
وبالجملة؛ فالناس في تمني الموت على خمسة أقسام:
الأول: من يتمناه لينال الشهادة في سبيل الله
تعالى. فهذا مشروع محمود، ولكن لا يلزم من ذلك الاستعجال به، بل الأولى له أن
يسأل ربه أن يمنّ عليه بأن يستكثر من صالحات الأعمال والقُرَب والعلم والذكر والجهاد،
ثم يختم له بالشهادة في سبيله، فيجمع بين مرتبتي الصّدّيقية والشهادة.
الثاني: من
يتمنّاه شوقًا إلى ربه. وهذا مشروع، لأنّ قلق الشوق لا مدفع له عند بعض النفوس
إلّا باللقاء، فكيف إن كان لقاء رب العالمين تبارك وتعالى! وقد سبق ذكر قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "أُحِبُّ الموتَ
اشتياقًا إلى ربي"، فشوقُه قد ساقه لتمنّي عبور الباب للمحبوب سبحانه وبحمده. وتأمل أيضًا حال معاذٍ وبلالٍ وحذيفة وعمّار في كثير من السلف رضي
الله عنهم حين حضرتهم مناياهم فقد كانوا يطربون لذلك ويبتهجون ويستبشرون ويشتاقون،
ويهتفون: غدًا نلقى الأحبَّة محمدًا وحزبَه.
وهم لم يسألوا ربهم الموت لكنهم فرحوا
بنزوله، لأنه الباب الوحيد للوصول للدار الآخرة التي يلقون الله تعالى فيها ثم
نبيّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحبابه.
إذن فتمنّي الموت شوقًا إلى الله تعالى مشروع، ولكنه مشروط بأمرين:
الأول: ألا يكون دافعه التألِّي على الله
تعالى، والإعجابُ بعمله، والثقةُ بقبوله، والأمنُ من مكر الله تعالى، ونسيانُ صفات
جلاله تبارك وتعالى، فهذا من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى، (وما قدروا الله حق
قدره). بل الموفق هو من يبسط الرجاء على حسن ظنه بربه تعالى لا بعمله مهما بلغ،
فالقَبولُ غيبٌ، والخاتمةُ غيبٌ، والمصيرُ غدًا غيبٌ لا يعلمه إلا علام الغيوب
سبحانه وتعالى. ولولا انتظار المؤمنين لقاء ربهم يوم القيامة لتقّطعت نفوسهم حَسَرَات.
لذلك كان عامّة من ورد عنهم مثل ذلك من السلف إنما يصرحون بالشوق للقاء الله تعالى
عند الاحتضار أو قبيله حين نزول أمارات الرحيل لله والدار الآخرة، والله المستعان.
الثاني: أن يكون قلقه مفضيًا به إلى الخشية من
نقص دينه عبر تشوّش قلبه بواردات لا يطيق لها دفعًا، أو قسوةِ قلبه مع طول
المَدَى، وهذا في الحقيقة آيلٌ إلى معنى تمنّي الموت عند الخوف من الفتن. ورسول
الهدى صلى الله عليه وسلم قد وضح ذلك غاية الوضوح بقوله: "لا يتمنّينّ
أحدكم الموت لضرّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة
خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". (34) وتأمّل تعليق الدعاء
بالحياة والوفاة بالخِيرَةِ الإلهية من جهة، وبالرضا باختيار الله له من جهة أخرى،
فصار الداعي مُحاطًا بخير الله من جميع جهاته. وهذا من حرص الشفيق صلى الله عليه
وسلم على حماية قلوب أمته من استجرار العواطف غير الموفقة لها، فسدّ ذريعة الخطأ
أوّلًا ثم فتح باب الأمل من جميع الجوانب، ولا غرو فقد مدحه ربه تبارك وتعالى
بقوله الأكرم: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، بل رحمته عامّة،
قال سبحانه فيه: (وما أرْسَلْناكَ إلّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)، وعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله ﷺ ادع الله على المشركين. قال: "إنّي
لم أُبعث لعَّانًا، وإنّما بُعثتُ رحمة". (35) وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "يا أيّها النّاس إنّما أنا رحمة مهداة". (36) فصلوات
الله وسلامه وبركاته عليه وآله ومن تبعه بإحسان.
الثالث: من يتمناه خوفًا من فتنةٍ تحول
بينه وبين رضا ربه. وهذا مشروع كما مرّ معنا، مع تسليم الأمر لله والدعاء بما
ورد به الخبر.
الرابع: من يتمناه جزعًا من الدنيا.
وهذا مذموم بكل حال، وقد يُفضي به ذلك للانتحار وهو من أكبر الذنوب عياذًا بالله
تعالى. فالواجب الصبر على لأواء الدنيا وتقوى الله فيها، والاستعانة به في دفع ما
يضره من بلاء الدين والدنيا.
الخامس: من يتمناه مَلَالةً من الدنيا
واكتفاءً بما عاشه من عمره. والغالب أن هذا يكون عند تقدّم السن وضعف الأعضاء
واعتلال الجسد وموت الأقران والإحساس بثقله على أهله، فهذا حكمه حكم غيره، فهو
يختلف باختلاف حاله ودافعه وموجبه، فيكون مذمومًا إن كان زهدًا في صالح الأعمال،
ومَلَالًا من القربات لرب البريَّات، ومشروعًا إن خاف نقص دينه بتقصير في فريضة،
أو وقوعٍ في خطيئة، أو زيغ في فتنة ونحو ذلك. قال الرَّبيع بن بزَّة رحمه الله
تعالى: «إنَّما يُحِبُّ البَقاءَ مَن كانَ عُمُرُهُ لَهُ غُنْمًا، وزِيادَةً فِي
عَمَلِهِ، فَأمّا مَن غُبِنَ عُمُرَهُ واستَزَلَّهُ هواهُ، فلا خيرَ لهُ في طُولِ
الحياةِ". (37) ومن شواهدهم في مَلَالِهم حياتهم قول زهير بن أبي سلمى في
معلقته:
سئِمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يَعِشْ …
ثمانين حولًا لا أبالك يسأمِ
وقال آخر:
إذا عاش الفتى سبعين عامًا … فقد ذهب
اللذاذةُ والفتاءُ
وقال لبيدُ العامريّ بعد أن
بلغَ الثلاثين ومئةَ سنة فيما يُحكى:
ولَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَياةِ
وطُولِها … وسُؤالِ هَذا الخَلْقِ كَيْفَ لَبِيدُ
وقول أوسٍ بنُ ربِيعةَ الخُزاعِيّ:
لَقَد عَمَّرْتُ حَتّى مَلَّ أهْلِي …
ثَوائِي عِنْدَهُم وسَئِمْتُ عُمْرِي
وقال زهَيرُ بن جَنابٍ الكلبِيّ:
لَقَدْ عَمَّرْتُ حَتّى لا أُبالِي …
أحَتْفِي فِي صباحٍ أو مَساءِ
وقال المتنبّي:
وإذا الشَّيْخُ قالَ أُفٍّ فما مَلَّ …
حَياةً وإنّما الضُّعْفَ مَلَّا
آلَةُ العَيْشِ صِحّةٌ وشَبابٌ … فإذا
ولَّيا عَنِ المَرْءِ ولّى
وقال أبو العتاهية ونُسب إلى أبي محمد التّيمي:
إذا ما مَضى القَرنُ الذي أنتَ مِنهُمُ
… وخُلِّفْتَ في قَرنٍ فأنتَ غَرِيبُ
وإنِ امرَأً قد سارَ خَمسينَ حِجَّةً …
إلى مَنهَلٍ مِن ورْدِهِ لَقَرِيبُ
ولله ما أجمل رد ذلك الشيخ ولذيذ عيشه بالرضا والذكر، فقد دخل سليمان
بن عبد الملك مسجدَ دمشق، فرأى شيخًا، فقال: يا شيخُ، أيسرُّك أن تموتَ؟ فقال: لا
واللهِ، قال: ولِمَ، وقد بَلَغْتَ من السِّنِّ ما أرى؟ قال: مَضى الشبابُ وشرُّه،
وبَقِيَ الشّيْبُ وخيرُه، فأنا إذا قعَدتُ ذكرتُ اللهَ، وإذا قُمتُ حَمِدتُ الله،
فأحِبُّ أنْ تدومَ لي هاتان الحالتان. (38)
ومن رقيقِ نصحِ الشيخ عبد العزيز السلمان رحمه الله تعالى قوله
النفيس: "اعلم أن طول العمر محبوب ومطلوب إذا كان في طاعة الله، لقوله: "خيرُكم من طال عمره، وحَسُنَ عمله". (39) وكلما كان العمر أطول في طاعة الله؛ كانت الحسنات أكثر والدرجات أرفع. وأما طوله في غير طاعة، أو في المعاصي، فهو شرّ وبلاء،
تكثر السيئات وتضاعف الخطيئات.
ومن زعم أنه يحب طول البقاء في الدنيا ليستكثر من الأعمال الصالحة
المقربة إلى الله تعالى فإن كان مع ذلك حريصًا عليها ومشمّرًا فيها، ومجانبًا لما
يشغل عنها من أمور الدنيا فهو بالصادقين أشبه، وإن كان متكاسلًا عنها ومسوّفًا
فيها - أي الأعمال الصالحة - فهو من الكاذبين المتعلّلين بما لا يغني عنه، لأن من
أحب أن يبقى لأجلِ شيء وجدتَه في غاية الحرص عليه مخافة أن يفوتَهُ ويُحال بينه
وبينه، ولا سيّما والعمل الصالح محلّه الدنيا، ولا يمكن في غيرها، لأن الآخرة دار
جزاء وليست بدار عمل.
فتفكر يا أخي في ذلك عسى الله أن ينفعنا وإياك، واستعن بالله واصبر
واجتهد وشمّر، وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يُحال بينك وبينها فلا تجد إليها
سبيلًا، وكن حذرًا من مفاجأة الأجل فإنك غَرَضٌ
للآفات، وهدفٌ منصوب لسهام المنايا، وإنما رأس مالك الذي يمكنك إن وفقك الله أن
تشتري به سعادة الأبد هو هذا العمر. قال الله جل وعلا: (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه
من تذكر). فإياك أن تنفق أوقاته وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خير فيه ولا منفعة،
فيطول تحسّرك وندمك وحزنك بعد الموت.
إذا كانَ رَأْسُ المالِ عُمْرَكَ
فاحتَرِزْ … عليهِ من الإنفاقِ في غيرِ واجبٍ" (40)
والله المستعان، وعليه
التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
22 شعبان 1444
رابط المقال على شبكة الألوكة
أحكام تمني الموت خشية الفتنة أو غيرها
........................
1.
مسلم (١٦٩، ٢٢٤٥/٤)
2.
الفاقة: هي الحاجة الشديدة.
3. الزهد.
لأحمد بن حنبل (١٤٨)، حلية الأولياء (١/ ٢٣٩).
4.
الشفاء (٢/ ٥٦٩).
5.
الحاكم في المستدرك (٤/ ٥٤٧).
6.
البزار في مسنده (١٤١٠).
7.
أبو داود في الزهد (٢٣٧)، والبيهقي في
الشعب (٩٦١١).
8.
الخبر بطوله في سيرة ابن هشام (٢ /
٢٤٣). والناضِح: الحبل الذي تستخرج بواسطته المياه من البئر بالسانية، والمراد
بقوله: "فتلة دلو ناضح"، هو مقدار ما يأخذ الرجل الدلو إذا أخرجت فيصبها
في الحوض، يفتلها أو يردّها إلى موضعها.
9.
أحمد (٢٠٤٤٤) وحسنه الأرناؤوط ، والترمذي
(٢٣٢٩) وصححه الألباني.
10.
الترمذي (٣٢٣٣) وصححه الألباني.
11.
كما في الجامع لابن أبي زيد القيرواني
(١٨٢).
12.
البخاري (١٨٩٠).
13.
البخاري 7/156 ( 5671 ) ومسلم 8/64 (
2680 ) ( 10 ).
14.
البخاري (٥٦٧١)، ومسلم (٢٦٨٠)
15.
مسلم (4 / 2064) (2681).
16.
مسلم (4 / 2065) (2682).
17.
أحمد (7578) وصححه محققوه والألباني.
18.
أحمد (16040) وصححه محققو المسند
والألباني في الصحيحة (٢/ ٦٧٢/ ٩٧٩).
19.
وهو عرق في وسط الذراع يكثر فصدُه.
20.
أي: قطع سيلانه بكيِّهِ.
21.
البخاري (4117) ومسلم (1769).
22.
البخاري (7226).
23.
الزهد. لأحمد بن حنبل (١٤٨)، حلية
الأولياء (١/ ٢٣٩).
24.
حلية الأولياء (١/ ٢٣٦).
25.
حلية الأولياء (١/ ٢٣٤)، وقد ورد هذا
الحرف: "صلِّ صلاة مودِّعٍ" في حديث مرفوع، لكن لا يثبت سنده.
26.
ابن المبارك في الجهاد (٢٢٢)، وعبد
الله بن أحمد في زوائد الزهد (١١٧). ونقلت عن أبي الدرداء كذلك رضي الله عنه كما
عند أحمد (١٣٥)، وابن المبارك (٢٧٧) كلاهما في الزهد.
27.
أي: أموت في مكة وقد هاجرت منها! وقال ابن الملقّن رحمه الله تعالى في الإعلام
بفوائد عمدة الأحكام (٨/٣١): "كأنَّه أشفق من موته بمكة بعد أن هاجر منها
وتركها لله، فخشي أن يقدح ذلك بهجرته أو في ثوابه عليها، أو خشية بقائه بمكة بعد
انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وتخلّفه عنهم بسبب المرض،
فإنهم كانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله تعالى، وقد جاء في رواية أخرى: "أخلّف
عن هجرتي" أو أنه سأله عن طول عمره وبقائه بعد أصحابه".
28.
مسلم 8/11 ( 2564 ) ( 34 ).
29.
شرح النووي على مسلم (١١/٧٨).
30.
العاقبة في ذكر الموت، لعبد الحق
الإشبيلي (١٣٣).
31.
فعدد الركعات المفروضة سبع عشرة ركعة
في اليوم والليلة، وعدد أيام السنة 354 يومًا، وحاصل ضربهما 6018 ركعة. والعرب
فصحاء بلغاء يلغون في البيان ما زاد من العدد الكبير إن كانت الزيادة أو النقص يسيرين،
وهو ما يسميه بعضهم حذفَ الكسور.
وهذا
العدد المذكور إنما هو فيما لو اقتصر على الفريضة فقط، وهذا هو الحدّ الأدنى
المفروض على كل مسلم. فإن أضفنا الرواتب 12 ركعة والتهجد 11 ركعة فمجموعها 40 ركعة
في اليوم والليلة؛ وعلى ذلك فعدد ركعات السنة الواحدة 14160 ركعة! وعدد سجوداتها
يقارب الثلاثين ألف سجود، فكم لله من منح وألطاف وهبات ورحمات في صلاة العبد
وسجوده! فلله الحمد والشكر والمِنَّة.
وهذا ما سوى بقية النوافل من ذوات الأسباب
والمطلقة، نسأل الله الكريم من فضله، وتدبر كيف سمّى صلى الله عليه وسلم الركعة
سجدة، ولعل مرد ذلك لما فيهما من مشترك معنى السجود العام بالركوع والخاص بالسجود.
وضمّ لقلبك – رحمني الله وإياك - ما جاء في صحيح
مسلم (488) بسنده عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو
قال: قلت: بأحبّ الأعمال إلى الله. فقال: "عليك بكثرة السجود لله، فإنّك
لا تسجدُ لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطّ عنك بها خطيئة". وكذا ما
جاء عن ربيعة بن كعب الأسلمي خادِمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أهلِ
الصُّفَّةِ رضي الله عنهم قال: كنتُ أبِيتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
فآتيهِ بوَضُوئهِ وحاجتِهِ، فقال: "سَلْنِي" فقلت: اسأَلكَ
مُرافقَتَكَ في الجنة! فقال: "َأوَ غيرَ ذلكَ؟ "، قلت: هو ذاكَ،
قال: "فأَعِنِّي على نفسِكَ بكثرَةِ السُّجودِ". رواه مسلم (489).
وأهل الصُّفّة: هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى
موضع مظلّل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا العثيمين رحمه الله
تعالى في شرح رياض الصالحين (٢/١٠٣): "وكثرة السجود تستلزم كثرة الركوع،
وكثرة الركوع تستلزم كثرة القيام؛ لأن كل صلاة في كل ركعة منها وسجودان، فإذا كثر
السجود كثر الركوع وكثر القيام، وذكر السجود دون غيره، لأن السجود أفضل هيئة
للمصلي، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وإن كان المصلى قريبًا من الله؛
قائمًا كان، أو راكعًا، أو ساجدًا، أو قاعدًا، لكن أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد. وفي
هذا دليل على فضل السجود". أهـ.
وإذا
افتقرتَ إلى الذخائرِ لم تجدْ … ذخرًا يكونُ كصالحِ الأعمالِ
32.
مسند أحمد (8399) وحسنه محققوه، ومسند
أبي يعلى الموصلي (٦٤٨) وصححه محمد سليم أسد.
33.
ابن ماجه (٣٨٦٩) وصححه الألباني.
34.
البخاري (٥٦٧١)، ومسلم (٢٦٨٠).
35.
مسلم (٢٥٩٩).
36.
الحاكم في المستدرك (١/ ٣٥) واللفظ له
وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي. وقال الحافظ الهيثمي: رواه البزار
والطبراني في الصغير والأوسط ورجال البزار رجال الصحيح. ورواه ابن سعد في الطبقات (١/
١٩٢) والبيهقي في الدلائل (١/ ١٥٩) مرسلًا، وصحح الألباني إسناده مع إرساله في
السلسلة (٤٩٠). وله شواهد متصلة لا بأس بها.
37.
الزهد الكبير للبيهقي (١/٢٤١).
38.
تاريخ دمشق لابن عساكر (٦٨/١٧٣).
39.
أحمد (٢٠٤٤٤) وحسنه الأرناؤوط،
والترمذي (٢٣٢٩) وصححه الألباني.
40.
مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار. عبد
العزيز السلمان (٣/٢٦٨).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق