...قَبْلَ
ضُحَى الغَدِ!
الحمد لله مدبّرُ الكونِ بطوله والعرضِ,
ومصرّفُ الدهرِ ومُبتَلِي أهلَ الأرضِ, تفرّد دون غيره بإبرامِ الأمورِ والنقضِ, أشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم
الأنبياء وصفوة المرسلين, صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أنا الفقير إلى رب
البريات ... أنا المُسيكين في مجموع حالاتي
أنا الظلوم لنفسي وهي
ظالمتي ... والخيرُ إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب
منفعةٍ ... ولا عن النفس دفع المضراتِ
وليس لي دونه مولى يدبّرني ...
ولا شفيعٌ إذا حاطت خطيئاتي
والفقر لي وصفُ ذاتٍ
لازمٌ أبداً ... كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
وهذه الحالُ حالُ الخلق
أجمعهم ... وكلّهم عنده عبدٌ له آتي
فمن بغى مطلباً من غير
خالقه ... فهو الظلومُ الجهول المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكون
أجْمَعِهِ ... ما كان منه وما مِن بعدُ قد ياتي
أما
بعد:
إنّ الأمور إذا انسدّت
مسالكُها ... فالصبر يفتح منها كلّ ما رُتِجَا
أخلق بذي الصبر أن يحظى
بحاجته ... ومدمن القرعِ للأبواب أن يلجا
وقبلها وصية ابن مسعود رضي الله عنه: إنها ستكون أمورٌ
مشتبهات فعليكم بالتؤدة, فإنك أن تكون تابعًا في الخير, خيرٌ من أن تكون رأسًا في
الشر!.
وأعظم
وأكرم من ذلك قول الله تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا
منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب" (الأنفال: 25) "ومن الناس
من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر
الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين" (الحج: 11) ووصية نبي الرحمة والهدى
صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من
الماشي, والماشي خير من الساعي, من يستشرف لها تستشرفه, فمن استطاع أن يعوذ بملجأ
أو معاذ فليفعل" رواه البخاري في صحيحه.
ولن يثبت مع قائد الدفه سوى من تجردوا للحق نصحاً ولم تغل قلوبهم
على الثلاث المشهورة الواردة في حديث أنس عند مسلم. فإن تنصرهم وتحفظ حقّهم ياذا الشأن
فإنهم لعمر الله نعم العدة عند الفزع والبلاء ونعم العفاف عند المغنم والنعماء,
ولكنهم لن يطرقوا لك باباً لغناهم بربهم, بل هم أهرب منك ممن يُطلبون للجنايات!
وفي بقيتهم المشهود لها بالخير من كبار علماء الأمة فضلاً كبيراً وخيراً جزيلاً.
ثم على الناصح الحادب أن لا يكون مطففاً ولا أعوراً,
فكما يُصلِح الخللَ بذكر الداء والدواء؛ فليذكُر وليتذكّر الخير الوافر مِنْ حِفْظ
مجمل أصول الديانة, ونشرها, ورعاية كثير من الآداب الشرعية, وحفظ أمن السابلة
والقاطنة, والنعم التي لن يعرف احد مهما تفكر قدرها حتى يُسلبها, وإن عميت بصائر
المتعجّلة!
وبالجملة
فآخِيَّةَ حفظ النعم شكر المنعم, وذلك بذكرها واستدرار بقائها بطاعته في من
ابتلاهم بطاعته وامتحنهم بولايته, سواء رأوا منه ما يرضون ويسرون أو يكرهون
ويضيقون. فهناك سقف لابد من تبيانه لكل ذي عينين, فكما يُوعظ الولاة ويُوصَونَ
بالرفق والرحمة والعدل؛ فكذلك الرعية, وكل طرف مبتلى بنفسه و بالآخر, فليتق الله
كلًّا في كلّ، ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. وإن حفظ مكتسبات الأمة ورعايتها
فريضة لازمة وواجب متحتّم على كل مؤمن بالله واليوم الآخر. ولا يحل الخروج على
إمام ما لم يكفر كفراً بواحاً مع القدرة على تغييره, وكم من فتن وبلابل ومظالم
جرها على الأمة من راموا لها إصلاحاً وتوفيقاً! وكم من كلمة رماها مريد للإصلاح في
غير مكانها أو زمانها سارت بها الركبان فأصابت في الأمة مقاتل!
وكثير ممن يكتب في هذا الشأن لا يفرّق فيه بين
المختلفات ولا يجمع فيه بين المتفقات! ثم يأتي من يستثمر أهدافه في مشاريعه ويرمي
بذوره في أرضه وصاحبنا مندفع بالغيرة مضطرب بالحماسة فالهدَأة الهدَأة والسكينة
السكينة معاشر المصلحين.
ومما غُبِشت حياله بصائر بعضنا؛ أمور الإنكار
والخروج, فليس كل من رام الإصلاح ناله, ولا كل من أنكر سلم دينه, ولا كل من سكت
سلم من التبعة الأخروية, وليس كل منكِرٍ يُعدّ خارجاً, فثمّ برزخٌ واسع بين قضايا المناصحة
والإنكار والأمر والنهي من الرعية والعزل من لدن أهل الحل والعقد وبين الخروج على
الجماعة, كذلك فالأمور عند الاختيار ليست كالأمور حال الغلبة, كذا ههنا فرقٌ بين رِدَّةِ
الوالي الظاهرة الفاشية وبين ما دونها مما يدخله تأويل أو إكراه أو فسق. ولكل حال
وموقف شروطه وأدواته وأهله ومقتضياته, وكم من مفسدة وقعت بسبب الخلط بين المسائل
وتنزيلها!
كذلك فمن محاور التقاطعات المتنوعة الشرعية
المصلحية أو ضدها؛ جلب المصالح ودرء المفاسد, ورعاية أعلى المصلحتين بتفويت
أدناهما, واحتمال أدنى المفسدتين لدفع أشدهما. والتوفيق في فقه هذه النوازل يكون
باستفراغ الجهد والتأمل والتفكر والغوص في المآلات مع استصحاب الواقع كما هو, وكل
هذا بناء على الوحي المنزل بفقه من رسخ فيه, ثم بعد ذلك التوفيق والتثبيت للعمل
بمقتضيات ذلك الفقه والنظر.
وليُعلم ان لكل وسط طرفان من الناس كلّ منهم يرى
أنه الوسط, ويتقرب الى الله عبادةً وديانةً بتأصيل ذلك الموقف وتفريعه, مع
ضميمةِ فئامٍ من رَكَبَةِ الهوى ودعاة الجهل ونَعَقةِ الضلالة, فلابد لذي الحق من
مكابدة الاختلاف ومناكفة الباطل, وإلّا فعلامَ سبعين أمراً بالصبر في محكم
التنزيل؟!
وعند أبي داود بسند صحيح عن المقداد بن
الأسود رضي الله عنه قال: ايْمُ اللهِ لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "إن السعيد لمن جنّب الفتن, إن السعيد لمن جنّب الفتن, إن السعيد
لمن جنّب الفتن, ولمن ابتلي فصبر فواهًا" وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال
المسلم غنمٌ يتبع بها شَعَف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" . فمن اشتبهت
عليه الأمور فليكف ولينأ بنفسه حتى تنجلي عجاجة الأمور وتنقشع سحائب المشتبهات,
والخطأ في الكف والإحجام أهون من الخطأ في الفعل والإقدام.
آخراً: هلّا تدبرنا قول
ربنا جل وعز: "أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم
أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون" (العنكبوت: 87)
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام
أصلح أحوال بلاد الإسلام كافة وأصلح دين العباد ودنياهم, واهد الولاة للحكم بكتابك
والرفق برعاياهم واهدهم سبل السلام, وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه.
إبراهيم الدميجي
15 / 12/ 1433
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق