متى يُشرع البحثُ في تفاصيلِ مسائل القَدَرِ؟
الحمد لله رب العالمين، قضى وقدّر وهو العليم الحكيم، ووَعَدَ وأنذرَ وهو
الغفور الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على من بعثه الله رحمة للعالمين ومنارًا
للسالكين وحجة على الناس أجمعين، أما بعد:
فإنّ علم القضاء والقدر علم شريفٌ، وركنٌ إيمانيٌّ مُنِيفٌ، أَمَرَ اللهُ
تعالى بمعرفته واعتقاده والإيمان به، وجَعَلَ ذلك ركنًا للإيمان لا يصحُّ إلا به،
فعلم القَدَرِ كسائر علوم الشريعة التي أمرنا الله تعالى بالعلم والإيمان بها
وعَقْدِ القلب عليها، لذلك جاء التأكيدُ عليه وتكرارُ الإخبار به في القرآن العظيم
وتعليمُنَا إيّاه في حديث جبرائيل الشهير الذي جعله ركنًا لا يصحّ عَقْدُ الإيمان
إلا به، ولا زال العلماء يُقرّرون مباحثه، ويبيّنون مراتبه، ويكشفون غوامضه، ويُقِيمون
معانيه من أدلّته في قلوب الأمة، ويبيّنون لها آداب واحترازات طَلَبِه؛ من عدم
المنازعة والجدال فيه، وترك الخوض فيما لم يُؤذن لنا فيه مما طوى اللهُ علمَه عنّا
لِحِكَمٍ ربّانية عظيمة يستحقّ عليها ربّنا كل حمد وشكر.
فعلم القضاء والقدر هو علم كغيره من
علوم الشرع، ولكن لمّا كان هذا العلم مرتبطًا مباشرة بحياة الناس بالكليّة، مُحيطًا
بمصائرهم في الدنيا والآخرة، مع ما جُبِلَ عليه البشرُ من القلقِ والترقّب والضّجر
حيال ما يمسّ أحوالهم مباشرة، وكذا هَوَسِهِم بإلقاء اللوم على غيرهم حين نزول
الضرر بهم أو فوات الخير عنهم، وَهْنًا في العزم، وعَيْلًا في الصبر، ونَقْصًا في العلم،
وضَعْفًا في الإدراك، وأيضًا عجَلَتِهِم في كلّ قضاء يخصّهم، فيخاصموا وينازعوا
فيما يعنيهم وما لا يعنيهم، وما يدركونه وما لا يدركونه، إضافة إلى رغبتِهِم
الكامنة في معرفة المستقبل واختراق حواجز الغيب الموصد أمامهم، إلا من رحم الله
تعالى، مع ضميمة ارتباط القدَر بأسماء
وصفات وأفعال الله تعالى كالعلم والخلق والحكمة والرحمة ونحوها. فلأجل هذه الغرائز
الأربع في جُملة البشر: القلق، وإلقاء اللائمة، والعجلة، ورغبة كشف الغد، مع
ارتباط العلم والإيمان به بصفات الربوبية – والله أعلم -؛ كان لمسائل القدر خاصّيّة
عن غيرها، لذا وجب أخذها بحذر، وتعاطيها بتؤدة، وتناولها بإتقان، لأنّ الزيغ فيها
مفضٍ لعطب سريع وهلاك عظيم، فالانحراف فيه يؤدي لسوء الأدب مع رب العالمين، لأن
القدر مرتبط بصفات الربوبية، فالقدرُ أمرُه الكوني الربّاني. وهذه الغرائز الأربع
مردُّها لاثنتين: الكفر والجهل، (وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا)، (قُتل
الإنسان ما أكفره). فيكفر نعم ربه تعالى جهلًا وجَهَالَةً، ومتى سَلِمَ الإنسانُ
منهما أفلح وأنجح بإذن ربه تبارك وتعالى.
فباب القدر على شَرَفِهِ خطير جدًّا، وسعيدٌ مِن أهل الإسلام من لم تزغ
قدمُه فيه، وبحمد الله تعالى فعامّةُ عقائد العوامّ فيه سليمة كسائر عقائد
الإيمان، لأنها باقيةٌ على الفطرة، ولأنها تعتقد ظواهر الآيات والأحاديث التي تمرّ
بها بلا تكلّف ولا تعقيد ولا تحريف، فتؤمن بها كما يتبادر للذهن من معانيها، فتسمع القرآن وتفهم بسليقتها معناه
المباشر بلا قيود كلاميّة ولا قوانين فلسفية، فهو قد نزل بحروف عربية واضحة مبينة،
فما تبادر للذهن من معاني الكتاب والسنة فهو الحقِّ الذي نزل لإقامته في القلوب، فهي
تؤمن بظواهر تلك المعاني المباشرة مع قطع طمعها عن الإدراك والإحاطة والتكييف، وهذا
مضطرد في أفعال الله تعالى وصفاته، فعقيدة العامة في باب القضاء والقدر على
الجادّة السليمة ما دامت سالمةً من قُطّاعِ الطريق إلى الله تعالى صافٍ مشربها من من
كَدَرِ وَلَوثِ أهل الأهواء.
ومن آتاه الله علمًا مُفَصّلًا فيه فهو على خير وهدى ورفعة في الآخرة، وبحمد
الله تعالى فالقَدْرُ المبسوط منه في القرآن والسنة نافعٌ كافٍ، فهو علم ظاهر
واضح، وليس بعلمِ أسرارٍ مخفيّة ولا أمور مُغَيّبَة ولا حبالٍ مُقطّعة، خلا ما كان
خارج نطاق العلم والإدراك المأذون لنا فيه، فالمؤمن يتوقّف عنده حين تنتهي به
أطراف الأدلة الشرعية وأدوات المعرفة الإنسانية، ويَسَعه ما وَسِع سلفَهُ الصالح،
فيؤمن بما لديه ويُسلّم ما طُوي عنه لربه علّام الغيوب تبارك وتعالى.
ولكن الخطر يجري على مَنْ تَنَاوَله
بنقصٍ في آلَةِ العلم أو زيغ في قصد القلب! فينشأ عن ذينِكَ أو
أحدِهِما تساهلٌ أو تجاوزٌ في تعاطي مُعضِلات هذا العلم. فإلى تلك الخَتْلَاتِ
جَرَتِ الإشاراتُ إلى سدِّ بابه عمّن لم يتأهّلوا له. فقد ذهَبَتْ لُبني فما أنت
صانِعُ؟!
وكلّ إنسان بحكم قيام حياته على المقادير لا بدّ أن ترد عليه خواطر إيمانية
أو شيطانية فيه بحسب مَسَاقِي قلبِه علمًا وإيمانًا وتوفيقًا وهدى وسعادة، أم
جهلًا وكفرًا وخذلانًا وضلالًا وخيبة. وكل
البشر باختلاف نحلهم لهم معتقد في هذا الباب، إما بالإقرار به على اختلاف
معتقداتهم فيه، أو بإنكاره كليًّا أو جزئيًّا، ولكن الجميع يتفق على ذلك الشيء
المنتظم للحياة وجودًا أو عدمًا، ومتّفقون على أن الحياة في الغاية من الاتّساق
والانتظام حتى وإن اتّسمت نظراتهم بسوداوية أو سوء ظنٍّ أو قولًا بتناقضٍ أو كفرٍ
بالله عظيم. وغالب اتجاه إنكار القدر أنه يكون من جهة الإحساس بالشقاء والحرمان
والظلم ونحو ذلك، لهذا كانت الضرورة ملحّة جدًّا للعلم بالمعتقد الحقّ في القضاء
والقدر، فإنّ معتقد أهل السنة فيه هو في الغاية من الإحكام الشرعي والاتّزان
العقلي والاتساق الروحي والسلام النفسي والحركة المباركة ضربًا في الأرض وعملًا
ليوم العرض، (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم).
فليس للناس سكينة لقلوبهم وسلامة
لتصوراتهم وراحة لعقولهم إلا بالعلم اليقيني أن حياتهم كلها ومصيرهم مرتبط بعلم
الله الرحيم تعالى وكتابته وعموم مشيئته وخلقه، ولولا ذلك لم تقم لدينهم قائمة،
فحتى الأديان المحرفة نجد أن نظام القدر فيها قائم سامق حاضر في أذهانهم مع غبشٍ
غير قليلٍ في تصوّرهم له، وأن أمرهم كله متعلق بقدر الله تعالى واختياره وقضائه.
لأن الإيمان بالقدر سلوى وعزاء وأمل ورجاء، واتّكاء على ركن شديد من لأواء الحياة.
لذا قال بعض مفكريهم الشكوكيّين: لو لم يوجد مفهوم القدر لدينا لأوجدناه ضرورة!
فالإيمان بالقدر مرتبط بالدنيا والآخرة، ومنتظم لكل أمر الدين والدنيا، لهذا
وصفه ابن عباس رضي الله عنهما بنظام التوحيد، فقال: "القَدَرُ نظام التوحيد،
فمن وحّدَ الله وكذّب بالقدر؛ نقضَ تكذيبُهُ توحيدَه". (1) فكيف يقوم توحيد
الأمرِ – أي: العقيدة والشريعة علمًا وعملًا – لدى من يُكذّب بتوحيد الخلق؟!
فمشكاتهما واحدة، ومَعِينهما واحد، وتوحيد الربوبية ومنه القَدَر أساسٌ لتوحيد
العبادة وهو اتّباع الأمر، فمن كذّب بالقدر فقد كذّب بالعلم والكتابة والمشيئة
والخلق والحكمة والإرادة وغير ذلك مما يقتضي بطلان توحيد الإلهية ونقض الأمر لديه،
فالإيمان بالقدَر هو سلك نظام عقائد التوحيد، فمن كذّب بالقدر انتقض دينه. فمعنى
كلام ابن عباس رض الله عنهما: أنّ الإيمان بالقدر مرتبط بأصول الدين وعِلْمِيّاته
وعَمَلِيَّاته وبشعب الإيمان وأمور الشريعة كلها مثل ما ينتظم السلك خرزات
السّبحة، فمن كذّب بالقدر انتقضت معتقداته وتناقضت تصوراته وتناثرت في بيداء
الضياع حظوظه وأمنياته، لأنه قد قطع السلك الناظم لها وهو إيمانه بالقدر. لذلك
كانت النعمة من الله تعالى عظيمة جدًّا بتعليمنا القدر الكافي من القَدَر، ولك أن
تتخيل ضدَّ ذلك حتى تعلمَ قدْرَ النعمة الربّانية عليك بمعرفته والعلم به والإيمان
به، والضِّدُّ يُظهِرُ حُسْنَه الضِّدُ، وإنّما يعرف قدر النعمة مَنْ فقدها،
فلله الحمد كلّه كما ينبغي له.
إنّ علم القضاء والقدر (2) علمٌ فاضل شريف كسائر علوم الشريعة، بَيْدَ أنّ مُتنَاوِلَه
يلزمه العناية الشديدة احترازًا وحذرًا من أمرين: الضلال العلمي والزيغ السلوكي
الأخلاقي.
فالأول: الضلال العلمي في القَدَر: وهو
منقسم لنوعين، ضرب الكتاب ببعضه، ورجم بالغيب، وتفصيلهما كالتالي:
الأول: الإيمان ببعض الكتاب
دون بعض، أو الانحراف عن مفهوم الأدلة فيه، ومن ذلك الكلام في القدر بالهوى والرأي
المجرد معارضة للدليل. كما أنه ينشأُ عن الإيمان ببعض الكتاب دون بعض تنكّبُ
مُؤدَّى الأدلةِ الشرعية التي جاءت بالعلم التامّ والبيان الكامل والحق الكافي
صافيًا نقيًّا كما هو، فحدّدتْ مراتب القدر وفصّلتها، وأظهرت أحوال أهل الإيمان
بالقضاء والقدر على الإجمال والتفصيل. فمَن قَصَرَ مَشْرَبَه عليها سَلِم بإذن
الله تعالى من كَدَرِ مشارِبِ الأهواء.
وتأمل كيف ضلّ في هذا الباب القدرية
والجبرية ومن لحقهما، فإنهم ضربوا الكتاب ببعضه، فآمنوا ببعض وكذّبوا بعضًا، (أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، فكل فرقة أخذت
بجانبٍ فيه، وقبضت عليه، وكفرت بجانبٍ آخر منه، فكانَ أنْ قبضوا على الريح، جزاءً
وِفَاقًا! فكمالُ الحقِّ في مجموعه لا في تفريقه، والضلالُ فيه بإنكار جزءٍ منه، (قُلْ
كُلٌّ مِن عِنْدِ اللهِ فَمالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا).
فالقدرية أنكرت بعض علم الرب تعالى
وكتابته وعموم مشيئته وعموم خلقه، على اختلاف بينهم كثير، فمنهم من أشبه الدهرية،
ومنهم الغلاة، ومنهم ما دون ذلك بأن أقرّ ببعض المراتب كالعلم والكتابة دون بعض.
أما الجبرية فآمنوا بقدَر الله تعالى إيمانًا مُشوّهًا بأن نفوا مشيئة الإنسان
التي ذكرها الله في محكم القرآن، وإن أسماها بعضهم بالكَسْبِ ونحو ذلك، وهذا من
خَتْلِ الفكر وخَطَلِ العلم لأنها آيلة لإنكار ما جاء صريحًا في القرآن العظيم
وبداهة العقول من إعطاء الله تعالى عبده إرادة يحاسبه عليها، فهو ميسّر لما خُلق
له، ولله الأمر من قبل ومن بعد (وهديناه النجدين)، (منكم من يرد الدنيا ومنكم من
يريد الآخرة)، (لمن شاءَ مِنكُم أن يَسْتَقِيم . وما تشاؤون إلا ان يشاء الله رب
العالمين).
ومن أسباب ضلالهم في باب القدر تسويتهم
بين مشيئة الله تعالى ومحبته، وعدم تفريقهم بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، ومما تفرّع عن ذلك الضلال العلمي الرضا بالمعاصي، وهذه ضلالةٌ للدينِ
فاقِرَةٌ، وأمثلتُها في المنسلخين من الأمر تطول، (ومن يضلل الله فما له من هاد).
ولاحِظ أنّ هذا الضلال العلمي ناشئٌ
عن الزيغ المسلكيّ كما قال الله تعالى: (فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم)، وأنّ الذنب سبب لتسلّط العدوّ الرجيم، قال الله جل شأنه: (إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ إنَّما اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا). فلو أنهم
تأدّبوا مع كتاب الله تعالى وأجلّوه وعظّموه، وآمنوا بالكتاب كله بالفعل والتطبيق
لا بمجرد التلفظ والدعوى؛ لهداهم سبلهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تكفّلَ
الله لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه ألّا يضلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم
قرأ هذه الآية: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)". (3)
وعلى قدْرِ الإعراض يكون الضلال. وقال سبحانه مبيّنًا أن الهدى – كلّ الهدى – في
كتابه العظيم: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ
غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، وقال تعالى: (كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ)، وقال سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ
عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، فأقفال القلوب تفتح بالتدبر المخلص الصادق المُتّبع.
قال ابن أبي العزِّ الحنفي رحمه الله تعالى: "وينبغي أن يُعرف أنّ عامة من ضلّ
في هذا الباب، أو عجز فيه عن معرفة الحق؛ فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به
الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلُّوا".
(4)
النوع الثاني من الضلال العلمي: الكلام في باب القدر بلا علم، والرجم فيه بالغيب، وذلك بأن يتطاول بذهنه
إلى ما ليس له، ولم يؤذن له فيه، لأن بعض علوم القدر مطويّة عنّا، إما بطي الخبر
الغيبي أو بالعجز عن إدراكه، فهي من الغيب الذي استأثر الله تعالى به أو بمن أذن
له، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ
تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)، (عالم الغيب والشهادة)، (عالم
الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول).
ويلحق بهذا النوع ما زاد من العلوم
عن حدِّه المُقَدَّرِ لنا أن نطّلعَ عليه، فمن ذلك علاقة القَدَرِ المُعلّقِ بالقَدَرِ
المُبْرَمِ، ومن أمثلته ما صحّ في السنّة من دفع البلاء بالدعاء، وإطالة العمر
بالبرّ والصلة ونحو ذلك مما استفاضت به الأحاديث، فالله تعالى قدْ قدّرَ الأقدارَ،
وجعل منها قدَرًا مُحكمًا مقضِيًّا مُبرمًا لا يدخله تغيير البتّة، وهو ما كتَبَهُ
في اللوح المحفوظ فهو قضاءٌ مُبْرَمٌ، وكلّ الأقدار راجعة إليه في النهاية.
وجعل هناك أقدارًا معلّقةً بأسبابها لحكمة بالغة، فهذه يدخلها التغيير بأمر
الله تعالى، كالتقدير العُمْرِيٍّ عند نفخ الروح في الجنين، والتقدير السنوي عند
ليلة القدر، والتقدير اليومي، ونحو ذلك مما في صحف الملائكة، فهي أقدارٌ تتغيّر مع
وجود أسبابها كالدعاء والبرّ، وهذه الأقدار المُعلّقة تجري مجرى الحياة العامة
وكدح الناس وأعمال برّهم وفجورهم، وتعلّقها بمصائرهم، فالله تعالى قد جعل الإيمان
والعمل الصالح سببًا لرضوانه والجنة، وجعل الكفر سببًا لسخطه والنار، فالخلق يسعون
ويعملون، وكلٌّ ميسّر لما خُلق له، فكما أن العمل الصالح سبب فكذلك الدعاء سبب
والصلة سبب، وإن كان للدعاء والبرّ مزيدُ خصيصة اهتمام لتخصيص ذكرهما في هذا الباب،
لكنهما كسائر الأسباب المُعلّقة بها أقدار الله تعالى، فإن وُجدت أسبابها وقعت
مُسبّباتها بإذن الله، وإن تخلّفت لم تقع بإذن الله، والذي سيكون هو المطابق أزلًا
لما سُطِرَ من القدَرَ المُبرم في اللوح المحفوظ.
فهناك أقدار ماضية مُبرمة لا تتغيّر،
وهناك أقدارٌ مُعلّقة بأسباب مرتّبة عليها. فالأعمال الحسنة والأفعال السيئة لهما
أثرٌ بإذن الله تعالى في الأقدار المُعلّقة، ولعلّ هذا من حِكَمِ التكاليف الشرعية
والابتلاء الربّاني لبني الإنسان بأن أعطاه قُدرةً حقيقية، وإرادةً حرّةً، واختيارًا
واضحًا، يستحق بحسَبِه الجزاء يوم المعاد، ومهما كان ذلك الخيار فهو داخلٌ في
دائرة القدر المُبرم المحتوم، يُساقُ إليه عن طريق التيسير، فهو مُيَسَّرٌ لما خُلق
له. وهذا من آيات الله تعالى الباهرة، وقدرتِه الهائلة، ومشيئتِه النافذة، وحكمتِه
الكاملة، وغِنَاهُ التّام، وعدلِه المبين، ورحمتِه التي وسعت كل شيء، وخَلْقِه
المُحْكَمِ، وقَدَرِه المُتّسق، ودِينِه الشافي الكافي. ومن اتضح له ذلك انكشفت له
المسألة بإذن الله تعالى. فإلى هنا ينتهي علمنا بهذا القدْر من القدَر، أمّا ما
وراءه فهي أسرارٌ ربّانيّة في القدَر قد طوى الله علمَها عن أنامه، وتعبّدهم
بالتسليم له بها، والإقرار بشمول علمه وعموم مشيئته وعظيم حكمته وعدله ولطفه وبرّه
ورحمته. والمقصود؛ أنّ العلم بكيفيّة وتفاصيل رجوع القدَرِ المُعلّق للمُبرم، وأنه
وإن أُمِرْنَا بالسعي فيه لأنّ له أثرًا لا نُحيط به، ومع هذا فهو لا يختلف عمّا
في اللوح في النهاية، فهو وإن كان من جهة التّيسير ابتداءً فنهاياته وغاياته مما لم نُحِطْ به خُبْرًا،
فهو ممّا استأثر الله تعالى بعلمه، فمِنْ ظُلْمِ النفسِ إقحامُها فيما ورَائِيّاتِه،
فالغيوب يبقى علمها لعلّامِها تبارك وتعالى، فَمَا لنا فيها إذنٌ ولا علمٌ، والله
المستعان.
وإنّ مِن القدر الغَيبي علمُ الله تعالى بالأمور الغيبية في الأزل والحاضر
والمستقبل، وهذا غيبٌ محض، فالخوض في أمور القَدَر بلا أَثَارَةٍ من الوحي قولٌ
بالظنِّ، ورجمٌ بالغيب، وخيبةٌ للرجاءِ، واتّباعٌ لسَنَنِ الأمم الضالة، (فَاسْتَمْتَعْتُمْ
بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا).
ومن توابع ذلك الضلال العلمي قياس أفعال الله تعالى بأفعال المخلوقين، فيُحسّنون
ويُقبحون بآرائهم، وهذا من أكبر أسباب الضلال. ومن فروعه الأثيمة القدْحُ في حكمة
الله تعالى، وهذا ضلال وزيغ وسوء أدب مع جنابِ من لا يأتي الخير إلا منه، (وما
قدروا الله حق قدره)، (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، (وما بكم من نعمة فمن
الله)، (ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النّاسَ بِما كَسَبُواْ ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها
مِن دَآبَّةٍ ولَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فَإذا جاءَ أجَلُهُمْ
فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيرًا).
ومن الضلال العلمي تطبيق مقاييس البَشَر القاصرة ومفاهيمهم الناقصة على قضاء
الله وقَدَرِه الرباني الإلهي، وهذا من أكبر ضلال من ضل في هذا الباب، وهو من
أسباب اعتراض المخذولين على الأقدار والأرزاق ونحوها، ولهذا قال الزهري رحمه الله
تعالى: "القَدَرُ رياضُ الزندقة؛ فمن دخل فيه هَمْلَج" (5)، (يا أيها
الإنسان ما غرك بربك الكريم).
الثاني: الزيغ المسلكي قي باب القضاء والقدر:
وهو كثير في الناس وأنواعه طويلة الذيول مختلفة المسارب، ويجمعها عدم التسليم لله تعالى.
ومن ذلك أن يعتقد الأمر ثم يبحث عن
دليل يلوي عنقه إليه، أو أن يتنازع فيه نزاع المراء والعلوّ في الأرض لا التواضع
للحق، ومن ذلك تناول مسائل القدر بالجَدَلِ المُفضي إلى إثارة الشبهة دون إقامة
الحجة، وكذلك الخوض في مسائل لا يزيد العلم بها ولا يضرّ الجهل بها، بل قد يصل
الأمر بالخائض فيها بلا بصيرة لانتكاسٍ إيماني وارتكاسٍ علمي وحيرة فكرية،
فالإيمان بالقدر مبنيٌّ على علم يقينيٍّ راسخٍ، لا على شكٍّ وارتيابٍ ونفاق،
فالأيمانُ يقينٌ والنفاقُ رِيبةٌ. وقد يُخذل من دخل بابًا لم يُؤمر به ولم يؤذن له
به فتعلق بقلبه شبهاتٌ تُزعزعٌ يقينه وتقوّضُ ثباته فيلقى اللهَ شاكًّا في بعض
أمره عياذًا بالله تعالى، (فَإمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ
هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى (١٢٣) ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ
مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى (١٢٦)
وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ ولَعَذابُ الآخِرَةِ
أشَدُّ وأبْقى (١٢٧).
والجدلُ الباطلُ علامةُ
خذلان فعن أبي أُمامَة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ ﷺ: "ما ضَلَّ
قَومٌ بَعْدَ هُدًى كانُوا عليهِ إلّا أُوتُوا الجَدَلَ"، ثُمَّ تَلا
رسول اللَّهِ ﷺ هذه الآيةَ: ﴿ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ
خَصِمُونَ﴾ (6). ولكن الجَدَلَ بالهدى والحقِّ لإقامة الحقِّ محمودٌ مشكور من الله
الحقِّ، كما قال تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن)، وقال سبحانه: (ولا تجادلوا أهل
الكتاب إلا بالتي هي أحسن). ولا يدخل في التَّنازع المذموم منازعةُ ومجاهدةُ الفرق الضَّالة من المشركين
وأهل القبلة ومجادلتهم بالحقِّ؛ بل هو من الجهاد العالي وهو جهاد اللسان والبيان،
وهو جهاد المرسلين، والله تعالى قد أُمرنا به، (وجاهدهم به جهادًا كبيرًا)، (ذَلِكَ
بِأنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطِلُ وأنَّ
اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ).
ومن الزيغ السلوكي في هذا الباب أيضًا أسئلة التعنّت في القدر، والله تعالى
يقول: (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون)، (وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال).
ومنه أيضًا الاحتجاج بالقدر على المعصية كقولهم: ( لَوْ شاءَ اللَّهُ ما
أشْرَكْنا ولا آباؤُنا). ومن الزيغ السلوكي في باب القدر أيضًا الاعتراض على
القضاء والقدر واللّدد والمخاصمة والمُماراة كفعل المشركين، (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ
عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحياةِ الدُّنيا ﴾ [الزخرف:
31-32]. وأوّل من خاصم ربه في القدر إبليس أعاذنا الله منه، فإنه قال: ﴿رَبِّ بِما
أغْوَيْتَنِي﴾، فمن خاصم في القدر فشيخه أبو مِرَّة الرجيم، (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ
اللَّهُ أعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ).
هذا؛ وإنّ من المخالفات المسلكية في هذا الباب الأُغلوطات، ولقد كان السلف
يزجرون عن الأُغلوطات ومعناها: السؤال عن عُضَلِ المسائل والمشكلات على وجه
التعجيز لا الاستهداء، فيُغالَط بها العُلماء ليَزِلُّوا فيها، وكذلك المسائل التي
لم تقع بعْدُ، كذلك ما لا يُحتاج إليه من كيف وكيف. فجامع الأغلوطات: السؤال على
غير نيّة الهداية، والله المستعان (7).
قال الأوزاعي رحمه الله تعالى:
"إنّ اللهَ إذا أراد أن يَحرم عبدَهُ بركَةَ العِلم؛ ألقى على لسانه المَغَاليط، فلقد رأيتُهم أقلّ
الناس عِلمًا" (8). ولما سأل رجل أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن مسألة فيها
غموض، قال له: "هل كان هذا بعد؟"، قال: لا، قال: "أَمهلني إلى أن
يكون" (9). وعن أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: "سَلُوني"،
فسأله ابن الكواء، فقال: "ويلك سَلْ تفقُّهًا، ولا تَسَلْ تعنُّتًا"،
وفي موضع آخر قال له: "إنك لَذَهَّابٌ في التِّيه، سل عمَّا ينفعك أو
يعنيك" (10). وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: "شِرَارُ عباد الله
ينتقون شرار المسائل يُعَمُّون بها عبادَ الله" (11). وإذا تأملت غَلُوطَات
الناس تجد أن سوادها التعنّت في القدر لغموض بعض مسائله واتّصالها بحياة العامة.
وبالجملة؛ فالعلم بالقَدَر ضروري للإيمان وركن فيه، إذ هو من أصول الإيمان
التي يجب تعلّمها، فمن مسائل القَدَر ما يكون العلم والإيمان به ركنًا للإيمان،
ومنها ما يكون العلم والإيمان به كمالًا للإيمان لتعلّقه بعلم الشريعة وأفعال
الرحمن، ومنه مسائل لا فائدة علميّة ولا عبادة عمليّة ولا تزكيةً إيمانيّة تُرجى
من خوضها وبحثها؛ فالأصل عدم الدخول فيها إلا للحاجة كردِّ شبهةٍ ونحو ذلك.
أمّا القدْرُ المنهيُّ عنه في مسائل
القَدَر فهو على نوعين: أولاهما: غيب لا يعلمه الا الله تعالى، فالخوض في ذلك رجم
بالغيب وتكلّفُ مالا علم لنا به، والثاني: التنازع والمِرَاء وضرب النصوص ببعضها.
فمتى سَلِمَ المرءُ من تناول هذين المحذورين؛ شُرع له بحث مسائل القضاء والقدر،
وساغ له الكلام فيه بإيمان وعلم وأدب.
هذا؛ وإن مراعاة هذين الأمرين وإن كانت مضطردة في سائر مسائل الشريعة إلا
أنها في باب القضاء والقدر أشدّ حضورًا لتعلّقها المباشر بحياة وفكر ومصائب ورغائب
ومصائر الناس من جهة، وارتباطها الوثيق بأمور الدين كلها من جهة أخرى، فبذلك تمّ
ربطُ الدنيا بالآخرة، والعلم بالعمل، والتكليف بالمصير، والابتلاء بالديانة، وحرثِ
العبدِ بأمرِ الربِّ؛ فمِن هنا كان نزاعُ الناس فيها كثيرًا، واضطرابُهم حيالَها
عظيمًا، لذلك جاء التشديد في الخوض والتنازع والمخاصمة فيها ما لم يأت في غيرها،
والله أعلم.
هذا؛ وقد يكون بحث بعض نوازل مسائل القدر الحادثة فرضًا على بعض الأعيان إذا
قام سبب ذلك. وقلنا بمشروعيته في عويص مسائل القدر الحادثة لمن كان من أهل العلم
حين وجود سببه؛ لأنّه من جهاد الدفع العلمي الكِفائي عبر توضيحِ الحدود الشرعية
الحقيقية للمسألة بأدلتها وشواهدها، وصدِّ شبهات الضَّلالة، وردِّ إيرادات
العَماية، ودفع الصيال العادية، من الشبهات الخاطفة والأهواء الضالّة والنوازل
الحاضرة عن الأمة.
واعلم – رحمني الله وإياك – أنّ طريقة
دفع عامَّة الشُّبَه في تلك المسائل الحادثة في باب القدر وغيرها إنما يكون بتوضيح
حقيقتها وإزالة ما التبس من تمويهها، فالحق يبقى حقًّا، والدين ليس في حاجة لعلم
جديد مستأنف، فهو كاملٌ تامٌّ مَرْضِيٌّ لا يشادّه أحدٌ إلا غلبه، فالمقصود – وهذا
مهم جدًّا – هو أنّ بيان ضلال المسائل في هذا الباب عبر بحث المسائل ليس لتثويرِ
علمٍ جديدٍ فيها، فلا جديد في علم الشرع؛ إنما الغرض منه إفراد الدخيل عن الأصيل،
وتمييز الحقِّ المَكِينِ من الباطل المُدَّعَى، فمتى رُدَّتِ المسألة النازلة
لأصلها الشرعي وحدودها وحقيقة معناها وكشف أغلاطِ مناطاتها فإنها تسقط تلقائيًّا،
فالحق في الكتب واضح بحمد الله تعالى، (الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ
المُمْتَرِينَ).
فالحقُّ شمسٌ والعيونُ نواظرٌ … لكنّها تخفى على العميانِ
ولتقريب المعنى؛ فلو أنّ مسألة ما قد بُنيت على حديث باطل؛ فإنّ بيان بطلان
سنده كافٍ عن بحث متعلّقات المسألة في معناه، لأن ما بُني على باطل فهو باطل. وكذلك
لو أنها بنيت على نصّ صحيح لكنها فُسّرت على فهمٍ مغلوطٍ لا يحتمله النص؛ فإنّ
إثبات عدم احتمال المعنى المُحدَث لذلك النص كافٍ في إسقاطها. وكذلك لو كانت
الشبهة مبنية على أغلوطة فكرية أو مظنونة عقلية ثم سيقت للناس على أنها قطعية
عقلية، فيسوّقُ الوهمُ بصورة يقين، وأشياء أقلّ ما يقال فيها أنها ظنية لا قطعية؛
فدفع ذلك يكون عبر تمييز الحدود الفاصلة القطعيّة لليقينيّةِ العقلية عنها، فإذا
ظهرت الحقيقة اليقينية واتّضحت سقطَ ما أُلصق فيها من أوهام واضمحلَّ ما خالَطها
من خاطِئ الإرادات وغالِطِ الأفهام، وانماعَ شمعُ الزيف عبر نارِ تحقيقِ المناط
وتحريره وتنقيحه، وانقشع بحمد الله غينُ الهوى بشمسِ الهدى، (فما ذا بعد الحق إلا
الضلال). وهذا ما يسمّى عند الأصوليين بتنقيح المناط، أي: تنقية الأمر المعيّن
وتخليصه من غيره، فيُنزع عنه ما ليس منه، وذلك بأن ينص الشارع على حكمٍ عقيب أوصافٍ
معينة، فتُلغى الأوصاف غير المؤثرة في الحكم، ثم يعلق الحكم على ما بقي مما هو
معتبر لها، وهذا مرادنا هنا، لأن الباطل يسقط بنفسه حين كشف حقيقته، فيذوب حينها
ثلجُ الضَّلال ويستبين فوقه مَرْجُ الحقِّ، فإيراده مردودًا بالبراهين الشرعية
يهتك ستار تدليسه ويكشف قناع تلبيسه عن وجه الحقيقة الأبلج الناصع المبين. والشبهة
إذا زالت فإن الإيمان يدفع ما بعدها بإذن الله تعالى. فإن ساعد على ذلك صلاحُ ذي
الأمر وقوّته اجتمع خيرهما بإذن الله تعالى، كما قال أبو تمّام:
فَما هو إلَّا الوَحيُ أو حَدُّ مُرْهَفٍ … تُمِيلُ
ظُباهُ أخْدعَيْ كُلّ مائِلِ
فهذا دواءُ الدّاءِ من كُلِّ عالِمٍ … وهَذا دَواءُ
الدّاءِ من كلّ جاهِلِ (12)
والحاصل؛ أن بحث هذه المسائل الشائكة إنما يكون في الغالب بهذه الطريقة، وهي
كما ترى مفتقرة إلى معرفة الحدود الشرعية للمسألة الواحدة بفهمها السليم أوَّلًا
حتى لا يُدخل فيها ما ليس منها أو يُنفي عنها ما كان منها، ثم استيعاب أدلتها وربط
معانيها بها واحترازاتها، ثم يلي ذلك دفع إيراداتها وإبطال توهّماتها. فبتحرير محلّ
المخالفة فيها عبر بيانِ الحقِّ المُذْهِبِ لما يُظنّ من ضلالَةٍ شِيبَ بها حقٌّ،
فيميز الحق حينها من الباطل، حتى يبقى الباطلُ عاريًا واضحَ الضلال، فيسقط من عيون
الخلق وتنفره قلوبهم، وبهذا يسقط أساسُ الباطل وينهار بناؤه بفضل الله تعالى،
فالباطل مهما تلوّن وانتشر فهو ضعيف في نفسه ينهار تحت معاول الحق، لذلك فلم يُصب
من منع من ذلك بإطلاق، أو فتح بحثه بإطلاق، فليس في الأمر مع التحرّز والحذر
والتؤدة إبطالٌ لحقٍّ أو تمريرٌ لباطل أو تضييعٌ لفاضل، والمؤمن كيّسٌ فطن، وكلٌّ
ميسّرٌ لما خُلِقَ له.
وإذا علمت بأنه متفاضلٌ ... فاشغلْ فؤادك بالذي هو أفضلُ
وكم من نجاسة فكرية رُوِّجت على العقول حتى ألِفَتْهَا، وضلالةٍ كُرّرتْ على
النفوس حتى صدّقتْ بها، وفتنةِ علمٍ تساهل بها صاحبُها حتى أَوْبَقته، ولو أنها
كشفت ابتداءً لسقطت كالسِّقط التالف.
ومن فروع ذلك؛ بيان أنّ الضلالة الفتّانةَ لا تكون ضلالًا محضًا وإلا لم
تُغْرِ مؤمنًا، لكنها تتزين ببعض الحقِّ تسويقًا لباطلٍ خلفَه. فمكمَنُ خطر الضلالة
وسبب انتشارها هو أنّها ضلالة بُنيتْ على شيء من حقّ، ثم غُيَّرَتْ وجهته
واستُرسِل في لوازم ليست له، وأُحيل معناه الجميل الصحيح لباطل قبيح. ولو كان
الباطل خالصًا لم يَرُج في سوق أفكار البشر، ولكنه كالسارق الذي يلبس ثوب صاحب
المنزل، وكمن يبيع العنب لمن يعصره خمرًا، (وإنَّ مِنهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ
ألْسِنَتَهُمْ بِالكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتابِ وما هُوَ مِنَ الكِتابِ
ويَقُولُونَ هُوَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وما هُوَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ويَقُولُونَ
عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُونَ).
ولو تأمّلت مذاهب أهل الأهواء قاطبة لوجدتها لا تخلو من حق يقلّ أو يكثر.
وكلما كان حيّز الحق والهدى أكثر كلما راجت شبهتهم واشتد كلَبُها في الناس، فالخير
في الناس يسوقهم لطلب الهُدى حيث كان. لذا كان من شريف الجهاد العلمي دحرُ هؤلاء
عن حياض العلوم نصحًا للأمة من غَشش القول وغَيايات البدع، (وما يَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ
فَلَنْ يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ).
ومن هذا الباب فإن بحث مسائل القدر التي شاع بين الناس الكلام فيها بفهمٍ
على غير حقيقتها، وفقهٍ على غير هُداها، حتى زَلْزَلَتْ قلوبَ بعض المتقين،
وغَبّشتْ بصائرَ قومٍ مؤمنين، وكدّرت صفاء آخرين، وخِيف من ضلالهم فيها أن تستريبَ
قلوبُهم وتستشكَّ أفئدتُهم ويتزعزع بالله تعالى يقينُهم؛ فحينئذٍ يكون فتحُ ذرائع
بحثها مشروعًا لا ممنوعًا، ولكن على قدْرِ الحاجة بلا مزيدِ خوضٍ فيما لا طائل
منه، فالقلوبُ ضعيفةٌ والشُّبَهُ خَطّافة، والعملُ كثير والعمرُ قصير، والسلامةُ
مطلبٌ والعافية لا يعدلها شيء.
وعليه؛ فمن خاف على دينه من شبهةٍ
ففرضُه الإعراض عنها، أو سؤال أهل العلم عمّا أشكل عليه مِنْ فهمِها، أما إعناقه
في حبائلها وخوضه في مشتبهها فُضُولًا وحُبَّ استطلاعٍ؛ فهو مغامرةٌ بالدين
واقتحامٌ للمهلكة ورحلةٌ للعَطَبٍ، كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ. ولكن من كان من
أهل العلم والتخصص، وأخلص الوجه لله تعالى، واعتصم بالوحي؛ فلن تزل بإذن الله
قدَمُه، وسيُشكَرُ بإذن ربه سعيُه، ولكلِّ حالٍ لَبُوسٌ، ولكل مقامٍ مقالٌ، ولكلّ
لواءٍ أهلُه. ومَنْ طَرَقَ الأمورَ من أبوابها أوشَكَ أن يُفتح له، ومن عزَمَ في
الجَوَادِّ وَصَل.
إذا لم يكن إلا الأسنّةَ مركبًا ...
فما حيلةُ المضطرِّ إلا ركوبُها
وعليه؛ فقد يكون بحثُ آحادِ بعض المسائل النازلة فرضًا على بعض الأعيان، كما
قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى: "لو أنّ الناس كلما استصعبوا أمرًا
تركوه ما قام للناس دينٌ ولا دنيا" (13). وحراسة ثغور العلم والإيمان أولى من
حراسة ثغور الأرض والبلدان، وكلما جَدَّدَ أعداءُ الله بدعةً أقام الله لهم من
يهدمها بأمره، ولا يزال في الأمة قائمين لله بالحجة والبرهان وبالسيف والسِّنان.
فلم يزَلِ الله تعالى بحمده وفضله ومنّته يستغرسُ في الأمّة من يقوم له بالحُجّة
تِبيانًا للمحَجَّة، منافحًا عن قواعد الملة، حارسًا لحياضها، مجاهدًا لله فيها، (ولَوْ
يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنهُمْ ولَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ). ومن
هذا الباب الحارس الحامي بإذن الله تعالى تكلّم الأئمة في مسائل أُحدثت في زمانهم،
فتأمّلْ ما كتبه الإمام أحمد وطبقته ومن سبقهم في مسائل لم تكُ فيمن قبلهم، ثم
استجدّت نوازل لِمَن بعدهم من أئمة الأُمة، وكان شيخ الإسلام يكتب ويذكر أنه لو لم
تكن الحاجة لمثل هذا وأن أهل الباطل نازعوا فيه ما كتب فيه، ونحو ذلك.
وبالجملة؛ فمسائل القَدر سهلة يسيرة
وواضحة مُبِينَة في الجملة، وهي كافية للإيمان، ومن آمن بها أغنته وكَفته وصحّ بها
معتقده، وهي مبثوثةٌ في ثنايا القرآن والسنة، مُعزّزةٌ بالعقل والفطرة. وهي
نَزْرَة قليلة تامّة كافية شافية لولا تشقيق الناس لمسائل أبعدوا فيها عن نُجعة
السلامة والهدى، بيدَ أنّ بعض أبواب القَدَر – وهي زائدة عما ذكرنا - شائكةٌ
عسيرة، ولها حدود وأطراف في الغاية من العُمق والدِّقّة، وتشتبه على كثير من
الناس، وإنما يفهمها الراسخون الذين يُنزلون علمَها منزلته اللائقة ومكانه الصحيح.
ثم مِن بعدها أطرافٌ من علم القدَرِ لا يعلَمُها بَشَرٌ، لأنها فوق استيعابهم
وإدراكهم وأَفهَامهم، وأوسع جدًّا من أن تحيطها علومُهم، فالإقدام عليها عَطَبٌ
للعقل، وضياعٌ للدين، واستفراغٌ لجهدٍ كان الواجب أن يُبذل فيما سواه، فلم يأذن
الله تعالى بأن تكون معلومة لنا في هذه الدار رحمة وحكمة وابتلاء، وحتى يَمِيزَ
اللهُ المؤمنَ المُوقن المُسَلّمَ من المُتهوّكِ المُرتابِ المُكذّبِ، فهي مسائل
تُحيّرُ العقولَ ولا تُحيلُها، فالعقول تقبلها وتقول بإمكانها ولكن لا تفهم
أطرافها على التفصيل، بل أحيانًا حتى على الإجمال، لأنه بعدَ مرْمَى إدراكها وفوقَ
إطاقةِ قوّتها.
وكلّ هذا راجعٌ لحكمة الله تعالى وربوبيّته
وأسرار خلقه ورحمته ولطفه وابتلائه لعباده، لذلك كان حتمًا على المؤمن الوقوف دون
أسوارها، وعدم الاقتراب بفكره من أرْبَاضِها، والنزوع عن التلصُّص بوهمه في
مساربها وأنقابها، حتى لا يزيغ فهمه، ولا يضلّ علمه، ولا يخيب سعيه، ( هُوَ
الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ
إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
وعليه فاعلم – رحمني الله وإياك – أنّ مسائل القدر على أربعة أَضْرُب:
الأول: مسائل جاءت الشريعة بها وبأدلتها على
الإجمال والتفصيل، وهذا الضرب فيه علوم لا يقوم الإيمان إلا بها، كالإيمان بعلم
الله تعالى، وكتابته، وعمومِ مشيئته لكل شيء حتى طاعة المطيع ومعصية العاصي، وخلقه
للأشياء كلّها ومنها أفعال العباد. وحكمته ورحمته وعدله وإرادته وابتلائه ونحو ذلك
من المسائل، وهي العلوم الضرورية في باب القضاء والقدر.
الثاني: علوم جاءت بها الشريعة في باب القضاء
والقدر على وجه التكميل، فهي قدْرٌ زائد عن العلوم التي لا يقوم الدين إلا بالعلم
بها واعتقادها، وهي أشبه ما تكون بتفصيل ما أُجمل في الضرب الأول، والعلم بها
شرَفٌ مندوبٌ مستحبٌّ محمودٌ، وحالها كحال بقيّة مباحث علوم الشريعة الأخرى التي
يعلو عند الله تعالى من كان بها أعلم: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا
العلم درجات)، (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) وهذا هو باب المسابقة
إلى الله تعالى عن طريق طلب العلم من أبوابه التي أشرعتها الشريعة، (فاستبقوا
الخيرات).
الثالث: علوم نهى الشرع عن بحثها، وزَجَرَ عن
الخوض فيها، وهي سياقات بحوثِ القَدَر التي ليس تحتها عمل، ولا تنتهي لعلم متعلّق
بدليل، بل هي افتراضات وتَحَكُّمات متعلّقة بعلم الغيب، فلا تُدرك إلا بالخبر من
الله تعالى، وإذ لم يوجد الخبر، فمعناه أن هذا العلم مغلق عنّا، وهذا نابع عن
إيماننا التام بكمال الشرع، وعدم نقصه بأيّ وجه من الوجوه، كما قال تعالى: (ما
فرطنا في الكتاب من شيء)، وقال سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم)، وقال صلى الله
عليه وسلم: "تَرَكتُكُمْ عَلى البَيضاءِ لَيلُها كَنَهارِها لا يَزِيغُ
عَنها بَعدِي إلّا هالِكٌ" (14)، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما
تَرَكتُ شَيئًا يُقَرِّبُكُمْ إلى الجَنَّةِ إلّا وقَد حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، ولا
شَيئًا يُبعِدُكُم مِن النّارِ إلّا وقد حَدَّثْتُكُم بِهِ". (15) فلمّا
كان الشرع كاملًا أوَّلًا، ثم لم يورِدِ الشرعُ هذه المسألةَ بعينها ثانيًا؛ دلّ
هذا على أنّ هذه المسألة هي خارجُ سياقِ الشرع والدين.
وإذا كانت كذلك فلا خير في بحثها، ولا حاجة لنا بها، لأنها لو كانت مغنمًا
لأبداها الشرع لنا، كما أنّ معرفتَها على التحقيق مُحالةٌ علينا، لأن طريق العلم
اليقيني بها محصورٌ بخبر الشرع لا غير. ومن ذلك علم سرِّ القدر، ومعرفة العلل
الغائية له على التفصيل والتحقيق، ولماذا خلقَ الله تعالى كذا وكذا، وعلامَ أفقرَ
فلانًا وأغنى فلانًا، وأصحّ هذا دون ذاك، وأمات هذا وأحيا ذاك، وأضلّ وهدى، وشاء
واختار.. ونحو ذلك، (ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ
الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ (٦٨) ورَبُّكَ يَعْلَمُ ما
تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وما يُعْلِنُونَ (٦٩) وهُوَ اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ لَهُ
الحَمْدُ فِي الأُولى والآخِرَةِ ولَهُ الحُكْمُ وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)، لذلك
فالإقرار بالجهل بسرّ القَدَر يقطع وارد النزاع والشقاق والاحتجاج بالقدر على
المعاصي، ويورثُ العقلَ الراحةَ من مُشاغبةِ الأفكارِ الغَبِيّة في الأمور
الغيبيّة، ويحقن في القلب التسليم لله تعالى في الشأن كله، (وأُمرنا لنسلم لرب
العالمين).
وثمَّةَ أمور من القَدر فيها دقّةٌ وعمقٌ لا يفقهها ولا يستوعبها كلّ أحد،
وإن كانت واضحةً لأهل العلم، ولا يحسُن إيرادها خشية الإلباس، وثمّة أمور قدريّة
غير مكشوفة للخلق أصلًا ولا تدركها عقولُهم ولا تُطيقها أفهامُهم، قد حُجِبَتْ
عنهم لِحِكَمٍ ربانية لا نعلمُها والله يعلمُها، ومع ذلك نؤمن أنّ الله تعالى لا
يظلم الناس شيئًا، وأنهم بين فضله وعدله، وأنه حكيم في أفعاله، وأنّ رحمتَه سبقت
غضبه، وعفوه سبق مؤاخذته، وأنه محمودٌ حمدًا كاملًا على كل أقداره وأوصافه
وأفعاله، وأنّه قد وسع كل شيء رحمة وحكمة وعلمًا.
وبعدُ؛ فأنْعِمِ النَّظَرَ، وأَطِلِ التدبّر، واستنطِقِ القلبَ، واستحلِبِ الفكر، واستنزِحِ المعاني العجيبة من قول الله تعالى في هذا الباب الهائل الغامض المدهش: ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلى الغَيْبِ ولَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُسُلِهِ مَن يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ وإنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا فَلَكُمْ أجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
وإذا كانت مدارك الناس تختلف بحسب علومهم وأفهامهم؛ فكيف بعلم الله تعالى؟! (ولله
المثل الأعلى). قال ابن الوزير رحمه الله تعالى: "العادة قد استمرت على وجوب
الِاختِلاف فِي الأحكام عند التَّفاضُل فِي العلم والحكمَة، وذلكَ يُوجب استقباح
الجاهِل لبَعض أفعال الأعلم على قدر ما بَينهما من التَّفاوُت، فأولى وأحرى أن
يُوجب استقباح الجاهِل لبَعض أفعال الأعلم.
ولما كانَ التَّفاوُت بين علم المخلوقين وعلم خالقهم سبحانه لا يُقدَّرُ بِمِقدار ولا يتَوَهَّم بِقِياس؛ وَجَبَ أن يكون بَينهم فِي التحسين والتقبيح لتفاصيل الأحكام أعظم الِاختلاف وجوبًا عاديًّا يَسْتَحِيل خِلافه... فَلمّا جاءَ السّمع بالمتشابه
عَليهِم على القاعدَة المألوفة والعادَة المعروفَة في أن الأعلم إذا تميّز شَيئا
قلِيلًا عن أجناسه وأشباهه لم يكن بُدٌّ من أن يأْتِي بما لا يعرفونَ ويفعل ما لا
يقولون ويستحسن بعض ما يستقبحون، حَتّى قيلت في هذا الأشعار وضُربت فيه الأمثال،
وحتى قيل: إنّ الاجتِماع في الخفيّات محال مثلما أنّ الاختلاف في الجليّات محالٌ.
وقد أجاد في هذا المعنى من قال:
تسلَّ عَن الوِفاق فَربُّنا قد … حكى بين المَلائِكَة الخِصامَا
كذا الخَضِر المُكَرّم والوجيه ... المُكلّم إذْ ألمَّ بِهِ لمامًا
تكدّر صفوُ جَمعِهما مِرارًا … وعجّلَ صاحبُ السِّرِّ الصَّرَامَا
ففارَقَهُ الكليمُ كليمَ قلبٍ … وقد ثَنَّى على الخَضِرِ
المَلامَا
فَدلَّ على اتّساعِ الأمرِ فِيما ... الكِرام فِيهِ خالَفت الكرامَا
وما سَبَبُ الخلافِ سوى اختِلافِ ... العُلُومِ هُناكَ بَعْضًا أو تَمامًا
فَكانَ من اللوازم أن يكون ... الإلهُ مُخالفًا فِيها الأنامَا
فلو لم نجهلِ الأسرارَ عَنْها … بلغنا مثله فِيها المَرَامَا
فَصارَ تشابه الأحكام مِنهُ … عَلَيْهِ شاهدًا ولنا لِزَامًا
فَلا تجْهَل لَها قدْرًا وخُذْها … شكُورًا للَّذي يُحيى
العظامَا (16)
ويُلحق بهذا النوع من المسائل في القَدَر المنهي عن الخوض فيها: التنازع والخصام
والمراء والمجادلة بالباطل فيه، وكذلك ضرب الكتاب ببعض بالتعنّت اللدود، والتشقيق
الرديء، والتنقير الجهول، وحمله على أهواء المبتدعة، ونقص اليقين بأنه حقٌّ مطلقٌ
ونحو ذلك. وعلى هذا يُحمل الأمر الوارد بالإمساك عن القَدَر، والعَزْمَةَ النبويّة
الشريفة بعدم التنازع فيه، (فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ
اهْتَدَوْا وإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ
وهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ).
هذا؛ وإنّ من جدير التنبيه حول مسألة أسرار الأقدار، أنّ الطُّرُقيّة وأهل
الخرافة كثيرًا ما يدورون على لفظ السرّ، ويُحوِّرُون دلالته لتتماشى مع
اعتقاداتهم الباطلة في شيوخهم ومُقدّميهم بأنّ لهم أسْرَارًا وكشْفًا وعِلمًا
لدُنِّيًّا خاصًّا، ووصولًا للحقيقة واليقين بطريقٍ غير شريعة الرسول صلى الله
عليه وسلم، لهذا نرى بعض المتصوفة كثيرًا ما يردّدون مصطلح السرّ؛ لأنه يدعم
أقولًا لهم بلا برهان. ونقول: إنّ القدر سرُّ الله في خلقه، فهو خاصّ بالله
سبحانه، وقد أخبرَنَا ربُّنا جلّ جلاله أنّ الدين المُرتضى الوحيد للسعادة والفلاح
والفوز عنده هو الإسلام الذي ابتعث به نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقال
سبحانه حاسمًا كلَّ نزاع وقاطعًا كلّ جدل ومُبطِلًا كلّ خطّة: (ومَن يَبْتَغِ
غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ
الخاسِرِينَ)، والإسلام هو الشريعة المحمدية لا السبل الأخرى المُدَّعَاة، (وأنَّ
هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (صِبْغَةَ
اللَّهِ ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونَحْنُ لَهُ عابِدُونَ).
وعليه؛ فمن ادّعى علمًا بالله تعالى من غير جهة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلمُه
جهلٌ، وأمرُهُ إلى تبابٍ، ، فلا علم على التحقيق إلا ما جاء من مشكاة الوحي، كما
قال تعالى: (ونَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)، وقال صلى
الله عليه وسلم: "وقد تركتُ فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب
الله" (17). ومن توابع الضلال في مسألة كشف الأسرار الربانية لأحدٍ بطريق
غير طريق الشريعة قول بعضهم: "حدّثني قلبي عن ربي". أي: أنه ليس بحاجة
للكتاب والسنة اكتفاء بالكشف اللّدُنِّي بزعمه. وكذلك قول الآخر في قوله تعالى: ﴿واعْبُدْ
رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾، فيزعم أنّ معناها: "اعبد ربك حتى يحصل
لك العلم والمعرفة، فإذا حصل ذلك سقطت عنك العبادة". فهذا ضلال محض وكفر مبين.
وكذلك قول الآخر بلوثة جبريّة: "مَن نظر إلى الخلق بعين الشريعة مَقَتَهم،
ومن نظر لهم بعين الحقيقة عَذَرَهم، فالعارف مستبصر بسرّ الله في خلقه". فهذا
باطل وضلال، لأن فيه إبطال للشرع والتماس العذر للمنحلّين من الدين، فليس للعباد
عُذْرٌ بالمعاصي بعد البلاغ، ولا حُجَّة لأحد بعد الرُّسُل، (لأنذركم به ومن بلغ)،
(بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون). وكل ما سقتُ لك من أمثلة فآخِيَّةُ الضلالِ
فيها قولُهُم بحصول كشفٍ لخاصَّتِهم من الأسرار الربّانية دون الوحي الإلهي للرسول
صلى الله عليه وسلم، (ومن يضلل الله فما له من هاد). والمقصود؛ أنّ مِن القدر
أسرار ربانية لم يأذن الله تعالى بكشفها لا شرْعًا ولا كونًا لحكمة ربانية لا ندرك
أطرافها، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).
الرابع: مسائلُ في القَدَرِ فهِمَهَا بعض الناس
على غير حقيقتها التي جاء بها الشرع، فحرّفوا معناها فضلّوا وأضلّوا، وفي ظني أنّ
أكثر الانحراف في الأمة من قديم فبابُه الانحراف عن المفهوم الصحيح للقَدَر، فكشفُ
باطلِ هؤلاء فرضٌ على الكفاية على من وهبه الله قدرة عليه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه
من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتَّخذ الناس
رؤوسًا (18) جُهّالًا، فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ، فضَلُّوا وأضَلُّوا"
(19).
فهذا الضرب من المسائل وأشباهها هو محلُّ بركةِ البحث والاحتساب والجهاد
بالبيان فيها، وقَمِنٌ بإذن الله أن يُفتح فيها لمن بَحَثَهَا رجاءَ الهدى له
وللناس لا إرادةَ العلوِّ في الأرض، و يُثابَ ويُؤجَر لأنه لم يَرُمْ خوضَ بحثها
ابتداء، إنما ساقه الواجبُ، وألْجَأَهُ إليها من خفّ حلمُه من طُلّاب الشُّبه
ومثيري فتن العلم والجهل، (فَلا تُطِعِ الكافِرِينَ وجاهِدْهُمْ بِهِ جِهادًا
كَبِيرًا)، فالعلماء كالنجوم في الظلماء زينة للعالَم طُرًّا، وعلامات يُهتدى بها
في التِّيه بَرًّا وجَوًّا وبَحْرًا، ورجومًا للمُبطلين احتسابًا للدين وبِرًّا.
تناثرَ العلمُ شهدًا من ثغورِهمُ ...
أكرمْ بهِ منبعًا للدين ينسكبُ
ولقد حذر السلف من الكلام في الدين بالباطل، أو بلا علم، كما كرهوا الجدل
والمراء فيه، وحثُّوا على الحميّة للحق احتسابًا، قال ابن عبد البر معلِّقًا على
كلام الإمام مالك رحمهما الله تعالى حين قال: "الكلام في الدين أكرهه، ولم
يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه؛ نحو الكلام في رأي جهم والقدر، وكل ما أشبه
ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله، وفي الله عز
وجل، فالسكوت أحبّ إلي؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما
تحته عمل"، قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله تعالى: "قد بيّن مالك
رحمه الله أنّ الكلام فيما تحته عمل هو المباح عنده وعند أهل بلده؛ يعني العلماء
منهم رضي الله عنهم، وأخبر أنّ الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه،
وضرب مثلًا فقال نحو قول جهم والقدر، والذي قاله مالك رحمه الله عليه جماعة
الفقهاء والعلماء قديمًا وحديثًا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل
البدع: المعتزلة وسائر الفرق، وأما الجماعة، فعلى ما قال مالك رحمه الله إلّا أن يُضطرَّ
أحدٌ إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع بردِّ الباطل، وصرف صاحبَه عن مذهبِه، أو
خشي ضلالَ عامَّةٍ، أو نحو هذا" (20).
ولمّا كانت هذه المسائل من الغموض والصعوبة والاشتباه بمكان؛ كان كثير من
العلماء يجتنبون بحثها ديانةً ووَرعًا وخوفًا أن تزيغ بهم عن سواءِ السبيل، ولكن
كان الواحد بعد الواحد منهم مَن يأخذ الله تعالى بقلبه ويهديه للبحث فيها جهادًا
بعلمه، وغزوًا للشيطان بِمِدادِه، فيستفرغ وسعَه ويقوّي عزمه ويجدّد إخلاصه ويجرّد
توكّله على ربه فيُفتح له فيه، حتى يُوقِفَ الناس على حدود الشبهة وحقيقتها، ويهتك
سترها، ويكشف بإذن الله تعالى لهم ضلالها، ويبيّن حدَّ الشرع فيها، وحقيقةَ العلم
الصحيح بها، فيمتاز الحق فيها من الضلال، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ
الطَّيِّبِ ويَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا
فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ)، ﴿فَأمّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثالَ﴾. ويقوم ذلك المبارك حيالها بفرض الكفاية عن الأمة.
وهذا أصل في الشرع محفوظ.
والناسُ ألْفٌ منهمُ كواحدٍ … وواحدُ كالألفِ إن أمرٌ
عَنا
واعتبر ذلك بمباحث وجود الشرِّ في الخلق ومسألة التعليل ومسألة التحسين
والتقبيح العقلي للإمام القيم ابن القيم رحمه الله تعالى، فهي مسائل واضحة في
الأصل، غير محتاجة لخوض بعض تفاصيلها، ولكن لما تنازعتها أقلامُ أهلِ الأهواء
واعتورتها منابر أهل الضلالة؛ استعان رحمه الله بربه فَسَلَّ يَرَاعَةَ العلمِ
المبينِ لنسف شُبَهِ المبتدعين، فأثمرت تلك المقامات السَّنِيّة السُّنِّيّة حروفًا
في الغاية من الشرف والمتانة والعُمق والنفاسة، فإذا قرأها العامّي فضلًا عن طالب
العلم ازداد في الحقّ بصيرة وإيمانًا، فلم يزد ابن القيم فيها علمًا من لَدُنْه،
إنما كشف حقيقة المسائل، وَحَدَّ أبعادها، وأقامَ تصوّرَ بنائها، وأزال الباطل
الملتبس بها عن الحق الأصيل فيها، وردّ مشتبهاتها لمحكماتها، فاستقامت جادة حروفه
فيها على مهيع الهدى والسنة بحمد الله تعالى، وعلى هذا فَقِسْ هذا الأمر واعتبر
بذلك الأثر.
فمن للقوافي بعد حسّان وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابتِ
ومن هذا الباب كانت أكثر مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
كالاستقامة ونقض التأسيس ونقد المنطق والعقل والنقل ومنهاج السنة وشرح الأصفهانية
وغير ذلك، قال العلامة البزار عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى ومؤلفاته
النافعة في هذا الباب وغيره: "ولقَد وجب على كل من وقف عَليها وفهم ما لَديها
أن يحمد الله تَعالى على حسن توفيقه هذا الإمام لنصر الحق بالبراهين الواضِحَة
العِظام.
حدثني غير واحد من العلماء الفُضَلاء النبلاء المُمعنين بالخوض في أقاويل
المُتَكَلِّمين لإصابة الثَّواب وتمييز القشر من اللّباب أنّ كلًّا مِنهُم لم يزل
حائرًا فِي تجاذب أقوال الأصوليين (21) ومعقولاتهم وأنه لم يستَقرّ فِي قلبه منها
قَول، ولم يبن لهُ من مضمونها حق، بل رَآها كلها مُوقعة في الحيرَة والتضليل،
وجُلُّها ممعن بتكلف الأدلة والتَّعلِيل، وأنه كانَ خائفًا على نَفسه من الوُقُوع
بِسَبَبِها فِي التشكيك والتعطيل، حَتّى منّ الله تَعالى عَلَيهِ بمطالعته مؤلفات
هذا الإمام أحمد بن تيمية شيخ الإسلام، وما أورده من النقليات والعقليات فِي هَذا
النظام، فَما هُوَ إلّا أن وقف علَيها وفهِمَها فرآها مُوافقَة لِلعَقلِ
السَّلِيم، وعلِمَها حَتّى انجلى ما كانَ قد غشيه من أقوال المُتَكَلِّمين من
الظلام، وزالَ عَنهُ ما خافَ أن يَقع فِيهِ من الشَّك وظفر بالمرام.
ولَقَد أكثر رحمه الله من التصنيف فِي الأصول فضلًا عن غَيره من بَقِيَّة
العلوم، فسألته عن سَبَب ذلِك، والتمست مِنهُ تأليف نَصٍّ فِي الفِقه يجمع
اختياراته وترجيحاته ليَكُون عُمدة فِي الإفتاء فَقال لي ما معناهُ:
الفُرُوع أمرها قريب، ومتى قلّد
المُسلم فِيها أحدَ العلماء المقلَّدين جازَ لَهُ العَمَل بقوله ما لم يتَيَقَّن
خطأه، وأما الأصول (22) فَإنِّي رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة
والباطنية والملاحدة والقائلين بوحدة الوُجُود والدهرية والقدرية والنصيرية
والجهمية والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة والراوندية والكُلّابية والسلمية
وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فِيها بأزِمَّة الضلال، وبَانَ لي أن كثيرًا
مِنهُم إنما قصد إبطال الشَّرِيعَة المقدسة المحمدية الظّاهِرَة العلية على كل
دين، وأن جمهورهم أوقع النّاس فِي التشكيك فِي أصول دينهم، ولِهَذا قلَّ أن سَمِعت
أو رأيت معرضًا عَن الكتاب والسّنة مُقبلًا على مقالاتهم إلا وقد تزندق أو صار على
غير يَقِين فِي دينه واعتقاده.
فَلَمّا رَأيتُ الأمر على ذَلِك؛ بَانَ لي أنه يجب على كلّ من يقدر على دفع
شبههم وأباطيلهم وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيّف (23) دلائلهم
ذبًّا عَن المِلّة الحنيفية والسّنة الصَّحِيحَة الجلية.
ولا والله ما رأيت فيهم أحدًا مِمَّن صنف فِي هَذا الشَّأْن وادّعى علوّ
المقام؛ إلّا وقد ساعد بمضمون كَلامه في هدم قواعد دين الإسلام! وسبب ذلك إعراضه
عن الحق الواضح، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، واتّباعه طرق
الفلسفة في الاصطلاحات التي سمّوها بزعمهم حُكميات وعقليّات، وإنما هي جهالات
وضلالات، وكونه التزمها معرضًا عن غيرها أصلًا ورأسًا، فغلبتْ عليه حتى غطّت على
عقله السليم، فتخبّط حتى خبط فيها خبط عَشْوَاء، ولم يفرّق بين الحق والباطل، وإلا
فالله أعظم لطفًا بعباده من ألّا يجعل لهم عقلًا يقبل الحق ويُثْبته، ويبطل الباطل
وينفيه. ولكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال.
وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانًا يزن به العبد الواردات،
فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل. ولم يبعث الله الرسل إلا
إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال: إنه مخالف لبعض ما جاءت
به الرسل الكرام عن الله تعالى؟! هذا باطل قطعًا يشهد له كل عقل سليم، لكن ﴿ومَن
لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾. فهذا ونحوه هو الذي أوجب
أنّي صرفت جُلَّ همي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم، وأجبت عنها بما أنعم
الله تعالى به من الأجوبة العقلية والنقلية" (24).
وهكذا يفعلُ الأبطالُ إنْ غضبوا ... وهكذا يعصِفُ التوحيدُ بالوثنِ
والمقصود؛ أنّ دراسة بعض نوازل المسائل المُحدثة للقدر لِمَنْ آتاه الله
علمًا وعقلًا واحترازًا ممَّا يُحترزُ فيه ومِنْه، من بعض عويصِ مباحثه ومتشابه
مسائله ومجهولات علومه، مشروعةٌ من جهة قصد دفع الشبه القائمة، وليس رغبة استكشاف
المباحث غير المطروقة فيه، فهي لا تُبحث ابتداء إنما يُجرّ إليها أهلُها على
النُّدرة دفعًا لجهالةٍ، وردًّا لشبهة، وكفًّا لعادِيَةٍ، فهي من جملة جهاد الدفع
العلمي، فأبوابُ القدر التي لم يأتِ فيها علم من الشرع هي مغلقةٌ بأمر الشرع،
فالواجب أن تبقى موصدة اتّباعًا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، نصحًا للأمة من
أمورٍ لا تطيقها أفهامُهُم، وعلومٍ لم يُتّعبدوا بطلبها، فيبقى بابُ الفكرِ فيها مُغلقًا
دون مهاوي مسائل تَفتحُ على الناس أفكارًا كانوا سالمين من حتوفها، ومعاطب من
مزالق فكرية يزيّنها الشيطان في عقولٍ لم تنضج بعلومِ الوحيِ السالمِ من كل خطأ،
الحافظِ بإذن الله لمن اعتصم به من كل زيغ. وعلى ذلك؛ فما في تثويرِ هذه المسائل من
خير يُرجى، ولو كان كذلك لم يتركه أئمة الأُمة على مرّ العصور، وقد رَوى الآجري
رحمه الله تعالى أنّ ابن عمر رضي الله عنهما سُئل عن القدر، فقال: "شيءٌ أراد
الله عز وجل ألا يُطلعَكُم عليه، فلا تُريدوا من الله عز وجل ما أبَى عليكم"
(25).
ولا يعني ذلك إغلاق باب التعلم في مسائل القضاء والقدر، ليس الأمر كذلك،
فالإيمان بالقدر من أصول الملة، والإيمان بالقضاء والقدر فَرْعٌ عن العلم به، فلا
إيمان إلا بعد علم، والله تعالى قد بيّن ذلك في محكم تنزيله، فمن ذلك قوله سبحانه:
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)، وقوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)، وقوله سبحانه: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا
بِإِذْنِ اللَّهِ ومن يؤمن بالله يهد قلبه)، وقوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْ لَا تَأْسَوْا
عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ
كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ). وبلّغَ صلى الله عليه وسلم عن ربه أمور القدر لنعلمها
ونعتقدها ونؤمن بها، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمنُ عبدٌ حتى
يؤمن بالقدر خيره وشرّه من الله، حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّ ما
أخطأه لم يكن ليصيبه" (26). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن
عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن
بالموت، وبالبعث، ويؤمن بالقَدَر" (27)، وقال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ
شيء بقَدَر؛ حتى العَجْزَ والكَيْس" (28).
كما كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القَدَر استرشادًا
وتعلُّمًا لا اعتراضًا وخصومة، فمن ذلك أن سراقة بن مالك رضي الله عنه أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّهِ، بَيِّن لَنا دِينَنا كَأنّا خُلِقنا
الآنَ، فِيمَ العَمَلُ اليَومَ؛ أفِيما جَفَّت بِهِ الأقلامُ، وجَرَت بِهِ
المَقادِيرُ، أم فِيما يستَقبلُ؟ قال: "لا، بَل فِيما جَفَّت بِهِ
الأقلامُ، وجَرَت بِهِ المَقادِيرُ". قال: فَفِيمَ العَمَلُ؟ فقال: "اعمَلُوا
فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ"، وفي رواية: "كلُّ عامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمِلِه"
(29)، وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول اللَّهِ، أيُعْرَفُ أهْلُ الجَنَّةِ مِن
أهْلِ النّارِ؟ قال: "نَعَم". قال: فَلِمَ يَعمَلُ العامِلونَ؟
قال: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ" (30). وكان الصحابة
يعلّمون من جاء بعدهم مسائل القدر، ويمتحنون فهم حُذّاقِهم لها، فهن أبي الأسود
الدِّيلِيِّ، قال: قال لي عمرانُ بْنُ الحُصَيْنِ، أرَأيْتَ ما يَعمَلُ النّاسُ
اليَومَ ويَكدَحُونَ فِيهِ (31)، أشَيْءٌ قُضِيَ عليهم ومضى عليهِم مِن قَدَرِ ما
سَبَقَ؟ أو فِيما يُستَقبَلونَ بِه مِمّا أتاهم بِه نَبِيُّهُم، وثَبَتَتِ
الحُجَّةُ عَلَيهِم؟ فقلت: بل شيء قُضي عليهِم، ومَضى عَليهِم، قال: فقال: أفَلا
يَكُونُ ظلمًا؟ قال: فَفَزِعتُ من ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وقلتُ: كُلُّ شَيءٍ
خَلْقُ اللهِ وملكُ يَدِهِ، فلا يُسألُ عَمّا يفعلُ وهم يُسألون، فقال لي:
يَرحَمُكَ اللهُ، إنِّي لم أُرِدْ بِما سَألتُكَ إلّا لِأحْزِرَ عَقلَكَ. (32) إنَّ
رجُلينِ مِن مُزَينَةَ أتَيا رسول اللهِ ﷺ فقالا: يا رسول اللهِ؛ أرَأيتَ ما
يَعمَلُ النّاسُ اليومَ، ويَكْدَحُون فيه، أشَيءٌ قُضِيَ عليهِم ومَضى فِيهِم من
قَدَرٍ قَد سَبَقَ، أو فيما يُستَقبَلونَ بِهِ مِمّا أتاهُم بِه نَبِيُّهُم،
وثَبَتَتِ الحُجَّةُ عَلَيهِم؟ فقال: "لا، بَل شَيءٌ قُضِيَ عَلَيهِم
ومَضى فِيهِم. وتَصديقُ ذلكَ في كتابِ اللهِ تعالى: (ونَفْسٍ وما سَوّاها فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها)"
(33). قال د. محمد العلي: "ومما يؤكّد
أهمية تعلم مسائل القضاء والقدر: ارتباط هذا الركن العظيم بالكون كله؛ فحين ننظر
إلى هذا الكون ونشأته وخلق الكائنات فيه نجد أن كل ذلك مرتبط بالإيمان بالقدر؛ قال
صلى الله عليه وسلم: "أوّل ما خلق الله القلم قال له: اكتب، قال: ربّ
وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة" (34). ولو غفل الناس
عن تعلّم مسائل القدر، مع الحاجة الشديدة إليه؛ لجهلوه، وتخبّطوا في دياجير
الظلام؛ إذ تعجز العقول عن معرفة ذلك إلا بالاهتداء بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم، وبتلك الغفلة عن تعلّمه ينفتح الباب لأهل الأهواء والبدع لينصروا
مذاهبهم ويشوِّشوا على المسلمين عقيدتهم" (35).
فعلى المؤمن أن يتعلم من أمور دينه ما يدفعُ جَهْلَهُ ويرفعُ قَدْرَهُ عند
ربه تعالى، مع التأدّب بأدب العلم، ومنه التسليم التام لله تعالى امتثالًا لأمره
وتصديقًا لخبره، وترك الخصومات والنزاع والمراء، والحذر من ضرب الكتاب ببعضه،
ويشتدّ الأمر إن كانت بخصوص القدر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر (36)، فغضب حتى احمرَّ وجهه،
حتى كأنّما فُقئ في وجنتيه الرّمان (37)، فقال: "أبهذا أُمرتم، أم بهذا
أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عَزَمْتُ عليكم ألّا
تنازعوا فيه" (38). أي: أوجبتُ عليكم وأكَّدتُ عليكم ألّا تنازعوا في
القدر، لأن الشيطان قد استجرّ مَن قبلكم للتنازع فيه حتى هلكوا، وهذا من شفقته صلى
الله عليه وسلم بأمته كما قال الله تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِن
أنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وهذا النهي إنما هو في المنازعة والمخاصمة والمُماراة، أما
النقاش العلمي المؤدَّب لتعلّم مسائلِ القَدرِ وكيفيَّةِ الإيمانِ الصَّحيحِ به؛ والتصنيف فيه كما فعل أئمة السَّلف رحمهم الله فليس داخلًا في هذا النَّهي،
بل هو من العِلمِ المأمورِ بتَعلُّمِه وتَعليمِه، فهو من أصول الدين وأركان
الإيمان، وقد علّمه الرسولان الكريمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه
السلام الأمةَ عن طريق السؤال والجواب كما هو مشهور معلوم في حديثٍ من أعظم أحاديث
الإسلام (39). فالجدالُ والمنازعةُ بغير علمٍ بابُ ضلالةٍ وحفرةُ نارٍ ودهليزُ
خذلان وحمولةُ خيبة، قال تبارك وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ
السَّعِيرِ)، وقال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
عَذَابَ الْحَرِيقِ). ولا بد للمؤمن من أطرٍ لنفسه على الجدٍّ والعمل والتفاؤل والإيجابية، دون الهزل والكسل والسوداوية والسلبية، وإشغالها بما يعنيها من كريم الأمر، ففيه ملءٌ لوقتها لو عَقَلَتْ، فيحسن إسلامُها ويزكو دينُها، أما الخصومات والمراء فليست بسبيلٍ لمؤمن، والانتهاض لمجرد الاعتراض من سيء الأمراض. وكم من متساهلٍ في بوادرِ المِرَاء وهبّاتِ الخصامِ، حتى ربضت في قلبه الفتنةُ، وانسحب واعظُ الله من قلبه، وقحطت عيناه، فكان من الغافلين.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأُ في وجهه حبُّ الرُّمان
من الغضب، فقال: "بهذا أُمرْتُم؟! أو لهذا خُلِقْتُم؟! تضربون القرآن بعضه
ببعض، بهذا هَلَكَتِ الأمم قبلكم". قال: فقال عبد الله بن عمرو: "ما
غبطت نفسي بمجلس تخلّفتُ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبطت نفسي بذلك
المجلس وتخلُّفي عنه" (40).
وعلى المؤمن أن يحذر من أن يستجريَه الشيطان بحبائل الشّبه الفكريّة وما
أكثرها في هذا الزمان خاصة مع تسهيل تواصل الأفكار بين الأمم والطوائف والملل،
والشيطانُ لا يملّ من خديعة ابن آدم، ولا يكلُّ من محاولات إضلاله حتى لو أتاه
بصورة شيخ ناصح، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "يَأْتِي الشَّيطانُ أحَدَكُم فيقولُ: مَن خَلَقَ كَذا؟ مَن
خَلَقَ كَذا؟ حَتّى يَقُولَ: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإذا بَلَغَهُ فَليَستَعِذْ
بِاللَّهِ ولْيَنتَهِ" (41)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ
الشَّيطانَ يَأْتِي أحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَن خَلَقَ السَّماءَ؟ فَيَقُولُ:
اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَن خَلَقَ الأرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَن خَلَقَ اللَّهَ؟ فَإذا أحَسَّ أحَدُكُمْ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، فَليَقُل: آمَنتُ بِاللَّهِ وبِرُسُلِهِ"
(42)، وقال صلى الله عليه وسلم منبّهًا
الأمة إلى أنّ للشيطانِ طُرُقًا خفية وحِيَلًا خادعة لفتنتهم فقال: "قُولُوا
بِقَولِكُم، أو بَعضِ قولِكُمْ، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطانُ" (43).
أي: يتخذكم جريًا له يعني: مطايًا، يركبكم ويؤزّكم إلى ما يريده منكم ويأمركم به
(44). فعلى المؤمن الحذر الشديد من كل ما كان من طرق الشيطان، كما قال تعالى: (ولا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إنَّما
يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ والفَحْشاءِ وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا
تَعْلَمُونَ).
ولا جَرَمَ، فقد أقسم الرجيم
لأبوينا كذبًا وزورًا ومكرًا وخديعة، فكان مِنْ أمرِهِمَا ما كان، ولله الأمر من
قبل ومن بعد: (وقاسَمَهُما إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما
بِغُرُورٍ فَلَمّا ذاقا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وطَفِقا يَخْصِفانِ
عَلَيْهِما مِن ورَقِ الجَنَّةِ وناداهُما رَبُّهُما ألَمْ أنْهَكُما عَنْ
تِلْكُما الشَّجَرَةِ وأقُلْ لَكُما إنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
ولَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتاعٌ إلى حِينٍ (٢٤).
واعلَمْ بأنّك عَبدٌ لا فِكَاكَ له ... والعبدُ ليسَ على مَولاهُ يَعتَرِضُ
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "وأصلُ القدر سرُّ الله تعالى في خلقه،
لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل" (45). وقال ابن عبد البر رحمه الله
تعالى: "وجملة القدر أنه سرُّ الله لا يُدرك بجدال، ولا نظر، ولا تشفي منه
خصومة، ولا احتجاج، وحسب المؤمن من القَدَر أن يعلم أن الله لا يكون شيء دون
إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)، لا شريك له،
نظام ذلك قوله: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)، وقوله: (إِنَّا
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ). وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا
يظلم مثقال ذرة، ولا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهو الرحمن الرحيم، وقد تظاهرت الآثار
في التسليم بالقدر، والنهي عن الجدل فيه، والاستسلام له، والإقرار بخيره وشره،
والعلم بعدل مُقَدِّرِه وحكمته" (46).
وجملة ما ذكرنا من محاذير
المُتكلِّمةِ في القدر هي ما قصد إليها السلف بمنعهم من الخوض فيه، قال أبو محمد
البربهاري رحمه الله تعالى: "والكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة منهي عنه
عند جميع الفرق؛ لأنّ القدر سرّ الله، ونهى الرب جل اسمه الأنبياء عن الكلام في
القدر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخصومة في القدر، وكرهه أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم والتابعون، وكرهه العلماء وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في
القدر، فعليك التسليم والإقرار والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم في جملة الأشياء، واسكت عما سوى ذلك" (47). وقال الإمام ابن باز رحمه
الله تعالى في مسألة الخوض في القضاء والقدر: "هذا باب خاضه الأولون وغلط فيه
من غلط، والواجب الحذر، فعلى كل مؤمن وكل مؤمنة التسليم لله، والإيمان بقدره
سبحانه، والحرص على الأخذ بالأسباب النافعة الطيبة، والبعد عن الأسباب الضارة كما
علم الله عباده، وكما جعل لهم قدرة على ذلك بما أعطاهم من العقول والأدوات التي يستعينون
بها على طاعته وترك معصيته. وينبغي عدم الخوض في هذا الباب، والإيمان بأن الله قدّر
الأشياء وعلِمَها وأحصاها، وأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه الخلاق
العظيم القادر على كل شيء، وأن جميع الموجودات بخلقه وتقديره سبحانه، وأنّ الله
أعطى للعبد عقلًا وأسبابًا وقدرة على الخير والشر كما يأكل ويشرب ويلبس وينكح
ويسافر ويقيم وينام ويقوم إلى غير ذلك يطيع ويعصي.. وعلى كل مسلم أن يؤمن بالقدر،
وأن يحذر الخوض في ذلك بغير علم كما خاض المبتدعة فضلُّوا، وإنما الواجب على كل
مسلم أن يؤمن بالقدر، وأن يُسلّم لله بذلك، ويعلم بأن الله قدَّرَ الأشياء وعلمها
وأحصاها، وأن العبد له إرادة وله مشيئة وله اختيار، لكنه لا يخرج بذلك عما قدره
الله تعالى" (48). وبالله التوفيق.
اللَّهُمَّ رَبَّ جِبرائيلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ، فاطِرَ السَّمَواتِ
والأرضِ، عالِمَ الغَيبِ والشَّهادَةِ، أنتَ تَحكمُ بين عِبادِكَ فِيما كانُوا
فِيهِ يَختلفونَ، اهدِنِي لِما اختُلِفَ فِيهِ مِنَ الحَقِّ بإذنكَ، إنّكَ تَهدِي
مَن تَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (49). سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألّا إله
ألّا انت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله أجمعين.
إبراهيم
الدميجي
غرّة رمضان
1444
aldumaiji@gmail.com
رابط تحميل كتاب متى يشرع البحث في تفاصيل القدر
متى بشرع البحث في تفاصيل القدر
.........................
1. اللالكائي
في شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/689 (1112، و1224)، وعبد الله ابن أحمد في
كتاب السنة 2/422 (925، 928)، والآجري في الشريعة ص: (215).
2. قال
العلامة العثيمين رحمه الله تعالى في الفرق بين القضاء والقدر: "هاتان
الكلمتان مترادفتان إن تفرّقتا، ومتباينتان إن اجتمعتا. فإذا قيل: القضاء بدون أن
يقترن به القدر كان شاملًا للقضاء والقدر، وإذا قيل: القدر دون أن يقترن به القضاء
كان شاملًا للقضاء والقدر أيضًا. وهذا كثير في اللغة العربية: أن تكون الكلمة لها
معنى عام عند الانفراد، ومعنى خاص عند الاقتران. فإذا قيل: القضاء والقدر جميعًا
صار القضاء: ما يقضي به الله تعالى من أفعاله أو أفعال الخلق، والقدر: ما قدّر
الله تعالى في الأزل وكتبه في اللوح المحفوظ، وذلك لأن المقدور سبقه تقدير في
الأزل، أي: كتابة بأنه سيقع، وقضاء من الله تعالى بوقوعه فعلًا. وإن شئت فقل:
الكتابة قَدَرٌ والمشيئة قضاء، والله تعالى يكتب الشيء، بل كتب الشيء في اللوح
المحفوظ، ثم يشاؤه سبحانه وتعالى في الوقت الذي تقتضي فيه حكمته وجوده فيه، الثاني
قضاء والأول قدر. فصارت هاتان الكلمتان إن انفردت إحداهما عن الأخرى شملت معنى
الأخرى، وإن اجتمعتا صار لكل واحدة منهما معنى". فتاوى نور على الدرب
للعثيمين (٤/٢).
3. الحاكم
في المستدرك (2/381)، وصححه، ووافقه الذهبي.
4. شرح
العقيدة الطحاوية (11).
5. شرح
أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/784) والهَمْلَجة: السير في سرعة وبخترة،
ويقال: شاة هملاج أي: لا مُخّ فيها. انظر: لسان العرب (3/831).
6. المسند
(٥/٢٥٦) والترمذي (٣٢٥٣) وابن ماجه (٤٨) وتفسير الطبري (٢٥/٥٣) وحسنه الألباني.
7. وقد
روى أحمد (23688) وأبو داود (3066) عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الغلُوطات" وضعفه الألباني
والأرناؤوط. لجهالة عبد الله بن سعد الصنابحي. وقال الساجي: ضعّفه أهل الشام.
والغَلُوطَاتُ: بفتح الغين: غَلوط، كشاة حَلوب، وناقة رَكوب، ثم يجعل اسمًا بزيادة
التاء، فيقال: غَلوطة، وهي المسألة التي يُغلَّطُ بها العالم، فيستزلُ بها، وقيل:
الصواب بضم الغين، والأصل فيها الأُغلُوطَات، فطرحت الهمزة وألقيت حركتها على
الغين. ومن رواها الأغلوطات فهو الأصل.
قال
أبو عبيد الهرويُّ: "الغُلُوطات الأصل فيه الأغلوطات، ثم تركت الهمزة. كَما
تَقُولُ: جاءَ الأحْمَر وجاء الحمرُ بِطَرح الهَمْزَةِ". وفي نسخة:
"جاءَ لَحْمَرُ". الغريبين في القرآن والحديث ٤/١٣٨٢. والنهاية في غريب
الحديث والأثر ٣/٣٧٨. قلت: ولا تزال لغة إسقاط الهمزة في بعض السياقات معمولًا
بها في نجد، فيقولون: أحمَر وحَمَر، وأخضر وخضَر.
8. الفقيه
والمتفقه للخطيب (٢/ ٢٠، ٣٠٣)، والشريعة للآجري (١/ ٤٨٦).
9. معالم
السنن (٤/ ١٧٢).
10.
جامع بيان العلم (٧٢٦).
11.
جامع بيان العلم (٢٠٨٤).
12.
الوحي: أي القرآن المجيد، وبيان الرسول
ﷺ. حَدُّ مُرْهَفٍ: أي: حدُّ سيفٍ مرهف. والمرهف المَسْنُون ذو الشفرة الرقيقة.
ظُباهُ: الظُّبَةُ حَدُّ السيف والسِّنان والخنجَرِ ونَحوها وجَمعُها ظُبًا وظُباة
وظُبُون. أخْدَعَيْ كُلّ مائل: الأخْدَعُ أحد عرقَينِ في جانِبَي العُنقُ، وهما
الأخداعان. وانظر: المثل السائر٢/٢٩٥ وروي:
فهذا
شفاءٌ للقلوبِ من العَمَى … وهذا شفاءُ العيّ من كلّ جاهلِ
والمقصود؛
أن من الناس من يكون ضلالة لشبهة انقدحت له فكشفها يكون بالوحي قرآنًا وسنّة،
ومنهم من يكون متكبّرًا على الحق راغبًا فيما سواه فيُرَدّ إليه راغمًا بالسيف،
فالأول أُتيَ من جَهْله والثاني من جَهَالته، وإنّ الله ليَزَعُ بالسلطان ما لا
يزع بالقرآن، كما قاله عثمان رضي الله عنه.
13.
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ٤/٨٨
14.
أحمد (17142) وابن ماجه (43) وصححه
الألباني والأرناؤوط.
15.
الحاكم (٢/٥) وابن أبي شيبة (٧/ ٧٩)،
وابن راهويه كما في إتحاف الخيرة (٢٧٢٢)، وهناد في الزهد (٤٩٤)، والبيهقي في الشعب
(٧/ ٢٩٩)، والبغوي في شرح السنة (٤١١١، ٤١١٣)، وغيرهم. وصححه ابن تيمية في مجموع
الفتاوى (11 / 622) والألباني في الصحيحة (١٨٠٣).
16.
إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير
محمد بن إبراهيم اليماني (١/١٩٩) ويعني بالخصام بين الملائكة ما جاء في قصة آدم
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى وغير ذلك. وقوله: "الوجيه المكلّم" هو
موسى عليه السلام. وقوله: "تكدّر صفوُ جمعِهما مِرارًا" أي: باعتراضات
موسى عليه السلام الثلاث المذكورة في سورة الكهف. فلمّا لم يفِ موسى عليه السلام
بالشرط بينهما عجّل صاحب السّرّ وهو الخضر. ويعني بالسرّ: مقاصد أفعاله المُستغربة
لأن وراءها أسرارًا معلّلة ذكرها في آخر الخبر. والصَّرام هو الفراق من الصَّرم
أي: القطع. ففارقه الكليم عليه السلام وقد "ثنّى" أي: كرّر الاعتراض.
وقوله: "وما سَبَبُ الخلافِ سوى اختِلافِ العُلُومِ" أي: من نظر إلى
الأمر من جهة واحدة لا يرى غيرها فسيختلف مع من يراه من جميع جهاته، فليسلِّم مَنْ
جَهِلَ شيئًا لمَن عَلِمَه، ولله المثل الأعلى. وهذا البيت هو مقصود المنظومة، أي:
أن لله تعالى عِلْمًا وحكمة في الأقدار التي لا نرى إلا طرفًا صغيرًا من غايتها.
وعليه؛ فمن لوازم الربوبية أن تكون أقدار الإله سبحانه وتعالى غير مُحاطة بعلم
المخلوقين وأنها أحيانًا تكون مخالفة لما اعتادوه، فهذا من براهين الربوبية للإله
الحق المبين سبحانه، الذي وسع كل شيء حكمة وعلمًا.
17.
مسلم (1218).
18.
رؤوس: جمع رأس، وفيه التحذير من اتخاذ
الجهال رؤساء. شرح النووي على صحيح مسلم، (١٦/ ٤٦٥).
19.
البخاري (١٠٠، ٧٣٠٧) ومسلم (١٣، ٢٦٧٣).
قال المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير (٢/٢٧٣): قوله صلى الله عليه وسلم: "إن
اللّه لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه" أي محوًا من الصدور. "ولكن
يقبض العلم بقبض العلماء" أي: بموتهم فيقبض العلم بتضييع التعلّم، فلا
يوجد فيمن بقي من يخلف من مضى. "حتى إذا لم يبق عالمٌ"، عبّر بـ"إذا"
دون "إن" إيماء إلى أنه كائنٌ لا محالة بالتدريج. "اتخذ الناس
رؤوسًا جُهّالًا" جهلًا بسيطًا أو مركبًا، "فسئلوا فأفتوا بغير
علم"، وفي رواية: "برأيهم" أي: استكبارًا وأنفةً عن أن
يقولوا لا نعلم، "فضلّوا" في أنفسهم، "وأضلّوا"
من أفتوه. وهذا تحذير من ترئيس الجهلة، وأنّ الفتوى هي الرئاسة الحقيقية، وذمّ من
يُقدِم عليها بلا علم. وأن قبض العلم موت حملته لا محوه منهم.
20.
جامع بيان العلم وفضله (2/95) ولابن
تيمية كلام في هذا الباب نفيس انظره في: درء تعارض العقل والنقل (1/46 – 48).
21.
أي: المتكلمة في أصول الدين والمعتقد
والعلميّات، لا أصول الفقه التي تُعنى بالعمليّات.
22.
أي: أصول المعتقد من الإيمانيات.
23.
أي: يكشف الزيف، فإذا كشفه صار زائفًا.
24.
الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام
ابن تيمية، للبزار. (35-36).
25.
الشريعة (235).
26.
الترمذي (2144)، وصححه الألباني.
27.
الترمذي (2145)، وابن ماجه (81) وصححه
الألباني.
28.
مسلم، (2655). قال القاضي عياض رحمه
الله تعالى: "الكيسُ ضدُّ العجز، وهو النشاط، والحِذْق بالأمور، ومعناه: أنّ
العاجز قد قُدِّر عجزه، والكيس قد قُدِّر كيسه". إكمال المعلم (٨/ ١٤٣).
29.
أحمد (٣/ ٢٩٢)، ومسلم (٢٦٤٨) (٨).
30.
البخاري (٦٥٩٦) ومسلم (٢٦٤
31.
الكدح: هو السعي في العمل سواء أكان
للآخرة أم للدنيا، وفي التنزيل: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا
فملاقيه).
32.
أي: لأختبر عقلك وأمتحن فهمك ومعرفتك،
وأتأكّد أنَّك تفهم القضية فهمًا صحيحًا.
33.
مسلم (٢٦٥٠).
34.
أبو داود (4700) وصححه الألباني.
35.
ضرورة تعلم مسائل القدر والنهي عن
الخوض فيه. د. العلي (27).
36.
أي: نتحدَّثُ في أمرِ القَضاءِ
والقدَرِ ونَختَلِفُ فيه على وجه المنازعة.
37.
أي: أنه غضب حتى ظهرت علامات الغضَبِ في
وجهِه الشريف صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، حتَّى كأنَّما فُقِعَ ونُثِر في أعلى
خَدَّيه حَبُّ الرُّمَّانِ الأحمر، وهي كناية عن احمرار وجهه من شدة الغضب شفقة
على أمته صلى الله عليه وسلم من أن يتنازعوا في القدر فيهلكوا كما هلك من قبلهم.
38.
الترمذي (2133) وصححه الألباني في صحيح
الترمذي (2/223).
39.
وهو حديث جبريل المشهور رواه مسلم 1/28
( 8 ).
40.
ابن ماجه (85) وقال الألباني: حسن
صحيح.
41.
البخاري (٣٢٧٦) ومسلم (٢١٤،١٣٤).
42.
أحمد (٨٣٧٦) وصححه الألباني.
43.
أبو داود (٤٨٠٦)، وأحمد (٤/٢٥) بهذا
اللفظ وأيضًا بلفظ: "لا يستهوينّكم". وصححه الألباني.
44.
وقال الخطابي رحمه الله تعالى في غريب
الحديث (٣/٢٦٤): معناه: لا يتخذنكم الشيطان جَرِيًّا، والجَرِيُّ: الأجير أو
الوكيل، ويروى أيضًا: "لا يستَجِرَّنَّكُم".
45.
شرح الطحاوية (1/249).
46.
التمهيد (3/140).
47.
شرح السنة. ص: (36).
48.
مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز
28/373).
49.
روت هذا الدعاء العظيم عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم م المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وقد خرّجه الإمام مسلم (١/
٥٣٤) (٧٧٠).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق