"خمس
بشارات توراتية بنبي الهدى الخاتم عليه الصلاة والسلام والبركة"
"محماد
مشتهى الأمم, وصاحب خاتم النبوة بين الكتفين, وبشارات دانيال عليه السلام"
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا
نيب بعده, وعلى آله وصحبه وجنده, وبعد:
فهذه
خمس بشارات توراتية بنبي الهدى عليه الصلاة والسلام:
"محماد مشتهى
الأمم"
وهي نبوءة تتحدث عن النبي المنتظر القادم, الذي وعد به إبراهيم
عليه السلام وبشر به يعقوب وموسى وداود وحجي عليهم السلام.
وقد بشّر بها النبي حجي عليه السلام بعد عودة
بني إسرائيل من السبي "لا تـخافوا لأنه هكذا قال رب الجنود. هي مرة بعد قليل
فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة وأنزل كل الأمم ويأتي مشتهى الأمم فأملأ
هذا البيت مجدًا. قال رب الجنود مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول. قال
رب الجنود في هذا المكان أعطي السلام يقول رب الجنود" (حجي 2: 6ــ 9).
قال القس السابق لطائفة الروم الكاثوليك الكلدانيين
عبد الأحد داود، وهو الخبير في اللغات القديمة: إن النص بالعبرانية هو: "لسوف
أزلزل كل الأرض وسوف يأتي محماد لكل الأمم... وفي هذا المكان أعطي السلام"([1])،
لقد جاء في العبرانية لفظ (محماد) أو (حمدت) كما في قراءة أخرى حديثة، وبما أن
القوم يترجمون الأسماء حسب معناها لا لفظها فمعنى (محماد) في العبرانية يعني
(الأمنية الكبيرة) و(المشتهى) ومن هنا حرّف النص.
والنص حاليًا في الترجمة العبرانية المتداولة
حرفيًا: "فباءوا حمدات كول هما جوييم" لذلك فلو أبقينا الاسم على
حاله دون ترجمة فإنا واجدون لفظ (محماد) وهي الصيغة العبرية لاسم (أحمد) والتي
حرفها وأضاها المترجمون عند الترجمة عن العبرانية"([2]).
قال المؤرخ ول ديورانت: "ولفظ محمد مشتق
من الحمد، وهو مبالغة فيه، كأنه حمد مرة بعد مرة، ويمكن أن تنطبق عليه بعض فقرات
في التوراة تبشر به"([3])
قلت: محمد وأحمد كلاهما اسمان لنبي الرحمة
صلوات الله وسلامه عليه وبينهما عموم وخصوص؛ فأحمد صاحب الصفات الفاضلة بالكيفية،
ومحمد صاحب الصفات الفاضلة بالكمّيّة، وكلاهما منطبق تمام المطابقة عليه فقد اجتمع
فيه من صفات الكمال البشري ما تفرق في غيره، وإلى نحو هذا أشار ابن القيم رحمه
الله في طريق الهجرتين وباب السعادتين(4).
هذا ولا زال في النص بشارة أخرى؛ وهي البشارة
بالبيت الأخير الذي هو أعظم مجدًا من البيت الأول، والأخير ــ أي أنه ربط بعهد
النبي الأخير وإن كان متقدمًا على غيره ــ فالأخير هو الكعبة المشرفة والمسجد
الحرام الذي يحويها، فالصلاة فيه بمئة ألف صلاة فيما سواه، ولم ينقطع عنه العُمَّارُ
والحجّاج منذ فجر الإسلام وكلهم من ملة واحدة، أما المسجد الأقصى فالصلاة فيه
بخمسمئة صلاة وقيل بمئتين وخمسين صلاة([5])، أي يعطى من الأجر كمن صلى هذا العدد
من الصلوات فيما سواه, كما أنه لم يعظم كما عظّم المسجد الحرام, وكلاهما بيت لله
عظيم.
وثَمَّت بشارة ثالثة في هذا النص الفريد؛ ألا
وهي الإشارة إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وهو الإسلام "في هذا المكان"
أي مكة المكرمة والبلد الحرام "أعطي السلام" فاشتقاقهما من السلام
والاستسلام قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة"
[البقرة: 208] بل إن لفظ (شالوم) في النص قد تعني (الإسلام) حرفيًا. وقد يكون في
النص إشارة إلى عقد الأمان الذي عم الأراضي المقدسة في الشام بعد عقد الأمان الذي
أعطاه عمر لأهلها الكتابيين([6]).
وهذه النبوءة لا تشير إلى المسيح ابن مريم عليه
السلام، فلا تقارب بين ألفاظها واسمه، ولم يستتب الأمن في القدس حال بعثته، بل هو
من بشّر اليهود بخراب معبدهم! كما كان رسولاً إلى بني إسرائيل خاصة، أما القادم
المنتظر فهو مشتهى جميع الأمم عليه الصلاة والسلام.
وفي إنجيل لوقا إشارة إلى لفظ الإسلام "المجد
لله في الأعالي . وعلى الأرض السلام . وبالناس المسرة" (لوقا 2: 14) ولعل
أصلها المحرف عنه: "الحمد لله في الأعالي . وعلى الأرض إسلام . وللناس أحمد"
وسيأتي بيان ذلك في موضعه بمشيئة الله تعالى.
"خاتم النبوة بين
كتفيه"
ورد في إشعيا: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى
ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبًا أبديًا
رئيس السلام" (إشعيا 9: 6، 7)، وفي نسخة "والشامة على كتفه" وهذا هو خاتم
النبوة الذي بين كتفيه وهو من خصائص النبوة الجسدية، وقد أسلم بعض أهل الكتاب لما
رأوها فيه، ومنهم سلمان الفارسي رضي الله عنه حينما أعطاه صاحبه في الشام علامات
للنبي الخاتم وتحققت كلها في محمد صلى الله عليه وسلم وكان آخرها خاتم النبوة بين
كتفيه، قال سلمان: "ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض
كتفه اليسرى عليه خيلان كأمثال الثآليل"([7])
قال القرطبي: "اتفقت الأحاديث الثابتة
على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا عند كتفه الأيسر، قدره قدر بيضة الحمامة".
وتأمل فقرة: "ويدعى
اسمه عجيبًا" وعلاقة هذه الكلمة باسم محمد وأحمد، كذلك "أبًا أبديًا
رئيس السلام" وفي النسخ القديمة "أركون السلام" والأركون هو العظيم.
وهو محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الشريعة الأبدية التي لم تنسخ، ويقر السلام في
العالم وينشره([8]) صلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
"بشارات دانيال
عليه السلام الثلاث"
وكلها في تعبير الرؤى، فالأولى عَبَرَهَا
للملك البابلي الذي أسر اليهود وساقهم إلى بابل وهو بختنصر، والثانية والثالثة
لدانيال نفسه وقد عبرها له ملك كريم. وموضوع تلك الرؤى الثلاث البشارة بأمة
الملكوت الجديد([9]).
وملخص الرؤيا الأولى؛ أن بختنصر رأى رؤيا
أفزعته، فطلب تعبيرها واشترط على المعبر أن يخبره بما رأى أولاً، فلم يستطع كهنته
ذلك ثم دلّوه على نبي من بني إسرائيل وهو دانيال عليه السلام، فاستدعاه وأخبره
بأمره وشرطه، فأخبره دانيال عليه السلام برؤياه ووصفها له ثم عبرها وفسرها له،
فذكر أنه قد رأى تمثالاً عظيمًا رأسه من ذهب، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه
من نحاس، وساقاه من حديد وخزف، فانسحق التمثال وتناثر مع الريح، ثم عبرها دانيال
عليه السلام بأن رأس هذا التمثال هو نفسه الملك الذي رأى هذه الرؤيا ومملكته
البابلية، ثم تقوم بعده مملكة أصغر, ثم ثالثة من نحاس فتتسلط على كل الأرض، ثم
رابعة صلبة كالحديد وتسحق كل من عداها، ثم يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض
أبدًا([10]) وتسحق كل ما عداها من الممالك وهي تثبت إلى الأبد" (دانيال 2:
21ــ 45).
قال هود جكن في كتابه (المسيح في كل الكتب): "وأما
الحجر الذي قطع بغير يدين، ويسحق التمثال العظيم، فكناية عن مملكة المسيا، أي
المسيح المنتظر".
فدولة بابل الكانزة للذهب، ثم تلتها فارس
المكثرة من زينة الفضة ثم تلتهما مملكة اليونان (مقدونية/ الإغريق) والتي كان
النحاس منتشرًا في عتاد جيوشها، ثم تلتهم دولة الحديد الرومان، أو لعله أراد
بالقدمين دولتا فارس والروم، والسؤال: من سحق فارس والروم؟ ومن دامت مملكته حتى
هذا الزمان؟ وتربعت أمته على خيرات الهلال الخصيب والشام التي تفيض لبنًا وعسلاً
والأراضي المقدسة، وكان ملكها من الصين إلى الأطلنطي ومن الحبشة إلى عمق أوروبا
مرورًا بجميع جزر البحر المتوسط؟ ومن سحق فارس ومحاها فلم تقم لهم قائمة إلى
اليوم؟ ومن سلب من الرومان الشام ومصر، وسحق عاصمتهم العظمى القسطنطينية فجعلها
عاصمة له؟ أيحتاج النهار إلى دليل؟!
أما الرؤيا الثانية فقد رآها دانيال عليه
السلام، وملخصها: أنه رأى أربع حيوانات غريبة مختلفة قد صعدت من البحر؛ الأول أسد،
والثاني شبيه بالدب، والثالث مثل النمر، أما الرابع فكان قوي جدًا وله أسنان من
حديد فأكل وداس البقية برجليه، وله عشرة قرون وفيها قرن صغير يتكلم بالعظائم ثم
قُتل هذا الحيوان وهلك، وأتى مثل الإنسان فأُعطي سلطانًا أبديًا وملكوتًا لا
ينقرض.
ثم عبر الملك الكريم تلك الرؤيا النبوية بما
حاصله أن هذه الحيوانات الأربع هي أربعة ملوك، أما قديسو العلي فهم من يرثون هذه
الممالك إلى الأبد([11]) (دانيال 7: 1ــ 28).
وأما الرؤيا الثالثة فملخصها أن دانيال
عليه السلام رأى كبشًا واقفًا عند النهر وله قرنان عاليان، وهو ينطح من عنده، ثم
جاء تيس من الغرب وله قرن بين عينيه فنطح الكبش وكسر قرنيه وداسه، ثم تعظّم التيس
وانكسر قرنه العظيم ونبت عوضًا عنه أربعة قرون نحو رياح السماء الأربع خرج من
أحدها قرن صغير وعظم جدًا نحو الجنوب والشرق وفخر الأراضي، وطرح الجند وداسهم، وجُعِلَ
جندٌ على محرقة دائمة ومعصية الخراب إلى ألفين وثلاثمئة صباح ومساء. ثم فسرها له
المَلَكُ الكريم وهو جبرائيل بأنها لوقت المنتهى، وأن الكبش هو ملوك مادي وفارس،
وأما التيس فملك اليونان، فإذا انكسر قرنه قامت أربع ممالك في آخر مملكتهم عند
تمام المعاصي ويقوم مَلِك جافي الوجه وفاهم الحيل وتعظم قوته يُهلك ويبيد العظماء
وشعب القديسين، وينجح المكر في يده ويتعظّم ويُهلك كثيرين ويقوم على رئيس الرؤساء
وبلا يد ينكسر" (دانيال 8: 1ــ 27). ولعل هذا الطاغي هو أمريكا التي أبادت
ولا تزال تبيد كثيراً من شعب القديسين وهم الأمة المسلمة, ثم بلا يدٍ بشريّة تنكسر,
بل بقدرة الله تعالى, حيث يسلط عليها مالا طاقة لها به؛ كريح عاصف, أو موج مغرق,
أو زلزال مدمر, أو بركان محرق, أو طاعون ماحق, أو غير ذلك, وقد يكون بالأيدي
المسلمة أو غيرها, لكنها إلى زوال وفشل بإذن الله تعالى. وكل ذلك في طي علم علام
الغيوب الحكيم الخبير.
وهذه الرؤى الثلاث هي أصدق وأشهر الرؤى
والنبوءات التاريخية في الكتاب المقدس كما يقول شراحه، وهي بشارات بأمة
الملكوت الجديد، ويرى أولئك الشراح أنها المملكة المسيحية ولكن هذا خلاف الواقع،
فالمسيح عليه السلام لم يملك قط، ولم ينتصر على الرومان، ولم يؤمر بالسيف، أما
محمد صلى الله عليه وسلم ومملكته السماوية وشعبه القديسون فحالهم ظاهر دينًا ودنيا
من تحقق هذه النبوءات فيهم.
وصلى الله وسلم على
محمد وآله وصحبه.
إبراهيم الدميجي
5/ محرم/ 1433
@aldumaiji
([1]) ينظر: محمد في
الكتاب المقدس، عبد الأحد داود ص147ــ 165، الإنجيل والصليب، عبد الأحد داود 233ــ
55، البشارة بنبي الإسلام، د. أحمد السقا (2/ 370ــ 372).
([2]) بتصرف واختصار
من: محمد في الكتاب المقدس، ص147ــ 165.
([3]) قصة الحضارة، ول
ديورانت (13/ 375).
(4) طريق الهجرتين
ص239ــ 288.
([5]) كما حققه الدكتور
أيمن مهدي في رسالته: الأحاديث الواردة في فضل الصلاة في المسجد الأقصى، والأشهر
الأول وإليه مال ابن تيمية وابن القيم وغيرهما.
([6]) هل بشر الكتاب
المقدس بمحمد صلى الله عليه وسلم؟ د. السقار ص111ــ 114.
([7]) رواه مسلم.
([8]) انظر: نقض دعوى
عالمية النصارى، د. فرج الله عبد الباري.
([9]) من أحسن ما كتب
في حل رموز تلك الرؤى وتفسيرها والتعليق عليها د. سفر الحوالي في (انتفاضة رجب)،
وانظر كذلك: إظهار الحق، رحمة الله الهندي (4/ 1166ــ 1169)، البشارة بنبي
الإسلام، د. أحمد السقا (2/52- 82)، هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى الله عليه
وسلم، د. السقار ص107ــ 110، الجواب الصحيح، الإمام تقي الدين ابن تيمية (5/ 278ــ
282)، هداية الحيارى، شمس الدين ابن القيم، ص192.
([10]) والمسلمون
ينازعون المسيحيين في أن ديانتهم مسيحية حقة لأنها لا تنتسب في جوهرها وحقيقتها
للمسيح عليه السلام إلا في أمور قليلة أما الأصول ــ فكما أسلفنا ــ فليست من
دعوته ودينه، ولا ينازع أحد في كون هذا الدين الإسلامي المتمثل في القرآن الكريم
والسنة النبوية هما دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، وأن كل مجد للإسلام
وفتح فإنما ينسب إليه، مع أن خلاصة دعوته هي امتداد لدعوة جميع المرسلين ومنهم
المسيح عليه السلام، فالمسيحية الحقة أولى بالمسلمين من البولسيين.
([11]) يميل الدكتور
الحوالي إلى تفسير هذه الحيوانات الرمزية بالدول الكبرى المعاصرة التي جعلت تلك
الحيوانات رموزًا لها، وأن الوحش القوي الأخير هو أمريكا، وأما قرنها الصغير الذي
يتكلم بالعظائم فهي الدولة اليهودية (رجسة الخراب) التي سيكون هلاكها على يد قديسي
العلي من أمة الإسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق