الحمد لله، وبعد؛ فإن عصمة الإسلام راجعة إلى مصدر
تلقّيه الصافي التليد، فالله تعالى قد تكفل بحفظ الذكر وهو القرآن والسنة، فمن
تمسك بهما فقد اهتدى واعتصم بذروة الأمن وعمود الفلاح، قال أبو داود ؒ في حائيته المشهورة:
تمسّك
بحبلِ الله واتّبعِ الهُدى |
|
ولا
تكُ بدعيًّا لعلك تُفلحُ |
قال شيخنا العلامة: عبد المحسن العباد حفظه
الله: «هذان البيتان العظيمان فيهما الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة والتحذير
من البدع، وقد بدأ بهما قبل بيان الاعتقاد ومسائله على طريقة أهل السنة في كتب
الاعتقاد.
وقد جرت عادتهم في الغالب على البدء بهذا الأمر،
وهذا منهم تحديدٌ لمصدر التلقّي في أصول الدين وفروعه ليكون بناء المعتقد وقيامه
على أسس سليمة وأصول صحيحة قويمة، وعندما يُحدد العبد مصدره في التلقي، ويكون
مصدره من المنبع الأساس وهو الكتاب والسنة، فإنه يرى ما سواه من المنابع كدراً،
فلا يأخذ منها شيئاً ولا يجعلها مصدراً له في دينه وعقيدته، وإنما يتلقى من المنبع
الصافي والمعين النقي الذي لا شائبة فيه ولا كدر، فيسلم له بذلك معتقده ويصح
إيمانه.
وأهل السنة مصدرهم في التلقي هو: الكتاب والسنة،
بهما يأخذون، وعنهما يتلقون، وعليهما يُعوّلون، لا يحيدون عنهما قيد اُنملةٍ، بل
هم كما قال الأوزاعي: «ندور مع الكتاب والسنة حيث دارا» لا يُحدثون شيئاً من قِبل
أنفسهم.
يقول شيخ الإسلام ؒ: «ليس الاعتقاد لي ولا لمن هم
أكبر مني، الاعتقاد لله ولرسوله ﷺ». فمِن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ،
وعلينا التصديق والتسليم.
ولذا نجد كتب أهل السنة تبدأ بتحديد المصدر قبل
بسط الاعتقاد، وهذا نستفيده مما كان يداوم عليه رسول الله ﷺ في خطبة الجمعة، فكان
دائمًا يقول في مقدمتها: «أما بعد؛ فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي
هدي محمد ﷺ، وشرَّ الأمور محدثاتها»([1]) وتكراره ﷺ لذلك كل جمعة فيه تأكيد على أهمية
العناية بهذا المصدر وضرورة رعايته والمحافظة عليه»([2]).
وإنّ من الاعتصام بكتاب الله تعالى تعظيمُه،
وإجلاله، وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، بل على الدوام عند الاقتدار والسعة،
إن لم يكن بالتلاوة والتدبر فبالعمل والحياة، وحفظه في الصدور، وتعظيمه في السطور،
والعمل بهداه، والرقية والاستشفاء به، واتخاذه قائدًا للهدى والنور.
قال سبحانه في المعتصمين بكتابه المستمسكين به: {
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَـابِ وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين
} [الأعراف: ١٧٠] «والإمساك
والتمسيك والتمسّك: الاعتصام والتعلق بشيء» ([3]).
وتدبر وصف الله تعالى لهم بأنهم يُمسّكون ــ
بتشديد الياء ــ لما في دلالة ذلك التعبير من زيادة الاستمساك والاعتصام، فزيادة
المبنى زيادة معنى، ثم تدبّر وعده الرباني لهم بحفظ أجرهم لمّا حفظوا عهده المنزل وأدّوا
أمانته العظيمة.
واعلم ــ وفقك الله تعالى ــ أن رأس العلم وينبوعه
كتاب الله تعالى، فمن تدبره بآلةٍ جيدة، ونيّة قويّة، وقلب صادق؛ تفجّرت في قلبه
ينابيع الحكمة المُحكمة، وسالت على فؤاده أودية العلم النافع، وانهمرت على روحه غيوث
اللطف الإلهي، وامتلأت يمينه بالكرامة الربانية، والله شكور حميد.
هذا، «وبقاء الدين والدنيا في بقاء العلم، وبذهاب
العلم تذهب الدنيا والدين، فقوام الدين والدنيا انما هو بالعلم. قال ابن شهاب
الزهري: «الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضًا سريعًا، فنَعْشُ العلم ثباتُ
الدين والدنيا، وذهاب العلم ذهاب ذلك كلّه».
والعلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة مالا يرفعه
الملك ولا المال ولا غيرهما، فالعلم يزيد الشريف شرفًا، ويرفع العبد المملوك
حتى يجلسه مجالس الملوك، كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل أن نافع بن
عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على أهل مكة،
فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أَبْزَى. فقال:
من ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا. فقال عمر: استخلفت عليهم مولى! فقال: إنه قارئ
لكتاب الله، عالم بالفرائض. فقال عمر: أما إن نبيكم ﷺ قد قال: «إن الله يرفع
بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين»([4]).
وقال أبو العالية: «كنت آتي ابن عباس وهو على
سريره وحوله قريش، فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير، فتغامزت بي قريش ففطن لهم
ابن عباس فقال: كذا هذا العلم يزيد الشريف شرفًا، ويجلس المملوك على الأسرة».
وقال إبراهيم الحربي: «كان عطاء ابن أبي رباح
عُبيدًا أسود لامرأة من مكة، وكان أنفُهُ كأنه كذا، قال وجاء سليمان بن عبد الملك
أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا اليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم،
فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم. ثم قال سليمان لابنيه: قوما
فقاما، فقال: يا بني اطلبا العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود».
قال الحربي: «كان محمد بن عبد الرحمن
الأوقص عنقه داخل في بدنه، وكان منكباه خارجين كأنهما زجّان([5]) فقالت أمه: يا بني لا تكون في مجلس قوم إلا كنتَ
المضحوك منه المسخور به، فعليك بطلب العلم فإنه يرفعك، فولي قضاء مكة عشرين سنة.
قال: وكان الخصم إذا جلس إليه بين يديه يرعد حتى يقوم».
هذا مع التنبيه إلى ضرورة إخلاص النية في طلب
العلم لله، فكل شيء لغير وجه الله يضمحل، وطلب العلم عبادة وصرفها لغير الله مورد
هلكة ومدحضة خسران، وإرادة الدنيا بالدين حفرة جحيم، أما الدنيا فتبعٌ للآخرة. ومن
أراد الدنيا بالعلم فجهله خير له من علم لا يقربه لربه!
وقال أبي الخناجر: «كنا في مجلس ابن هارون والناس
قد اجتمعوا إليه، فمر أمير المؤمنين فوقف علينا في المجلس، وفي المجلس ألوف،
فالتفت إلى أصحابه وقال: هذا الملك».
وقال الحسن بن فارس: «سمعت الأستاذ ابن
العميد يقول: ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذّ من الرياسة والوزارة التي أنا
فيها، حتى شهدت مذاكرة سليمان بن أيوب بن أحمد الطبراني وأبي بكر
الجعابي بحضرتي، فكان الطبراني يغلب بكثرة حفظه وكان الجعابي يغلب الطبراني
بفطنته..([6]).
وقال المزني: «سمعت الشافعي يقول: من تعلّم القرآن
عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة رقّ طبعه، ومن تعلم
الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه».
وقال سفيان الثوري: «من أراد الدنيا والآخرة فعليه
بطلب العلم. وقال النضر بن شميل: من أراد أن يشرف في الدنيا والآخرة فليتعلم
العلم، وكفى بالمرء سعادة أن يُوثَق به في دين الله، ويكون بين الله وبين عباده».
«وابتنى معاوية بالأبطح مجلسًا فجلس عليه ومعه
ابنه قرظة، فإذا هو بجماعة على رحال لهم، وإذا شاب منهم قد رفع عقيرته يتغنى:
مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا يَمْلأُ الدَّلْوَ إلى عَقْدِ الكَرَبْ
قال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن جعفر،
قال: خلوا له الطريق. ثم إذا هو بجماعة فيهم غلام يتغنى:
بينما
يذكُرْنَنِي أبصـرنَنِي عند |
|
قيدِ
الميل يسعى بي الأغَرّ |
قال: من هذا؟ قالوا: عمر بن أبي ربيعة، قال:
خلوا له الطريق فليذهب. قال: ثم إذا هو بجماعة وإذا فيهم رجل يُسئل فيقال له:
رميتُ قبل أن أحلق، وحلقت قبل أن أرمي ــ في أشياء أشكلت عليهم من مناسك الحج ــ
فقال: من هذا؟ قالوا: عبد الله بن عمر، فالتفت إلى ابنه قرظة وقال: هذا
والله الشرف، هذا والله شرف الدنيا والآخرة»!
وقال أبو جعفر الطحاوي: «كنت عند أحمد بن أبي
عمران، فمرّ بنا رجل من بني الدنيا، فنظرت إليه وشُغلت به عما كنتُ فيه من
المذاكرة. فقال لي: كأني بك قد فكّرت فيما أُعطي هذا الرجل من الدنيا؟ قلت له:
نعم، قال: هل أدلك على خلّة؟ هل لك أن يُحَوِّلَ الله إليك ما عنده من المال،
ويحول إليه ما عندك من العلم، فتعيش أنت غنيًّا جاهلًا، ويعيش هو عالمًا فقيرًا؟!
فقلتُ: ما أختارُ أن يحوّل الله ما عندي من العلم إلى ما عنده، فالعلم غنى بلا
مال، وعزّ بلا عشيرة، وسلطان بلا رجال»([7]). وفي ذلك قيل:
العلم
كنز وذخر لا نفاد له |
|
نعم
القرين إذا ما صاحبٌ صحبا |
وبالجملة فمن رام سعادة الدنيا وفلاح الآخرة فعليه
بعلم الوحي والاعتصام به فهو الموصل لعناية ربه جل وعز وعونه وكرامته وحبّه رضوانه.
إبراهيم بن عبد الرحمن الدميجي
aldumaiji@gmail.com
([6]) وذكر قصة لا
تخلو من تكاثر ومِراء! ـــ وهما آفة العلم، وكذا العُجب والرياء في خصال قلبية
وسموم خفية يدسُّها الرجيم في فؤاد طالب العلم مع العلم فتزاحمه، وتذهب رونقه،
وتبطل طهارته، وربما أفسدته، ولَرُبَّ علمٍ الجهلُ خيرٌ منه عاقبة! وإن كان المرء
لا يسلم من عثرة بعد عثرة يقوم منهما خيرًا منه قبلهما، وله في أبيه الطيّب التوّاب
أسوة، وهذا حال التوّابين فكلنا ذوو خطأ وضعف وهفوات وسقطات، والتقيُّ منّا محفوظ
بحفظ الله الأعلى، فما إن يمسّ قلبَهُ طائفُ شيطانٍ تذكّرَ وارعوى وتاب وأناب
فأبصر واهتدى ـــ وتمام القصة: «.. ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه، فقال الجعابي:
عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي. فقال: هاته، فقال: حدثنا أبو خليف حدثنا سليمان بن
أيوب، وحدث بالحديث، فقال الطبراني: أنبأنا سليمان بن أيوب ومني سمع أبو
خليفة، فاسمع مني حتى يعلو إسنادك، فإنك تروي عن أبي خليفة عنّي! فخجل الجعابي
وغلبه الطبراني.
قال ابن العميد:
فوددت في مكاني أن الوزارة والرياسة ليتها لم تكن لي، وكنت الطبراني وفرحت مثل
الفرح الذي فرح الطبراني لأجل الحديث أو كما قال».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق