دلائل نبوة خاتم المرسلين
عليه الصلوات والبركات والتسليم (1 /3)
الحمد لله الواحد الصمد, لا إله غيره ولا رب
سواه, والصلاة والسلام والبركة على نبينا سيد البشرية وخيرة الخليقة ومصطفى
المجتبين وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وعظّم سنته, أما بعد:
أيا صاحبي! اصقل شهادتك
لنبيك باصطباح هذه الرسالة وامذق واغتبق, وانهل وتعلل, واخلع نعليك فإنك بوادي
الأنبياء وروضات المرسلين, وليس لمحبك فيها قليل ولا كثير, إنما هو بعد الله عالةٌ
على الكواكب النيرة والفحول الشآبيب الفطاحل من سالف من مضى من علماء الأمة, الذين
نفاخر بهم شتى أمم المعمورة ونغلبها في كرة تلو أختها, لصفاء المعدن الذي منه
ينهلون وجلاء الضياء الذي عليه يبصرون, فالحمد لله الذي حفظ لنا ديننا بعد ما
ارتضاه لنا, وأسأله التوفيق لحسن المعتقد والعمل والخُلُق, والتثبيت حتى الموافاة,
إنه سميع قريب مجيب.
ألا ليت شعري هل أبيتن
ليلةً ... بوادٍ وحولي إذخر وجليلُ
وهل أرِدَن يوماً مياه
مجنّةٍ ... وهل يبدون لي شامةٌ وطفيلُ
سبيل دلائل النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم رائق
رنق شيق, وعبق شذي عاطر, يملأ القلب يقيناً, ويكسو
النفس سكينة, ويسكب في الصدر انشراحاً, ويشحذ كلالة الهمة, وبعد هذا يرفع الهامة
بالإسلام فخراً ويملأ الرأس شمماً, صلِّ اللهم وسلم وبارك عليه.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ...
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء
به ...
ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير
أوعدها ... روح اللقاء فتحيا عند ميعاد
هذا
ودلائل النبوة كثيرة وعظيمة كمّاً وكيفاً وهي ما يسميها بعض أهل العلم بالمعجزات,
وقد أولاها العلماء عناية تليق بصاحبها صلوات الله عليه وسلامه وبركاته.
وهي كثيرة جدًا ولا تكاد تحصر، وتفوق كمًّا وكيفًا معجزات
سائر النبيين، فما
من نبي أعطي معجزة إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من جنسها أعظم منها، وليس لمنازع
في هذا مقالاً، وليس فيه حط من مقام الرسل فلا كان ولا يكون كَهُم لكنه
بيان مقام سيدهم وسيدنا صلى الله عليهم وسلم, وإلى شيء من براهين ذلك:
"تفوّق دلائل نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم على الرسل كمّاً وكيفاً"
فمعجزة نوح عليه السلام في استجابة الله دعوته،
وإنجائه ومن معه من المؤمنين، وإغراق الأرض بكفارها.
فنقول: إن الله تعالى قد أرسل ملك الجبال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء عودته من الطائف حزينًا حين كذبه قومه وتبعهم
أهل الطائف وأغروا به سفهاءهم، وقال له الملك: «يا محمد إن شئتَ أطبقت عليهم
الأخشبين» فقال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به
شيئًا»([1])، فاستجاب الله دعوته فلم يمت حتى فتح الله له مكة والطائف وكافة جزيرة العرب
وأسلم أهلها.
أما
نجاة نوح عليه السلام في السفينة مع المؤمنين فقد حصل لصحابة محمد صلى الله عليه
وسلم أعظم من ذلك؛ فقد مشوا على الماء بخيولهم كما حصل في العراق وفي
البحرين، ومعجزات أمته معجزات له؛ لأنها لم تتحقق وتحصل إلا ببركة اتباعهم له
وتصديقهم به. أما إنهار الماء وإغراق الأرض فأعجب منه نبع الماء من بين
أصابعه صلى الله عليه وسلم في أكثر من حادثة، فأحيانًا من بين أصابعه،
وأحيانًا من كنانته وأحيانًا من السماء، فكان ينزل الغيث قبل أن يتم دعاءه صلوات
الله وسلامه عليه.
ومعجزة إبراهيم الخليل عليه السلام في عدم إيذاء النار لما
ألقي فيها؛ فقد خمدت نيران مجوس فارس لمولده وبينه وبينها مسيرة أشهر، كما لم تؤذ
النار أبا مسلم الخولاني لما ألقي فيها ببركة اتباعه محمدًا صلى الله عليه وسلم،
ومن معجزات إبراهيم عليه السلام إحياء الطيور الميتة المقطعة، فأعجب من ذلك كلام ذراع
الشاة المصلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، كذلك كلام الطيور له والبهائم بل والشجر
والحجر.
وأما معجزة موسى الكليم عليه السلام فكانت انقلاب العصا حية
تسعى، فأعظم منها شهادة الشجر لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة([2])، وتسليم الشجر والحجر
عليه([3])، وتسبيح الحصا بين يديه، وتسبيح الطعام بين يديه ويدي أصحابه([4])،
وحنين الجذع شوقًا إليه([5])، وكان موسى عليه السلام يضرب الحجر فتنفجر منه اثنتا
عشر عينًا، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الماء يتفجر من بين أصابعه
الشريفة، وقد شرب منه الألوف وحملوا واغتسلوا، قال جابر: «ولو كنا مئة ألف لكفانا ...فلقد رأيت الماء يثور من
بين أصابعه كأمثال العيون» وفي روايات: «يفور»، «ينبع»، «ينفجر»، «يخرج» ([6]).
ومن معجزات موسى عليه السلام أنه إذا أدخل
يده في جيب درعه أخرجها وهي بيضاء كأنها تضيء من صفائها، فأعظم من ذلك انشقاق القمر
لمحمد صلى الله عليه وسلم حين طلب ذلك من ربه فأجابه ففلق القمر فلقتين واحدة
على يمين جبل أبي قبيس والأخرى عن يساره، وقال: «اشهدوا»، وقد شهدت بذلك القبائل
والأحياء التي كانت خارج مكة لما قالت قريش: لقد سحرنا محمد. كذلك فقد استجاب الله
دعوته لما أسلم الطفيل وأرسله إلى قومه بآية وهي نور في وجهه ثم في طرف سوطه،
فجعلوا ينظرون إليه كالمصباح([7])، كذلك حصل لأسيد بن حضير وعباد بن بشر([8])،
وحمزة الأسلمي([9])، وعبد الحميد الأنصاري([10])، وقتادة بن النعمان([11]).
ومن معجزات موسى عليه السلام أن أتى قوم
فرعون بالعذاب كالجراد والقمّل والضفادع والدم. وقد استجاب الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم
حين دعا على قريش وسأل ربه أن يعينه عليهم بسني كسبع يوسف فأخذتهم سنة حصّت كل شيء حتى أكلوا الجلود والميتة،
وينظر أحدهم للسماء فلا يرى إلا الدخان من الجوع والعطش، ثم توسلوا لرسول الله عليه
الصلاة والسلام بقرابتهم ورحمهم, فدعا ربه لهم فأغاثهم بعدما أشرفوا على الهلكة.
وقد فلق الله تعالى لموسى عليه السلام البحر اثني عشر فرقًا، وأعظم من ذلك فلق القمر
بكامله فلقتين([12]).
ولنا
استطراد
يسير في شأن هذه الآية الجليلة "وانشق القمر" (القمر:1) قال ابن كثير: «شوهد انشقاق القمر في كثير
من بقاع الأرض، ويقال: إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند» البداية والنهاية (3/
120).
وقال الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه (إظهار الحق):
«وفي تاريخ فرشته أن أهل أن أهل مليبار من إقليم الهند رأوا انشقاق القمر،
وأسلم والي تلك الديار التي كانت من مجوس الهند بعدما تحقق له هذا الأمر، وقد نقل
الحافظ المزي عن ابن تيمية أن بعض المسافرين ذكروا أنه وجد في بلاد الهند بناءً
قديمًا مكتوبًا عليه: بُني ليلة انشق القمر» وانظر: تحرير العلامة
العثيمين لذلك في: شرح العقيدة السفارينية (ص559ــ 561)
قلت: وهناك
مخطوطات وسجلات ولوحات وثقت ذلك في كل من فارس والصين؛ فهناك لوحة فارسية قديمة
تظهر قمرًا مشطورًا في السماء بينما الناس يشيرون إليه متعجبين وذكر في الصين معبد
مكتوب على بابه عبارةٌ كتلك التي في الهند.
وعلى كل حال فلا غرابة في ذلك فالله على كل شيء قدير
وهو الذي يؤتي أنبياءه ورسله ما شاء من الآيات الدالة على صدقهم، فإن قيل لم لم ينتشر هذا
النبأ في الأرض كلها؟
فالجواب: إن عدم العلم ليس نقلاً للعدم، فقد يكون ذلك
ولكن بسبب انقطاع الأخبار لبعد المسافات ضاع مثل ذلك، وإذا نظرنا لتوقيت ذلك فهو
بعد الغروب بساعة أو ساعتين تقريبًا بتوقيت مكة المكرمة إذ القوم ليسوا بأهل سهر
وسمر ــ أي في عمومهم ــ وفي مثل هذا الوقت يكون نصف الأرض نهارًا فلا يرونه
والبقية نحو المشرق قد انتصف عليهم الليل وتأخرت ساعاته كلما سرنا شرقًا، أما
الغرب، مصر فما بعدها فلا زالوا في آخر النهار أو أوائل شروق القمر، أما الشام
والعراق ونحوها فقد يكون في السماء غيم أو نحو ذلك، كما أن الانشقاق ربما لم يطل
به بل بقي لحظات قليلة حتى إذا تبينوا الآية السماوية الحسية الهائلة عادت كما
كانت، كذلك فقد يكون من رآه أنكر ما يراه ولم يحدث به خجلاً أو خوفًا من أن يرمى
بجنون خاصة إن كان لوحده أو نحو ذلك، وقد يكون قوم قد رأوه وتحققوا ولم يوثقوه أو
وثقوه فباد معهم، وعلى كل فهذه الحادثة ثابتة عند المسلمين بنص الوحي المنزل الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قال تعالى: "اقتربت الساعة وانشق
القمر . وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر"[القمر: 1، 2]، كذلك فهو ثابت
بالوحي القاطع الثاني وهي السنة النبوية الصحيحة حيث اتفق الشيخان البخاري
ومسلم على رواية حديث انشقاق القمر، فلا مجال لرد ذلك، ولن نتمحّل التأويلات
ونتمحك المعاذير خوفًا من كلام الماديين فنحن أشد يقينًا بذلك من رؤيتنا للشمس في
رائعة النهار، فلئن أخطأت أعيننا فلن يخطئ وحي ربنا. وانظر كلام شيخ الإسلام
في: الجواب الصحيح (6/ 159 وما بعدها)، مما لا مزيد عليه وسيأتي لاحقاً إن شاء
الله.
ولما
أعطى الله موسى عليه السلام انفلاق البحر فقد أعطى الله أمة محمد صلى الله عليه
وسلم نظير ذلك بل أعظم منه إذ لم يحوجهم إلى فرقة لهم بل عبروا البحر بدوابهم، كما عبر ابن الحضرمي
وأصحابه البحر ومشوا على الماء في البحرين([13])، وكذلك فعل أبو عبيدة الثقفي
وأصحابه حينما اقتحموا نهر دجلة وهو يقذف الخشب من شدة جريانه وفيضانه([14])،
وكذلك حصل لأبي مسلم الخولاني وجيشه([15]).
وإن كان قد ظُلّل موسى عليه السلام وبنو
إسرائيل بالغمام في التيه فكذلك ظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يذكر من
قصة بحيرا الراهب([16])، وقد كان عمره اثنا عشر عامًا، بل لما سبقه كبار قومه إلى
ظل الشجرة وجلس هو في الشمس مال فيء الشجرة عليه، وفي هذا من التـخصيص وشدة
العناية ما ليس لغيره، ولما احتاج الناس إلى الشمس بعد كثرة المطر دعا ربه
واستصحى فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت السحابة([17]).
ونبي الله داود عليه السلام سخر الله له الجبال والطير
يسبحن معه، وألان له الحديد، وأعظم من ذلك تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يدي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وفي حديث ابن
مسعود رضي الله عنه :«لقد كنا نأكل الطعام مع النبي صلى الله عليه وسلم
ونحن نسمع تسبيح الطعام» ([18])، كذلك سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وسمع تسبيحه من حضر([19])، وكانت الأشجار والأحجار
تسلم عليه، وكلمه ذراع الشاة المسموم، وقد سُخرت له الطير فلما لبس إحدى خفيه جاء غراب
فطار بالأخرى ورمى بها فخرجت منها حية([20])، وسخر له البعير الشارد الهائج حتى
أتاه وسجد له، وشكى له مالكه الذي كان يجيعه ويدئبه([21])، وتكلّم له الذئب وشهد
له بالرسالة([22])، وشكت له الحُمَّرَة آخذ بيضها فنصرها، وسخّر له الأسد فأكل من
سبّه حين دعا عليه بأن يسلط الله عليه كلبًا من كلابه([23])،( والساب المأكول هو
عتيبة بن أبي لهب) وسخر له تيس الجبل فنطح من شجه في وجهه ولم يزل ينطحه حتى قطّعه
قطعة قطعة([24]) (والشاج القتيل هو ابن قمئة) ودلّ الأسد مولاه وصاحبه سفينة لما
أضاع طريقه بعد أن قال له: إني مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم([25]).
أما إلانة الحديد لداود عليه السلام فقد ألان
الله لمحمد صلى الله عليه وسلم الصخر الجلاميد والصم الصلاب كما في غزوة الخندق
حينما عرضت لهم كدية عظيمة لم تطقها المعاول، فنزل لها رسول الله صلى الله عليه
وسلم إليها فضربها
ضربة واحدة فانهالت كأنها كثيب رمل([26])، كما ألان الله له الجبال وسكّنها بأمره لما
صعد أُحُدًا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال مخاطبًا الجبل: «اثبت أحد؛ فإنما عليك نبي
وصديق وشهيدان»([27]).
ولما تحركت بهم صخرة حراء بمكة قال: «اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد»([28])، بل قد سوّى الله
له طريقه الذي كان صعبًا([29])، واستجابت له الأشجار والأحجار فانقلعت من أصولها
وخطّت الأرض بأمره حتى التأمت عليه حتى قضى حاجته ثم عادت والناس ينظرون([30])، واستجاب لأمره عذق النخلة
فنزل ينقز من النخلة فشهد له بالرسالة ثم عاد لمكانه([31])، كذلك الضب قد شهد له
على طلب الأعرابي، كذلك تحوّل الخشب إلى سيف صليت في يده لما هزّه ثم ناوله أبا
محجن في بدر([32])، كذلك انقلب عسيب النخل إلى سيف فناوله عبد الله بن جحش في أحد([33]).
أما معجزات نبي الله سليمان بن داود عليهما
السلام فمنها: تسخير الريح له، وقد سُخرت لمحمد صلى الله عليه وسلم كما أرسلها
الله على المشركين في الأحزاب، وكان يقول: «نصرت بالصَّبَا»([34])، أي الريح
المشرقية، وتسمى صبا نجد، وقال: «نُصرت بالرعب مسيرة شهر»([35])، وسخر الله له
الريح التي تسوق السحاب لما دعا ربه في مواطن كثيرة في حضره وسفره صلى الله عليه
وسلم، وإن
كانت الريح تحمل سليمان عليه السلام فتقطع به مسافة الشهر في غدوة أو روحة ــ أي
نصف نهار بمقدار ست ساعات تقريبًا ــ فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار به
البُراق إلى بيت المقدس فصلى بالأنبياء فيه ثم عُرِجَ به إلى السماوات سماءً
سماءً، وسلّم على أهلها، ورأى سدرة المنتهى، ودخل الجنة ورأى النار، وعُرضت عليه
أعمال أمته، ورُفع حتى سمع صريف الأقلام التي تكتب القدر، ورفع حتى بلغ موضعًا لم
يبلغه جبريل عليه السلام، ثم كلمه رب العزة جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته، وفرض عليه الصلاة، وغفر
لأمته المقحمات ــ أي المهلكات ــ ثم نزل إلى الأرض، وعاد إلى مكة، كل هذا في ليلة
واحدة([36]). وقد خلد الله هذه الرحلة العظيمة ــ أعظم رحلة في تاريخ البشرية ــ
في سورة الإسراء, وقد أحسن الحافظ ابن كثير في إيراد ما يتعلق بهذه
الرحلة السماوية من أحاديث وآثار في صدر تفسير تلك السورة الهائلة.
وقد سخر الله الشياطين تـخدم نبيه سليمان عليه
السلام، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد أمدّه الله بالملائكة
المقربين في
غير ما موطن، في بدر وأحد والأحزاب وحنين وغيرها. وقد كانت الشياطين تأتي لسليمان عليه
السلام مكرهة مجبورة، لكنها تأتي لمحمد صلى الله عليه وسلم طائعة مؤمنة مسلمة مختارة، مستمنحة منه التعليم
والقرآن، والزاد لهم ولدوابهم. وقد كان سليمان عليه السلام يفهم كلام الطير والنمل،
ترجمة وإن
العقل ليدهش من سماعه لصوت النملة أولاً ثم كلامها ثانيا! فما أعظم الخلاق الحكيم
العليم, وقد أعطى الله هذه وأكثر وأعجب لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد كلم الطير
والدواب والسحاب، بل أعظم من ذلك حينما كلمه الذراع المسموم الـمَصْلِي، كما كانت
الجبال والحجارة والشجر تسلم عليه بالرسالة قبل مبعثه وتقول: «السلام عليك يا رسول
الله» فيا
خيبة من الدواب والحجر والشجر أفقه منه بنبي الأمة، وسيد البشرية صلى الله عليه
وسلم!
أما عيسى عليه السلام فقد أعطاه الله إحياء
الموتى، وقد أُعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك مثل حنين الجذع حينما
تركه وكان يخطب عليه إلى منبر جديد فحنّ حنينًا كحنين العشار، فلم يزل كذلك حتى
نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منبره إليه واستلمه واحتضنه وأخذ يسكنه كما
يسكن الطفل، ولا غرو فهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة, كذلك كلام
ذراع الشاة المسمومة له، ومثله تسليم الشجر والحجر والجبال عليه بل وأداؤهن
الشهادة له لما طلبها منهن، كما فعل عذق النخل، وكذلك الضب، وكذلك التي خطت الأرض
حتى وقفت وشهدت([37])، وكما أمّنت أسكفّة البيت وحوائطه على دعائه، وكما قد ورد أن
الله تعالى قد أحيا بعض الموتى لبعض صحابته كابن العجوز العمياء([38])، وبعض
الحيوانات كحمار المهاجر([39])، وهذا ببركة اتباعهم له وإيمانهم به.
ومن معجزات المسيح عليه السلام تكثير الطعام،
وقد حدث هذا كثيرًا لنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم كما في قصة شاة جابر رضي
الله عنه مع صاع
شعيره الذي أشبع أهل الخندق وهم زهاء ألف([40]).
ومن معجزات المسيح عليه السلام إبراء الأكمه
والأعمى والأبرص، وقد أعطى الله ذلك لنبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ كما في
قصة الأعمى الذي طلب منه ذلك([41])، ورده عين قتادة بن النعمان رضي الله عنه
يوم بدر بعد أن سالت حدقته على وجنته فبرأ وكانت أحسن عينيه بل كانت لا ترمد إذا
رمدت الأخرى([42])، كما أبرأ عين رفاعة بن رافع رضي الله عنه لما ضُربت بسهم ففقئت([43])،
وكما أبرأ عين
أبي ذر رضي
الله عنه في أحد([44])، ونفث في عيني علي رضي الله عنه يوم خيبر فلم يشك بعدها([45])، ومسح
رجل عبد الله بن عتيك رضي الله عنه ليلة قتل أبي رافع اليهودي فبرأ من
ساعته([46])، ولما قُطعت يد خبيب بن أسامة رضي الله عنه تفل فيها وألزقها
فالتأمت([47])، وأتاه أقرع فمسحه فنبت شعره وكثر حتى سُمي الهلب ــ أي كثير الشعر
ــ([48])، وتفل على يد محمد بن حاطب رضي الله عنه لما احترقت بالنار فبرأ من
ساعته([49])، وغير هذا كثير جدًا. قال ابن دريد في شأن ذلك الأقرع: كان أقرعًا فصار أفرعًا. قلت: وهذا من دلائل نبوته بخلاف
من كان يدّعيها بالباطل كمسيلمة الكذاب حيث جعل الله تعالى علامات صدقه دلائل على
كذبه؛ فلما مسح على قليل الشعر صار أقرعًا، ولما مسح عين الأرمد عمي، ولما بصق في
البئر الأجاج غار ماؤها!
ومن معجزات المسيح عليه السلام إنزال المائدة
عليه لما طلبها الحواريون، وقد حدث هذا كثيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وصحابته، كما في قصة القصعة التي أكل منها الناس من الغدوة حتى الليل يقوم عشرة
ويقعد عشرة وتُـمَدُّ من السماء([50])، والطعام الذي كان يزيد ويربو من وسط القصعة
وهم يأكلون، والبر والشعير الذي كان يزيد في أوعية أصحابه ببركة دعائه، وكعذق
العنب الذي أوتيه خبيبٌ لما كان أسيرًا بمكة قبل أن يقتلوه([51])، وكالدلو الذي
علّق وتدلّى من السماء حتى أروى أم أيمن من العطش حينما كانت مهاجرة صائمة([52])،
فما عطشت بعده رضي الله عنها، وكجفنة صاحب الرحى والتنور التي امتلأت بعد دعوة
امرأته ربها([53]).
وكان المسيح عليه السلام يخبر
بالمغيبات، وقد
أعطى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في هذا أعظم العطاء وأعجبه، فقد كان يخبر
ببعض ما كان وما يكون في الأزمان السحيقة في الماضي والمستقبل وما غاب من الحاضر،
ويخبر الرجل عن مسألته قبل أن يسأله، ويخبره بما حدثته به نفسه، وأخبر عن علامات
الساعة، ما يتبعها من أحداث رهيبة، ورُوي عنه من المغيبات التي كشفها الله تعالى له أكثر
من ستمئة حديث شريف([54]).
أما عن تبشير الملائكة لمريم الصديقة بميلاد
المسيح عليه السلام، فقد بُشرت أمه آمنة بنت وهب الزُّهرية حيث رأت في المنام
قائلاً يقول لها: «إنك قد حملت بخير البرية، وسيد العالمين، فإذا ولدتيه فسميه
أحمد ومحمد»([55])، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: ما كان بدء أمرك؟ قال: «دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى،
ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام»([56]).
أما كلام المسيح عليه السلام في المهد فقد
أُثر عن حليمة السعدية ــ مرضعة النبي صلى الله عليه وسلم ــ أنها لما فطمته تكلّم
فقال: «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً»([57]).
وقد ألّف العلماء كثيرًا من المؤلفات بهذا
الخصوص كأبي نعيم وابن الزملكاني وابن كثير وغيرهم.
هذا ومن آيات محمد صلوات الله عليه وسلامه
وبركاته ودلائل نبوته التي في القرآن الكريم قصة أصحاب الفيل وهي متواترة عند
العرب قبل الإسلام، فإن أهل الحبشة النصارى قد ساروا بجيش كثيف ليهدموا الكعبة لما
أهان بعض العرب بنيانهم القُلَيْسِ الذي باليمن مضاهاة لبيت الله الحرام وبنيِّته
المقدسة الكعبة، فأرسل الله عليهم طيرًا أهلكتهم، وكان ذلك العام إرهاصًا لبعثة سيد
البشر حيث ولد في السنة عينها صلى الله عليه وسلم، وقد أنزل الله في ذلك سورة
الفيل.
ومن آياته كذلك أن السماء ملئت حرسًا شديدًا
وشهبًا قبيل مبعثه صلى الله عليه وسلم، وقد منعت الجن مما كانت تسترق قبل ذلك من
السماء، قال تعالى ذاكرًا قول الجن: "وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً
شديداً وشهباً . وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً
رصداً . وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً" [الجن: 8 ــ 10]....للحديث بقية
إبراهيم الدميجي
5/ 12 / 1433
@aldumaiji
http://aldumaiji.blogspot.com/
([1])
متفق عليه.
([2])
ابن حبان (519).
([3])
الدارمي (21).
([4])
البخاري (3386).
([5])
متفق عليه.
([6])
متفق عليه.
([7])
أبو نعيم، وابن سعد (515).
([8])
البخاري، وأحمد (698).
([9])
البيهقي في الدلائل (6/ 79).
([10])
الحاكم (3/ 394).
([11])
أحمد (3/65).
([12])
متفق على صحته.
([13])
البيهقي في الدلائل (6/ 52).
([14])
البداية والنهاية (6/ 260ــ 279).
([15])
البيهقي في الدلائل (6/ 54).
([16])
البداية والنهاية (6/ 279)، وقد جوّد ابن حجر سند رجال الخبر كما في الإصابة (1/
176).
([17])
متفق عليه.
([18])
البخاري (3386).
([19])
الطبراني في الأوسط (3520، 3521) بسند صحيح.
([20])
الدارمي (17).
([21])
الحاكم (4/ 467) ووافقه الذهبي.
([22])
أحمد (3835) بسند صحيح.
([23])
الحاكم (2/ 588) ووافقه الذهبي.
([24])
مصنف عبد الرزاق (5/ 290)
([25])
الحاكم (3/ 702) ووافقه الذهبي.
([26])
البخاري (524).
([27])
البداية والنهاية لابن كثير (6/ 287).
([28])
البخاري (3472).
([29])
معجم الطبراني الكبير (2/ 179).
([30])
مسلم (4/ 2306)، وانظر: المطالب العالية للحافظ (4/ 8) رقم (383).
([31])
الترمذي (3628) وصححه.
([32])
البيهقي في الدلائل (2/ 99).
([33])
مصنف عبد الرزاق (10/ 279) رقم (20539).
([34])
مسلم (988).
([35])
متفق عليه.
([36])
متفق عليه.
([37])
كل هذه الأمثلة الثلاثة قد أجراها الله تعالى له لما طلب منه آحاد الناس ــ في
حوادث متفرقة ــ شهادة محددة وهي أن يشهد له كذا بالرسالة فيطلبها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فتستجيب مسخرة طائعة خاضعة. فصلى الله وسلم وبارك عليه.
([38])
الدلائل، البيهقي (6/ 5).
([39])
الدلائل، البيهقي (6/ 48) وقال: إسناده صحيح.
([40])
متفق عليه.
([41])
أحمد (4/ 138).
([42])
صحيح أبي يعلى وأبي عوانة.
([43])
الكبير، الأوسط للطبراني.
([44])
أبو يعلى (2/ 216) (ح1547).
([45])
متفق عليه.
([46])
البخاري (7/ 480).
([47])
أحمد (3/ 454).
([48])
الإصابة للحافظ ابن حجر (3/ 609) (ح8992).
([49])
أحمد (6/ 437).
([50])
الترمذي (3886) وقال: حسن صحيح.
([51])
البخاري (6/ 165).
([52])
المطالب العالية، الحافظ (4161).
([53])
أحمد (2/ 513).
([54])
انظر تقصيها في: دلائل النبوة، سعيد باشنفر.
([55])
دلائل النبوة، أبو نعيم (78).
([56])
أحمد (5/ 262).
([57])
الدلائل، البيهقي (1/ 139).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق