إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأحد، 8 سبتمبر 2024

يَا مَنْ يُدَاوِي لَوْعَةَ العُشَّاقِ (2)


سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ

يَا مَنْ يُدَاوِي لَوْعَةَ العُشَّاقِ (2)

 

    بينا نسير ليلاً تحت سَرَقَةِ حريرِ السماء الفاحمة الدّمقسيّة, ومجوهراتها المتلألئة المنظّمة والمنثورة في قبة الفلك الهائلة المهيبة, وقلادتها المَجَرِّيَّة اللبنيّة, وواسطة قلادتها بدراً منيراً عليه هالة كأنها طوق العذراء, وهو يحكي للمسافرين أخبار المحبين المرهفين في سوالف الأزمان والسنين. يطوي بنا الكدلكُ الأسودُ الفدافدَ الحمراء لنفود الدهناء وهي المسمّاة ناقة تميم, تبدو للناظر على ضياء البدر كأنها أوهامُ عاشق مكتنزة عارية وثيرة، ونغوص بمدّ أبصارنا قبل راحلتنا في الطريق الأسود الثعباني, المتلوي كالتواء أفاعي حرّة بني هلال السوداء, منبطحاً بين كثبان رمل عالج وهي الدهناء, والطريق ينخفض ويرتفع وييمن ويشمل، وقد سرنا فراسخ لم نر فيها حيّاً ، كأن الكوكب خلا من ساكنيه سوانا,  ونحن نسير سيراً وسطاً, وقد أقبلت أمداد عساكر الليل, وخفقت رايات بنود الظلام, وأرخى الليل علينا السّدول, وسحب الظلام فوقنا الذيول, وتهادت على مرآنا وفودُ النجوم, ومواكب الكواكب, والبرق يومض أمامنا كأنه ابتسام لَمىً عاشقةٍ حَيِيّة, ولكأن القمر ساعتئذٍ عينٌ كحَّلها سواد الليل البهيم, وقد لبس الأفق ثوب الدُّجى, وتناثرت في السَّديم عقودُ النجوم كقول الأول:

خوافق في جنح الظلام كأنها   ...   قلوبٌ مُعنّاةٌ بطول وجيبِ

    والوجيب هو خفقان القلب. قلت: حدثني يا صاحبي بأخبار مجنون بني عامر علّنا نقشّع بها وحشة الطريق. فأجاب: يا لَحُسْنَ ما اخترته! فذلك قيسٌ البائس هو من سطّر لنا ملاحم الغرام بشعرٍ مُفَلّق مستهام. إيهاً صاحبي لقد قدحت زناد قلبي, وأوريت خامده, فهلّا توقفنا على تلك الرابية اللائحة على ضوء سراج الليل المنير, نعلل أنفسنا بالحديث حتى ننام, فإذا أصبحنا رأينا مضارب السحابة, فهذه جداولها تفيض علينا من كل فجّ, ولا نريد البعد عن مسقط الوطفاءِ حتى ننعم برؤية خطّها في صحيفة الأديم.

    نزلنا, وأوقدنا الرّمث والسّمر الذي احتطبة بكرةً, وحمدنا الله على ذلك, فالأرض تنجّ الماء نجّاً فما لحاطبٍ مُوقِدٍ مُستمتَعٌ. ثمّ قام صاحبي وأكبّ على الزَّمْلِ فأعدّ العشاء, وتعمّد أن يكثر توابله وفلافله احترازاً للبرد, فلما انتهى من تجهيزه غطّاه ينتظر نضجه, ثم قام مستنداً على عصاً كأنه خطيب جمعه أو قائد جيشٍ, ولا عجب من أمثاله فالخيال لديهم أخو الحقيقة, وهو يقول بصوت عميق, كأنما يتحدث من قعر بئر:

    يا رفيق الدّرب, متى تعرّضَ الشاعر العربيّ المفلّقُ للمعنى, وأمرر قريحته عليه؛ نَفَذ فيه وكشف معانيه, وأظهر جواهره واستصفى لبّه بألفاظٍ هي حللُ الديباج والسّندس. ومشاهير العشاق المُفلّقون أربعة؛ جميلُ بثينة, ومجنونُ ليلى, وكثيّرُ عزّة, وقيسُ لُبنى, وأنسبهم عندي المجنون ثم جميل. فلم تلد العربيات في النسيب كابن الملوح, وهو أمير النسيب بلا ريب.

    مجنون ليلى معاصرٌ لقيس بن ذريح, وبعض الناس يخلط بينهما, وصاحبنا هو قيس بن الملوَّح العامري, وزعم بعضهم أن اسمه أحمد أما قيس فلقب, أما محبوبته فهي ليلى بنت مهدي العامريّة وكنيتها أم مالك, قال عنها:

تكادُ بلادُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ   ...   بما رَحُبَتْ يوماً عَلي تضيقُ

    تعلّقت مُضغتُه بليلى, فلما شَبَّبَ بها منعوه من قربها, إثر دخول سِفْلةٍ من الناس في شأنهما, فحرموه الزواج بها, فازداد غرامه ولم يزل يتمادى به الضنى حتى جُنّ! وقد يكون قد علق قبلها بأخريات, لكن شمس ليلى كسفت بالنجوم وخسفت بالأقمار, كما قال وهو المجنون الذي غلب لقب جنونه على اسمه:

محَا حبُّها حُبَّ الأُلَى كُنَّ قَبلَها   ...    وَحَلَّتْ مكاناً لم يَكُنْ حُلَّ من قبل

ويُورَد على ذلك بيته الشهير:

أتاني هَواهَا قبل أن أعرفَ الهوى   ...   فصَادفَ قلباً خالياً فتمكّنا

    وإني إلى الثاني لأميل, فلعل الأوّل إنما كان من الإعجاب العابر لا الحب المكين.

 وشكى أهلُها إلى مروان زيارته لحيِّهِم وتشبيبه ببنتهم, فأهدر دمه إن وجد في حيّهم, فهام على وجهه وفقد لُبَّهُ, وهام مع الوحوش لا يعبأ بشيء خلا ليلى, ولا يكترث لأحد من التّلفِ سواها, وكان يلعب بالتراب والعظام لا يعقل غير ذكرها. وأُخبرت ليلى بذلك فجزعت وسقمت, وزوَّجَها أهلُها بغير رضاها من ثقفي رآها حين حجّ بها أهلُها, فقال المجنون:

ألا إن ليلى العامريةَ أصبحتْ    ...    تقطع إلا من ثقيفٍ حبالُهَا

همُ حبسوها محبَسَ البُدْنِ وابتَغَى   ...   بها المال أقوامٌ ألا قَلَّ مالُهَا

إذا ما التقتْ والعيس صفر من الثرى   ...   من العين جَلّى عبرةَ العينِ حالُهَا

خليليَّ هل من حيلةٍ تعلمانها   ...   فيدنى بها تكليم ليلى احتيالُهَا

فإن أنتما لم تعلماها فلستما   ...   بأوّلِ باغٍ حاجة لا ينالُهَا

وحين تحقق عنده تزويجها أنشد:

دعوتُ الهي دعوةً ما جهلتُها   ...   وربّي بما تخفي الصدور خبيرُ

فقد شاعت الأخبارُ إن قد تزوّجَتْ   ...   فهل يأتَينِّي بالطلاق بشيرُ

وجعل يمر ببيتها فلا ينظر إليه وينشد:

ألا أيها البيت الذي لا أزوره   ...   وإن حَلَّهُ شخصٌ إليّ حبيبُ

هجرتك إشفاقاً وزرتك خائفاً   ...   وفيك عليّ الدهرُ منك رقيبُ

وقال وتأمل تشبيهه, وقد ظلمه من سلبه ذلك الفن:

كأن القلبَ ليلةَ قيلَ يُغدى   ...   بليلى العامريَّةِ أو يُراحُ

قَطَاة غَرَّها شَرَكٌ فباتت   ...   تُجاذبه وقد عَلقَ الجناحُ

لها فرخانِ قد غلِقا بوكرٍ   ...    فعشُّهما تصفِّقُه الرياحُ

فلا في الليل نالت ما تُرجِّي   ...   ولا في الصبحِ كان لها براحُ

وانظر روعة تشبيهه ههنا:

فقلت لأصحابي والدمع مسبلٌ   ...   وقد صدع الشمل المشتت صادعُ

أليلى بأبواب الخدورِ تعرَّضتْ   ...   لعينيَ أم قرنٌ من الشمسِ طالعُ

    ويروون عن كثيّر عزّة أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أنشدني شيئاً قلتَهُ في عزَّة، فقال: بل أُنشدك ما امتدحتُك به، فألحّ عليه فجعل ينشده وعيناه تهملان، فقال عبد الملك: ما أشد حبّك لعزة، فهل رأيت قطّ أحداً كان أشد حباً منك؟ قال: أخبرك يا أمير المؤمنين:

    خرجت وقد هاج بي الشوق وذِكْرُ عزّةَ، وكانوا قد انتجعوا نجعة قريباً من الحي، فمررت برجل قد نصب شركاً له وهو منفرد عن الحي، فملت إليه، وقلت: هل من قِرى؟ فقال: أنا عازب عن الحيِّ، وقد نصبت حبائلي، فاصبر قليلاً أحوش عليك الظباء، فإن وقع في الحبال شيء أكلنا جميعاً، فإني لم أطعم شيئاً منذ ثلاث. فمضى يحوش، فوقعت في شركه أدماءُ عوهج _أي ظبية جميلة_ فأسرع نحوها، وأنا منه حيث أرى وأسمع، فطفق يمسح التراب منها، ثمَّ أطلقها وأعاد الحبالة وأقبل إلي. فقلت: يا هذا، ما رأيت مثل اليوم أحداً صنع صنيعك، إنا جميعاً نشكو الغرث _أي الجوع_ حتَّى إذا أتى الله بالفرج أرملتنا من زادنا؟ قال: ويحك، إني نظرت إليها وإلى عينيها فشبهتها بمن أهوى، فهل رأيت من يأكل شبه حبّه؟! وأنشأ يقول:

أيا شبهَ ليلى لا تُراعي فإنَّني ... لكِ اليومَ من بين الوحوشِ صديقُ

أقولُ وقد أطلقتُها من وثاقِها ... لأنتِ لليلى إنْ شكرتِ طليقُ

    ثمَّ قال: أقم، فإن وقع شيءٌ أكلنا، فأقمت طمعاً في أن يمنعه الجوع من أن يعود لمثل فعله، فوقع في شركه ظبي، فسعى نحوه، وأطلقه فعدا، وأنشأ يقول:

أيا شبهَ ليلى لو تلبَّثْتَ ساعةً ... لعلَّ فؤادي من جواه يفيقُ

وما إنْ أشبهتَها ثمَّ لم تؤبْ ... سليماً عليها في الحياةِ شفيقُ

    فقلت: ويحك، أجهدنا الجوع وتركته، وعلمتُ أنه مجنون من الحب، ثمَّ مررت على ظباء ترعى فقلت: إن دللته عليها رجوت أن يحوشها، ويمنعه من إطلاق ما تقع في حبالته منها علمُهُ بأنها طريدتي فيأكل ويطعمني، فرجعت إليه وقلت: ألا ترى إلى تلك الظباء ساكنة ترتعي؟ فقال: هيهات، إني رأيت ليلى ترتع في هذه الروضة وتلعب وإني قلت:

رأيتُ ظباءً ترتعي وسطَ روضةٍ ... وكنتُ أرى ليلى فلنتُ لها دهرا

فيا ظبيُ كلْ رغداً هنيئاً ولا تخفْ ... فإنِّي لكم جارٌ وإنْ خفتمُ دهرا

    ثمَّ مضى وتركني، فهذا يا أمير المؤمنين أعشقُ عاشقٍ رأيت. قال: فمن تراه؟ قال: المجنون قيس بن الملوّح.

ولله دره حينما قال:

وإني لأستغشي وما بيَ نعسةٌ   ...   لعلَّ خيالاً منك يلقى خياليا

وأخرج من بين الجلوسِ لعلني   ...   أُحدِّثُ عنك النَّفسَ بالسرِّ خاليا

    ولشرف معنى هذين البيتين فقد كان شيخ الإسلام ربما خرج عن العمران حتى إذا خلا في البيداء؛ رفع بصره إلى السماء وأنشدهما..وشتان يا صاحبي بين الغرضين!

    وقد بلغ منه العشق مبلغاً عظيماً مسّ شغاف قلبه, بل استولى عليه, ألا تستمع إليه إذ يقول:

ولو شَهِدَتْنِي حين تأتي منيَّتي   ...   جَلَا سكراتِ الموتِ عَنِّى ابتسامُهَا

حتى الصلاة أخلفه العشق فيها, ولكن لا قلم على مجنون, قال عفا الله عنه:

أُصَلِّي فما أدري إذا ما ذكرتُها   ...   أثنتين صلَّيتُ الضُّحى أم ثمانيا

    وخرج لمكة علّه يسلو عن ليلى, فسمع ليلةً إنساناً ينادي: يا ليلى! فخرَّ صاحبنا مغشياً عليه, فلما استفاق قال _وكثيراً ما كان ابن الجوزي وابن القيم يرددانها_:

وداعٍ دَعَا إذ نحن بالخيفِ من مِنًى   ...    فهيّج أحزانَ الفؤادِ وما يدري

دعا باسم ليلى غيرَها فكأنّما   ...    أطارَ بليلى طائراً كان في صدري

دعا باسم ليلى أسخنَ اللهُ ليلَهُ   ...    وليلى بأرض الشام في بلد قفرِ

عرضْتُ علَى قلبي العزاءَ فقال لي ... منَ الآنِ فاجزعْ لا أَغُرُّكَ بالصَّبرِ

إذا بان من تهوى وشطّ به النَّوَى   ...    فَفُرْقة من تهوى أحرُّ من الجمرِ

ومن عذب معزوفه وانظر إلى المِقَةِ تتثنّى فيه:

يقولون ليلى عذَّبتكَ بحبِّها   ...   ألا حبَّذَا ذاكَ الحبيبُ المعذبُ

   وحين بدأ به الجنون خافت أُمُّهُ عليه, فاحتالت حتى جاءت بها, وسلّمت عليه وهي واقفة وقالت:

أُخبِرْتُ أنك من أجلي جننتَ وقد   ...   فارقتَ أهلكَ لم تعقلْ ولم تفقِ

فرفع إليها رأسه وأنشد:

قالت جُننتَ بمن تهوى فقلتُ لها   ...   الحبُّ أعظم مما بالمجانينِ

الحبُّ ليس يُفيقُ الدَّهرَ صاحبُهُ   ...   وإنما يصرع الإنسان في الحينِ

لو تعلمين إذا ما غبتِ ما سقمي   ...   وكيف تسهر عيني لم تلوميني

وقيل: لعل الله ابتلاه بالجنون لمّا قال:

قضاها لغيري وابتلاني بحبِّها   ...   فهلَّا بشيء غير ليلى ابتلانيا

وقال واصفاً حاله وفي البيت الثاني معنىً بديع:

وجاءوا إليه بالتعاويذِ والرُّقَى   ...   وصبّوا عليه الماءَ من ألم النّكسِ

وقالوا به من أعينِ الجِنِّ نظرة   ...   ولو عقلوا قالوا به نظرةُ الإنسِ

وأنشدَ الحمائمَ الهادلة:

ألا يا حمامَ الأيكِ مالك باكياً   ...   أفارقتَ إلفاً أم جفاك حبيبُ

دعاكَ الهوى والشوقُ لما ترنّمَتْ   ...   هتوفُ الضُّحى بين الغصون طروبُ

تُجاوِبُ وُرْقاً قد أذِنَّ لصوتها   ...   فكلٌّ لكلٍّ مُسْعِدٌ ومُجيبُ

   وقد كان المجنونُ وليلى وهما صبيّان يرعيان غنماً لأهلهما عند جبل في بلادهما يقال له التّوباد, وهو في محافظة الأفلاج ولا زال معروفاً باسمه الشامخ, وقد وصف ذلك الحبَّ الطفولي البريء بقوله:

تعلقت ليلى وهي ذاتُ ذؤابةٍ   ...   ولم يبدُ للأترابِ من من ثديها حجمُ

صغيرين نرعى البهْمَ ياليت أنَّنَا   ...   إلى اليوم لم نكبرْ ولم تكبر البهمُ

    فلما ذهب عقله وتوحش كان يجيء إلى ذلك الجبل فيقيم به _والغار موجود ومعروف_ ثم هامَ المسكينُ وساح على وجهه حتى بلغ الشام, حتى إذا ثاب إليه عقله أنكرَ القومَ والأرضَ, فسألهم عن جبل التّوباد الذي كان يرعى وليلى الغنم عنده في سالف الزمان, وهو يتذكّر أيام كان يطيف هو وليلى به وبمرابعه, وقد رأى بلداً لا يعرفه فيقول للناس الذين يلقاهم: بأبي أنتم, أين التّوباد من أرض بني عامر؟ فيجيبونه: وأين أنت من أرض بني عامر؟! أنت بالشام, عليك بنجم كذا فأُمَّهُ, فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حتى يقع بأرض اليمن, فيرى بلاداً ينكرها وقوماً لا يعرفهم, فيسألهم عن التّوباد وأرض بني عامر, فيقولون: وأين أنت من أرض بني عامر؟! عليك بنجم كذا و كذا, فلا يزال كذلك حتى يقع على التوباد, فإذا رآه قال باكياً:

وأجْهَشْتُ للتَّوبادِ حين رأيتُه   ...   وكَبَّرَ للرحمن حينَ رآنِي

وأذرَيتُ دمعَ العين لمّا عرفتُه   ...   ونادى بأعلى صوته فدعانِي

فقلتُ له قد كان حولَك جيرةٌ   ...   وعهدِي بذاكَ الصّرم منذ زمانِ

فقال مَضَوْا واستودَعُوني بلادَهم   ...   ومَنْ ذا الذي يبقَى على الحَدَثانِ

وإِني لأبكي اليومَ من حَذَرِي غداً   ...   فِراقَكَ والحيَّانِ مُجْتَمِعانِ

سِجَالاً وَتْهتَاناً وَوبْلاً ودِيمَةً   ...   وسَحًّا وتَسْجاماً إلى هَمَلانِ

   ثم التفت صاحبي إلى الشرقِ, وقبسات البروق تتجلّى منعكسة على بياض وجهه وأردانه, بينما تتقاطر علينا زخّاتٌ لذيذة من الهتون, ولها على الجمر كصوت البارود الفاسد في البنادق العتيقة, فرفعت رأسي أتطلع لمزنةٍ غَرْثَى قد ألقت ما فيها وتخلّت إلا من بقايا هتون, والعامّة تسمّيها الغثير, وقد هبت أنفاس الصَّبَا وهي نسائم الريح المشرقيّة, فاستقبلها صاحبي بوجهه الصَّبوح وملأ منها رئتيه, فتذكرت قول ابن الرومي وبيته الأول جبّار:

لها ريقٌ تشفّ له الثَّنَايا  ...   وتروى عنه لا مِنْهُ الظّماءُ

وأنفاسٌ كأنفاسِ الخُزامَى   ...   قُبَيلَ الصُّبحِ بَلَّتْهَا السماءُ

تَنَفَّسَ نَشْرُها سَحَراً فجاءت   ...   به سحرية المسْرى رُخاءُ

    وصاحبي لا زال واقفاً على هيئته, يرتعد حيناً من التأثر وحيناً من البرد, وقال: يرحم الله المجنون إذ قال وقد صدق:

أيا جبلَي نعمان بالله خَلِّيا   ...   سبيلَ الصَّبا يخلُصْ إليّ نسيمُهَا

أجدْ بردَها أو تَشْفِ مني حرارة   ...   على كَبِدٍ لم يبق إلا صميمُهَا

فإن الصَّبا ريحٌ إذا ما تنسَّمَتْ   ...   على نفسِ مهمومٍ تجلّت همومُها

    ومن رقة طباع أهل العلم والأدب, أنّ واعظ الإسلام عبد الرحمن بن الجوزي لمّا فارق زوجته واسمها نسيم الصَّبا؛ هفا إليها وكلف بها, وأراد معاودة وصلها فأبت, وطال الأمر بأشواقه, وفي يومٍ سعيدٍ حضرت مجلس وعظه, قد استترت منه بجاريتين, فلاحت منه نظرةٌ إليها فعرفها, فتنفّس الصعداء وأنشد أبيات المجنون: أيا جبلي نعمان.. فرقّت له, فقامت وحدثت بذلك بعض نسائها فأخبرنه, فراسلها فأجابت فتزوج بها.

    وأهل العلم لا يمنعون مِنْ مثل هذا, فالأنفس اللطيفة الرقيقة لها حاجاتٌ ليست كالكثيفة الثقيلة, وهذا عطاء الله ورزقه, وكما قال سقراط: الكلام اللطيف ينبو عن الفهم الكثيف, وانظر إلى ابن تيمية إذ كان لطيف المعاني بعيد المرامي رقيق الحواشي, وهو الذي لم يدع فضلة علم إلا رفع منارها, ولا دفينة معنى إلا أظهرها وأثارها وأجلاها, إلا ما شاء الله, ثم نراه قد اهتزّ رحمه الله مرّة وهو ينشد أبيات أبي فراس:

فليتَكَ تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنامُ غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خرابُ

إذا صحَّ منك الودُّ فالكل هيِّنٌ ... وكل الذي فوق التراب تراب

ثم قال: لا تنبغي هذه إلا لله, وأخرى حينما أنشد لأبي تمام:

هو البحر من أيِّ النواحي أتيتهُ ... فلجّتهُ المعروفُ والجودُ ساحلُه

تعوَّدَ بسطَ الكفِّ حتّى لو أنهُ ... ثناها لقبضٍ لم تطعهُ أناملُه

ولو أنَّ ما في كفّهِ غيرُ نفسهِ ... لجادَ بها فليتّقِ الله سائلُه

فقال: إنما هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

    نعم يا صاحبي فالأدب كالماء العذب النمير, يهذب النفوس النقيّة ويُرويها, أما النفوس الخبيثة فلا يزيدها إلا فحشاً, واسأل الحَبرَ البحرَ ابن عباس رضي الله عنهما, الذي كان يفتح بابه للسائلين عن الشعر, بل رويت عنه أخبار في روايته النسيب, ولي رجوع لهذا الحديث, فدعنا الآن مع مجنوننا العُذْرِيِّ, ومن بديع وصفه لليلى:

بيضاءُ خالصةَ البياضِ كأنَّها   ...   قمرٌ توسّط جنح ليل مبردِ

موسومةٌ بالحسنِ ذاتُ حواسدٍ   ...   إنَّ الجمال مظنَّةٌ للحُسَّدِ

وترى مدامِعَهَا ترقرق مقلة   ...   سوداء تُعربِ عن سواد الأثمدِ

   وقال أيضاً مستسلماً لجيش الحب:

وقد يُبتَلى قومٌ ولا كبليّتي   ...   ولا مثلَ وجدي في الشقاء بكم وجدُ

غزتني جنودُ الحبِّ من كل جانبٍ   ...   إذا حان من جند قفول أتى جندُ

    وسُئل يوماً وقد استفاق من جنونه: ما أحسن ما رأيت؟ قال: ليلى. فقيل له: ذلك معلومٌ, وإنما نعني غيرها. فقال: ما رأيت شيئاً وذكرتها إلا سقط من عيني, إلا ظبياً رأيتُه يوماً فذكرت ليلى, فزاد في عيني حسناً, فانطلقت أعدوا خلفه حتى ملّت رجلاي وغاب عن عيني, فأخذت راحتي ثم انطلقت حتى وجدتُه وقد فتك به ذئبٌ, فأخذت سهماً وضربت به الذئبَ فلم يُخْطِ قلبه, فشققت بطنه وأخرجت ما أكل فضممته إلى ما بقي من الظبي فدفنته.

   ويا صاحبي إن قلتَ: هذا تعسّف, قلتُ لك: إليك عنّي فدعني في ما يقال مما أُحِبّ, ولو توقفنا عند تحقيق الأخبار لحُرِمْنَا كثيراً من المُتعِ المباحة.

    ولما دسّ أبوه إليه من يزعم أن ليلى تشتمه وتتنقصه أنشد على البديهة:

تمرُّ الصَّبا صفحاً بساكن ذي الغضا   ...   ويصدعُ قلبي أن يهبَّ هبوبُهَا

إذا هبَّتْ الريحُ الشمال فإنها   ...   جوابي بما يُهدي إلي جنوبُهَا

قريبةُ عهد بالحبيب وإنما   ...   هوى كلُّ نفس حيث كان حبيبُهَا

وحسب الليالي إن طرحنك مطرحاً   ...   بدارِ قِلًى تُمسي وأنت غريبُهَا

حلالٌ لليلى شَتمُنَا وانتقاصُنَا   ...   هنيئاً ومغفوراً لليلى ذنوبهَا

    ثم سكت صاحبي هنيهة كأنما يتذكر صورةً ويسترجعها أمامه ويملأ بصره من وحي ذكراها, وقد انقشعت تلك السحابة العَجلى. ومع هدأة السكون سمعنا خريراً ليس بالبعيد عنا, فمشينا نحوه وإذ هو لجدولٍ صغير ينحدر من علو الهضبة بين صخرتين, فصار شلّالاً رائعاً فتذكرت قول الشاعر:

أُكَاتِمُ لوعات الهوى ويُبينها   ...   تَخَلُّلُ ماءِ الشَّوقِ بين جفوني

     ومع انعكاس نور البدر خلاله؛ صار بعيني كعقد لؤلؤٍ على جيد عروس حسناء, فإذا جدولٌ آخر على البعد أكبر منه, فسرنا إليه وإذ هو يتقصَّفُ من الهضبة فيثور الماء في رضراض الحصباء, التي هي أحسن من الدُّرِّ والعقيان في صدور النواهد الحسان, ثم يسحّ سلسالهُ من بين الصخور ويجتمع مع أمثاله فتشكّل سيلاً وسَطاً لا أدري أين ينتهي آخرُهُ. فوقف صاحبي على شطئه, ثم تنفس الصّعداء وقد انبلجت أساريره جذلاً, وأخذ ينكتُ الماء بعصاه منشداً أبيات المجنون بصوت عذب _ولا أدري ما سرّ العلاقة بين ندى الصوت وضخامة الأنف_ ويقول: لقد بكى قيس حينها شوقاً لا حزناً:

جرى السيلُ فاستبكاني السيلُ إذْ جرى   ...   وفاضت له من مقلتيَّ غروبُ

وما ذاك إلا حين أيقنتُ أنَّه   ...   يكون بوادٍ أنت منه قريبُ

يكونُ أُجاجاً دونكم فإذا انتهى   ...   إليكم تلقّى طيبكم فيطيبُ

فيا ساكني أطراف نخلةَ كلّكم   ...   إلى القلب من أجل الحبيبِ حبيبُ

وإن الكثيبَ الفرد من أيمنِ الحِمَى   ...   إليّ وإن لم آته لحبيبُ

    ثم التفت إلي وقال: أتلومني في تفضيل نسيبه بعد هذه المقطوعة الجذلى الحانية؟! أو إلى تلك الباكية:

إلى الله أشكو حبَّ ليلى كما شكا   ...   إلى الله فقدَ الوالدينِ يتيمُ

يتيمٌ جفاهُ الأقربون فعظمهُ   ...   كسيرٌ وفقد الوالدينِ عظيمُ

  أو تلك الصادقة:

وكيف أعزِّي النفسَ بعد فراقِها  ...   وقد ضاق بالكتمان من حُبِّهَا صدري

فو الله واللهِ العزيزِ مكانهُ  ...   لقد كاد روحي أن يزول بلا أمري

خليليَّ مُرَّا بعد موتي بتربتي   ...   وقولا لليلى ذا قتيلٌ من الهجرِ

  ومثلها قوله:

تعلّقَ روحِي روحَها قبلَ خلْقِنا   ...   ومن بعدِ أن كنَّا نطافاً وفي المهدِ

فعاش كما عِشنا فأصبح نامياً   ...   وليس وإن متنا بمنقصفِ العهدِ

ولكنَّهُ باقٍ على كلِّ حالةٍ   ...   وسائرنا في ظلمة القبرِ واللحدِ

     ومرَّ شاعرُنا بزوج ليلى وهو جالس يصطلي في يومٍ شاتٍ, فوقف عليه ثم أنشأ يقول_ولا ألومه إذ حسده_:

بِربِّك هل ضَمَمْتَ إليكَ لَيلَى   ...   قُبيلَ الصبح أو قَبَّلْتَ فاها

وهل رَفَّتْ عليك قُرونُ ليلى   ...   رَفِيفَ الأُقْحُوانة في نَدَاها

     فقال: اللهم إذ حلفتني فنعم. فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر فما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه, وسقط الجمر مع لحم راحتيه! وعضَّ على شفته فقطعها من الغمِّ! فقام زوج ليلى مغموماً بفعله, متعجبّاً منه.

   وقال مخاطباً النسيم, وتذوَّقْ جوعتَهُ:

ألا يا نسيمَ الريحِ لوْ أنّ واحداً   ...   منَ الناسِ يُبْلِيهِ الهوى لبلِيتُ

فلوْ خُلِطَ السُّمُّ الزّعافُ بريقِها   ...   تَمَصَّصْتُ منه نهلةً وروِيتُ

وانظر إلى استسلامه لقياد الهوى, عائذاً بالله من الهوى:

ألا قاتلَ اللهُ الهوى ما أشدّه   ...   وأسرعه للمرء وهو جليدُ

دعاني الهوى من نحوها فأجبتهُ   ...   فأصبحَ بي يستنّ حيث يريدُ

    ويا لله ما أجمل هذا الخيال...والوفاء!:

تكادُ يدي تَنْدَى إذا ما لمستها   ...   وينبتُ في أطرافِهَا الورقُ الخضرُ

فيا حبَّذا الأحياءُ ما دمتَ فيهم   ...   يا حبذا الأمواتُ إن ضمَّك القبرُ

وإني لتعروني لذكراك نفضةٌ  ...   كما انتفضَ العصفورُ بلَّلَهُ القطرُ

   وقال نشوانَ هائماً:

لقد بسملتْ ليلى غداةَ لقيتُها   ...   فيا حبَّذا ذاك الحبيبُ المبسملُ

    قلت له: ما أرهف حسّك وأدقَّ فهمك حين ألقيتَ عليَّ هذه الروائع, فقال: خذ الخاتمة المسكيّة يا ذا الجوى القديم:

    فبعد نثري لتلك الدرر المجنونيّة أقول: أما قصيدته الموسومة بالمؤنسة فهي نسيج وحدها, وهي أطول وألطف وأجمل وأعذب وأسلس أشعاره, وفيها للمحزونين راحة وأُنساً, وكان المجنون كثيراً ما يُنشدها إذا خلا بنفسه, ولو لم يقل غيرها لكفته للنسيب أميراً وسيِّداً, فرحمة الله عليه لكم أشجاني بها وسلّاني, لولا هنّاتٌ فيها من الاعتراض والخبل, ولكنه المجنون والجنون عفوٌ يا سادة! وقد تنسَّم منها نسيمُ مرثيةِ ابن الريب التميمي وأكرمْ بها! واسأل ابن الجوزي وابن القيم ما فعلت بهما هذه الأبيات؟!

يُبكى علينا ولا نبكي على أحدٍ  ...  لنحنُ أغلظَ اكباداً من الإبلِ

    وهذه قطعةٌ منها, فهل أنت مصغ؟ قلت: كلّي أذن صاغيةٌ ونفسٌ مشتاقة, فتنحنح ليصفّي صوته, ثم صدح بها بترنّمٍ شجيٍّ حزين, ودموعه تترقرق من آماقها فيتهدّجُ صوته الرخيم:

تذكرت ليلى والسنينَ الخواليا   ...   وأيامَ لا أعدى على الدهرِ عادِيا

فيا ليلُ كم من حاجةٍ لي مُهَمَّةٍ   ...   إذا جئتكم بالليل لم أدر ما هيا

خليليّ إن لا تَبْكياني أَلْتَمِسْ   ...   خليلاً إذا أنزفتُ دمعي بكا ليا

فَمَا أُشْرِفَ الأيفاعَ إلا صبابةً   ...   ولا أُنشدُ الأشعار إلا تداويا

وقد يجمعُ الله الشتيتينِ بعدما   ...   يظنّان كلَّ الظنِّ أن  لا تلاقيا

وعهدي بليلى وهي ذات مؤصَّدٍ   ...   تردُّ علينا بالعشيّ المواشيا

بتمرينَ لاحتْ نار ليلى وصحبتي   ...   بقرع العصا تُزجي المطيَّ الحوافيا

فقال بصيرُ القوم لمحةُ كوكبٍ   ...   بدا في سواد الليل من ذي يمانيا

فقلت لهم بل نارُ ليلى توقَّدتْ   ...   بعليا تَسَامَى ضوءُها فبدَا ليا

خليليَّ لا والله لا أملك الذي   ...   قضى اللهُ في ليلى ولا ما قضى ليا

قضاها لغيري وابتلاني بحبِّها   ...   فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا

وخَبَّرْتُمَانِي أنَّ تيماءَ منزلٌ   ...   لليلى إذا ما الصيفُ ألقى المراسيا

فهذي شهورُ الصيفِ عنَّا قد انقضت   ...   فما للنوى تَرْمِي بليلى المراميا

وقد كنت أعلو حُبَّ ليلى فلم يزل   ...   بي النقض والإبرام حتى علانيا

فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينها   ...   يكون كفافاً لا عليَّ ولا ليا

فما طلع النجمُ الذي يُهتدى به   ...   ولا الصبح إلا هيَّجَا ذِكْرَها ليا

ولا سرت ميلاً من دمشقٍ ولا بدا   ...   سهيلٌ لأهل الشام إلا بدا ليا

ولا سُمِّيتْ لها عندي من سُمَيَّةٍ   ...   من الناس إلا بَلَّ دمعي ردائيا

ولا هبّت الريح الجنوبُ لأرضها   ...   من الليل إلا بِتُّ للريح حانيا

فإن تمنعوا ليلى وتحموا بلادها   ...   عليّ فلن تحموا عليّ القوافيا

فأشهد عند الله أني أُحِبُّها   ...   فهذا لها عندي فما عندها ليا

قضى الله بالمعروفِ منها لغيرِنا   ...   وبالشوقِ مني والغرام قضى ليا

وإن الذي أَمَّلت يا أُمَّ مالكٍ   ...   أشاب قَذَالِي واستهام فؤاديا

أَعُدُّ الليالي ليلةً بعد ليلةٍ   ...   وقد عِشْتُ دهراً لا أعدُّ اللياليا

وأخرجُ من بين البيوت لعلّني   ...   أحدّثُ عنكِ النفسَ بالسّرِّ خاليا

وإنّي لأستغشي وما بي نعسةٌ   ...   لعلّ خيالاً منكِ يلقى خياليا

أراني إذا صليتُ يمّمتُ نحوَهَا   ...   بوجهي وإن كان المصلَّى ورائيا

وما بي إشراكٌ ولكن حبّها   ...   وعظم الجوى أعيى الطبيب المداويا

أُحِبُّ من الأسماء ما وافق اسمَهَا   ...   وأشبَهَهُ أو كان منه مُدانيا

خليليَّ ما أرجو من العيش بعدما   ...   أرى حاجتي تشرى ولا تُشترى ليا

إذا سرتُ في الأرض الفضاء رأيتني   ...   أُنازِعُ رحلي أن يميلَ حياليا

يمينا إذا كانت يميناً وإن تكن   ...   شمالاً ينازعني الهوى عن شماليا

إذا نحنُ أدلجنا وأنتِ أَمَامَنا   ...   كفى لمطايانا بذكراكِ حاديا

ذَكَتْ نارُ شوقي في فؤادي فأصبحتْ   ...   لها وَهَجٌ مستضرمٌ في فؤاديا

ألا أيها الركبُ اليمانُونَ عرّجوا   ...   علينا فقد أمسى هوانا يمانيا

أُسائِلُكُمْ هل سال نَعْمَانُ بعدَنا    ...   وحُبَّ إلينا بطن نعمان واديا

ألا يا حَمَامَيْ بطنِ نعْمانَ هِجْتُمَا   ...   عليّ الهوى لمّا تغنّيتُما ليا

وأبكيتُماني وسْطَ صحبيْ ولم أكُنْ   ...   أُبالي دُموعَ العينِ لو كنتُ خاليا

ألا يا حَمَامَاتِ العراق أَعِنَّنِي   ...   على شّجّنِي وابكين مثل بُكَائِيا

ويا أيّها القُمْرِيّتَانِ تجاوَبَا   ...   بلحنيْكُما ثمّ اسْجعَا عَلّانِيا

فإن أنتُما استطربْتُمَا أو أَرَدْتُمَا   ...   لَحَاقاً بأَطْلالِ الغَضَى فاتبعانِيا

لئن ظعنَ الأحبابُ يا أُمَّ مالكٍ   ...   فما ظعن الحُبُّ الذي في فؤاديا

فيا ربِّ إذ صيَّرت ليلى هي المُنَى   ...   فزِنِّي بعينيها كما زِنْتَهَا ليا

وإلا فبغِّضْهَا إليَّ وأهلَها   ...   فإنِّي بليلى قد لقيتُ الدَّواهيا

على مثل ليلى يقتلُ المرءُ نفسَهُ   ...   وإن كنت من ليلى على اليأسِ طاويا

خليليَّ إن ضَنّوا بليلى فقرّبا   ...   لي النعش والأكفان واستغفرا ليا

وكان آخر أمره أن وجد بين حجرين ميتاً, رحمه الله.

 

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

*****