وصيةُ راحلٍ ذاق طعم الإيمان
على فراش موته
الحمد لله، وبعد: فبين أيدينا وصية رائعة
نفيسة، خطتها يراعة الأستاذ فهد بن إبراهيم العمرو رحمه الله تعالى، كتبها قبيل
وفاته بأمريكا، وقد نشرت بعد وفاته رحمه الله تعالى، وفيها من نسائم الرضا، وأنوار
التسليم، ومنائح السكينة، ومفائض الفرح، ومفاتح التوفيق، ومكارم الإيمان شيئًا
كثيرًا، فضلًا من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم، وهذا نصها: الحمد لله الذي ينعم
بلطفه كيفما شاء والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وبعد: الموت، تلك المحطة التي ستنتهي
عندها مسيرة الجميع، دون موعد مسبق، ولا موقع محدد، ولا ترتيب عمري، ولأسباب متنوعة،
غير أن الله وأجزم أنه أحب لي الخير ابتلاني باشدّ الأمراض فتكًا بأقوى الأجساد، لكنه
أنعم علي بالبصيرة أن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، ثم زاد فضله علي أن ألبسني لباس الرضا
والتسليم، وأحلّ علي صبرًا وتجلدًا لست أبالغ حين أقول: أنني معه أعيش أجمل أشهر حياتي،
وأكثرها شعورًا بحلاوة الإيمان.
تحولت
معها أنّات الوجع لتسبيح خاشع، ومرارة الصبر لتسليم ماتع، وحلكة الغربة لنور ساطع،
أبصرت بها أكثر الطرق المؤدية للقرب من اللطيف، تلذذت بمناجاته بصورة أشعرتني أن الله
منحني فرصة أكبر لتصحيح مساري، والانكسار بين يديه، ليغفر زلاتي، ويضاعف حسناتي، وأن
يلهمني رشدي، لأقف عند محطتي في خاتمة حسنة.
كان
طول المرض وتنامي شدته ساعة بعد ساعة ملهمًا لي أن الحياة الدنيا فانية، لا تستحق أن
أبذر ما تبقى لي فيها من أيام في مزید غفلة، فأعانني مولاي على طول القيام، وأجرى لساني
يلهج بذكره وشكره على ما أنعم به علي من فرصة تقويم واستدراك، استعد به لما أمامي من
رحيل له ما بعده من حساب ومفارقة أحباب.
تأملت
ما جرى للكثير من الراحلين الذين تخطّفهم الموت فجأة، وقد كانوا صحاح الأبدان في ريعان
أعمارهم؛ فأيقنت أن مرضي هدية من ربي لأقدم عليه تائبًا راضيًا، وتدبرت حال الغافلين
عن صالح الأعمال، اللاهثين خلف سراب السعادة الدنيا، المنشغلين أحيانًا بتوافه الأمور
عن عظيم ما أمامهم يوم لا ينفع مال ولا بنون؛ فأيقنت أن اشتداد ما أصابني، وتنامي انتشاره
في جسدي حتى أنهكه؛ إنما أيقظ قلبي، وأنار طريقي، وأذاقني لذة الصبر على أقدار الله،
والتسليم لما قضاه، والرضا بحكمته، بل والفرح بها.
عشت
أشهري الأخيرة في نعيم روحي لا أملك له وصفًا، كلما أشعرني الفريق الطبي بانتشار المرض
في جزء جديد في جسدي؛ هتف بي إيماني أنني نجحت في تجاوز مرحلة من المصابرة، فترقّيت
لمنزلة أعلى، حتى هان عليّ كل خبر يصلني منهم، وغدت عينا فكري لا تتطلع إلا ليوم لقاء
ربي الذي أحبني فابتلاني، وباعدني عن وطني وأسرتي ليقربني إليه أكثر، ولا أدري متى
أودعكم لألقاه، لكنني على يقين أن أجلي قد اقترب، وساعتي أوشكت أن تحين لتتوقف عقاربها،
وأعود إليكم لتروني ولا أراكم، وتودعوني ولا أودعكم، وتقبّلوني ولا أقبّلكم، رغم شوقي
العظيم لكل واحد منكم، وخاصة والدي الذي يتراءى لي في كل لحظة غربة، وكلّ أنّة وجع،
غير أن ما يسكن معه قلبي، ويطمئن إليه وجدي: أنني على ثقة برسوخ إيمانه، ومعرفته بالله،
ويقينه بلطفه.
ولأنّي
قد لا أتمكّن من محادثتكم على الصورة التي آملها مع هجمة الأوجاع حتى على أحرفي التي
أشعر أنها بدأت تتمنّع عن قلمي ولساني، ولأنّ رسالتي لن تبلغكم إلا بعد رحيلي، أوصيكم
وصية مودع محب، هي رجع صدى لوصية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: الصلاة الصلاة،
ولأنّ كلّ منّا يتناوشه التقصير؛ فاحرصوا على النوافل، وتلذّذوا بمناجاة اللطيف حين
يناديكم في الثلث الآخر من الليل: هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل
من سائل فأعطيه. فقد تُلاقِي باب إجابة مفتوح، فوالله إنها السعادة التي لم أجدها في
كل أبواب الدنيا، فالموت أمرٌ محتوم لا شك في هجمته، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا،
وما تدري نفس بأي أرض تموت. وأختم كلماتي: بالتماسٍ منكم جميعًا أن تصفحوا عنّي، وتشملوني
بعفوكم عن كل زلل أو خطأ أو تقصير في حق أيٍّ منكم، ثم أشهدكم جميعا أنني أشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحمد
لله على ما مضى وما هو آت. محبكم: أبو عبد الله فهد بن إبراهيم
العمرو - بوسطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق