فضل الاعتصام بالله تعالى وضرورة المؤمن له
الحمد لله
العليم الحكيم الرحمن الرحيم، أمر بالاعتصام بحبله المتين والاجتماع، ونهى عن
الفُرقة والتنازع والضياع، جَعَلَ أُخوّة الدِّين من الدِّين، وأمر بالموالاة فيه
كلَّ حين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقَ وقدّر، وملك ودبّر، وشرع
ويسّر، فله جميلُ الحمدِ مقدّمهُ والمؤخّر، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله
النبيّ الخاتم والناصح المشفق والمصطفى الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله
وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فإنّ الاعتصام
بالله تعالى هو من أعمال القلوب الشريفة الفاضلة جدًّا، ولا غنى للمؤمن عنه طرفة
عين، وعلى قدر اعتصام المؤمن بمولاه يكون تسديده وتوفيقه وهداه، وهو حبل الدين
المتين، ﴿ﱡ واعتصموا بحبل الله جميعا ﴾ [آل عمران: 103] ويكفيه فضلًا
أن كفاية الرب تعالى على قدر الاعتصام به، فمن حقّق اعتصامه بالله فلا تخشَ عليه
الضيعة، ولا تَخَفْ عليه الخيبة، فربّنا لا يخلف الميعاد. وهذه حروف في تبيان حدّ
الاعتصام، ودلائله، وفضله، وضرورة المؤمن له، وبيان حال أهله، وطرق تحصيله،
وعوائقه، وكشف الإيرادات عليه، وشيء من أخبار أهله.. ونحو ذلك مما يقتضيه الأمر
مما يسّره ربي تبارك وتعالى، سائله التوفيق والتسديد والقبول والغفران، وصلى الله
على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فاشدُد يديك بحبل الله معتصمًا
فإنّه الركنُ إن خانتك أركــــــــــــــــانُ
والاعتصام: هو ملازمةُ
سببِ النجاةِ من الهلكة ونوالِ الرّغيبة. ففيه لِياذٌ واستجارة واستعاذة واستعانة وتوكّل
وتعلّق. وكمالُه تحقيقُ التوحيد، والعاصمُ هو المانع، وفي التنزيل: ﴿ لا عاصم اليوم
من أمر الله إلا من رحم ﴾ [هود: 43] أي: لا
مانع لأحد من الغرق إلا من ؒ تعالى.
الاعتصام بالله تعالى عصمة من الهلكة، ووقاية من الخلل، وأمان من
الخذلان، وسلامة من عثرات الطريق، ووسيلة مفضية لكمال الرضا والفلاح بإذن الله
تعالى.
وجوهر الاعتصام: صدق الاعتماد، وتحقيق التوحيد، وتجريد التعلق، وتمام
الثقة، وكمال التوكّل، ورسوخ اليقين. فمن اعتصم بماله قلّ، ومن اعتصم بعقله ضلّ،
ومن اعتصم بجاهه ذلّ، ومن اعتصم بغير الله زل، ومن اعتصم بالله عزّ وجل لا قلّ ولا
ضل ولا ذل ولا زلّ، بل إلى ذُرَى المُنى يقينًا قد وصل.
ذلك أن الاعتصام بالله تعالى هو ركن التوفيق، فالمرء في كل أطواره
وأزمانه متردد بين جلب الخير وثباته ونمائه، أو دفع الضر أو رفعه، ليس له حول
وطَوْلٌ على الحقيقة البتة، إنما غاية جهده اتخاذ الأسباب المأمور بها من لدن
المسبِّب الخالق البارئ، فهو لا شيء إلا بمعونة إلهه وسيده ومولاه.
وهذه الأسباب لا تستقل بحدوث تأثيراتها، بل لا بد من صرف الموانع، ولا
يكون شيء من ذلك إلا بمشيئة رب العالمين، فعاد الأمر طُرًّا لمن بيده مقاليد
الأمور وتصاريف الأشياء وصيرورات الأقدار، فمن رام التوفيق فليلذ بذلك الركن،
وليعتصم بمن لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر سواه.
والمعتصم بالله حقًّا في تحصيل إيمانه فغايته الجليلة ليس وراءها
مرمى، كيف لا، وهو بالله يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي؟ فعلمه وإرادته وقدرته
بربه الأعلى، فلا يقوم لقوته قوة، ولا يتخلف عن معيّته توفيق.
ومتى أحسن العبد الاعتصام بربه انتظمت له سائر أعماله، وتيسرت
له، وانشرح صدره بها؛ ذلك أنّ الله شكور حميد. «فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء
سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعث لا يلمّه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير
الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائما يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه
ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة
الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار،
وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء، وكفى
بفوته حسرة وعقوبة»([1]).
قال الله جل ذكره موصيًا عباده بالاعتصام بحبله المتين الواصل إليه : (يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا
ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)
[آل عمران: ١٠٢،
١٠٣] فالاعتصام وصيته سبحانه للمؤمنين به.
وقال مشترطًا الاعتصام به للتائب من أعظم جرم: (إن المنافقين في
الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله
وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146) [النساء: ١٤٥ - ١٤٦].
وقال تبارك وتعالى في وصف أوليائه الموعودين برحمته (يا أيها الناس
قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا
به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175) ثم أردف أمره بالصلاة
والزكاة بالاعتصام وختم ذلك بالإغراء بتحصيل ولايته فقال: (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة
واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير (78) [الحج: ٧٨].
وقال جل وعلا في بيان ألا معصوم من كل كريهةٍ إلا من عصمه برحمته: (قال لا عاصم اليوم
من أمر الله إلا من رحم). [هود:
٤٣].
وأوصى الحريصُ الشفيق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بتحقيق الاعتصام
بالله، وبيّن طرق تحصيله؛ فعن سفيان بن عبد الله الثقفي ؓ قال: قلت: يا
رسول الله: حدثني بأمر أعتصم به، قال: «قل: ربي الله ثم استقم». قلت: يا
رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «هذا»([2]).
وقال للحارث بن هشام ؓ لما سأله: أخبرني بأمر أعتصم به؟ فقال ﷺ: «املك
هذا» وأشار إلى لسانه([3])، فبيّن أن ملاك التقوى الاعتصام بالله تعالى في لزوم الاستقامة، ومن
ذلك حفظ اللسان.
وأخبر ﷺ أن صِمَامَ أمانِ المؤمن اعتصامه بكتاب ربه الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فعن جابر بن
عبد الله رضي الله عنه قال ــ في حديث الحج الطويل ــ: «وقد تركت فيكم ما
لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به؛ كتاب الله»([4]).
قال ابن القيم ؒ: «ثم ينزل القلبُ منزل الاعتصام، وهو نوعان: : (واعتصموا بحبل
الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران : 103 وقال: (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى
ونعم النصير) [الحج:
٧٨].
والاعتصام: افتعالٌ من العِصمة، وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من
المحذور والمخوف. فالعصمة: الحمية، والاعتصام: الاحتماء، ومنه سُمّيت القلاع:
العواصم لمنعها وحمايتها. ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله
والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به: يعصم من
الهلكة، فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية
الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل
كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح التي بها
تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
والاعتصام بحبل الله: يوجب له الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله
يوجب له القوة والعدة والسلاح، والمادة التي يستلئم بها في طريقه. ولهذا اختلفت
عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى، فقال ابن
عباس: تمسكوا بدين الله، وقال ابن مسعود: هو الجماعة، وقال: عليكم بالجماعة فإنها
حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة.
وقال مجاهد وعطاء: بعهد الله، وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير: هو القرآن،
وقال مقاتل: بأمر الله وطاعته ولا تفرقوا كما تفرقت اليهود والنصارى. وفي الموطأ([5]) عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط
لكم ثلاثًا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله
جميعًا، وأن تناصحوا من ولّاه الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال،
وكثرة السؤال».
فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل. وأما الاعتصام به:
فهو التوكل عليه، والامتناع به، والاحتماء به، وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ويعصمه
ويدفع عنه.
فإن ثمرة الاعتصام به: هو الدفع عن العبد، والله يدافع عن الذين
آمنوا، فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب ويحميه منه،
فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن وشر نفسه، ويدفع عنه موجب
أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه، فتفقد في حقه أسباب العطب
فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها، ويدفع عنه قَدَرَهُ بقَدَرِهِ، وإرادتَهُ
بإرادَتِهِ، ويعيذه به منه»([6]).
قال السعدي ؒ في آية الأمر بالإيمان: «قوله تعالى: : { قُولُوا } أي: بألسنتكم، متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام، المترتب
عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر، فالقول
الخالي من العمل عمل القلب عديم التأثير، قليل الفائدة، وإن كان العبد يؤجر عليه
إذا كان خيرًا ومعه أصل الإيمان، لكن فرق بين القول المجرد، والمقترن به عمل القلب.
وفي قوله: : { قُولُوا } إشارة إلى الإعلان بالعقيدة، والصدع بها، والدعوة لها، إذ هي أصل
الدين وأساسه.
وفي قوله: { آمَنَّا } ونحوه مما فيه صدور الفعل، منسوبًا إلى جميع الأمة، إشارة إلى أنه يجب
على الأمة، الاعتصام بحبل الله جميعًا، والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم
واحدًا، وعملهم متحدًا، وفي ضمنه النهي عن الافتراق، وفيه: أن المؤمنين كالجسد
الواحد»([7]). وقال: «{ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ } أي: يتوكل عليه،
ويحتمي بحماه، { فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [آل عمران: 101] وهذا فيه الحث على الاعتصام به، وأنه السبيل إلى السلامة والهداية»([8]).
«ولما توعد فرعون موسى عليه السلام بالقتل لم يأت في دفع شره إلا بأن
استعان بالله واعتمد على فضله كما قال تعالى: {وقال موسى إني
عذت} أي: اعتصمت عند ابتداء الرسالة {بربي} ورغّبهم في الاعتصام به وثبتهم بقوله:
{وربكم} أي: المحسن إلينا أجمعين، وأرسلني لاستنقاذكم من أعداء الدين والدنيا {من كل
متكبر} أي: عات طاغ متعظم على الحق هذا وغيره {لا يؤمن بيوم الحساب} من ربه له وهو
يعلم أنه لا بد من حسابه هو لمن تحت يده من رعاياه وعبيده فيحكم على ربه بما لا يحكم
به على نفسه.
وبالأمرين يقدم الإنسان على اتقاء الناس، لأن المتكبر القاسي القلب قد
يحمله طبعه عن إيذاء الناس، إلا أنه إذا كان مقرّاً بالبعث والحساب صار خوفه من
الحساب مانعاً له عن الجري على موجب تكبره، فإذا لم يحصل له الإيمان بالبعث
والقيامة كان طبعه داعياً له إلى الإيذاء»([9]).
وقال أبو بكر الوراق: «علامات الاعتصام ثلاثة: قطع القلب عن معونة
المخلوقين، وصرفه بالكلية إلى رب العالمين، وانتظار الفرج من الله» ([10]).
وعن الإمام الزهري أنه قال: «الاعتصام بالسنة نجاة» ([11]).
وقال تعالى: (وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ } [آل
عمران: ١٠١] «الاعتصام هو التمسّك، ولا يتأتّى
إلا في علوٍّ، فيقال: اعتصمت بحبل الإيمان، لأن للإنسان ثقلًا ذاتيًّا، وهذا الثقل
الذاتي إن لم يرفعه سِواه؛ فإنه يقع بالإنسان. وهذا لا ينشأ إلا إذا كان الإنسان
معلّقًا في الجو ويمسك بحبل ولا يوجد من يدفعه إلى أسفل، بل الإنسان بثقله الخاص
يهبط إلى الأرض. فمن يعتصم بالله ويمسك بحبل الإيمان فإنه يمنع نفسه من الهُوِيِّ
والسقوط.
وهنا نشعر أن الاعتصام بالله هو أن نتبع ما تُلِيَ علينا من الآيات،
وما سنّه لنا رسول الله ﷺ. إذن فباب الاعتصام هو كتاب الله وسنة رسوله.
وكذلك كان وجود الرسول بين أظهرهم هو الأمر الضروري، لأنهم كانوا
منغمسين في حمأة الجاهلية، فلا بد أن توجد إشراقة الرسول بينهم حتى تضيء لهم،
فيروا أن الله قد أخرجهم من الظلمات إلى النور. ولم يقبض الحقُّ رسولَه إلا بعد أن
أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا. قال الرسول ﷺ: «تركت
فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي»([12]).
هكذا نرى أن وجود آيات الله وسنة رسول الله هي العاصم الذي يهدي إلى
صراط مستقيم. والهدى كما نعرف هو ما يوصل إلى الغاية المرجوة، فهب أن غايتك أن
تذهب إلى مكان معيّن؛ فالذي يوصلك إلى ذلك المكان هو هدى، وكل ما يدل إنسانًا على
الموصل للغاية اسمه هدى»([13]).
ومن تدبر حديث ابن عباس المشهور وعمل به حاز الاعتصام، وقطف ثمراته،
ونال على حسَبِ تحقيقه درجاتِه، فهو حديث جامع، وكلام حافل بكل معاني المَنَعة
والحفظ والعِصمة، ووصية مانعة لمن حقّقها، ووعد إلهي لمن الْتَزَمَهُ، فقد أخرج
الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «كنت خلف رسول اللَّه ﷺ
يومًا، فقال: «يا غلام؛ احفظ اللَّه يحفظك، احفظ اللَّه تجده تُجاهك، إذا سألت
فسأل اللَّه، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك
بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم
يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف»([14]).
«ومعنى الحديث أن اللَّه سبحانه وتعالى ملك الملوك، ليس شأنه شأن
الملوك، الذين يأخذهم السفه، ويميل بهم التيه، فلا يَرِقُّون لمملوك، ولا يعطفون
عليه، وإن بالغ في التضرع والاستغاثة، لذلك لجأ كثير من رعية الملوك وأهل مملكتهم
إلى الأمراء، فتوسلوا بهم عند هؤلاء الملوك، وتمسكوا بأهدابهم، ولاذوا بحماهم
ليميلوا إليهم، ويشملوهم بعطفهم، ويعفوا عن خطاياهم، تحقيقًا لرغبة هؤلاء الشفعاء،
أو وجاهة أولئك الأمراء والعظماء، بل هو في منتهى الكرم والرحمة، لا ينسى أحدًا،
ولا يغفل عن أحد، شفع شفيع، أو لم يشفع، وليس له مجلس كمجالس الملوك والسلاطين.
بل إن اللَّه
أقرب إلى عبده من حبل الوريد، فمن أقبل عليه بقلبه أقبل عليه بعطفه، ووجده تجاه
نفسه، ليس بينه وبين ربه حجاب إلا الغفلة والجهالة، فمن بَعُدَ عنه بعد بغفلته،
ومن حُرِمَ رحمته حرم بجهالته ومعصيته، وهو أقرب من كل قريب.
ألا يعرف من دعا
شيخًا أو نبيًّا، وناداهما لنصرته ليقرباه إلى اللَّه زلفى؛ أن الشيخ والنبيَّ
بعيدان عنه، واللهُ قريب منه، ومثله مثل رجل جالس وحده عند الملك، وقد أقبل عليه
الملك يسمع طلبه، وما يبديه من حاجة أو رغبة، فانصرف هذا الرجل الجاهل عن الملك،
وبدأ ينادي أميرًا أو وزيرًا، وهما بعيدان، وسألهما أن يُبلغا حاجته إلى هذا الملك
العظيم!
فهو لا يخلو عن
حالين: إما أنه أعمى، وإما أنه مجنون.
وقد أمر النبي ﷺ
في هذا الحديث بأن العبد إذا سنحت له حاجة اضطرته إلى السؤال فليسأل اللَّه، وأنه
إذا كان في حاجة إلى إعانة أو إغاثة فليستعن بالله، وأنه قد رفعت الأقلام، وجفت
الصحف، فلا ماحي لما أثبته اللَّه، ولا مثبت لما محاه اللَّه، وأن القضاء واقع،
والأمر محتوم، وإن اجتمع الناس كلهم صغيرهم وكبيرهم على أن ينفعوا أحدًا أو يضروه؛
لم يجاوز ذلك قدر اللَّه.
والمؤمن الموحّد رابط الجأش ناعم البال، وضعيف العقيدة مشتت الفكر
موزع النفس، فمن المشاهد أن الإنسان إذا تعلق قلبه بشيء واستحوذ عليه، أو ألمت به
ملمة فلم تنفرج؛ تشتت فكره، وذهب في طلب الغوث كل مذهب، وهام في كل واد، وقد تسول
له نفسه أن يستصرخ النبي الفلاني، وقد تزين له أن ينادي فلانًا من الأئمة، وقد
يجول بخاطره أن ينذر لفلان من المشايخ، وكذا من الشهداء، أو يخضع لجنية فلانية، أو
يرجع إلى المنجم الفلاني، أو الرمّال الفلاني، وقد تحدثه نفسه بأن يراجع سادنًا،
أو إمامًا من أئمة المساجد الذين اتخذوا هذه الأمور حرفة، فيطلب منه أن يبحث عن
الفأل في كتاب!
ومن هام في كل واد، واتبع كل ناعق؛ صرف اللَّه عنه عنايته، وأخرجه من
عباده الصادقين، وأخطأ طريق التربية والهداية الربانية، وظل يهيم في هذه الأودية،
ويتيه في مهامه الأوهام والأحلام إلى أن يتلف ويهلك، فمنهم من تمذهب بمذهب
الدهريين، ومنهم من سلك مسلك الملحدين، ومنهم من دخل في غمار المشركين، ومنهم من
ابتلي بالسفسطة.
وأما من توكل على اللَّه ولم تتشعب به المذاهب وفّقه اللَّه، وفتح
اللَّه عليه طريق الهداية، وهدى قلبه، فأذاقه حلاوة الإيمان، وغشيته غاشية من
السكينة، ورزق من اجتماع الخاطر، ورباطة الجأش، وبرد اليقين، وهدوء النفس ما لا
سبيل إليه لمن تشتت فكره، وتفرق هواه.
ثم إنه لا يخطئه ما قُدِّرَ
له وقُسم، ولكن ضعيف العقيدة متشتت البال، يعاني الحزن والقلق من غير جدوى،
والمؤمن المتوكل الموحد ينعم بالهدوء والطمأنينة والسكينة.
ومعنى ذلك: أن اللَّه عز وجل وعلا لا يقاس على ملوك الدنيا، فإنهم
يباشرون الأمور الخطيرة ويتولونها بأنفسهم، أما الأمور التافهة فيكلونها إلى الخدم
والموظفين، فيلجأ الناس إليهم في هذه الأمور التي ليست ذات خطر وشأن، وليس الأمر
كذلك فيما يختص بالله تعالى، فإنه هو القادر المطلق الذي يقدر على أن يصلح ما دقّ
وجلّ من الأمور، وإن كانت في عددها وانتشارها كنجوم السماء، ورمال الدهناء، وليس
لأحد تصرف في مملكته، فيحب أن يطلب منه الأمر التافه كما يحب أن يطلب منه الأمر
الجليل والعطاء الجزيل، لأن أحدًا لا يملك شيئًا سواء الصغير منه والكبير، والدقيق
والجليل»([15]).
وقال تعالى: (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)
[الحج: ٧٨] «أي: متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان، وهما
العدوان اللذان لا يفارقان العبد، وعداوتهما أضر من عداوة العدو الخارج، فالنصر
على هذا العدو أهم، والعبد اليه أحوج، وكمال النصرة على العدو بحسب كمال
الاعتصام بالله» ([16]).
والمعتصم بالله الملازم للاعتصام يمدّه الله بقوة الإيمان وإصابة
الحق، فيريد الحق ويحرص عليه، وهذا من أعظم أسباب معرفة الحق واتضاحه، قال شيخ الإسلام ؒ: «وفي الحديث الصحيح: «إن
الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ»([17]) فدل على أن المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره؛
ولا سيما في الفتن.. وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له، وعرف
حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج
الضعيف في البيت المظلم؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله تعالى: : (نُورٌ عَلَى نُورٍ) [النور: ٣٥] قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق،
وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورًا على نور»([18]).
ومن
فضائل تحقيق الاعتصام بالله تعالى:
1 ــ اختصار
الطريق على نفسك، فلا تتشعب بك السبل ومردك إلى الله بكل أحوالك، قال سبحانه: { وَلَئِنْ مُتُّمْ
أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ } [آل عمران: 158] «فالخلق إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت، فإنما مرجعهم إلى الله،
ومآلهم إليه، فيجازي كلا بعمله، فأين الفرار إلا إلى الله، وما للخلق عاصم إلا
الاعتصام بحبل الله؟»([19]).
2 ــ تكفير
الخطايا مهما بلغت. فحتى المنافق إذا تاب واعتصم بالله حُطت عنه ذنوبه برحمة الله
قال تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ
تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ
وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } [النساء: 145- 147] «يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات من العذاب، وأشر
الحالات من العقاب. فهم تحت سائر الكفار؛ لأنهم شاركوهم بالكفر بالله ومعاداة
رسله، وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين على
وجه لا يُشعر به ولا يُحسّ. ورتبوا على ذلك جريان أحكام الإسلام عليهم، واستحقاق
ما لا يستحقونه؛ فبذلك ونحوه استحقوا أشد العذاب، وليس لهم منقذ من عذابه، ولا
ناصر يدفع عنهم بعض عقابه، وهذا عام لكل منافق إلا مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوبة
من السيئات. { وَأَصْلَحُوا } له الظواهر والبواطن { وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ } والتجأوا
إليه في جلب منافعهم ودفع المضار عنهم. { وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ } الذي هو الإسلام
والإيمان والإحسان { لِلَّهِ }.
فقصدوا وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسلِمُوا
من الرياء والنفاق، فمن اتصف بهذه الصفات { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي:
في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا
عَظِيمًا } لا يعلم كنهه إلا الله، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
بشر.
وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص بالذكر، مع دخولهما
في قوله: { وَأَصْلَحُوا } لأن الاعتصام
والإخلاص من جملة الإصلاح، لشدة الحاجة إليهما، خصوصًا في هذا المقام الحرج الذي
يمكن من القلوب النفاق، فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله، ودوام اللجأ والافتقار
إليه في دفعه، وكون الإخلاص منافيًا كل المنافاة للنفاق، فذكرهما لفضلهما وتوقفِ
الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما، ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما.
وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلاء مع
المؤمنين لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرا عظيما، مع أن السياق فيهم. بل قال: { وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } لأن هذه القاعدة الشريفة لم يزل الله يبدئ
فيها ويعيد، إذا كان السياق في بعض الجزئيات، وأراد أن يرتب عليه ثوابًا أو عقابا وكان
ذلك مشتركًا بينه وبين الجنس الداخل فيه، رتب الثواب في مقابلة الحكم العام الذي تندرج
تحته تلك القضية وغيرها، ولئلا يتوهم اختصاص الحكم بالأمر الجزئي، فهذا من أسرار القرآن
البديعة، فالتائب من المنافقين مع المؤمنين وله ثوابهم.
ثم أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته وإحسانه
فقال: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ } والحال أن الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله الأثقال الدائبين في
الأعمال جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئًا لله أعطاه الله خيرًا منه.
ومع هذا يعلم
ظاهركم وباطنكم، وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلاص وصدق، وضد ذلك. وهو يريد منكم
التوبة والإنابة والرجوع إليه، فإذا أنبتم إليه، فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا
يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، بل العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع
لنفسه.
والشكر هو خضوع
القلب واعترافه بنعمة الله، وثناء اللسان على المشكور، وعمل الجوارح بطاعته وألا
يستعين بنعمه على معاصيه»([20]). فأكْرِمْ بالاعتصام ملجأً وملاذًا، وأمَنَةً وسلامًا، ونعمةً
ونَوَالًا. والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم
بن عبد الرحمن الدميجي
aldumaiji@gmail.com
([2]) الترمذي (2522) وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه
(3972)، وصححه الألباني، صحيح سنن ابن ماجه (3208).
([3]) رواه الطبراني بإسنادين أحدهما جيد، المعجم
الكبير (3/ 295) (3348، 3349)، وانظر الترغيب والترهيب للمنذري (3/ 527) ويتقوى
بشواهده عند أحمد (5/ 295)، وابن المبارك في الزهد (134).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق