إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الاثنين، 22 سبتمبر 2025

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ (12) إنّ المَنِيَّةَ والفِراقَ لَوَاحِدٌ

 

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ

(12)

إنّ المَنِيَّةَ والفِراقَ لَوَاحِدٌ

 

     أشرقت شمس الصباح على يسارنا ونحن متوجهان لوجهات شتّى, منها عيون الجواء موطن عنترة بن شداد وعبلة الذي قال: يا دار عبلة بالجواء تكلّمي. ولِنَرى حصاة النَّصلة التي يذكرون أنها ملتقى الحبيبين, وميدان حرب داحس والغبراء, ولأثيفية "أُثيثية" في الوشم بلدة جرير الخطفي, ولجبال قَطَن وأبان ومحياة "محيوة" في القصيم, وجبل ثهلان بقرب بلدة الشعراء, وجبلي امرئ القيس الدَّخُولِ وحَوْمَلِ وجبل منخر "المنخرة" والصاقب في طرف عروق سبيع, وجبل مجنون ليلى التّوباد في الأفلاج, وعين صداء بقرب الأفلاج التي قالوا فيها: ماء ولا كصداء. والحِمى, وإذا أُطلق الحمى فهو حمى ضريّة وهو أجمل وأطيب وأعذى بقاع نجد, وهو حمى إبل الصدقة في عهد عمر ومن بعده, وقبله حماه كليب وائل وقتل ناقة البسوس لأنها كسرت بيضة حمامة فيه فقامت الحرب بين قبائل ربيعة أربعين عاماً, في العبلة السائحة في ظل جبل الذنائب بقرب عفيف الذي شهد حرب البسوس, وقرية ضرية تقع في وسط هذا الحمى الرائق العذي, ومن جبالها أَمْرَة وسواج قرب الشبيكية, والريان جبل جرير, وطخفة, وخزازَى "خزاز" والنِّير, وجَبَلَة قرب الجِمْشِ وفيه نقرة مُطَيْرٍ ورشاءه, وطميَّة بين المدينة والقصيم, أما مقلعها الأسطوري فهو "الوعبة" عند أم الدوم, ولها أسطورة تدُلُّكَ على رهافة نفوس أولئك القوم ومحبتهم لأخبار النسيب وأساطير الغرام, فيزعمون عشق طميّة لجبل قطن في الزمان الغابر, ثم إنها رحلت له فمرّت في طريقها بجبل عكّاش العجوز القبيح الذي أقنعها بالزواج منه, فبقيت عنده متحسره على حبيبها قطن ولهذا قال العربي في خرافته:

تزوج عكّاشٌ طميّة بعدما  ...  تأيّم عكاشٌ وكاد يشيبُ

    والعامة تزعم أن حبيب طميّة هو أبان, ..والهوى من قبلنا عذّب طمية! ولا زال مقلعها _الأسطوري_ شاهداً قصة العشق الجبلية السحيقة.

    وأثناء السير أتمّ صاحبي كلامه عن أصحاب المعلقات فقال:

    أما طرفة بن العبد فاسمه الحقيقي عامر أو عمرو بن العبد، وطرفة كنيته مأخوذةٌ من شجر الطرفاء, وشاعرنا هنا هو الشاعر الشاب الجزل الرصين, وذو الشعر الفخم الفاخر الحكيم, والديباجة الرائقة الشائقة, فمن دستور حِكَمِه:

إذا كنتَ في حاجة ٍ مرسلاً  ...   فأرْسِلْ حَكِيماً ولا تُوصِهِ

وإنْ ناصحٌ منكَ يوماً دنَا  ...   فلا تنأَ عنه ولا تُقْصهِ

وإنْ بابُ أمرٍ عليكَ التَوَى  ....   فشاوِرْ لبيباً ولا تعصهِ

وذو الحقّ لا تَنْتَقِصْ حَقَّهُ  ...  فإنَّ الوثيقة َ في نصِّهِ

ولا تَذكُرِ الدّهْرَ في مجْلِسٍ   ...   حديثاً إذا أنتَ لم تُحصهِ

ونُصَّ الحديثَ إلى أهلِهِ  ...  فإن الوثيقة َ في نصهِ

ولاتحرصَنّ فرُبَّ امرئٍ  ...   حَريصٍ مُضاعٍ على حِرصِهِ

وكم مِن فَتًى ساقِطٍ عَقْلُهُ  ...  وقد يُعْجَبُ الناسُ من شَخْصِهِ

وآخرَ تحسبهُ أنْوَكاً  ...   ويأتِيكَ بالأمرِ مِنْ فَصّهِ

لبِسْتُ اللّيالي فأفْنَيْنَني  ...  وسربلَني الدهرُ في قُمصهِ

    وقد كان طرفة لطيف التخيّل, شاعراً فحلاً مطبوعاً, وكلما طالت قصيدته ازدادت رونقاً وحلاوة وطلاوة, وشعره يجمع الجزالة والرواء، ونباهة المقاصد، وعذوبة المآخذ.

    وقد صحّح في صِغَرِهِ شعراً لخاله المتلمّس. وقد شهد له لبيد وجرير والأخطل بأنه الشاعر غير مدافع. ويكفيه قوله غناءً وغِنى:

ولا  أغيرُ على الأشعار أسرقها  ...   غنيتُ عنها وشر الناس من سرقا

وإن أحسن بيت أنت قائله  ...   بيت يقال إذا أنشدته صدقا

    ومن شعره قوله مخاطبا أعمامه, وكان أبوه قد مات وهو صغير، فهضموا حق أمه وردة, وانظر قطرات الدم بين حتوف الحروف:

ما تنظرون بمال وردةَ فيكمُ  ... صغر البنون ورهط وردة غيَّبُ

قد يبعث الأمرَ العظيمَ صغيرُهُ  ... حتى تظلّ له الدماء تصبَّبُ

والظلم فرّق بين حيَّي وائلِ ... بكر تساقيها المنايا تغلبُ

    ولما قال في مذهّبته:

ولو شاء ربي كنت قيس بن خالد  ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثدِ

   وجّه ممدوحه إلى طرفة يقول له: أما الولد فالله يعطيكم، وأما المال فسنجعلك فيه أسوتنا. ودعا ولده _وكانوا سبعة_ فأمرهم فدفع كل منهم إلى طرفة عشرة من الإبل، ثم أمر ثلاثة من بني بنيه فدفعوا له مثل ذلك. فأتم له المئة بشطر بيت مدحه به.

    وقد زعموا أن الملك عمرو بن المنذر _وهو عمرو بن هند قتيل عمرو بن كلثوم_  وكان باطشاً جباراً, وكان لا يبتسم ولا يضحك, وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة, وكانت تهابه هيبة شديدة, وقد ملك ثلاثاً وخمسين سنة, وفيه يقول الذهاب العجلي:

أَبَى القَلبُ أَنْ يَهْوَى السِّدِيرَ وَأهْلَه ... وإن قِيل عَيْشٌ بالسَّدير غَريرُ

فلا أنذرُوا الحيَّ الذي نَزَلُوا به ... وإنِّي لِمن لم يَأْتِه لَنَذِيرُ

به البَقُّ والحُمَّى وَأُسْدُ خَفِيَّة ... وَعَمرُو بنُ هِند يَعْتِدِي وَيَجورُ

     وكان عمرو بن هند يرشح أخاه قابوس ليملك بعده، فقدم عليه المتلمِّسُ وطَرَفَةُ فجعلهما في صحابة قابوس، وأمرهما بلزومه، وكان قابوس شاباً يعجبه اللهو، وكان يركب يوماً في الصيد فيتركَّض ويتصيد، وهما معه يركضان حتى يرجعا عشية وقد لغبا، فيكون قابوس من الغد في الشراب فيقفان ببابه النهار كلّه فلا يصلان إليه، فضجر طرفة فقال ساخراً _ومقتل الرجل بين فكيه_:

فكيف صبوت أو ترجو مهاة  ... منعّمة تُزارُ ولا تَزُورُ

جلت برداً فهشّ له فؤادي  ...   فكدت إليه من شوق أطيرُ

فدعها وانحل النعمان قولاً   ... كنحتِ الفأس ينجد أو يغورُ

وليت لنا مكان الملك عمرو ...  رغوثاً حول قُبَّتِنَا تخورُ

من المزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنة درورُ

يشاركنا لنا رخلان فيها ...  ويعلوها الكباش فما تنورُ

لعمرك إن قابوس بن هند ... ليخلط ملكه نوك كثيرُ

قسمت الدهر في زمن رخي ... كذاك الحكم يقسط أو يجورُ

لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا نطيرُ

فأما يومهن فيوم سوء ...  تطاردهن بالحدب الصقورُ

وأما يومنا فنظل ركباً ... وقوفاً ما نحل وما نسيرُ

وهل يخشى وعيد الناس   ...  إلا كبير السن أو ضرع صغيرُ

ومثلي فاعلمي يا أم عمرو  ...  إذا ما اعتاده السَّفهُ النعورُ

يطير على مذكرة تسور  ... ومفرجة لها نسع وكورُ

فلما أن أنخت على مليك  ... مساكنه الخَوَرْنَقُ والسَّدِيْرُ

لينجزني مواعد كاذبات   ...  بطي صحيفة فيها غرورُ

فأوعدني وأخلف ثم ظني  ... وبئس خليقة الملك الفجورُ

   والرغوث هي النعجة, والزمرات أي القليلات الصوف وهن أغزر ألباناً, والضرة هي لحم الضرع, ومركنة أي ذات أركان, والرخل هي الأنثى من ولد الضأن, تنور أي: تنفر, والحدب: ما ارتفع من الأرض. ولعل في الأبيات نحلٌ.

    وكان طرفة عدوّاً لابن عمه عبد عمرو بن بشر، وكان عبد عمرو كريماً عند ابن هند، وكان سميناً بادناً فدخل مع عمرو الحمّام، فلما تجرد قال: لقد كان ابن عمك طرفة رآك حين قال ما قال:

ولا خير فيه غير أن قيل واجدٌ  ... وأن له كشحاً إذا قام أهضما

له شربتان بالعشىِّ  وشربة ... من الليل حتى آض جيشاً  مورماً

فلما قال ذلك قال له عبد عمرو: ما قال لك شر مما قال لي, ثم انشده قول طرفة الآنف. فمكث عمرو غير كثير ثم دعا المتلمس وطرفة, وكان طرفه غلاماً معجباً تائهاً بنفسه يتخلّج في مشيته بين يدي عمرو, فنظر إليه نظرة كادت تقتلعه من الأرض ثم قال: لعلكما قد اشتقتما إلى أهلكما، وسركما أن تنصرفا، قالا: نعم، فكتب لهما إلى عامله على هجر أن يقتلهما، وأخبرهما أنه قد كتب لهما بحِبَاءٍ ومعروف، فأعطى كل واحد منهما صحيفة، فخرجا, وكان المتلمس قد أسنّ, فهبطا النجف, ومرّا بنهر الحيرة على غلمان يلعبون فقال لطرفة: إنك غلام غرّ حديث السن، والملك من قد عرفت حقده وغدره، وكلانا قد هجاه، فلست آمناً أن يكون قد أمر فينا بشر، فهلم ننظر في كتابنا، فأبى عليه طرفة، فأعطى المتلمس كتابه بعض الغلمان فقراه عليه فإذا فيه السوأة، وكان في الصحيفة: باسمك اللهم. من عمرو بن هند إلى المعكبر: إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يده ورجله وادفنه حياً. فألقى كتابه في الماء, وقال لطرفة: أطعني وألقِ كتابك، فأبى طرفة ومضى لحتفه بكتابه, حتى أتى به عامله فقتله، ومضى المتلمس حتى لحق بملوك جفنة بالشأم، وفي ذلك يقول المتلمس:

مَنْ مُبلِغُ الشّعراءِ عن أخَوَيْهِمُ ... خَبراً فَتَصْدُقَهُم بذاكَ الأنفُسُ

أودى الذي عَلِقَ الصّحيفَةَ منهما ... ونَجَا حِذارَ حِبائِهِ المُتَلَمّس

ألقِ الصّحيفَةَ لا أَبَا لَكَ إنّهُ ... يُخشَى علَيكَ مِنَ الحِباءِ النِقْرِسُ

    وقالوا: قدم طرفة على عامل البحرين فدفع إليه كتاب عمرو بن هند، فقرأه فقال: هل تعلم ما أُمرتُ به؟ قال: نعم! أمرت أن تجيزني وتحسن إلي. فقال: يا طرفة, بيني وبينك خؤولةٌ أنا لها راعٍ حافظٌ, فاهرب في ليلتك هذه، فإني قد أُمِرْتُ بقتلك، فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال طرفة: اشتدت عليك جائزتي، فأردت أن أهرب, كلا والله لا أفعل ذلك أبداً, فأبى العاثرُ إلا المنيّةَ فقتله, وقيل إن الوالي أبى قتله وترك الولاية فقتلهما خليفتُهُ. ولما قرأ العامل الصحيفة عرض عليه فقال: اختر قتلة أقتلك بها، فقال: اسقني خمراً، فإذا ثملت فافصد أكحلي، ففعل حتى مات، وذكر ذلك البحتري بقوله:

وكذاكَ طرفةُ حينَ أوجسَ خيفةَ   ...   في الرَّأسِ هانَ عليهِ فصدُ الأكحلِ

    ومما قاله للنعمان بن المنذر ولا يبعد أنه أرسلها من البحرين، أو أن التلفيق والنحل لحقاها وقيل: إن طرفة نطق بهذين البيتين لما أيقن بالموت، وقد عدوه بهما فيمن شعره في رويّته وبديهته سواء عند الأمن والخوف، لقدرته وسكون جأشه وقوة غريزته كقول الآخر وهو يرى شعاع سيف القِصَاص مخاطباً زوجه:

فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا   ...   أغم القفا والرأس ليس بأنزعِ

فهنا قد قال طرفة البائس:

أًَبا منْذِرٍ أَفْنَيْتَ فاسْتَبْق بَعْضَنا  ...   حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِن بَعْضِ

أَبا منْذِرٍ كانتْ غُروراً صَحِيفَتِي ... ولَمْ أُعْطِكُمْ في الطَّوْعِ مالِي ولا عِرْضِي

رَدِيتُ ونَجَّا اليَشْكُريَّ حِذارهُ ... وحادَ كما حادَ الأَزَبُّ عن الدَّحْضِ

    ويروى أن طرفة قال مفتخراً متعزيّاً قبل صلبه:

فمَن مُبلِغٌ أحياءَ بكرِ بنِ وائلِ ... بأَنّ ابنَ عبدٍ راكبٌ غيرُ راجلِ

على ناقةٍ لم يركبِ الفَحلُ ظَهَرَها ... مُشَذَّبةٍ أَطرافُها بالمَناجِلِ

    ثم قال المتلمس يحرض أقوام طرفة:

أَبُنيَ فُلانَةَ لم تكن عاداتُكُم ... أخْذَ الدّنيّةِ قبلَ خِطّةِ مَعضَدِ

    وقالت أخت طرفة وهي الخرنق، تهجو زوجها عبد عمرو, حين أنشد الملك شعر أخيها طرفة بن العبد:

ألا ثَكِلَتكَ أُمُّكَ عبدَ عمرٍو ... أبا النّخبَاتِ واخيَتَ المُلُوكَا

هُمُ رَكَلُوكَ للوَرِكَينِ رَكْلاً ... ولو سألُوكَ أعطَيتَ البُرُوكا

فيَومُكَ عندَ زانيَةٍ هَلُوكٍ ... كظِلِّ الرّجعِ مِزْهَرُها ضَحوكا

    ثم رثت أخاها بقولها:

نَعِمنا بهِ خَمساً وعشرينَ حِجَّةً ... فلمّا تَوَفَّاها استَوى سيِّداً فَخمَا

فُجِعْنا بهِ لمّا استَتَمَّ تَمامَهُ ... على خَيرِ حالٍ لا وَليداً ولا قَحما

    ومضى المتلمّسُ هارباً إلى الشام، فكتب فيه عمرو بن هند إلى عماله بنواحي الريف، يأمرهم أن يأخذوا المتلمس إن قدروا عليه يمتار فقال المتلمس محرضاً:

يا آلَ بكرٍ أَلا للَّهِ دَرُّكُمُ ... طالَ الثّواءُ وثوبُ العجزِ ملبوسُ

    وقال أيضاً:

أَيُّها السّائلي فإنّي غَريبٌ ... نازحٌ عن مَحَلّتي وصَميمي

    وقال أيضاً يهجو عمرو بن هند, ولعلها التي سببت ذلك الكتاب وفيها ضَعة وإسفاف وفجور:

قُولا لعمرو بنِ هِنْدٍ غَيرَ مُتّئِبٍ ... يا أَخْنَسَ الأنفِ والأضراسُ كالعَدَسِ

مَلْكُ النّهارِ وأنتَ اللّيلَ مُومِسَةٌ ... ماءُ الرَّجالِ على فَخذيكَ كالغَرَسِ

لو كُنْتَ كَلبَ قُنَيْصٍ كُنْتَ ذا جُدَدٍ ... تكونُ إربَتُهُ في آخرِ المَرَسِ

يَعوي حَريصاً بقَولِ القانصاتِ لهُ ... قُبِّحْتَ ذا وَجهِ أنفٍ ثمّ مُنْتَكِسِ

    والمتلمس خال طرفة, أما عمه فهو المُرَقَّشُ الأصغر, فالتقى الشعر لطرفه من طرفيه, فهو من فحول الشعر الذين لا تُقرعُ آنافُهُم, وتأمل الروعة والعمق في رسالة طرفة لكل ذوي رحم بينهما هنّات:

لِذي الحِلْم قَبلَ اليَوم ما تُقْرَعُ العَصا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلاَّ لِيعْلَما

وما كُنْتَ إلاَّ مِثْلَ قاطِعِ كَفِّه ... بكَفٍّ لهُ أُخْرَى فأصْبح أجْذَما

يَدَاه أصَابَتْ هَذه حَتْفَ هَذه ... فلم تَجِدِ الأخْرَى عَليها تَقَدُّما

    قال أبو عبيدة: مر لبيدٌ بمجلسٍ لنهد بالكوفة، وهو يتوكأ على عصاً، فلما جاوز أمروا فتًى منهم أن يلحقه فيسأله: من أشعر العرب؟ ففعل، فقال له لبيدٌ: الملك الضليل، يعني أمرأ القيس، فرجع فأخبرهم قالوا: ألا سألته: ثم من؟ فرجع فسأله: فقال: ابن العشرين، يعني طرفة، فلما رجع قالوا: ليتك كنت سألته: ثم من؟ فرجع فسأله، فقال: صاحب المحجن، يعني نفسه.

    قال أبو عبيدة: طرفة أجودهم واحدةً, ولا يلحق بالبحور يعني امرأ القيس وزهيراً والنابغة، ولكنه يوضع مع أصحابه: الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم وسويد بن أبي كاهل.

    أما معلقته السائرة, وانظر للأعراب كيف طاروا معه في وصفه الوحشي لناقته ثم لهوه, ثم بيانه المرصّع بالحكم الغائرة والمعاني الباذخة والألفاظ الجزلة حتى قطّعت أعناق القصائد المتكاملة سواها, وإنها من نفسي لبالمكان الأرفع, فمنها:

لِخَولَةَ أَطْلاَلٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ ... تَلُوُح كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليَدِ

وُقُوفاً بها صَحبي عَليّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولونَ لا تَهلِكْ أَسىً وَتَجلّدِ

كَأَنَّ حُدُوجَ المالِكيّةِ غُدوَةً ... خَلايا سَفينٍ بالنّواصِفِ مِنْ دَدِ

وفي الحَيّ أَحْوَى يَنفُضُ المَرْدَ شادنٌ ... مُظاهِرُ سِمطَيْ لُؤلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ

خَذُولٌ تُراعي رَبْرَباً بِخَميلَةٍ ... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ البَريرِ وَتَرْتَدِي

وَتَبسِمُ عَنْ أَلْمى كَأَنَّ مُنَوَّراً ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرّملِ دِعصٍ لهُ نَدِ

سَقَتْهُ إياهُ الشّمسَ إلاّ لِثاتِهِ ... أُسِفّ ولم تَكْدِمْ عَلَيهِ بِإِثْمِدِ

وَوَجهٌ كَأَنَّ الشّمسَ حَلَّتْ رِدَاءَها ... عَلَيْهِ نَقيُّ اللِّونِ لَمْ يَتَخَدّدِ

وَإنيّ لأُمضِي الهَمّ عِنْدَ احْتِضارِهِ ... بِهَوجَاءَ مِرقالٍ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي

تُباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتبَعَتْ ... وظيفاً وَظيفاً فَوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ

تَرَبّعَتِ القُفَّينِ في الشَّوْلِ تَرتَعي ... حَدائِقَ مَوليِّ الأسِرّةِ أَغْيَدِ

تَريعُ إلى صَوتِ المُهيبِ وَتَتَّقي ... بذي خُصَلٍ رَوْعَاتِ أَكْلَفَ مُلْبِدِ

كَأَنّ جَنَاحَيْ مَضْرَحيّ تَكَنّفَا ... حِفافَيْهِ شُكّا في العَسيبِ بِمسْرَدِ

فَطَوراً بهِ خَلفَ الزَّمِيلِ وتارَةً ... على حَشَفٍ كالشَّنّ ذاوٍ مُجَدَّدِ

لها فَخِذانِ أُكْملَ النَّحضُ فِيهِما ... كأَنّهُما بابا مُنيفٍ مُمَرَّدِ

وطَيُّ مَحالٍ كالحَنيّ خُلُوفُهُ ... وأجْرِنَةٌ لُزّتْ بدأيٍ مُنَضَّدِ

كَأَنّ كِناسَيْ ضَالَةٍ يَكْنُفانِها ... وَأَطْرَ قِسيٍ تَحْتَ صُلبٍ مُؤَيَّدِ

لَهَا مِرْفَقَانِ أَفْتَلانِ كَأَنَّها ... تَمُرُّ بِسَلْمَيْ دالِجٍ مُتَشَدِّدِ

كَقَنْطَرَةِ الرّوميّ أَقْسَمَ رَبُّها ... لَتُكْتَنَفَنْ حتى تُشَادَ بِقَرْمَدِ

صُهابيّةُ العُثْنُونِ مُوجَدَةُ القَرَا ... بَعيدَةُ وَخْدِ الرِّجلِ مَوّارَةُ اليَدِ

جَنُوحٌ دِفاقٌ عَنْدَلٌ ثُمّ أُفْرِعَتْ ... لَهَا كَتِفاها في مُعالىً مُصَعَّدِ

أُمِرّتْ يَداها فَتلَ شَزْرٍ وأُجنِحَتْ ... لَهَأ عَضُداها في سَقيفٍ مُسَنَّدِ

كأَنّ عُلُوبَ النِّسْعِ في دَأياتِها ... مَوارِدُ مِنْ خَلقاءَ في ظَهرِ قَرْدَدِ

تَلاقَى وأَحياناً تَبينُ كأنّها ... بَنائِقُ غُرٌّ في قَميصٍ مُقَدَّدِ

وَأَتْلَعُ نَهَّاضٌ إذا صَعّدَتْ بِهِ ... كسُكّانِ بُوصيّ بدِجلَةَ مُصعِدِ

وجُمجُمَةٌ مِثلُ العَلاةِ كَأنّما ... وَعَى المُلتَقَى منها إلى حَرْفِ مِبرَدِ

وَخَدٌّ كَقِرْطَاسِ الشّامي ومِشفَرٌ ... كَسِبتِ اليَماني قَدُّهُ لمْ يُجَرَّدِ

وعَينانِ كالمَاوِيّتَينِ استَكَنَّتَا ... بكَهْفَيْ حِجَاجَيْ صَخْرَةٍ قَلتِ مَوْرِدِ

طَحُوران عُوّارَ القَذَى فَتراهُما ... كَمَكحُولَتَيْ مَذعورَةٍ أُمِّ فَرْقَدِ

وصادِقَتا سَمعِ التّوجّسِ بالسُّرَى ... لِهَمْسٍ خَفيٍ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدِّدِ

مُؤْلَّلَتانِ تَعرِفُ العِتْقَ فيهِما ... كَسَامِعَتيْ شاةٍ بِحَوْمَلَ مُفرَدِ

وَأَرْوَعُ نَبّاضٌ أَحَذُّ مُلَملَمٌ ... كَمِرْداةِ صَخْرٍ في صَفيحٍ مُصَمَّدِ

وإن شِئْتُ سامَى واسطَ الكُورِ رأسُها ... وعامَتْ بضَبيعَيها نَجاءَ الخَفَيْدَدِ

وإن شئتُ لم تُرْقِلْ وإن شِئْتُ أَرْقَلَتْ ... مَخَافَةَ مَلوِيٍ مِنَ القَدّ مُحَصَدِ

وَأَعلَمُ مَخرُوطٌ مِنَ الأنفِ مَارِنٌ ... عَتيقٌ متى تَرْجُم به الأرضَ تَزْدَدِ

إذا أَقْبَلَتْ قالُوا تَأخّرَ رَحْلُها ... وإنْ أَدْبَرَتْ قالُوا تَقَدّمَ فاشْدُدِ

وتُضْحي الجبَالُ الغُبْرُ خَلفي كَأنّها ... منَ البُعْدِ حُفّتْ بالمُلاءِ المُعَضَّدِ

وَتَشْرَبُ بالقَعْبِ الصّغِيرِ وإنْ تُقَدْ ... بِمشْفَرِهَا يَوْماً إلى اللّيلِ تَنْقَدِ

على مِثلِها أَمضي إذا قالَ صاحبي ... أَلا لَيتَني أَفديكَ مِنها وَأَفْتَدِي

وجاشَتْ إلَيهِ النَّفسُ خَوْفاً وَخَالَهُ ... مُصاباً ولو أَمسىَ على غَيرِ مَرْصَدِ

إذا القومُ قالوا مَن فتىً خِلتُ أَنَّني ... عُنيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ ولم أَتَبَلَّدِ

أَحَلْتُ عَلَيْهَا بالقَطِيعِ فأَجْذَمَتْ ... وَقَدْ خَبَّ آلُ الأمعَزِ المُتَوقَّدِ

فَذَالَتْ كما ذَالَتْ وَلِيدَةُ مَجْلِسٍ ... تُرِي رَبَّها أَذْيَالَ سَحْلٍ مُمَدَّدِ

ولَسْتُ بِحَلاَّلِ التّلاعِ مَخَافَةً ... ولكِنْ متى يَسترْفِدِ القومُ أَرفِدِ

وإنْ تَبغني في حَلَقَةِ القَوْمِ تَلْقَني ... وإنْ تَقتَنِصْني في الحَوانيتِ تَصطدِ

متى تأتِين أُصْبَحْكَ كَأْساً رَوِيّةً ... وإنْ كنتَ عَنْهَا غانِياً فاغنَ وازْدَدِ

وإنْ يَلتَقِ الحَيُّ الجَميعُ تُلاقِني ... إلى ذِرْوَةِ البَيتِ الرَّفيِعِ المُصمَّدِ

نَدامايَ بِيضٌ كَالنُّجومِ وَقَينَةٌ ... تَرُوحُ عَلَينا بَيْنَ بُرْدٍ وَمُجسَدِ

إذا رَجَّعَتْ في صَوتِهَا خِلْتَ صَوْتَها ... تَجَاوُبَ أَظْآرٍ على رُبَعٍ رَدِ

إذا نحنُ قُلْنا أَسْمِعينا انْبَرَتْ لَنا ... على رِسْلِها مَطْرُوقَةً لم تَشَدَّدِ

رَحيبٌ قِطابُ الجَيبِ منها رَفيقَةٌ ... لِجَسّ النّدامَى بَضّةُ المُتَجَرَّدِ

وما زالَ تَشرابي الخُمُورَ ولَذّتي ... وبَيعي وإنفاقي طَريفي ومُتلَدِي

إلى أَنْ تَحامَتني العَشِيرةُ كلُّها ... وأُفرِدْتُ إفرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ

رأيتُ بَني غَبراءَ لا يُنكِرُونَني ... ولا أَهْلُ هذاكَ الطِّرافِ المُمَدَّدِ

أَلاَ أَيُّهَا الَّلائِمِي أَحْضُرُ الوَغَى  ...   وأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ هل أَنتَ مُخْلِدِي

فإِنْ كنتَ لا تَسْتطِيعُ دَفْعَ مَنِيَّتِي ... فدَعْنِي أُبادِرْها بما مَلَكَتْ يَدِي

فلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ من عِيشَةِ الفَتَى ... وجَدِّكَ لم أَحْفِلْ متى قام عُوَّدِي

فمنهنَّ سَبْقِى العاذِلاتِ بشَرْبَةٍ ... كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ

وكَرِّى إذا نادَى المُضافُ مُحَنَّباً ... كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتُهُ المُتَوَرِّدِ

وتَقْصِيرُ يَوْمِ الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ ... ببَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِباءِ المُعَمدِ

    ثم تأمّل هذا العمق التأملي في تمام هذه القصيدة الفاخرة, والديباجة الهائلة, واللون الساحر, والجسارة الساحقة, ولكأن لقمان الحكيم يتكلم على لسانه إذ يقول:

أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بِمالِهِ ... كقَبْرِ غَوِيٍّ في البطَالَةِ مُفْسِدِ

أَرَى المَوْتَ يعْتامُ الكِرامَ ويَصْطَفى ... عَقِيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ

أَرَى الدَّهْرَ كَنْزاً ناقِصاً كُلَّ ليلةٍ  ...   وما تَنْقُصِ الأَيَّامُ والدَّهْرُ يَنْفَدِ

لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوْت ما أَخْطَأَ الفَتى ... لكا لْطِّوَلِ المُرْخَى وثِنْياهُ باليَدِ

إذا شاءَ يَوْماً قادَهُ بِزِمامِهِ ... ومَنْ يَكُ في حَبْلِ المَنيّةِ يَنْقَدِ

فَما لي أراني وابنَ عَمّيَ مالِكاً ... متى أَدْنُ منهُ يَنْأَ عَني ويَبْعُدِ

يَلُومُ وما أدري عَلامَ يَلُومُني ... كما لامَني في الحَيِّ قُرْطُ بنُ معبَدِ

وَأَيأَسَني مِنْ كلِّ خَيرٍ طَلَبتُهُ ... كأَنّا وَضَعناهُ إلى رَمْسِ مُلْحَدِ

على غَيرِ ذَنْبٍ قُلتُهُ غَيرَ أَنَّني ... نَشَدْتُ فلَم أُغفِلْ حَمُولَةَ مَعبَدِ

وإِن أُدْعَ للجُلَّى أَكُنْ من حُماتِها ... وإِنْ يَأْتِكَ الأَعْداءُ بالجَهْدِ أَجْهَدِ

وإِنْ يَقْذِفُوا بالقَذْعِ عِرْضَكَ أَسْقِهمْ  ...   بكأَسِ حِياضِ المَوْتِ قَبْلَ التَّهَدُّدِ

وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضاضَةً ... على المَرْءِ مِن وَقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

فَذَرْني وخُلقي إنّني لكَ شَاكِرٌ ... وَلَو حَلَّ بَيتي نائياً عِندَ ضَرْغَدِ

فَلَوْ شَاءَ رَبيّ كنتُ قَيسَ بنَ خالِدٍ ... ولو شاءَ رَبيّ كنتُ عَمرَو بنَ مَرْثدٍ

فأُلفيتُ ذا مالٍ كَثيرٍ وعادَني ... بَنُونَ كِرامٌ سادَةٌ لِمُسَوَّدِ

أَنَا الرَّجلُ الضَّرْبُ الذي تَعْرِفُونَهُ ... خَشاشٌ كَرأْسِ الحَيَّةِ المُتَوَقِّدِ

فآلَيْتُ لا يَنْفكُّ كَشْحِي بِطانَةً ... لِعَضْبٍ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدِ

حُسامٍ إِذا ما قُمْتُ مُنْتَصِراً به ... كَفَى العَوْدَ مِنْه البَدْءُ لَيْسَ بمُعْضَدِ

أَخِي ثِقَةٍ لا يَنْثَنِي عن ضَرِيبَةٍ ... إِذَا قِيلَ مَهْلاَ قال حاجزُهُ قَدِ

إِذا ابْتَدَرَ القَوْمُ السِّلاحَ وَجَدْتَنِي  ...  مَنِيعاً إِذا ابْتَلَّتْ بقائِمِهِ يَدِي

فإِنْ مُتُّ فانْعَيْنِي بما أَنا أَهْلُهُ ... وشُقِّي عليَّ الجَيْبَ يا ابنةَ مَعْبَدِ

ولا تَجْعَلِينِي كامْرِىءٍ لَيْس هَمُّهُ ... كَهَمِّي ولا يُغْنِي غَنائِي ومَشْهَدِي

بَطِيءٍ عن الجُلَّى سَرِيعٍ إِلى الخَنا ... ذَلِيلٍ بأَجْماعِ الرِّجالِ مُلَهَّدِ

ولكنْ نَفَى عنِّي الأَعادِيَ جُرْأَتِي ... عليهمْ وإِقْدامِي وصِدْقِي ومَحْتِدِي

ويَوْمَ حَبَسْتُ النَّاسَ عندَ عِراكِهِ ... حِفاظاً على عَوْراتِهِ والتَّهَدُّدِ

على مَوْطِنٍ يَخْشَى الفَتى عندَه الرَّدَى ... مَتَى تَعْتَرِكْ فيه الفَرائِصُ تُرْعَدِ

أَرى الموتَ لا يرعى على ذي جلالةٍ ... وإنْ كان في الدُّنيا عزيزاً بِمقْعَدِ

ستُبدي لكَ الأيّامُ ما كنتَ جاهِلاً ... وَيَأْتيكَ بالأخبارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ

ويأتيكَ بالأنباءِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ ... بَتاتاً ولم تَضرِبْ لهُ وَقتَ مَوعِدِ

لَعَمرُكَ ما الأيّامُ إلاّ مُعارَةٌ ... فما اسْطَعْتَ مِن مَعرُوفِها فَتَزوّدِ

ولا خيرَ في خيرٍ تَرَى الشَّرَّ دُوْنَهُ ... ولا نائلٌ يأْتيكَ بَعْدَ التَّلدُّدِ

عَنِ المَرْءِ لا تَسْأَلْ وَأَبصِرْ قَرينَهُ ... فإنَّ القَرينَ بالمُقارِنِ مُقتَدِ

لَعَمرُكَ ما أَدري وإنّي لَواجِلٌ ... أَفي اليَومِ إقْدامُ المَنيّةِ أَمْ غَدِ

فإنْ تَكُ خَلفي لا يَفُتها سَوادِيا ... وإنْ تَكُ قُدّامي أَجِدْها بِمَرْصَدِ

إذا أَنتَ لم تَنفَعْ بوُدِّكَ أَهْلَهُ ... ولم تَنْكِ بالبُؤسىَ عَدوَّكَ فابْعَدِ

     أما الملك الضلّيل فَهَاكِهِ لاهياً عابثاً, عزيزاً فارساً, قد تربع على عرش ديوان شعراء الجاهلية, فهو أسبق أصحاب المعلّقات زماناً وحتى من عاصره منهم فليس في طبقته الشعرية, وانظره وقد حفّت به فحول القريض, وتناثرت على بلاطه مُرُط العسجديات الشعرية وهو يقول في مذهبته الفارهة:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنزِلِ ...  بسقط اللّوى بين الدّخول فحَوْمَلِ

إلى أن هبط بين الثغر والصدر متهتّكاً ماجناً خالعاً:

تُدارُ علينَا بالسّدِيفِ صِحافُها ... ويُؤتَى إلينا بالعَبيطِ المُثَمَّلِ

ويَومَ دَخَلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيزَةٍ ... فقالتْ لَكَ الوَيلاتُ إنَّكَ مُرْجِلي

تَقولُ وَقَدْ مالَ الغَبِيْطُ بنا مَعاً ... عَقَرْتَ بَعيرِي يا امَرأ القيسِ فانْزِلِ

فقُلتُ لها سِيري وأَرْخي زِمامَهُ ... ولا تُبعِديني مِنْ جَنَأكِ المُعَلَّلِ

دَعي البَكرَ لا تَرثي لهُ من رِدافِنا ... وهاتي أذِيقينَا جَنَاةَ القَرَنْفُلِ

بِثَغرٍ كَمِثلِ الأُقحُوانِ مُنَوِّرٍ ... نَقيِّ الثّنايا أشنَبٍ غَير أثْعَلِ

فمِثلِكِ حُبْلى قدْ طَرَقتُ ومُرْضِعٍ ... فألهَيْتُها عنْ ذي تمائِمَ مُغْيَلِ

إذا ما بكَى من خَلفِها انصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقِّ وَتَحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ

ويَوْماً على ظَهْرِ الكَثيبِ تَعَذَّرَتْ ... عَليّ وآلَتْ حَلْفَةً لم تُحَلَّلِ

أفاطِمَ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَّدَلُّلِ ... وإن كُنْتِ قد أَزْمَعتِ صَرْميَ فاجْملي

أَغَرَّكِ منّي أنّ حُبَّكِ قاتلي ... وأنَّكِ مَهما تأْمُري القَلبَ يَفعَلِ

وأنّكِ قَسّمتِ الفُؤادَ فنِصفُهُ ... قَتيلٌ ونِصفٌ بالحَديدِ مُكَبَّلِ

فإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكَ منّي خَليقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيابي منْ ثيابِكِ تَنْسُلِ

وما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلاّ لتَضْرِبي ... بِسَهْمَيكِ في أَعْشَارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ

وبَيضَةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُها ... تَمَتَّعْتُ مِن لَهوٍ بها غَيرَ مُعجَلِ

تَجاوَزْتُ أَحْرَاساً إلَيها ومَعشَراً ... عليَّ حِرَاصاً لو يُسِرُّونَ مَقتَلي

إذا ما الثُّرَيّا في السَّماءِ تَعَرَّضَتْ ... تَعَرُّضَ أَثناءِ الوِشاحِ المُفصَّلِ

فَجِئْتُ وقد نَضَّتْ لنَوْمٍ ثِيابَهَا ... لَدَ السِّترِ إلاّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ

فَقالَتْ يَمينََ اللَّهِ ما لَكَ حِيْلَةٌ ... وما إنْ أَرَى عَنكَ الغَوَايةَ تَنْجَلي

خَرَجْتُ بها أَمشي تَجُرُّ وَرَاءَنا ... على أثَرَينا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ

فلَمَّا أَجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانتَحَتْ ... بنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي حِقافٍ عقَنقَلِ

هَصَرْتُ بفَودَيْ رأْسِها فَتَمايَلَتْ ... عليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلخَلِ

مُهَفهَفَةٌ بَيضاءُ غَيرُ مُفَاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ

كَبِكْرِ المُقاناةِ البَياضِ بِصُفْرَةٍ ... غَذاها نَميرُ المَاءِ غَيرُ المُحَلَّلِ

تَصُدّ وتُبدي عَنْ أَسِيْلٍ وَتَتّقي ... بناظِرَةٍ منْ وَحشِ وَجرَةَ مُطْفِلِ

وَجِيْدٍ كَجِيْدِ الرِّيمِ ليسَ بِفاحِشٍ ... إذا هيَ نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ

وفَرْعٍ يَزينُ المَتنَ أَسْوَدَ فاحِمٍ ... أَثيثٍ كَقِنْوِ النّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ

غَدائِرُهُ مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلاَ ... تُضِلُّ المدارَى في مُثَنّىً ومُرْسَلِ

وكَشْحٍ لَطيفٍ كالجَديْلِ مُخَصَّرٍ ... وَسَاقٍ كأُنْبوبِ السَّقيِّ المُذَلَّلِ

وتُضحي فُتِيْتُ المِسكِ فوقَ فِراشِها ... نَؤُومُ الضُّحَى لم تَنتَطِقْ عن تَفَضُّلِ

وتَعطُو برَخْصٍ غيرِ شَنَئْنٍ كأنَّهُ ... أَساريعُ ظَبيٍ أو مَسَاويكُ إسْحِلِ

تُضيءُ الظّلامَ بالعِشاءِ كأَنَّها ... مَنارَةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتَبَتِّلِ

إلى مِثلِها يَرنُو الحَليمُ صَبابَةً ... إذا ما اسبَكَرَّتْ بينَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ

تَسَلَّتْ عَماياتُ الرِّجالِ عنِ الصِّبَا ... ولَيسَ فؤاديْ عنْ هَواها بمُنسَلِ

ألا رُبَّ خَصْمٍ فيكِ أَلْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصيحٍ على تَعذالِهِ غَيرِ مُؤتَلِ

ولَيلٍ كَمَوجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدولَهُ ... عَليّ بأَنْواعِ الهُمُومِ ليَبتَلي

فَقُلْتُ لَهُ لمّا تَمَطَّى بِصُلبِهِ ... وَأَرْدَفَ أَعْجازاً ونَاءَ بكَلْكَلِ

أَلا أَيُّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلِ ... بِصُبْحٍ وما الإصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ

فَيا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ ... بِكُلِّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدّتْ بِيَذْبُلِ

كأنّ الثُّرَيّا عُلّقَتْ في مَصابِها ... بأمراسِ كَتّانٍ إلى صُمّ جَنْدَلِ

وقِرْبَةِ أَقْوامٍ جَعَلْتُ عِصامَها ... على كاهِلٍ مِنِّي ذَلُولٍ مرَحَّلِ

وَوَادٍ كَجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطعْتُهُ ... بِهِ الذّئبُ يَعوي كالخَليعِ المُعَيَّلِ

فَقُلْتُ لَهُ لمّا عَوَى إنَّ شَأْنَنا ... قَليلُ الغنى إنْ كنتَ لَمّا تَمَوَّلِ

كِلانا إذا ما نالَ شَيْئاً أَفَاتَهُ ... وَمَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثي وَحَرْثَك يَهْزِلِ

وقد أغتَدي والطّيرُ في وُكُناتِها ... بمُنجَردِ قَيْدِ الأوابِدِ هَيْكَلِ

مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً   ...  كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

كُمَيتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حاذِ مَتْنِهِ ... كَمَا زَلَّتِ الصّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ

على العَقْبِ جَيَّاشٍ كأَنَّ اهْتِزامَهُ ... إذا جاشَ فيهِ حَمْيُهُ غَلْيُ مِرْجَلِ

مِسَحٍّ إذا ما السَّابِحَاتُ على الوَنَى ... أَثَرْنَ غُبَاراً بالكَدِيدِ المُرَكَّلِ

يُزِلُّ الغُلامَ الخِفَّ عَنْ صَهَواتِهِ ... ويُلْوي بأَثوابِ العَنيفِ المُثَقَّلِ

دَريرٍ كَخُذْرُوفِ الوَليدِ أَمَرَّهُ ... تَتابُعُ كَفَّيْهِ بِخَيْطٍ مُوَصَّلِ

لَهُ أَيْطَلا ظَبْيٍ وَساقَا نَعَامَةٍ ... وإرْخَاءُ سِرْحانٍ وتَقْرِيبُ تَتْفُلِ

ضَليعٍ إذا استدبَرْتَهُ سَدَّ فَرجَهُ ... بِضَافٍ فُوَيقَ الأرضِ لَيسَ بِأَعْزَلِ

كأنّ سَراتَهُ لدَى البَيتِ قَائماً ... مَداكُ عَرُوسٍ أَوْ صَلايَةُ حَنْظَلِ

كأنّ دِماءَ الهادِيَاتِ بِنَحْرِهِ ... عُصارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْبٍ مُرَجَّلِ

فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ ... عَذَارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ

فَأَدْبَرْنَ كَالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ ... بِجِيْدٍ مُعَمٍ في العَشِيرَةِ مُخَوَلِ

فأَلْحَقَنَا بالهَادياتِ وَدُونَهُ ... جواحِرُها في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ

فَعَادَى عِداءً بَيْنَ ثَوْرٍ ونَعْجَةٍ ... دِرَاكاً ولَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ

فظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ ما بَيْنَ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شِواءٍ أَوْ قَديرٍ مُعَجَّلِ

وَرُحْنا يَكاد الطَّرْفُ يَقْصُرُ دُونَهُ ... متى ما تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِ تَسَفَّلِ

فَبَاتَ عَلَيْهِ سَرْجُهُ وَلِجَامُهُ ... وَبَاتَ بِعَيْنيَ قَائِماً غَيْرَ مُرْسَلِ

أَصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيكَ وَمِيْضَهُ ... كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبيٍ مُكَلَّلِ

يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابيحُ رَاهبٍ ... أَهَانَ السَّليِطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّلِ

قَعَدْتُ وأَصْحَابِي لَهُ بَيْنَ ضَارِجٍ ... وبَيْنَ العُذَيْبِ، بُعْدَ ما مُتَأَمَّلي

على قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ ... وأَيْسَرُهُ على السِّتَارِ فَيَذْبُلِ

فَأَضْحَى يَسُحُّ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ ... يَكُبُّ على الأَذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبُلِ

وَمَرَّ على القَنَانِ مِنْ نَفَيَانِهِ ... فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِن كلّ مَوئِلِ

وَتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَةٍ  ...  وَلاَ أُطُماً إلاّ مَشِيْداً بِجَنْدَلِ

كأَنَّ ثَبِيراً في عَرَانِينِ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ

كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيمِرِ غُدْوَةً ... مِنَ السَّيلِ والغُثّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ

وَأَلْقَى بِصَحْراءِ الغَبِيْطِ بَعَاعَهُ ... نُزُولَ اليَمَانيْ ذي العِيَابِ المُحَمَّلِ

كَأنَّ مَكَاكِيَّ الجِواءِ غُدَيَّةً ... صُبِحْنَ سُلافاً مِن رَحيقٍ مُفَلْفَلِ

كَأَنَّ السِّباعَ فيهِ غَرْقَى عَشِيَّةً ... بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عُنْصُلِ

      أما شاعر الحكمة فهو زهير بن أبي سلمى، واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني. هو أحد الثلاثة المقدمين على سائر الشعراء، وقد اختلفوا في تقديم أحد الثلاثة على صاحبيه, وعندي أنهم سواء فلكل واحد منهم مزية ليست لصاحبيه.

    وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عن زهير بعضَ ولد هرم الذي أرسل له المدائح المدبجات: أنشدني بعض مدح زهير أباك، فأنشده. فقال: إنه كان ليحسن فيكم المدح. قال: ونحن والله كنا لنحسن له العطية. قال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم.

    وكان لزهير أخلاق عالية، ونفس كبيرة، مع سعة صدر وحلم وورع, فرفع القوم منزلته وجعلوه سيداً, وكثر ماله واتسعت ثروته. وكان مع ذلك عريقاً في الشعر. قال ابن الأعرابي: لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره؛ كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته سلمى شاعرة، وأخته الخنساء شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وابن ابنه المضرب بن كعب شاعراً.

    وقد كان لشعره تأثير عظيم في نفوس العرب, فهو واسطة عقد الفحول من شعراء الطبقة الأولى, ومن حكيم شعره:

ولا تكثر على ذي الضغن عتباً  ...  ولا ذكر التجرّمِ للذنوبِ

ولا تسألْهُ عما سوف يُبدي  ... ولا عن عيبِهِ لك في المغيبِ

    وكان زهير شديد العناية بتنقيح شعره، حتى ضرب به المثل، وسميت قصائده بالحوليات، نسبة إلى الحول أي السنة، وذلك لأنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها بنفسه في أربعة أشهر، ويعرضها على أصحابه الشعراء في أربعة أشهر. فلا يشهرها حتى يأتي عليها حول كامل.

    ويُذكر أنه في آخر حياته رأى في منامه أن سبباً _ أي حبلاً _ تَدَلّى من السماء إلى الأرض كأن الناس يمسكونه. وكلّما أراد أن يمسكه تقلّص عنه. فأوَّلَهُ بنبيِّ آخر الزمان، فإنه واسطة بين الله وبين الناس، وأن حياته لن تصل إلى زمن مبعثه. فأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره.

    أما معلقته فهي مَلِكَةُ شعره, وقد ظهرت فيها فحولته الشعرية كاسرة عين القصائد, ففيها الحكمة البالغة، والأخلاق الجميلة، والمعاني العالية، بأسلوب بليغ, ولفظٍ جزْلٍ. وقد أنشأها يمدح بها الحارث بن عوف وهرم بن سنان المرّيّين، ويذكر سعيهما بالصلح بين عبس وذبيان وتحملهما الديات من أموالهما.

    ثم إن ورد بن حابس العبسي كان قد قتل هرم بن ضمضم المرّي في حرب داحس والغبراء. فلما اصطلح الناس ووضعت الحرب أوزارها تخلّف حصين بن ضمضم أخو هرم عن الدخول فيما دخل فيه الناس. وحلف أن لا يغسل رأسه حتى يقتل ورد بن حابس أو رجلاً من بني عبس, ثم من بني غالب, ولم يطلع على ذلك أحد. ثم إن رجلاً من بني عبس أقبل حتى نزل بحصين بن ضمضم. فقال له: من أنت أيها الرجل؟ قال: عبسي. فقال: من أي عبس؟، فلم يزل ينتسب حتى انتسب إلى غالب, فقتله حصين غدراً. وبلغ ذلك الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فاشتد عليهما ذلك. وبلغ الأمر بني عبس فركبوا نحو الحارث, فلما بلغه ركوبهم إليه وما قد اشتد عليهم من قتل صاحبهم وأنهم يريدون قتل الحارث. بعث إليهم بمئة من الإبل ومعها ابنه. وقال للرسول: قل لهم الإبل أحب إليكم، أم أنفسكم؟ فأقبل الرسول حتى قال لهم ذلك. فقال الربيع بن زياد: يا قوم، إن أخاكم قد أرسل إليكم يقول: الإبل أحب إليكم، أم ابنه تقتلونه مكان قتيلكم؟ فقالوا: بل نأخذ الإبل ونصالح قومنا. فجللهما زهير بطنافس وإستبرقات معلقته التي طارت بها الركائب بين الفدافد والوهاد, وحق لهما ولمن فعل فعلهما في إصلاح ذات البين أن يمدح, فلعمر الحق لقد صدق ونصح من مدح مصلحي ذات البين. ولقد قال الله جل وعز: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم".

     وزهير بن أبي سلمى هو حكيم العشرة, وشعره نسيجٌ وَحْدَهُ, بل هو مدرسة مستقلّة أسسها قبله أستاذُهُ أوس بن حجر التميمي فنقّحها وهذبها وأقامها, كذلك كان متأثراً بخاله بَشَامة بن الغدير شاعر غطفان, ثم مشى على سَنَنِ مدرسته الشعريّة ابنه كعب بن زهير والحطيئة وآخرون, فقد تربّع زهير على ذُرى الشاعريّة, فاجتمعت الحكمة المُحنّكة مع السلاسة المشرقة إلى العاطفة الجيّاشة, حتى كان خليط ذلك منسوجة سندسية مذهّبة.

     ومن معلقته الرائقة التي كان يتمثل بكثير منها المصلحون بين الفُرقاء, وأُم أوفى هي زوجته التي طلقها وندم على فراقها:

أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لم تَكلّمِ ... بِحَوْمَانَةِ الدّرَاجِ فالمُتَثَلَّمِ

دِيَارٌ لها بالرَّقْمَتَينِ كَأَنَّها ... مَرَاجِيْعُ وَشْمٍ في نَواشِرِ مِعْصَمِ

بِهَا العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلفَةً ... وَأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ

وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشرينَ حِجَّةً  ...  فَلأْيَاً عَرَفْتُ الدّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ

أَثافيَّ سُفْعاً في مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ ... وَنْؤياً كَجِذْمِ الحَوضِ لم يَتَثَلَّمِ

فَلَمّا عَرَفْتُ الدّارَ قُلْتُ لِرَبْعِهَا  ...  أَلاَ انْعِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الرَّبْعُ واسْلَمِ

تَبَصَّرْ خَليلي هَلْ تَرَى مِنْ ظَعَائِنٍ  ...  تَحَمَّلْنَ بالعَلياءِ مِنْ فَوْقِ جُرْثُمِ

جَعَلْنَ القَنَانَ عَنْ يَمينٍ وحَزْنَهُ ... وَكَمْ بالقَنانِ مِنْ مُحِلٍ وَمُحْرِمِ

عَلَوْنَ بِأَنْماطٍ عِتاقٍ وَكِلَّةٍ ... وِرَادٍ حَواشِيهَا مُشاكِهَةِ الدّمِ

ظَهَرْنَ مِنَ السُّوبانِ ثمّ جَزَعْنَهُ ... عَلى كلِّ قَينيٍ قَشيبٍ ومُفْأَمِ

وَوَرّكْنَ في السّوبانِ يَعلُونَ مَتْنَهُ ... عَلَيهِنَّ دَلُّ النَّاعِمِ المُتَنَعّمِ

بَكَرْنَ بُكُوراً واستَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ وَوادي الرسِّ كاليَدِ للفَمِ

وَفيهِنَّ مَلْهىً لِلَّطيفِ وَمَنظَرٌ ... أَنيْقٌ لِعَينْ النَّاظِرِ المُتَوَسِّمِ

كَأَنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِ

فَلَمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُهُ ... وَضَعْنَ عِصيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ

تُذَكّرُني الأحلامَ لَيْلَى وَمَنْ تُطِفْ ... عَلَيْهِ خَيَالاَتُ الأحِبَّةِ يَحْلُمِ

يَميناً لَنِعْمَ السَّيدَانِ وُجِدْتُمَا ... عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحيْلٍ وَمُبْرَمِ

تَدَارَكْتُما عَبْساً وذُبْيَانَ بَعْدَما ... تَفَانَوْا وَدَقّوا بَيْنَهم عِطرَ مَنْشَمِ

وَقَد قُلتُما إنْ نُدرِكِ السّلمَ واسِعاً ... بِمَالٍ وَمَعْرُوْفٍ مِنَ الأمرِ نَسْلَمِ

فَأَصْبَحْتُمَا مِنْها على خَيرِ مَوْطِنٍ ... بَعيدَيْنِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَمِ

عَظِيْمَينْ في عُليا مَعَدٍ هُدِيْتُمَا  ...  وَمَنْ يَسْتَبحْ كَنزاً مِنَ المَجْدِ يَعْظُمِ

وَأَصْبَحَ يُحْدَى فيهِمُ مِنْ تِلادِكُمْ ... مَغَانِمُ شَتَّى مِنْ إفالٍ مُزَنَّمِ

تُعَفّى الكُلُومُ بالمئينَ وَأَصْبَحَتْ ... يُنَجِّمُها مَنْ لَيْسَ فيِهَا بمُجْرِمِ

يُنَجِّمُها قَومٌ لِقَوْمٍ غَرَامَةً ... وَلَمْ يُهَرْيِقوا بَيْنَهُمْ مِلءَ مِحْجَمِ

أَلاَ أَبْلِغِ الأَحْلافَ عَنِّي رِسَالةً  ...  وَذُبْيَانَ هَلْ أَقْسَمْتُمُ كُلَّ مُقْسَمِ

فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللَّهَ ما في صُدُورِكُمْ  ...  لِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ

يُؤخَّرْ فَيُوضَعْ في كِتابٍ فَيُدَّخَرْ ... لِيَوْمِ الحِسابِ أو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ

وَمَا الحَرْبُ إلاّ ما عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ

متى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً ... وَتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فَتَضْرَمِ

فَتَعْركُكُمْ عَرْكَ الرِّحَى بِثِفَالِها  ...  وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ

فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كَلُّهُمْ  ...  كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ

فَتُغْلِلْ لَكُمْ ما لا تُغِلُّ لأهْلِهَا ... قُرىً بِالعِراقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَمِ

لَحَيٍ حِلاَلٍ يَعْصِمُ النّاسَ أَمْرُهُمْ ... إذا طَرَقَتْ إحدى اللّيالي بِمُعْظَمٍ

كِرامٍ فَلا ذُو الضِّغْنِ يُدْرِكُ تَبْلَهُ  ...  وَلاَ الجارِمُ الجَاني عَلَيْهِمْ بِمُسْلَمِ

رعَوا ما رَعَوا مِنْ ظِمئهِم ثُمَّ أَصْدَروا ... إلى كَلأٍ مُسْتَوبَلٍ مُتَوَخِّمِ

لَعَمْري لَنِعْمَ الحيُّ جَرَّ عَلَيْهِمُ ... بما لا يُؤاتِيهِمْ حُصَيْنُ بْنُ ضَمْضَمِ

وكانَ طَوَى كَشحاً على مُسْتَكِنَّةٍ ... فَلاَ أَبْدَاهَا وَلَمْ يَتَجَمْجَمِ

وَقَالَ سَأَقضِي حَاجَتي ثُمَّ أَتَقَّي ... عَدُوِّي بِأَلْفٍ مِنْ وَرائيَ مُلْجَمِ

فَشَدَّ وَلَمْ يَنْظُرْ بُيُوتاً كَثِيرَةً  ...  لَدَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَمِ

لَدَى أَسَدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ

جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ ... سَريعاً وإلاّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ

لَعَمْرُكَ مَا جَرَّتْ عَلَيْهِمْ رِمَاحُهُمْ  ...  دَمَ ابنِ نَهَيْكٍ أَوْ قَتِيلِ المُثَلَّمِ

ولا شَارَكَتْ في الحَربِ في دَمِ نَوْفلٍ ... ولا وَهَبٍ فيها ولا ابنِ المُخَزَّمِ

فَكُلاً أَراهُمْ أَصْبَحُوا يَعْقِلوُنَهُ ... صَحَيحَاتِ مالٍ طَالِعاتٍ بِمَحْرِمِ

تُسَاقُ إلى قومٍ لِقَوْمٍ غَرَامَةً ... عُلالَةَ أَلْفٍ بَعْدَ أَلْفٍ مُصَتَّمِ

ومَنْ يَعصِ أَطْرَافَ الزِّجاجِ فإنَّهُ ... يُطيعُ العَوَالي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْذَمِ

وَمَنْ يُوفِ لا يُذْمَمُ وَمَنْ يُفْضِ قَلْبُه   ...  إلى مُطْمَئِنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَمِ

وَمَنْ هابَ أَسبابَ المَنايا يَنَلْنَهُ ... وَلَو رَامَ أَسْبَابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ

وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بِفَضلِهِ  ...  على قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ

وَمَنْ لا يَزَلْ يَسْتَرْحِلُ النّاسَ نَفْسَهُ  ...  وَلاَ يُعْفِها يوماً من الذُّلّ يَنْدَمِ

وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُوّاً صَدِيْقَهُ   ...  وَمَنْ لا يُكَرِّمْ نَفْسَه لا يُكَرَّمِ

وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِ   ...  يُهَدَّمْ وَمَنْ لاَ يَظلِمِ النّاسَ يُظْلَمِ

وَمَنْ لَم يُصانِعْ في أُمُورٍ كَثيرَةٍ ... يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوْطَأْ بِمَنْسِمِ

وَمَنْ يَجْعَلِ المَعروفَ في غَيرِ أَهْلِهِ  ...  يَكُنْ حَمْدُهُ ذَمَّاً عَليْهِ وَيَنْدَمِ

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امرِىءٍ مِنْ خَليْقَةٍ  ...  وإنْ خَالَها تَخْفَى على النَّاسِ تُعلَمِ

وكَائِنْ تَرَى مِنْ صامِتٍ لكَ مُعْجِبٍ ... زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ في التَّكَلُّمِ

لِسانُ الفَتى نِصْفٌ وَنِصفٌ فُؤادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إلاّ صُورَةُ اللّحمِ والدّمِ

وَإنَّ سَفاهَ الشَّيْخِ لا حِلْمَ بَعْدَهُ ... وإنَّ الفَتى بَعْدَ السَّفاهَةِ يَحْلُمِ

سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لا أَبَا لكَ يَسْأَمِ

وأَعْلَمُ مَا في اليَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّني عَنْ عِلمِ ما في غَدٍ عَمِ

رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشواءَ مَنْ تُصِبْ  ...  تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ

سأَلْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمُوَ  ...  مَنْ يُكْثِرِ التِّسْآلَ يَوماً سَيُحْرَمِ

     وهي أول قصيدة مدح بها هرم بن سنان, ثم مدح هرمًا بقصائد كثيرة حتى حلف هرم ألا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبداً أو وليدة أو فرساً، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: عموا صباحًا غير هَرِم، وخيركم استثنيتُ.

   وكان عمرو بن الخطاب رضي الله عنه معجباً بشعر زهير, قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول غزاة غزاها فقال لي: أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين? قال: ابن أبي سلمى، قلت: وبم صار كذلك? قال: لا يتبع حوشي الكلام, ولا يُعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف, ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه. وتابعه على التفضيل عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد الملك بن مروان، وآخرون, واتفقوا على أنّ زهيراً صاحب أمدح بيت, وأصدق بيت, وأبين بيت. فالأمدح قوله:

تراهُ إذا ما جئْتَه مُتَهَلِّلا  ...  كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُهْ

    والأصدق قوله:

ومهما تكنْ عند امرئٍ من خليقةٍ  ... وإنْ تَخْفى على الناس تُعْلَمِ

     وأما ما هو أبين فقوله يرسم حدود الحق, ويعرف هذا القضاةُ, وتأمله كيف أجاد الحزّ, وطَبَّقَ المفصل:

فإنّ الحقّ مقطعُه ثلاثٌ  ... يمينٌ أو نفارُ أو جلاءُ

       أما لبيد العامري رضي الله عنه فهو الشاعر المحكّك والفحل المفلّق, والسيل المنحدر, وقد كان أول أمره أن وفد عمه أبو براء _ملاعب الأسنة_ وإخوته طفيل ومعاوية وعبيدة، ومعهم لبيد وهو غلام على النعمان بن المنذر، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي، وكان الربيع ينادم النعمان مع رجل من أهل الشام تاجر، يقال له سرجون بن نوفل يبايعه، وكان أديباً حسن الحديث والمنادمة، فاستخفّه النعمان، وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي _ متطبب كان له_  وإلى الربيع بن زياد، وكان يدعى الكامل. فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فإذا خلا الربيع بالنعمان طعن فيهم، وذكر معايبهم، ففعل ذلك بهم مراراً، وكانت بنو جعفر _قوم لبيد_ له أعداء فصدّه عنهم، فدخلوا عليه يوماً فرأوا منه تغيراً وجفاء، وقد كان يكرمهم قبل ذلك ويقرب مجلسهم، فخرجوا من عنده غضاباً، ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم كل صباح فيرعاها، فإذا أمسى انصرف بإبلهم، فأتاهم ذات ليلة فألفاهم يتذاكرون أمر الربيع وما يلقون منه؛ فسألهم فكتموه، فقال لهم: والله لا أحفظ لكم متاعاً، ولا أسرح لكم بعيراً أو تخبروني. وكانت أم لبيد امرأة من بني عبس، وكانت يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك وصدَّ عنّا وجهه، فقال لهم لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بينه وبيني فأزجره عنكم بقول مُمِضٍّ، ثم لا يلتف النعمان إليه بعده أبداً. فقالوا: وهل عندك من ذلك شيء? قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة _لبقلة قدّامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض، تدعى التربة_ فقال على البديهة: هذه التربة التي لا تُذكي ناراً، ولا تؤهل داراً، ولا تسر جاراً، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها ضائع، أقصر البقول فرعاً، وأخبثها مرعى، وأشدها قلعاً، فتعساً لها وجدعاً، ألقوا بي أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس. فقالوا: نصبح فنرى فيك رأينا.

     فقال لهم عمه عامر بن مالك: انظروا غلامكم؛ فإن رأيتموه نائماً فليس أمره بشيء وإنما يتكلم بما جاء على لسانه، ويهذي بما يهجس في خاطره، وإذا رأيتموه ساهراً فهو صاحبكم. فرمقوه بأبصارهم، فوجدوه قد ركب رحلاً فهو يكدم بأوسطه حتى أصبح. فلما اصبحوا قالوا: أنت والله صاحبنا، فحلقوا رأسه، وتركوا ذؤابتين، وألبسوه حُلَّةً، ثم غدوا به معهم على النعمان، فوجدوه يتغذى ومعه الربيع وهما يأكلان وليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة من الوفود.

     فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان تقارب أمرهم، فذكروا للنعمان الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد يرتجز، ويقول:

أكل يوم هامتي مقزّعة  ...  يا رُبّ هيجاً هي خير من دعة
ومن خيارِ عامر بن صعصعة ...  نحن بنو أم البنين الأربعة
والضاربون الهام تحت الخيضعة ...  المطعمون الجفنة المدعدعة
إليك جاوزنا بلاداً مَسْبَعَة  ...  يا واهب الخير الكثير من سعة
يخبر عن هذا خبيرٌ فاسمعه  ...  مهلاً أبيتَ اللعن لا تأكلْ معه
إن استه من بَرَصٍ مُلَمّعَة  ...  وإنه يُدخل فيها إصبعه
كأنّما يطلب شيئاً أطعمه   ...  يُدخلها حتى يواري أشجعه

    فلما فرغ من إنشاده التفت النعمان إلى الربيع شزراً يرمقه، فقال: أكذا أنت? قال: لا، والله، لقد كذب علي ابن الحمق اللئيم! فقال النعمان: أُفّ لهذا الغلام، لقد خبث علي طعامي. فقال: أبيتَ اللعن، أما إني قد فعلت بأمه. فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، وهي من نساء غير فُعْلٍ، وأنت المرءُ فعل هذا بيتيمةٍ في حجره. فأمر النعمان ببني جعفر فأخرجوا.

     وقام الربيع فانصرف إلى منزله، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به، وأمره بالانصراف إلى أهله. وكتب إليه الربيع: إني قد تخوّفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله لبيد، ولست برائمٍ حتى تبعث من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال. فأرسل إليه: إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً، ولا قادراً على ما زلّت به الألسن، فالحق بأهلك. فانظر كيف انتصر؟!

    ومن معلقته الفريدة العتيقة:

عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّها فَمُقَامُها ... بِمنىً تَأَبّدَ غَوْلُها فَرِجَامُهَا

فَمَدَافِعُ الرّيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها ... خَلَقاً كما ضمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا

دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدِ أَنِيسِها ... حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلاَلُها وَحَرامُهَا

رُزِقَتْ مَرَابِيعَ النّجومِ وَصَابَها ... وَدْقُ الرّواعِدِ جَوْدُهَا فَرِهَامُها

مِنْ كُلِّ سَارِيَةٍ وَغَادٍ مُدْجِنٍ ... وَعَشِيّةٍ مُتَجَاوِبٍ إرْزَامُهَا

فَعَلا فُرُوعِ الأيْهقانِ وَأَطْفَلَتْ ... بِالجَلْهَتَينِ ظِباؤُها وَنَعَامُهَا

وَالعِينُ سَاكِنَةٌ على أطلائِها ... عُوذاً تَأَجُّلُ بالفَضاءِ بِهَامُهَا

وَجَلاَ السّيولُ عَنِ الطّلُولِ كَأَنّها ... زُبُرٌ تُجدّ مُتُونَها أَقْلامُهَا

أَوْ رَجْعُ واشِمَةٍ أُسِفُّ نؤورُها ... كِفَفاً تَعَرّض فَوْقَهُنَّ وِشَامُهَا

فَوَقَفْتُ أَسْأَلُهَا وَكَيفَ سُؤَالُنا ... صُمّاً خَوَالِدَ ما يَبينُ كَلامُهَا

عَرِيَتْ وكَانَ بِهَا الجَميعُ فأَبْكَرُوا ... مِنْهَا وغُودِرَ نُؤْيُها وثُمَامُهَا

شَاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيّ حِينَ تَحمّلوا ... فَتَكَنّسُوا قُطُناً تَصِرّ خِيَامُها

مِنْ كُلّ مَحْفُوفٍ يُظِلُّ عِصيَّهُ ... زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلّةٌ وَقِرَامُهَا

زَجَلاً كأنّ نِعاجَ تُوضحَ فَوْقَهَا ... وَظِبَاءَ وَجْرَةَ عُطَّفاً آرامُهَا

حُفِزَتْ وَزَايَلَها السّرَابُ كَأَنّها ... أَجزَاعُ بِيشَةَ أَثْلُها وَرِضامُهَا

بَلْ مَا تَذَكّرُ مِنْ نَوَارَ وَقَدْ نَأَتْ ... وَتَقطّعتْ أَسْبابُهَا وَرِمَامُهَا

مُرِّيّةٌ حَلَّتْ بِفَيْدَ وَجَاوَرَتْ ... أَهْلَ الحِجَازِ فَأَيْنَ مِنْكَ مَرَامُها

فاقطَعْ لُبانَةَ مَنْ تَعَرّض وَصْلُهُ ... وَلَشَرُّ وَاصِلِ خُلّةٍ صَرَّامُهَا

واحْبُ المُجَامِلَ بِالجَزِيلِ وَصَرْمُهُ ... باقٍ إذا ظَلَعَتْ وَزَاغَ قِوَامُهَا

بِطَليحِ أَسْفَارٍ تَرَكْنَ بَقيّةً ... منها وأَحْنَقَ صُلْبُهَا وَسَنَامُهَا

فإذا تَغَالىَ لَحْمُهَا وَتَحَسَّرَتْ ... وَتَقَطَّعَتْ بَعْدَ الكَلاَلِ خِدَامُهَا

فَلَها هِبابٌ في الزِّمامِ كَأَنّها ... صَهْبَاءُ مَعَ الجَنُوبِ جَهَامُهَا

أَوْ مَلمِعٌ وَسَقَتْ لأحْقَبَ لاَحَهُ ... طَرْدُ الفُحُولِ وَضرْبُهَا وَكِدَامُهَا

يَعْلُو بها حُدْبَ الإِكَامِ مُسَحَّجٌ ... قَدْ رَابَهُ عِصْيَانُهَا وَوِحَامُهَا

بأَحِزَّةِ الثَّلبُوتِ يَرْبأُ فَوْقَهَا ... قَفْرَ المَراقِبِ خَوْفُها آرامُهَا

حَتى إذا سَلَخَا جُمَادَى سِتّةً ... جَزْءاً فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا

رَجَعَا بِأَمْرِهِما إلى ذي مِرَّةٍ ... حَصِدٍ وَنُجْحُ صَرِيمَةٍ إبرامُهَا

وَرَمَى دَوَابِرَهَا السَّفَا وَتَهَيّجَتْ ... رِيحُ المَصايِفِ سَوْمُهَا وَسِهَامُهَا

فَتَنَازَعَا سَبِطاً يَطِيرُ ظِلاَلُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبّ ضرَامُهَا

مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ ... كَدُخَانِ نارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا

فَمَضى وَقَدَّمَهضا وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ إذا هِيَ عَرَّدَتْ إقْدَامُهَا

فَتَوسطَا عُرْض السَّريّ وَصَدَّعَا ... مَسْجُورَةً مُتَجَاوِراً قُلاّمُهَا

مَحْفُوفَةًَ وَسْطَ اليَراعِ يُظِلُّها ... مِنْهَا مُصَرَّعُ غَابَةٍ وَقِيامُهَا

أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيّةٌ مَسْبُوعَةٌ ... خَذَلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا

خَنْسَاءُ ضيّعَتِ الفَرِيرَ فَلَمْ يَرِمْ ... عُرْض الشّقَائِقِ طَوْفُهَا وَبُغَامُهَا

لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ ... غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنّ طَعَامُهَا

صَادَفْنَ مِنْهَا غِرّةً فَأَصَبْنَهَا ... إنّ المَنَايا لا تَطيِشُ سِهَامُهَا

بَاتَتْ وَأَسْبَلَ وَاكِفٌ مِن دِيمَةٍ ... يُرَوي الخَمَائِلَ دَائِماً تَسْجَامُهَا

تَجْتَافُ أَصْلاً قَالِصاً مُتَنَبِّذاً ... بِعُجُوبِ أَنقاءٍ يَميلُ هُيَامُهَا

يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِها مُواتِراً ... في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجُومَ غَمَامُهَا

وَتُضيءُ في وَجْهِ الظّلامِ مُنيرَةً ... كَجُمَانَةِ البَحْريّ سُلَّ نِظَامُهَا

حَتى إذا انْحَسَرَ الظّلامُ وَأَسْفَرَتْ ... بَكَرَتْ تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلاَمُهَا

عَلِهَتْ تَبَلَّدُ في نِهاءِ صَعَائِدٍ ... سَبْعاً تُؤاماً كَاملاً أَيّامُهَا

حتَى إذا يَئِسَتْ وأسْحَقَ حَالِقٌ ... لَمْ يُبْلِهِ إرْضاعُها وَفِطَامُهَا

وَتَسَمْعَتْ رِزَّ الأنيسِ فَرَاعَها ... عَنْ ظَهْرِ غَيبٍ والأنيسُ سَقَامُهَا

فَعَدَتْ كِلا الفَرجَينِ تَحْسِبُ أَنّه ... مَوْلى المَخَافَةِ خَلْفُها وَأَمَامُهَا

حَتى إذا يَئِسَ الرَّّماةُ وأَرْسَلُوا ... غُضفاً دَوَاجِنَ قَافِلاً أَعْصَامُهَا

فَلَحِقْنَ واعْتَكَرَتْ لَها مَدَرِيّةٌ ... كالسَّمْهَرِيّةِ حَدُّها وَتَمَامُهَا

لِتَذُودَهُنّ وَأَيقَنَتْ إنْ لَمْ تَذُدْ   ...   أَنْ قَدْ أُحَمَّ مَعَ الحُتُوفِ حِمَامُهَا

فتَقَصّدَتْ منها كَسابِ فضرِّجتْ ... بِدَمٍ وَغُودِرَ في المَكَرّ سُخَامُهَا

فَبِتِلكَ إذْ رَقَصَ اللّوامِعُ بِالضّحى ... وَاجْتَابَ أَرْديَةَ السّرابِ إكامُهَا

أقْضي اللُّبانَةَ لا أُفَرّطُ رِيبَةً ... أَوْ أَنْ يَلُومَ بِحَاجَةٍ لُوّامُهَا

أَوَلَمْ تَكُنْ تَدري نَوارُ بِأَنّني ... وَصّالُ عَقْدِ حَبَائلٍ جَذّامُهَا

تَرّاكُ أَمكِنَةٍ إذا لَمْ أَرْضها ... أَو يَرْتَبِطْ بَعْض النّفوسِ حِمَامُهَا

بَلْ أَنْتِ لاَ تَدْرِينَ كَمْ مِنْ لَيْلَةٍ ... طَلْقٍ لَذِيذٍ لَهْوهَا وَنِدَامُهَا

قَدْ بِتُّ سَامِرَها وغَايَةَ تَاجِرٍ ... وَافَيْتُ إذ رُفِعَتْ وَعزّ مُدَامُهَا

وَغَدَاةِ رِيحٍ قَدْ وَزَعتُ وَقِرّةٍ ... إذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمالِ زِمَامُهَا

وَلَقَدْ حَمَيتُ الخَيْلَ تَحْمِلُ شِكّتي ... فُرْطٌ وِشاحي إذ غَدَوْتُ لِجَامُهَا

فَعَلَوْتُ مُرْتَقَباً على ذي هَبْوَةٍ ... حَرِجٍ إلى أَعلامِهِنّ قَتَامُهَا

حَتى إذا أَلْقَتْ يَداً في كافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثّغُورِ ظَلامُهَا

أَسْهَلْتُ وانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنَيفَةٍ ... جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دُونَهَا جُرّامُهَا

رَفَّعْتُها طَرَدَ النَعامِ وَفَوْقَهُ ... حَتّى إذا سَخِنَتْ وَخَفّ عِظَامُهَا

قَلِقَتْ رِحَالَتُها وَأَسْبَلَ نَحْرُها ... وابْتَلّ مِنْ زَبَدِ الحَمِيمِ حِزَامُهَا

تَرْقَى وَتَطْعَنُ في العِنَانِ وَتَنْتَحي ... وِرْدَ الحمامَةِ إذْ أَجَدَّ حَمَامُهَا

وَكَثِيرَةٍ غُرْبَاؤها مَجْهُولَةٍ ... تُرْجَى نَوَافِلُها، وَيُخْشَى ذَامُهَا

غُلْبٌ تَشَذَّرُ بالذُّحُولِ كَأَنَّها ... جِنُّ البَدِيّ رَوَاسِياً أَقْدَامُهَا

أَنْكَرْتُ بَاطِلَها وبُؤتُ بِحَقّها ... يَوماً ولم يَفْخَرْ عَليّ كِرَامُهَا

وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لَحَتْفِها ... بِمَغَالِقٍ مُتَشابِهٍ أَعْلاَمُهَا

أَدْعُو بِهِنَّ لِعَاقِرٍ أَوْ مُطفِلٍ ... بُذِلَتْ لِجيرانِ الجَميعِ لِحَامُهَا

فالضّيفُ والجارُ الغَريبُ كأنما ... هَبَطا تَبَالَةَ مُخَصِباً أَهْضامُهَا

تَأْوي إلى الأطنَابِ كلُّ رَذّيةٍ ... مِثْلِ البَليّةِ قَالِصٍ أَهْدَامُهَا

وَيُكَلَّلُونَ إذا الرياحُ تَنَاوَحَتْ ... خُلُجاً تُمَدّ شَوَارِعاً أَيْتَامُهَا

إنَّا إذا التْقَتِ المَجَامِعُ لَمْ يَزَلْ ... مِنّا لِزَازُ عَظِيمةٍ جَشّامُهَا

وَمُقَسِّمٌ يُعْطي العَشيرةَ حَقَّها ... وَمُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِها هَضَّامُهَا

فَضلاً وذو كَرَمٍ يُعِينُ على النّدى ... سَمْحٌ كَسُوبُ رَغائبٍ غَنّامُهَا

مِنْ مَعشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آباؤُهُمْ ... ولِكُلّ قَوْمٍ سُنّةٌ وَإمَامُهَا

إنْ يَفْزَعُوا تُلْقَ المَغَافِرُ عِنْدَهُم ... والسِّنُّ تَلْمَعُ كَالكَواكبِ لاَمُهَا

لا يَطبَعُونَ ولا يَبُورُ فِعَالُهُمْ ... إذْ لاَ تَميلُ معَ الهَوَى أَحْلاَمُهَا

فَبَنَوْا لَنا بَيتاً رَفيعاً سَمْكُهُ ... فَسَمَا إلَيهِ كَهْلُها وغُلامُهَا

فاقنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فإنّما ... قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنا عَلاّمُهَا

وإذا الأمانَةُ قُسّمتْ في مَعْشَرٍ ... أَوْفَى بِأَعْظَمِ حَظِّنا قَسَّامُهَا

فَهُمُ السُّعاةُ إذا العَشيرَةُ أُفظِعَتْ ... وَهُمُ فَوارِسُها وَهُمْ حُكّامُهَا

وهُمُ رَبِيعٌ للمُجاوِرِ فيهِمُ ... والمُرْمِلاتِ إذا تَطَاوَلَ عَامُهَا

وَهُمُ العَشِيرَةُ أَنْ يُبَطَّىء حاسِدٌ ... أَوْ أَنْ يَميِلَ مَعَ العَدُوِّ لِئَامُهَا

 

 

*****

 

 

 

 

 

 

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق