وسائل
تحصيل الاعتصام بالله تعالى
الحمد لله تعالى، أما بعد؛ فإنّ من رحمة الله تعالى
بعباده أن بين لهم جادة النجاة، وطريقة الفلاح، وسبيل السعادة، وجعلها مَهْيَعًا
سالكًا، واضحًا بيّنًا، سهلًا ميسورًا على من رام الوصول لمرضاته وجنته، كما قد
جعل أسباب الضلال واضحة بيّنة لكل ذي لبّ وإرادة، وجعل فيها من أسباب الضيق والضنك
والعَنَتِ والوحشة ما تَشِيمُ عنه نفوس الطيبين الأحرار، وكلٌّ مسؤول عما جنته
يده، فنحن على البيضاء حقًّا لا يزيغ عنها إلا هالك، قال سبحانه: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) وقال سبحانه وبحمده: (وما كان
الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون). [التوبة: 115].
فالمؤمن الحريص على إدراك خلاصه وفلاحه لا تراه
إلا ساعيًا في فكاك نفسه وتنقيتها وتحصيل أسباب طهاراتها وطِيبِها، ثم رفعتها عند
ربها وقربها منه تبارك وتعالى. وباب فلاحها وفكاكها هو الاعتصام بالله وحده على
التمام، ولتحصيله أسباب منها:
1 ــ الإخلاص:
فهو باب الدخول، وعمود القبول، ومعراج التوفيق،
ومستدرّ العون الإلهي، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في كلام متين: «إن المخلوقين
إذا اشتكى إليهم الإنسان فضررُهم أقرب من نفعهم، والخالق ــ جل جلاله وتقدست
أسماؤه ولا إله غيره ــ إذا اشتكى إليه المخلوق وأنزل حاجته به واستغفره من ذنوبه:
أيده وقوّاه وهداه، وسد فاقته وأغناه، وقربه وأقناه، وأحبه واصطفاه.
والمخلوق إذا أنزل العبد به حاجته استرذله وازدراه،
ثم أعرض عنه، فخسر الدنيا والآخرة حتى وإن قضى له بعض مطلبه؛ لأنه عنده من بعض
رعاياه يستعبده بما يهواه، قال الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه
ترجعون } وقال تعالى: { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي
ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقال تعالى: { ولا تهنوا ولا تحزنوا
وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } [آل عمران: 139] وهذا باب واسع قد كتبت فيه شيئًا كثيرًا وعرفته
علما وذوقا وتجربة»([1]).
ومن الإخلاص يكون تحقيق التوحيد الذي وعد الله
أهله بالجنة والمزيد. قال شيخ الإسلام ؒ: «وأما قول السائل: ما السبب في أن الفرج
يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخلق؟ وما الحيلة في صرف القلب عن التعلق بهم وتعلقه
بالله؟
فيقال: سبب هذا تحقيق التوحيد؛ توحيد الربوبية
وتوحيد الإلهية. فتوحيد الربوبية: أنه لا خالق إلا الله، فلا يستقل شيء سواه
بإحداث أمر من الأمور؛ بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فكل ما سواه إذا قُدّر
سببًا فلا بد له من شريك معاون، وضِدِّ معوّق، فإذا طلب مما سواه إحداث أمر من
الأمور طلب منه ما لا يستقلّ به، ولا يقدر وحده عليه، حتى ما يطلب من العبد من
الأفعال الاختيارية لا يفعلها إلا بإعانة الله له، كأن يجعله فاعلًا لها بما يخلقه
فيه من الإرادة الجازمة ويخلقه له من القدرة التامة، وعند وجود القدرة التامة
والإرادة الجازمة يجب وجود المقدور.
فمشيئة الله وحده مستلزمة لكل ما يريده، فما شاء
الله كان وما لم يشأ لم يكن، وما سواه لا تستلزم إرادته شيئًا؛ بل ما أراده لا
يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره إن لم يُعِنه الرب بها لم يحصل مراده، ونفس إرادته
لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين }
وقال تعالى: { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا . وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله
كان عليما حكيما . يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما } وقال: {
فمن شاء ذكره . وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة }. [المدثر: 55- 56].
والراجي لمخلوق طالب بقلبه لما يريده من ذلك
المخلوق، وذلك المخلوق عاجز عنه، ثم هذا من الشرك الذي لا يغفره الله.
فمن كمال نعمته وإحسانه إلى عباده المؤمنين أن يمنع حصول مطالبهم
بالشرك حتى يصرف قلوبهم إلى التوحيد، ثم إن وحّده العبد توحيد الإلهية حصلت له
سعادة الدنيا والآخرة، وإن كان ممن قيل فيه: { وإذا مس
الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا
إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون } وفي قوله: { وإذا مسكم الضر في
البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا } كان
ما حصل له من وحدانيته حجة عليه، كما احتج سبحانه على المشركين الذين يقرون بأنه
خالق كل شيء ثم يشركون ولا يعبدونه وحده لا شريك له قال تعالى: { قل لمن الأرض ومن
فيها إن كنتم تعلمون . سيقولون لله قل أفلا تذكرون . قل من رب السماوات السبع ورب
العرش العظيم . سيقولون لله قل أفلا تتقون . قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا
يجار عليه إن كنتم تعلمون . سيقولون لله قل فأنى تسحرون } وقال تعالى: { ولئن
سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون } [العنكبوت: 61] وهذا قد ذكر في القرآن في غير موضع.
فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن يُنزِل
بهم الشدة والضر وما يلجئهم إلى توحيده فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون
أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه، والإنابة إليه،
وحلاوة الإيمان، وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمةً عليهم من زوال
المرض، أو الخوف، أو الجدب، أو حصولِ اليسر، وزوالِ العسر في المعيشة، فإن ذلك لذّاتٌ
بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظمُ مما يحصل للمؤمن.
وأما ما
يحصلُ لأهل التوحيد المخلصين لله الدينَ فأعظم من أن يُعبِّرَ عن كُنهه مقال، أو
يَستحضرَ تفصيله بال، ولكلِّ مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: «يا
ابن آدم لقد بورك لك في حاجةٍ أكثرت فيها من قرع باب سيدك». وقال بعض الشيوخ: «إنه
ليكون لي إلى الله حاجةٌ فأدعوه فيَفتحُ لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا
أحبُّ معه أن يُعجّلَ قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك؛ لأن النفس لا تريد
إلا حظّها فإذا قُضي انصرفت». وفي بعض الإسرائيليات: «يا ابن آدم البلاء يجمع بيني
وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك».
وهذا المعنى كثير، وهو موجود مذوق محسوس بالحس
الباطن للمؤمن، وما من مؤمن إلا وقد وجد من ذلك ما يعرف به ما ذكرناه، فإن ذلك من
باب الذوق والحس، لا يعرفه إلا من كان له ذوق وحس بذلك.
ولفظ «الذوق» وإن كان قد يظن أنه في الأصل مختص
بذوق اللسان فاستعماله في الكتاب والسنة يدل على أنه أعم من ذلك، فهو مستعمل في
الإحساس بالملائم والمنافر، قال تعالى: { فأذاقها الله
لباس الجوع والخوف } [النحل: 112] فجعل الخوف والجوع مذوقًا؛ وأضاف إليهما اللباس ليشعر أنه لبس الجائع
والخائف فشمله وأحاط به إحاطة اللباس باللابس»([2]).
«وأنت تجد كثيرًا من المنتسبين إلى علم ودين لا
يكذبون فيما يقولونه، بل لا يقولون إلا الصدق، لكن لا يقبلون ما يخبر به غيرهم من
الصدق، بل يحملهم الهوى والجهل على تكذيب غيرهم وإن كان صادقًا، إما تكذيب نظيره،
وإما تكذيب من ليس من طائفته، ونفس تكذيب الصادق هو من الكذب؛ ولهذا قرنه بالكاذب
على الله، فقال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ
وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) [الزمر: 32]، فكلاهما كاذب: هذا كاذب فيما يخبر به عن الله،
وهذا كاذب فيما يخبر به عن المخبر عن الله، والنصارى يكثر فيهم المفترون للكذب على
الله، واليهود فيهم المكذِّبون بالحق»([3]).
هذا ومع زيادة الإيمان يكون الفرقان في قلبك
وبصيرتك بإذن الله تعالى (إن تتقوا الله يجعل لكم
فرقانا) [الأنفال: 29] «وفي الحديث الصحيح: «إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن
قارئ وغير قارئ»([4]). «فدل على أن
المؤمن يتبين له ما لا يتبين لغيره؛ ولا سيما في الفتن.. وكلما قوي الإيمان في
القلب قوي انكشاف الأمور له؛ وعرف حقائقها من بواطلها، وكلما ضعف الإيمان ضعف
الكشف، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم.
ولهذا قال بعض السلف في قوله تعالى: ﴿ (نُورٌ عَلَى نُورٍ) [النور: 35] قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق، وإن
لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورًا على نور»([5]).
وكل مبطل لا بد أن يكون معه طرف حق يُلبّس به على
الناس، قال ابن تيمية: «وكل من سوى أهل السنة والحديث من الفرق فلا ينفرد عن أئمة
الحديث بقول صحيح، بل لابد أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق، وبسبب ذلك وقعت
الشبهة، وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد، ولهذا سُمي أهل البدع أهل الشبهات،
وقيل فيهم: إنهم يلبسون الحق بالباطل»([6]).
2 ــ العلم:
لا اعتصام إلا بعد العلم، وبخاصة العلم بالله
وبأسمائه وصفاته وأفعاله وحقه، وعلى قدر العلم يكون إحسان الظن وثبات اليقين وعظيم
الرغيبة، فإن ساعد العملُ فثمّ نيل المراد بإذن الله تعالى.
ومن تأمل اعتصام العلماء بالله عند النعم والمحن
عرف قدر العلم في هذا الباب وجلاله وعظمته وعظيم نفعه، فمادَّتُه هي العلم النافع والله
المستعان. وأعظم العلم هو العلم بالله تعالى، «ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبالُ
على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا
السرور بمعرفته وصدقُ معاملته، وفيه قلق لا يسكّنه إلا الاجتماع عليه والفرارُ منه
إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقةُ الصبر
على ذلك إلى وقتِ لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبُه، وفيه
فاقة لا يسدها إلا محبتُه والإنابة إليه ودوامُ ذكره وصدقُ الإخلاص له، ولو أعطي
الدنيا وما فيها لم تُسدَّ تلك الفاقةُ منه أبدًا»([7]).
3 ــ إحسان الاتباع:
لا بد لكل معتصم بسنةٍ سابقة يعتصم بها، وصراطٍ
بيّنٍ يهتدي خلاله، وطريقٍ واصلٍ لمراده، وما ثمّ إلا سنة سيد الأولين والآخرين ﷺ،
فمن رغب عنها هلك.
وتركُ السنة مفضٍ للوقوع بين براثن البدعة، وعلى
قدر بُعده عن السنة يكون دخوله في ضدها وهي المخالفة، إما بالترك أو الابتداع
والاختراع، وبحسَب قربه منها يكون انفكاكه مما سواها من المحدثات، كُلًّا بكُلٍّ،
وجُزءًا بجزءٍ، وشيئًا بشيءٍ، فالمكان الممكن لا يحتمل الضدين، فعلى قدر تحصيل
أحدهما يكون فراغه من الآخر، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «لا تجد أحدًا ترك
بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا
ترك شيئًا من السنة، قال تعالى: {فنسوا حظا مما ذكروا به
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء} فلما تركوا حظا مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت
بينهم العداوة والبغضاء، وقال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو
له قرين} أي: عن الذكر الذي أنزله الرحمن، وقال تعالى: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا
يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} وقال: {اتبعوا
ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون} فأمر باتباع ما
أنزل ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه، فمن لم يتبع أحدهما اتبع الآخر،
ولهذا قال: {ويتبع غير سبيل المؤمنين}. [النساء: 115]. قال العلماء: «من لم يكن متبعًا سبيلهم كان
متبعا غير سبيلهم» فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب؛ فليس لأحد أن يخرج عما
أجمعوا عليه.
وكذلك من لم يفعل المأمور فعل بعض المحظور، ومن
فعل المحظور لم يفعل جميع المأمور؛ فلا يمكن الإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع
فعله لبعض ما حظر، ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر، فإنّ تَرْكَ ما
حظر من جملة ما أمر به فهو مأمور، ومن المحظور ترك المأمور؛ فكل ما شغله عن الواجب
فهو محرم، وكل ما لا يمكن فعل الواجب إلا به فعليه فعله، ولهذا كان لفظ «الأمر»
إذا أطلق يتناول النهي، وإذا قيد بالنهي كان النهي نظير ما تقدم»([8]).
«والبدع نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع
في الأفعال والعبادات. وهذا الثاني يتضمن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني.
فالمنتسبون إلى العلم والنظر وما يتبع ذلك يخاف
عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الأول.
والمنتسبون إلى العبادة والنظر والإرادة وما يتبع
ذلك يخاف عليهم إذا لم يعتصموا بالكتاب والسنة من القسم الثاني.
وقد أمرنا الله أن نقول في كل صلاة: {اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين} [الفاتحة: 6- 7] آمين.
وصح عن النبي ﷺ أنه قال: «اليهود مغضوب عليهم،
والنصارى ضالون»([9]).
قال سفيان بن عيينة: «كانوا يقولون: من فسد
من العلماء ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى». وكان
السلف يقولون: «احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل
مفتون».
فطالب العلم إن لم يقترن بطلبه فعل ما يجب عليه،
وترك ما يحرم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقع في الضلال.
وأهل الإرادة إن لم يقترن بإرادتهم طلب العلم
الواجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنة، وإلا وقعوا في الضلال والبغي.
ولو اعتصم رجل بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب،
كان غاويًا، وإذا اعتصم بالعبادة الشرعية من غير علم بالواجب كان ضالًّا، والضلال
سمة النصارى، والبغي سمة اليهود، مع أن كلا من الأمتين فيها الضلال والبغي، ولهذا
تجد من انحرف عن الشريعة في الأمر والنهي من أهل الإرادة والعبادة والسلوك والطريق
ينتهون إلى الفناء الذي لا يميزون فيه بين المأمور والمحظور، فيكونون فيه متبعين
أهواءهم.
وإنما الفناء الشرعي أن يفنى بعبادة الله عن عبادة
ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، وبسؤاله
عن سؤال ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وهذا هو إخلاص الدين لله وعبادته وحده لا
شريك له، وهو دين الإسلام الذي أرسل الله به الرسل، وأنزل به الكتب»([10]).
4 ــ الصدق:
فالصدق مع الله تعالى هو آخيّة التوفيق والفلاح، ودليل
صحة التوجّه والإخلاص، وبرهان التوقير للعليّ الأعلى تبارك وتعالى، ومن رام جزيل
العطايا فليصدق مع العظيم بقلبه وقوله وعمله. وفي مصنف عبد الرزاق بسنده عن
جابر بن عبد الله ¶ قال: «بينا فتى من الأنصار عَلَفَ ناضحه، وأقام معاذ بن
جبل صلاة العشاء، فنزَّلَ الفتى عَلَفَه، فقام فتوضأ، وحضر الصلاة، وافتتح معاذ
بسورة البقرة، فصلّى الفتى وترك معاذًا، وانصرف إلى ناضحه فعلَفَه أو فعلفها، فلما
انصرف معاذ جاء الفتى فسبّه ونَقَصَه، ثم قال: لآتين نبي الله ﷺ فأخبره خبرك،
فأصبحنا فاجتمعا عند النبي ﷺ، فذكر له معاذ شأنه، فقال الفتى: إنا أهل عمل وشُغْلٍ،
فطوّل علينا، استفتح بسورة البقرة، فقال النبي ﷺ: «يا معاذ أتريد أن تكون
فتّانًا، إذا أممت الناس فاقرأ بـ(سبح اسم ربك
الأعلى) (والليل إذا يغشى) و (إقرأ باسم ربك) (والضحى) وبهذا النحو».
فقال عبد الله بن عبيد بن عمير:
فدعا النبي ﷺ الفتى فقال: «يا معاذ، ادع» فدعا، فقال للفتى: «ادع»
فقال: والله لا أدري ما دندنتكما هذه، غير أني والله لئن لقيت العدو لأصدقنّ الله،
فلقي العدو فاستشهد، فقال النبي ﷺ: «صَدَقَ الله فصَدَقَهُ الله»([11]).
5 ــ الدعاء:
الدعاء حبل المعتصمين بربهم، وباب الداخلين إلى سيدهم،
ووسيلة الطالبين كريمَهُم، فبه يرفعون شكاياتهم من غوائل الدنيا وحبائل الشيطان،
وبه يطلبون رغائبهم من الكريم الوهاب المنان، قال بكر بن عبد الله
المزني: «من مثلك يا ابن آدم! خُلِّيَ بينك وبين الماء والمحراب، متى شئت دخلت على
ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان»([12]).
6 ــ المحاسبة:
قال الحسيب سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) [الحشر: 18] وهذا أصل في محاسبة المؤمن نفسه، ومِن أولى ما
يحاسب المؤمن نفسه فيه قوة اعتصامه بربه تعالى واستمساكه بحبله، فالدنيا تذهب بلبّه
أحيانًا فيطيش وَهَلُهُ عن سعادته باعتصامه بحبل مولاه، فإن أسعفه ربه بمحاسبة
صادقة لنفسه عاد لكنف ربه ورحمته وكرامته.
وبالجملة؛ فالمحاسبة أخذٌ بالحزم في تحصيل المراد،
واحترازٌ من مؤاخذة الحساب، ومن اعتصم بربه فاز.
7 ــ لزوم العلماء:
فالمعتصم بالله تعالى مفتقر لبصيرة تهديه، ومعدنها
العلم بالله وبدينه، ومعينها صدور العلماء الأتقياء العاملين الربانيين، فمن لزم
غرْزَهم أوشك أن يصل بإذن الله، ذلك أن للشيطان حظوظ من فريسته الآدمية، وللنفس
رغائب تعميها، وشهوات تُعشيها، فإن استفرد به الشيطان أتلفه، فإن وفّقه الله لبصير
يرشده ويأخذ بيده أوشك السعيد لفلاحه أن يصل.
أيضًا فلزوم أهل العلم ومصاحبتهم في اختلاف
أحوالهم وتقلّبهم مع الشدة والرخاء، والخوف والأمن، والضيق والسعة يحقن في قلب
المؤمن جرعات النفع وعقار التحصين وغذاء المسير بإذن الله تعالى.
8 ــ الفرح بالله تعالى:
الفرح بالله له لذة تقصر عن وصفها الحروف، فهي
الجنة قبل الجنة، والنعيم السابق للنعيم، وهي حقًّا قطعة من نعيم الجنة، وفي
الجرعة اليسيرة منها ما يشبع الروح في مسيرها للآخرة، فكيف بالكثير؟!
فافرح بربك وبرحمته وفضله كلَّ الفرح، واجرع بقلبك
وروحك ونفسك موارد الفرح ومصادر السرور وألوان الحبور، فلا أَفَرَحَ على الإطلاق مِنْ
فَرَحِ العبد بربه تعالى، وهذا من الأمور المعلومة بالفطرة والعقل والشرع والحال
والتجربة، فالحمد لله كثيرًا كثيرًا على ما يعجز عنه البيان، وتقصر عنه الحروف،
ويقف دونه التوضيح (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما
يجمعون) [يونس: 58].
قال ابن تيمية حين كان سجينًا في قلعة دمشق قبل
وفاته ؒ: «ما يُبِيّن نعم الله التي أنعم بها عليّ وأنا في هذا المكان أعظم قدرًا
وأكثر عددًا ما لا يمكن حصره، وأكثر ما ينقص علي الجماعة، فأنا أحب لهم أن ينالوا
من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم، وأن يُفتح لهم من معرفة الله وطاعته
والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات، وأُعَرِّفُ أكثرَ الناس قدر ذلك،
فإنه لا يُعرف إلا بالذوق والوجد، لكن ما من مؤمن إلا له نصيب من ذلك ويستدل منه
بالقليل على الكثير، وإن كان لا يُقَدِّرُ قدرَهُ الكبير، وأنا أَعْرِفُ أحوال
الناس والأجناس واللذات. وأين الدر من البعر؟ وأين الفالوذج من الدبس؟ وأين
الملائكة من البهائم؟»([13])
9 ــ تجديد التوبة:
فلما كانت التوبة هي أولى المنازل وأوسطها وآخرها
ــ بحسب ابن القيم ــ فعلى المؤمن أن يعتصم بها، وهي ــ بحمد الله ــ موصلة
للاعتصام بحبل ربه، لأن دائمَ التوبة لله دائمُ الاعتصام به، فهو يتوب إلى الله
تعالى من قصور وتقصير، من قصور في ذات الاعتصام، وتقصير في تحصيل وإعمالِ أدوات الاعتصام،
فيتوب على التكرار والدوام تطهيرًا وإنقاءً من دخيلةٍ في نفسه، ودخَنٍ في قلبه،
وضعفٍ في فؤاده، ونَكْتٍ وقَتَرٍ وثَقْلَةٍ وغفلةٍ يعترينه أحيانًا على مرِّ
الزمان وتتابع الأيام، لأنّ الإنسان ضعيف عاجز، جهول فاتر، ملول عجول، مفتّنٌ
توّاب، ومن هنا كانت ضرورته لتجديد التوبة للتواب تبارك وتعالى، وتجديد التوبة فرع
عن المحاسبة الصادقة وثمرة نافعة لها.
10 ــ الذكر:
وهو زاد المعتصمين، ووقود المقرورين بين جليد
الدنيا وبأسائها، ذلك أن الاعتصام بحد ذاته ذكر خالص بالقلب، فأعظِمْ بالذكر
منهلًا وزادًا وسلاحًا.
قال الطبري رحمه الله تعالى: «ومن جسيم ما يُرجى
به للعبد الوصول إلى رضا ربه ذكره إياه بقلبه، فإن ذلك من شريف أعماله عنده؛
لحديث أبى هريرة عن النبي ﷺ قال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «إذا ذكرني
عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم»([14]).
والذكر سبب للعصمة من لأواء الأرواح ــ أي أذاها
بالذنوب ــ فالذكر سربال حافظ بإذن الله من غوائل الخطايا، ونوازل الرزايا، وحَرَابَاتِ
طوارق الليل والنهار، كما أن بعض الأذكار عاصمة بإذن الله من أخطار مخصوصة،
كتعويذات طرفي النهار والمنزل والنوم وغيرها، وكعشر سورة الكهف، فعن أبي الدرداء ؓ
أن النبي ﷺ قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال» وفي
رواية: «من آخر سورة الكهف» رواهما مسلم([15]).
قال الطبري: «إن قال قائل: أي أنواع الذكر أفضل؛
فإن ذلك أنواع كثيرة، منها التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير؟
قيل: أعلى ذلك وأشرفه الكلمة التي لا يصح لأحدٍ
عمل إلا بها، ولا إيمان إلا بالإقرار بها، وذلك التهليل، وهو لا إله إلا الله([16]).
روى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ: «الإيمان بضع
وسبعون ــ أو بضع وستون ــ شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة
الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» متفق عليه([17]). وقال ﷺ: «أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي:
لا إله إلا الله»([18])([19]).
11 ــ التفكّر:
واعلم أن التفكر سبيل للاعتصام بإذن الله، ولنقف
قليلا متفكرين شاكرين في سبع نعمٍ كبار!
تركوا التفّكرَ في أمور فلاحهم |
|
فكأنهم بجمودهم أصنامُ |
العاقل الحازم الرشيد، المريدُ لنفسه الخلاصَ ثم
الفلاحَ وحسنَ العاقبة لا بدّ له من وقفات يخلو بها مع نفسه، يتأمل وإياها منن ربه
وآلاءَ معبوده..
وجّه الله عبادة للتدبر في آياته (أفلا يتدبرون القرآن) وأرشدهم للتفكر في الخليقة:
(ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) والنهاية: (ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك
فقنا عذاب النار) وقال حكيم
الصحابةِ أبو الدرداء ؓ: «تفكّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلة».
يا لَله! كم تحتَ هذه الكلمة من كنوزِ علمٍ،
وذخائرِ حكمة!
ألم تعلم أنك منغمسٌ حتى شعرِ رأسك في نعمٍ لا
تستطيع إحصاءها، مع هذا فأنت مأمورٌ بشكرها، ولكن من رحمة ربك بك أن جعل وجوبَ الشكرِ
على قدر وُسعك وطاقتك، والأمر يسير بحمد الله تعالى.
قف الآن هنيهاتٍ متذكّرًا بعض نعم الحميد الكريم
الوهاب عليك، فالله يحب المتحدثين بنعمه، المتفكرين في آلائه.
النِّعمُ السبعُ الكبار:
أًولاها: نعمةُ الخلق:
إنها نعمةٌ مدهشةٌ عجيبة، فأحضر عقلك بين يديك، وعُد
بذاكرتك لأبعدِ ما تستطيع، يومًا بعد يومٍ، وشهرًا بعد شهر، وسنةً بعد سنة حتى
تقفَ عند عتبةٍ زمانيّة، لا تستطيع بذاكرتك اختراقَ حاجِزِها ولا كشفَ سِترِها.
مِن ذلك المكانِ الزمانيٍّ اقفز بمُخيلتك إلى ما
قبلَ خلقِك!
هناك في ذلك العالم السحيق لا تجدُ نفسك، قد
وُجِدَ الكونُ وأنت غيرُ موجود، ليس لك ذرّةُ وجود فيه، لا جسدًا ولا روحًا، ليس
هناك منك أيها الفاني سوى العدم!
مرّت أزمانٌ وأزمان وأحداثٌ في هذا الكون وأنت غيرُ موجودٍ فيه، لا إله إلا
الله (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا
مذكورًا).
بعد ذلك خلقك ربُّكَ، وفطرك
وبرأك، وسوّاك وأوجدك ولم تكُ شيئًا، فاحمد الله واشكره على نعمة خلقِكَ، فهي خيرٌ
للصالحين، وأكثرُ البشر عن شكرها غافلون.
ثانيةُ النعم:
نعمةُ الاصطفاء الانساني:
لمّا خلقك ربُّكَ اختارك لتكون
مخلوقًا مُمَيّزًا فاضلًا كريمًا (ولقد كرّمنا بني آدم) [الإسراء: 70].
وتأمل ضدَّ ذلك، ما ذا لو أن اللهَ قد خلقك شجرةً
تُرعى وتُقطعُ وتُرمى للنار، أو خلَقَكَ صخرةً، تَهوِي وتُكسَر، أو قطرة ماء في
بحرٍ، أو ذرّةَ هواء، أو حيوانًا بهيمًا، أو طيرًا حائرًا، أو حشرة تائهة!
اصطفاك الله من جميع أجناس مخلوقاته لتكون بشرًا
مُمَيّزًا كريمًا، تستحقُّ رضاهُ وحبّه، وكرامتَه وجنته إن شكرته وأطعته.
ثالثةُ النعم: نعمةُ الإسلام:
وهي أعظم النعم بإطلاق، ومهما تصوّرتَ قدْرَ هذه
النعمةِ فلن تطيق قدْرها، ويكفيك أن ترى شؤمَ الكفر وظلْمةَ الضلال، وبشاعة المآل،
وسوء العاقبة والمُنقلب.
ألم تعلم أن نسبةَ دخولِ البشرِ للجنة هي واحد من
كل ألف! اللهم سلّم سلّم.
ففي صحيح البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ ؓ قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَقُولُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَمُ، يَقُولُ: لَبَّيْكَ
رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ
تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَبِّ، وَمَا
بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَ مِائَةٍ وَتِسْعَةً
وَتِسْعِينَ. فَحِينَئِذٍ تَضَعُ الْحَامِلُ حَمْلَهَا وَيَشِيبُ الْوَلِيدُ (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ
شَدِيدٌ).
إن أكثر بني آدم لن يعودوا لمسكنهم الأول الذي أخرجوا منه وهو الجنة: (ولقد
صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين) [سبأ: 20] فهل أنت من العائدين؟!
سيغضبُ اللهُ في ذلك اليومِ غضبًا لم يغضب قبله
مثلَه، ولن يغضبْ بعده مثلَه، فما ذا أعددت لغضبه من صالح العمل؟!
رابعةُ النعم: نعمةُ الاصطفاءِ المحمديّ:
وأبشر ببشرى الله لك، فقد جعلك من خير أمة أُخرجت
للناس، وخصّك بأن تكون من أتباع النبي الخاتَمِ الكامِل. فاسْعَدْ الآن وابتهج،
فأنت من الأمة المرحومة، فلهذه الأمةِ من المزايا والخصائصِ ما ليس لغيرها، من
مضاعفةِ الأجورِ والحسنات، والتجاوُزِ عن الخطايا والسيئات، ورحمةِ الله لها ورفعِ
الدرجات، كرامةً لسيدها نبيِّ الرحمة والهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولكلّ نبي دعوةٌ مستجابة فاستعجلَ كلُّ نبيٍّ
دعوته، لكن نبيّك ادّخرها لك شفاعة عند ربك يوم القيامة، فكن من أهل الإخلاص
والاتّباع تنلْها بإذن ربك.
وما حملتْ من ناقةٍ فوق رحْلِها |
|
أبرَّ وأوفى ذمّةً من محمدِ |
ولولا أن الله أرسله ووفّقه لكنت أنت ووالديكَ
وكلَّ من تحب من حطبِ جهنم، لكن الله استنقذكم به من عَمَاية الضلالة لنور الإسلام
والايمان، فاحمد الله على ذلك، واسأله المزيد من فضله، وألحَّ عليه، ألحَّ عليه
بأن يُثبّتكَ على الحق حتى تلقاهُ وهو راض عنك.
إنك إنسان محظوظٌ متميزّ بكونك من أتباع هذا النبي
المُمَيَّز، فعن ابن مسعود ؓ قال: قال رسول الله ﷺ: «أما ترضون أن تكونوا رُبُع
أهل الجنة»، فكبّر الناس. فقال: «أما ترضون أن تكونوا ثُلُثَ أهل الجنة»،
فكبّر الناس. فقال: «أما ترضون أن تكونوا شطْرَ أهل الجنة» ثم وجدنا الله
قد زاده على ما رجا من ذلك، فجعل أمته ثلثي أهل الجنة. رواه مسلم([20]) وثبت عنه ﷺ أنه قال: «أهلُ الجنة يومَ القيامة
عشرون ومائةُ صفٍّ، أنتم منهم ثمانون صفًّا»([21]).
ومن رحمته ﷺ بأمته أنه كان يتلو قولَ الله تعالى
في إبراهيمَ عليه السلامُ: (رب إنَّهُنَّ أضْلَلْن
كثيراً من الناس فَمَن تَبِعني فإنَّه مِنِّي ومَن عصاني فإنك غفورٌ رحيم) وقولَ
عيسى عليه السلامُ: (إن تعذِّبهُم فإنَّهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنك أنتَ العزيزُ
الحكيم) [المائدة: 118] فرفع يديه قائلاً: «اللهم أمتي أمتي»
وبكى، فقال الله عز وجل ــ وهو أعلم ــ: «يا جبريل اذهب إلى محمد فسلْه: ما
يبكيك؟» فاتاه جبريل فسأله، فأخبره النبيُّ ﷺ، فقال الله تعالى: «يا جبريل
اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولن نسوؤك»([22]) (ولسوف يعطيك ربك فترضى). [الضحى: 5].
عليك بتأمل سيرته ﷺ، وما فيها من أحواله وأوصافه
وأخباره. واعلم أنّك كلّما استوعبت سيرتَه كلّما ازددت به شغفًا وحبًّا وشوقًا.
إنه يُحبّك ويشتاقُ لك، فهل لك مهجةٌ تُطيقُ
الصدودَ يا صاح!
تسلَّى الناسُ بالدنيا وإنّا |
|
لعمرُ الله بَعْدَك ما سَلَيْنا |
والذي نفسي بيده لوِ استغرقتَ عُمُرَكَ في الصلاةِ
والسلامِ عليه ما أدّيتَ مِعشارَ حقّهِ عليك، مع ذلك فأكثر من الصلاةِ والسلامِ
عليه ما استطعت.
ولقد أوصاك وبشّرك بقوله: «إن أولاكم بي يوم
القيامة أكثرُكم علي صلاة»([23]).
تكادُ حين تناجيكم ضمائرُنا |
|
يَقــضي علينـا الأسى لولا تأسِّينا |
خامسةُ النعم: نعمةُ الهدايةِ للسنة:
إذ جعلك الله من أهل السنة والجماعة، لا من أهل
الفُرقة والبدعة، هل هناك أجملُ من أن تبيتَ على مُعتقدِ رسول الله ﷺ وصحابته
الأبرار؟!
إن معتقدَ أهلِ السنة موافق للفطرة، مريحٌ للنفس،
مبهجٌ للروح، مغذٍّ للعقل، فليس فيه خرافةٌ ولا دجلٌ ولا شعوذةٌ، ولا تعقيدٌ ولا
قرمطةٌ ولا سفسطةٌ. بل هو الزُّلالُ الصافي للوحي، والخلاصةُ النقيةُ للرسالة،
والمهيَعُ السهلُ المُنيرُ للجنَّة، فاستمسك به وافرح به واثبت عليه رعاك الله.
سادسةُ النعم: نعمةُ الصلاح والاستقامة:
فما كُلُّ من عرف الحق عمل به، ولا كلُّ من عَلِمَ
الهدى اهتدى، ولا كلُّ من اهتدى ثبت. فافرح بصلاحِك واستقامتك وورَعِك وعفافِك،
واسأل ربَّك المزيدَ من فضلِه ورحمتِه وتوبتِه وغفرانه.
سابعةُ النعم: النعمُ المتعلقة بالصحة والعافية في
العقل والبدن والرزق:
تفكّر في نعمة العقلِ والإدراك وما فيه من الآلاء والمِنح، وفي الجسدِ
وما فيه من العجائب والحِكَم، تأملِ القلبَ ونبضَه، والدمَ وجريانَه، والعظمَ
وإحكامَه، والعَصَب ودقّتَه، والنَّفَسَ وراحتَه، والبصرَ ومُتعتَه، والسمع
وضرورتَه.
أبحِرْ بخشوعٍ في تأملِ نِعَمِ الروح والعقل
والجسد، واهتف بقلبك: آمنتُ بك يا ربي، حَنانيك خُذ بيدي.
اسبح في بحر التأمّل لنعم الكريم عليك، واحمده حمْد من عَرَف وخضَعَ
وخشَع، وامتلأ فؤادُه بالمحبّة والشكر والامتنان للوهاب الكريم الرحمن (سنريهم آياتنا
في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). [فصلت: 53].
والآن: قد عرفتَ فالزم. وانتشِ بهذه النّعم،
واغتبط وافرح بها، ولا فَرَح كالفَرَحِ بالله، لا فرح كالفرح بالله، ولا أُنسَ
كالأنسِ بالله، واشكرهُ وَسْلهُ المزيد، فقد وعدك إن كنت من الشاكرين.
نعم، لقد وعدك إن كنتَ من الشاكرين.
12 ــ الثقة بالله تعالى:
الثقة أساس الاعتصام، فالاعتصام استمساك واستيثاق
وسكون وعكوف واستئمان، وعلى قدر الثقة يكون الاعتصام، فعزّز الثقة يشتدّ الاعتصام،
ومن جمال الثقة جمعها بين عالمي الغيب والشهادة، إذ يتنفسها المؤمن بقلبه قبل صدره،
ويراها ببصيرته قبل بصره، ويأنس إليها ومنها وبها، فهي الركن الشديد، والمأرز
الوثيق، ومن وثق بالله انقطع حقيقة عن كل ما سواه، وانخلع من نظره إليهم وانتظار
فرجهم أو عونهم أو حفظهم (ومن يعتصم بالله فقد هدي
إلى صراط مستقيم). [آل عمران: 101].
13 ــ اليقين بالله تعالى:
اليقين هو العمود الذي يرفع بنيان الاعتصام، فإذا
هبّت رياح شتاء البلايا ثبت جبل الاعتصام بعمود اليقين، فيرى ببصيرته اليقينية
حِكَمَ ربه في ابتلائه وآلاء معبوده في طي مِحَنه، وقرب فرجه من كربه، فالناس
يتساقطون صرعى في أتون الكربات، ويتلوّون شاكين من ماجَرَيَاتِ الأقدار، وصاحب
اليقين راسخ في اعتصامه بحبل ربه، ثابت الجنان، عظيم العلم والإيمان.
وتأمل كيف حمل البحر موسى في مهده وهو وليد وحيد،
ثم أغرق فرعون وجنده وهو ملك جبار عنيد، إنه تدبير العزيز الحميد فثق به وتيقن من
صدق موعوده.
14 ــ الاعتصام بمسمّيات الشرع دون اصطلاحات
المُحدثين:
من المهمات في باب الاعتصام: الحرص على مراعاة
الألفاظ السنية الواضحة التي لا تحتمل محامل أهل الفرقة، ومما داخل الناس من سبل
الشر الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، فيقولها الصِّدِّيق والزنديق، ويوردها
صاحب البدعة ليصل لباطله دون الحق الذي تحتمله، فيُغضي عنه صاحب السنة إحسانًا
للظن به أو غفلة عن باطن بدعته، وهذا خطأ فالباطل يردّ على من كان نصحًا له
ولغيره.
وبالجملة؛
فمن وسائل تحصيل الاعتصامِ الاعتصامُ بألفاظ الشرع وحروفه، توقيرًا وإعظامًا،
وحراسة واحترازًا، وكلُّ الخير في الاتّباع، ونحن وإن قلنا بتقديم المعنى واللب إلّا
أن القالب واللفظ والظاهر له حظه من الأهمية، فشعار المؤمنين ظاهر، واجتماعهم ظاهر،
وحزبهم ظاهر، وحروفهم ظاهرة، وحظهم قائم، وقسمهم غانم، وطائفتهم منصورة بإذن الله
تعالى.
ومن تلك المجملات ما حمله أهل الكلام من زاملة كتب
اليونان من الحيّز والجهة والعرض والجسم.. إلخ. ولقد تواترت عبارات السلف وتطابقت
مقالاتهم في ذم علم الكلام والتحذير منه، وهو الذي قد دخل حصن أهل الإسلام من باب
المجملات.
فهذا أبو حنيفة النعمان ؒ سأله سائل: ما تقول فيما
أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: «مقالات الفلاسفة! عليك بالأثر
وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة».
وقال الإمام مالك ؒ: «أكلّما جاءنا رجل أجدلُ من
رجل تركنا ما نحن عليه؟! إذاً لا نزال في طلب الدِّين».
وقال الشافعي ؒ: «لأن يُبتلى المرء بكل ما نهى
الله عنه ما عدا الشرك به، خير من النظر في الكلام». وقال ــ أيضاً ــ: «حكمي في
أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويجلسوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر
والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام».
وقال أحمد ؒ: «لا يفلح صاحب كلام أبدًا، ولا تكاد
ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دَغَلٌ». والدغل هو الكدر واللوث والحقد.
وأما موقف ابن تيمية رحمه الله تعالى من الألفاظ
المجملة المبتدعة التي أطلقها أهل الكلام، وجعلوها من الاعتقاد، وبيان موقف السلف
منها فيمكن إجماله في التالي:
«1 ــ كان السلف يتحرّون في إطلاق الألفاظ على
الله عزّ وجل، فلا يطلقون إلا الألفاظ الشرعية، ويحرصون على اجتماع الحُسن بين
اللفظ والمعنى، ولا يلجؤون إلى المعنى الحسن، ليعبروا عنه بأفضل الألفاظ التي لم
ترد في الكتاب والسنة، إلا إذا لم يهتدوا إلى لفظ مناسب موجود في الكتاب أو في
السنة.
2 ــ حين يردّ السلف على النفاة فإنهم يردّون على
ألفاظهم القريبة من الإثبات، ويبطلونها، فيكون ذلك رد من باب أولى على ألفاظهم
الموغلة في النفي، البعيدة عن الحق.
3 ــ نهي السلف عن إطلاق الألفاظ الكلامية، فذكر ؒ
أقسام مثبتة الصفات تجاه النفاة، وذكر عن أهل السنة والجماعة قوله: «وطائفة
نازعتهم نزاعاً مطلقاً في واحدة من المقدمتين، ولم تطلق في النفي والإثبات ألفاظاً
مجملة مبتدعة لا أصل لها في الشرع، ولا هي صحيحة في العقل، بل اعتصمت بالكتاب
والسنة، وأعطت العقل حقه، فكانت موافقة لصريح المعقول، وصحيح المنقول».
4 ــ سبب نهي السلف عن إطلاق الألفاظ الكلامية هو:
أ ــ اشتمالها على معان باطلة ومعان صحيحة، ولذلك
فهي توقع في الاشتباه والاختلاف والفتنة، خلاف الألفاظ المأثورة التي تحصل بها
الألفة، يقول ابن تيمية ؒ: «يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة: النهي عن إطلاق
موارد النزاع بالنفي والإثبات.
وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو
تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة
على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل...».
ب ــ لأنها تتضمن تكذيب كثير مما جاء به الرسول ﷺ،
وذلك يعرفه من عرف مراد الرسول ﷺ، ومراد أصحاب تلك الأقوال المبتدعة.
جـ ــ لأنها ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها
معنى غير المعنى الذي أراده أولئك، فجعلوها دقيقة غامضة، بخلاف ألفاظ الرسول ﷺ فإن
مراده بها يُعلم كما يعلم مراده بسائر ألفاظه.
5 ــ أول من عرف عنه إطلاق الألفاظ المبتدعة
المجملة نفياً أو إثباتاً هم أهل الكلام المحدث بقسميهم: النفاة كالجهمية
والمعتزلة. والمثبتة الغلاة كالمشبهة من الرافضة وغير الرافضة.
6 ــ تضمنت الألفاظ المجملة أنواعاً مختلفة من
الإجمال، وليس نوعاً واحداً، فتارة يكون الإجمال بطريق الاشتراك لاختلاف
الاصطلاحات، وتارة يكون الإجمال بطريق التواطؤ مع اختلاف الأنواع، فإذا فسِّر
المراد، وفصِّل المتشابه تبين الحق من الباطل والمراد من غير المراد.
7 ــ كثير ممن تكلم بهذه الألفاظ المجملة كان يظن
أنه ينصر الإسلام بهذه الطريقة، وأنه بذلك يثبت معرفة الله وتصديق رسوله ﷺ، فوقعت
عندهم أمور كثيرة من الخطأ والضلال.
والبدعة ــ في هذا ــ لا تكون حقّاً محضاً ولا
باطلاً محضاً، إذ لو كانت حقّاً محضاً موافقاً للسنة، لما كانت باطلاً.
ولو كانت باطلاً محضاً لما خفيت على الناس، ولكنها
تشتمل على حق وباطل، وقد لبّس صاحبها الحق بالباطل، إما مخطئاً غالطاً، وإما
متعمداً لنفاق فيه وإلحاد.
8 ــ كثير من الألفاظ البدعية المجملة تختلف
معانيها في اصطلاحات المتكلمين عنها في لغة العرب، ولذلك تحدث إشكالاً، وتورث شكّاً،
ويضرب شيخ الإسلام ابن تيمية ؒ مثالاً لذلك بالعقل، فهو عند المتكلمين: جوهر قائم
بنفسه، وأما العقل في لغة العرب فهو عَرَض: عِلم، وعمل بالعلم، وغريزة تقتضي ذلك.
ولذلك يحرص ابن تيمية ؒ على معرفة معاني ألفاظ
المخالفين ومرادهم من إطلاقها.
9 ــ أن هذه الطرق التي يسلكها المتكلمون أحسن
أحوالها أن تكون عوجاء طويلة، وقد تهلك، وقد توصل بمشقة ووعورة وكلفة مع وجود
غيرها من السهل الموصل، فتلك الطرق والألفاظ إذن لو كانت مستقيمة مُوصّلة لم يعدل
عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة!
ويضرب ابن تيمية ؒ مثالاً لذلك بمن ترك سلوك
الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مكة، وسلك طريقاً بعيدة لغير مصلحة راجحة، فهذا يكون
تاركاً لما يؤمر به، فاعلاً لما لا فائدة فيه أو ما ينهى عنه، إذا كانت تلك الطريق
موصلة إلى المقصود، فأما مع الاسترابة في كونها موصلة أو مهلكة فإنه لا يجوز
سلوكها.
10 ــ لا يُكفَّر مطلق هذه الألفاظ أو نافيها، بل
يُبَدَّع ويُذَم غاية الذم.
11 ــ تختلف مقامات الخطاب في الاقتصار على
الألفاظ الشرعية، أو الحاجة إلى مثل هذه الألفاظ المجملة ومنها:
أولاً: إن كان الإنسان في مقام دفع من يُلزمه ويأمره
ببدعة، ويدعوه إليها أمكنه الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول: لا أجيبك إلا إلى
كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقاً، كما قال تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153] وقال سبحانه: {
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3].
ثانياً: وإن كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان
له، وفي مقام النظر ــ أيضاً ــ، فعليه أن يعتصم بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك،
وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول ﷺ بالأقيسة العقلية والأمثال
المضروبة.
فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة، فإن الله
سبحانه وتعالى ضرب الأمثال في كتابه، وبيّن بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله
وأمرِ المعاد وغير ذلك، وأجاب عن معارضة المشركين كما قال تعالى: { وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ
تَفْسِيراً} [الفرقان: 33].
ثالثاً: وإن كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه
بالعقل، وادعى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها،
فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظاً مجملة، فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه
الألفاظ المجملة؟
فإن أراد بها حقاً وباطلاً قبل الحق ورُدَّ
الباطل. وإذا قُدّر أن المعارض أصر على تسمية المعاني الصحيحة التي ينفيها بألفاظه
الاصطلاحية المحدثة، قيل له: هب أنه سمي بهذا الاسم، فنفيك له: إما أن يكون
بالشرع، وإما أن يكون بالعقل.
أما الشرع فليس فيه ذكر هذه الأسماء في حق الله،
لا بنفي ولا إثبات، ولم ينطق بذلك أحد من سلف الأمة لا بنفي ولا بإثبات.
وإن أردت أن نفي ذلك معلوم بالعقل، فيقال: الأمور
العقلية لا عبرة فيها بالألفاظ، فالمعنى إذا كان معلوماً إثباته بالعقل لم يجز
نفيه لتعبير المعبِّر عنه بأي عبارة عبّر بها، وكذلك الحال في النفي العقلي لا
يجوز إثباته بأي عبارة، والمنازعات اللفظية غير معتبرة في المعاني العقلية.
ثم ذكر شيخ الإسلام ؒ الموقف من هذا الصنف، وأن
المناظر يحتاج أن يعبر بألفاظ لا يطلقها إلا في مثل هذا الموضع بقوله: «وقد يقع في
محاورته إطلاق هذه الألفاظ؛ لأجل اصطلاح النافي ولغته، وإن كان المطلق لا يستجيز
إطلاقها في غير هذا المقام».
فتبين أن المصلحة الشرعية الراجحة هي الضابط
والمعيار بحسب اختلاف حال المخاطبين.
12 ــ تبنى على الفقرة السابقة مسألة وهي: حكم
معاملة أهل الاصطلاح باصطلاحهم. ويجيب عنها شيخ الإسلام ؒ بالجواز إذا توفر فيها
شرطان:
إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة
كمخاطبة العجم، ومن كرهه من الأئمة، فإنما ذلك إذا لم يُحتجْ إليه، والله أعلم.
13 ــ المنازعات اللفظية اللغوية والاصطلاحية
والعقلية والشرعية توجب على المسلمين الاعتصام بالكتاب والسنة، كما أمرهم الله
بذلك في قوله: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا
تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقوله: {المص *كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا
يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ *
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 1 - 3] وقوله: { وَأَنَّ هَذَا
صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام: 153] وقوله: { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ
وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا
اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [البقرة: 213] وقوله: { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ
اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ
رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ
آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى } [طه: 123 - 126]. [طه: 123 - 126].
14 ــ الاستفصال في بيان معاني الألفاظ المجملة هو
الطريق الشرعي للتعامل معها إزاء المخالف، فيُبين له ما وافق الحق وما خالفه، وهذا
من الحكم بالكتاب بين الناس فيما اختلفوا فيه، وهو مثل الحكم بين سائر الأمم
بالكتاب فيما اختلفوا فيه من المعاني التي يعبرون عنها بوضعهم وعرفهم.
ويشترط ابن تيمية ؒ فيمن يستفصل في بيان الألفاظ
المجملة شرطين وهما:
أن يكون عارفاً بمعاني الكتاب والسنة، وأن يكون
عارفاً بمعاني ألفاظ المخالفين ومرادهم منها، لتقابل المعاني الشرعية بمعاني
المخالفين؛ ليظهر الموافق والمخالف.
ويوجب ابن تيمية ؒ على من يريد كشف ضلال من يطلق
الألفاظ المجملة ألا يوافقهم على لفظ مجمل حتى يتبين له معناه، ويعرف مقصوده،
ويكون الكلام في المعاني العقلية المبينة، لا في معان مشتبهة بألفاظ مجملة.
وينبه ؒ إلى طريقتهم إذا ذكروا لأحد كلامهم المجمل
فاعترض عليهم بما تنفر عنه فطرته، قالوا له: أنت لا تفهم هذا، وهذا لا يصلح لك،
فيبقى ما في النفوس من الأنفة والحمية ما يحملها على أن تسلّم تلك الأمور قبل
تحقيقها عنده، وعلى ترك الاعتراض عليها خشية أن ينسبوه إلى نقص العلم والعقل.
والاستفصال في الألفاظ المجملة نافع في الشرع
والعقل:
أما الشرع: فإن علينا أن نؤمن بما قاله الله
ورسوله، فكل ما ثبت أن الرسول ﷺ قاله فعلينا أن نصدّق به، وإن لم نفهم معناه؛ لأنا
قد علمنا أنه الصادق المصدوق الذي لا يقول على الله إلا الحق.
وما تنازعت فيه الأمة من الألفاظ المجملة فليس على
أحد أن يقبل مسمى اسم من هذه الأسماء، لا في النفي ولا في الإثبات، حتى يستفصل
ويبين له معناه، ويكون المعنى صواباً إذا كان موافقاً لقول المعصوم.
أما العقل: فمن تكلم بلفظ يحتمل معاني، لم يقبل
قوله ولم يردّ حتى نستفسره ونستفصله، ليتبين المعنى المراد، ويبقى الكلام في
المعاني العقلية، لا في المنازعات اللفظية.
15 ــ الاستفصال في الألفاظ المجملة يكون كالتالي:
إن أراد المثبت لهذه الألفاظ بها معنى صحيحاً، فقد
أصاب في المعنى، وإن كان في اللفظ خطأ.
وإن أراد النافي لهذه الألفاظ معنى صحيحاً، فقد
أصاب في المعنى، وإن كان في اللفظ خطأ.
وإن أراد المثبت لهذه الألفاظ معنى باطلاً نفي ذلك
المعنى عن الله عزّ وجل.
وأما من أثبت بلفظه حقاً وباطلاً، أو نفى بلفظه
حقاً وباطلاً فكلاهما مصيب فيما عناه من الحق، مخطئ فيما عناه من الباطل، قد لبس
الحق بالباطل، وجمع في كلامه حقاً وباطلاً.
وأما الموقف من اللفظ مجرداً عن المعنى فإن الأصل
هو التعبير بالألفاظ الشرعية الواردة كما تبين من قبل.
ولا ينبغي العدول إلى هذه الألفاظ المبتدعة
المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد بها.
ويضرب ابن تيمية ؒ مثالاً على الحاجة وهو: أن يكون
الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها كمخاطبة العجمي بلغته.
ويسهل الأمر عند ابن تيمية ؒ إذا عُبر بالألفاظ
المحدثة التي تحمل معان صحيحة حين المنازعات العقلية، والله أعلم»([24]).
والمقصود؛ حفظ قالب حروف الشريعة، وحراستها من
عاديات الألفاظ المسمومة التي تحتمل حقًّا دُسّ معه باطل، فيحار السامع ويتردد بين
ردّه فيردّ ما فيه من الحق، أو يقبله فيكون قد قبل الباطل، لذلك فالسلامة هي بالبقاء
على ألفاظ الشريعة وفيها غنية وكفاء، فإن ابتلينا بألفاظ أخرى وألجئنا لها فلا بد
من الاستفصال حتى يرد الحق لنصابه والباطل لنطاقه.
وبالجملة؛
فمن اعتصم بًمعنى حقٍّ ولفظٍ حقٍّ فقد اهتدى وأنجح، ومن لم ير في حروف الشرع غُنية
فلا أغناه الله، والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم بن عبد الرحمن الدميجي
aldumaiji@gmail.com
([2]) مجموع الفتاوى
١٠/٣٣٤ وهذا المجلد العاشر هو مجلد السلوك، وهو نفيس جدًّا، وقد حوى نكتًا علمية
دقيقة لا تكاد تراها في غيره.
([9]) الترمذي (٢٩٥٤)،
والإمام أحمد في المسند (٤/٣٧٨، ٣٧٩)، وأبو داود الطيالسي (١٠٤٠)، وابن جرير في
جامع البيان (١/١٨٥، ١٩٣)، وابن أبي حاتم في تفسيره (١/٢٣)، كلهم من حديث عدي بن
حاتم رضي الله عنه. والحديث صحح أحمد شاكر إسناده. انظر جامع البيان الموضع المتقدم.
وقال عبد الرحمن ابن أبي حاتم: «ولا أعلم بين المفسرين في هذا الحرف اختلافًا». يعني
تفسير الآية بما جاء عن رسول الله ﷺ. انظر تفسيره (١/٢٣).
([15]) مسلم
2/199 (809) (257) وفي صحيح ابن حبان (3/ 65) (785): «من قرأ..» بدلاً من:
«من حفظ» قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
([16]) قلت:
وهو كما قال، فهي خير الكلام، وهي مفتاح الجنة، وهي حبل الوصول إلى الله تعالى،
وهي أحب الكلام إلى الله تعالى، ومن أجل تحقيقها خلق الله الخليقة، وكل الأذكار
مردّها إليها، وهي قطعة من القرآن قال سبحانه: ﴿فاعلم أنه لا إله الله إلا الله﴾. فلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل
شيء قدير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق