إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الجمعة، 20 سبتمبر 2024

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ (3) إذَا هَمَّ ألقَى بين عينيه عزمَهُ

 

سلسلة مقالات: وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الشَّتِيْتَيْنِ

(3)

إذَا هَمَّ ألقَى بين عينيه عزمَهُ

 

أقرب وألطف ما في الدنيا للرجل هي الأنثى, فقد خُلِقَ ليسكن إليها وتسكن إليه, وجعلَ اللهُ بينهما المودة والرحمة, كلاهما شجنةٌ من صاحبه, يحنّ إليها حنين النيب إلى أولادها, والحمائم إلى أفراخها. ذلك أن في فؤاده فراغاً لا تسُدُّهُ إلا الحنون, واشقاءً وأسىً لمن حُرم الحنون!

    ألقينا الوجهة شمالاً فضربنا بطن الصّمان المارد, ولإطارات السيارة أنينٌ من حيوفِ الأحجار, تطردنا سحابة من غبار كأنها ذئب منعطف على طريدته. حتى أشرفنا على ماءٍ كأنه مرآة السماء وسط أرج الربيع,  وأَجْمِلْ بالربيع إذا تفتّق في ظهر البيداء!

    نزلنا إلى ظلِّ دوحة راكع طرفها إلى الماء, قد أرسلت فوقنا غصنين كأنهما جديلي حسناء. قعدنا على حجر نصفه في الماء نلقي صغار الحصا على صفحة الماء رمياً باحتراف, حيث تُدار الحصاة المسطّحة وتقذفُ بشكلٍ سطحي بحيث تنفر من الماء مع أول ملامسة, ومن أبعد حصاته أكثر فقد غلب صاحبه.

    أوّاه, ما أجمل ذلك الماء للمتأمل الساكن, خاصة مع لذعٍ لطيفٍ من برد الصباح النوفمبري, ماءٌ إذا مسّته يد النسيم حكى سلاسل الفضة, وإذا صافحته راحة الريح تماوج كارتعاش القلب الرهيف إذا مسه خيال خلّه، يسقيه جدول يمشي على الرضراض كأنه دموع من عيونٍ مراض، قد ترقرقت فيه دموع السحائب التي لا تجف جفونها ولا يخف أنينها.

    بادرْتُ القهوة, فجئت بثلاث أثافي رصَصْتُها على شكل مثلث, وتخيّرت رقيق العيدان, وجعلت تحتها الإذخر, وهو ما تسميه العامّة السّاف, وهو حشيش سريع الاشتعال, طيب النكهة, عبق الريح, فيه من نَفَس العطور المشرقيّة, ولربما جعله بعض الهواة بديلاً عن النعناع في الشاي. حتى إذا نفخْتُ الرّمث بعد إيقاد الإذخر علقت النار بها ولها أرجٌ لذيذ جمع بين خشونة الرمث الكلاسيكية ونعومة الإذخر الرومنسية! فأصبح المزيج مضاهياً لعود كمبوديا ودهن خشب مليبار.

    جئتُ صاحبي بالبُنِّ العذب في الرسلانية المربوبة حديثاً, معها تمر خلاص في صفاء الزجاجة, حتى أنك لترى القطمير في النواة من خلاله, كأنه زجاجة عسل السّدر. والتفتنا على صوت رعد بعيد وشِمنا برقه فإذا سحاب ركاميّ كأنه الليل جهة الجنوب, ألا ما أجمل البرق وأروعه! وصدق كلثوم بن عمرو العتابي إذ قال:

أرقتُ للبرقِ يخبو ثم يأتلقُ   ...   يخفيه طوراً وبيديه لنا الأفقُ

كأنهُ غُرَّةٌ بيضاءُ لامعةٌ   ...   في وجهِ دهماءَ ما في جِلْدِها بَلَقُ

    والبرق يضرب الأرض كأنه سياط فارسين شرسين جَلْدَينِ متقاربين على وشك الوصول لخط المنتهى, وأحياناً يرتفع البرق وينكفئ على سحابته فتضيء تارة كالمصباح في الزجاجة القاتمة, وحيناً يظهر متشعّباً على أطرافها كأنه عروقٌ ناتئة في يد هرم نحيل. وريح الجنوب تسمّى الأَزِيب, وأجمِل بما أنشده إسحاق الموصلي:

يا حبَّذا ريحُ الجنوبِ إذا جَرَتْ   ...   في الصبحِ وهي ضعيفةُ الأنفاسِ

قدْ حُمِّلتْ بَرْدَ الندى وتحمَّلتْ   ...   عَبَقاً من الجَثْجاث والبَسْباسِ

ماذا يَهيج من الصَّبابةِ والهوى   ...   للصَّبِّ بعد ذهولهِ والياسِ

    وفي اليوم التالي ومع هنيهات الصباح الأولى, والطيور لا زالت جاثمة في أوكارها, تدفئُ صغارَها بزغبها من برد السَّحَر الرطيب, رشفَ صاحبي رشفات من قهوة الصباح, وهو يتأمل زهر الخُزَامَى البنفسجي الذي ضَاعَ نشْرُه, وقد نبت على رَمْلَةٍ ذهبية مستدقَّةٍ جانب الماء, كأنها قلادة لجينٍ على جيد غيداء ناهد, قد أوفتهما العجاج هذا المكان وليس لهما بمنزل. والخزامى يتمايل مع النسيم كتمايل الثمل النشوان أمام صفيّه الخالص. وليس في نجد زهرة أطيب نفحاً من الخزامى, ولا يطوي عَرْفٌ نَشْرَ الخزامى. فرشف ثم قال:

    لَنَجْد العذيّة أحقّ من الكوفة بقول الشعبي: كأن ظهر الكوفة خدُّ العذراء، يُنبت الخُزامي والشيح والأقحوان وشقائق النُعمان كثير العُشب. قلت: وكذلك النّفَل وهو طيَّبُ النفحِ رقيقُه. ومرّ النعمان بن المنذر بزهور الشقائق فأعجبته، فقال: من نزع منها فانزعوا كَتِفه, فسميت شقائق النعمان.

     قلت: الكوفة قد تُعَدُّ امتداداً لنجدٍ في صحرائها وهوائها, فهي لنجد بمثابة الناصية, وقد راعى الصحابة الكرام ذلك لمّا اختطوها حتى لا يختلف عليهم هواؤها اللطيف بهواء السواد الكثيف. قال: لعلّه.

    ثم أتممت قائلاً: ونجدُ تنخفض تدريجياً من الغرب إلى الشرق. وقد سُمّي الجزء الجنوبي المرتفع والمحاذي لجبال الحجاز تاريخياً باسم العالية أو عالية نجد, بينما تسمى الأرجاء الشمالية المتاخمة للعراق نجد السفلى. قال الأصمعي: نجدٌ اسمان: السافلة والعالية؛ فالسافلة ما ولي العراق، والعالية ما ولي الحجاز وتهامة.

سرى البرقُ من نحو الحجاز فشاقني   ...   وكل حجازي له البرق شائقُ

    ثم قام صاحبي إلى الخزامى فاقتطف منها زهراً جعله بين أذنيه وفي جيب ثوبه الأعلى لينعم بأرجها من قريب. قلت: ما بالك شتَّتَّ شملهن, وقطعت آصرتهنّ؟ قال: أحب أن أرى دمع الوداع الزهري, وتمثّل ببيت ابن رزيق:

ودَّعْتُهُ وبِودِّي لو يودعني   ...   طيب الحياة واني لا أودِّعُهُ

    ثم قرّب منها زهراتٍ لخيشومه, وللزهرِ ندى يَبَضُّ الماء, ويضوع الهواء بنفحٍ لطيف. وهو يقول: هل أسمعك شيئاً من احتفاء العرب بالخزامى. ثم تابع ولم ينتظر جوابي لعلمه السالف بمحبتي لتلك الأحاديث:  قال امرؤ القيس:

كأن المُدَامَ وصَوْبَ الغَمَام   ...   وريحَ الخزامى ونشْرَ القطر

يعلّ به بَرْدُ أنيابِها   ...    إذا غرَّدَ الطائرُ المستحر

    وأُنشِد بين يدي هارون الرشيد شعر يحيى بن طالب:

ألا هَلْ إلى شَمِّ الخُزَامَى وَنَظْرَةٍ   ...   إلى قَرْقَرَى قَبْلَ المَمَاتِ سَبِيلُ

فأشرَبَ مِنْ مَاءِ الحُجَيلاءِ شَرْبَةً   ...   يُدَاوَى بهَا قَبْلَ المَمَاتِ عَلِيلُ

أُحَدِّثُ عنكِ النفسَ أن لَستُ رَاجِعاً   ...   إليكِ فَحُزْني في الفُؤادِ دَخِيلُ

أُرِيدُ هُبُوطاً نَحْوَكُمْ فَيَرُدّني   ...    إذا رُمْتُهُ دَيْنٌ عَليّ ثَقِيلُ

   فقال هارون الرشيد: يُقضَى دينُه، فطُلِبَ فإذا هو قد مات قبل ذلك بشهرٍ. وقال الأحوص الأنصاري:

كأنَّ ذكيَّ المسكِ تحتَ ثيابِها ... وريحَ الخُزامى ظَلَّةً تنضحُ الندى

   ولحسين بن مطيرٍ الأسدي, ومعانيه هنا أرفع من عبارته:

لقد كنت جلداً قبل أن تُوقِدَ النَّوى   ...   على كبدي ناراً بطيئاً خمودُها

ولو تُرتكت نار الهوى لتصرَّمت   ...   ولكنَّ شوقاً كل يومٍ وقودُها

وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي   ...   إذا قَدُمَتْ أيامُها وعهودُها

بمُرتجّة الأردافِ هيفٌ خصورها ... عذابٌ ثناياها عجافٌ قيودُها

وصفرٌ تراقيها وحمرٌ أكفُّهَا ... وسودٌ نواصيها وبيضٌ خدودُها

مخصّرةُ الأوساط زانت عقودَها ... بأحسن مما زيَّنتَها عقودُها

يُمَنِّيننا حتى ترفّ قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طَلٌّ يجودُها

وفيهن مِقلاقُ الوشاح كأنَّها ... مهاةٌ بتُرْبَانٍ طويلٌ عمودُها

وكنت أذود العين أن تَرِدَ البُكا ... فقد وردت ما كنتُ عنه أذودها

هل الله عافٍ عن ذنوبٍ تسلّفت ... أم الله إن لم يعْفُ عنها معيدُها

    ولأمير الشعراء حقاً جرير:

لها مثلُ لَوْنِ البَدْرِ في لَيلَة ِ الدُّجى   ...   وَرِيحُ الخُزَامى في دِمَاثٍ مُسَهَّلِ

    وقال أبو الفضل الدارمي: 

تذكَّرَ نجداً والحمى فبكى وجداً   ...   وقال سقى الله الحِمَى وسقى نجداً

وحيَّتْهُ أنفاس الخُزامى عشيَّة   ...   فهاجت إلى الوجد القديم به وجداً

فأظهَرَ سلواناً وأضمر لوعةً   ...   إذا طفئت نيرانها وَقَدَتْ وقداً

ولو أنه أعطى الصبابةَ حكمَهَا   ...   لأبدى الذي أخفى وأخفى الذي أبدى

    وأنشد ابن الزقاق البلنْسِي أبياتاً غنائية راقصة, ولطالما تميّز بها وبموشحاتها الأندلسيون, قال ولم تلهيه زخارف ربيعها الأندلسية عن ربوع نجد:

وفتيانٍ مصاليتٍ كرامِ   ...   مدربة على خوض الظلامِ

وقد خفقَ النعاسُ بهمْ فمالوا   ...   به مَيْلَ النزيفِ من المُدامِ

وكل نجيبةٍ هوجاء تهفو   ...   سوابقها بإرخاء الزِّمامِ

سريتُ بهم وللظلماء سجفٌ   ...   يُمزِّقه ببارقة حسامي

أجرُّ ذوابلي من أرض نجدٍ   ...   خلالَ مَجَرِّ أذيال الغمامِ

على ميثاءَ رفَّ بها الخزامى   ...   وأضحى الزهرُ مفضوض الخِتَامِ

تلفُّ غصونها ريحٌ بليلٌ   ...   فينعتق الأراكُ مع البشامِ

ألا يا صاحبيَّ استروِحَاها   ...   شآمية ً فمن أهوى شآمي

عسى نَفَسُ النّعامى بعد وَهْنٍ   ...   يبشِّرُ من سليمى بالسلامِ

    وصدح الشاعر الذي لم يُعط حقه من الإشادة بشاعريته وهو الشريف المرتضى, وهذه من عيون شعره وتفيض بأسلوب العربِ الأُوَلِ في الجزالةِ, وختلِ الأوصاف, واختلاس المشاعر:

خَليليَّ من فرعيْ مَعَدٍّ تأمّلا   ...   بعينيكُما بَرْقاً أضاءَ يمانِيا

كما قلَّبَتْ خَرْقاءُ في غَبَشِ الدُّجَى   ...   ذراعاً شُعاعِيَّ المعاصِمِ حاليا

هَفا ثُمَّتَ استخفى فقلتُ لصاحبي   ...   ألا هلْ أراك البرقُ ما قد أرانيا

تبسَّمَ عن وادي الخُزامَى وميضُهُ   ...   وخالسَ عينيِّ الحِمى والمطاليا

وضرَّمَ ما بيني وبينَ مَتالعٍ   ...   فأبصرتُ أشخاصَ الخيامِ كما هيا

أضاءَ القصورَ البيضَ من جانبِ الحمى   ...   فقلتُ أثَغْراً ما أرى أمْ أقاحيا

وأقبل يشتقّ الغمامَ كأنّما   ...   يزاحمُ بالبيداءِ كوماً متاليا

تَراغَيْن لمّا أنْ دعاهُنَّ حالبٌ   ...   وأرسلنَ بالإبساسِ أبيضَ صافيا

أقولُ وقد والَى عليَّ وميضَه   ...   ألا ما لهذا البرقِ صَحْبي ومالِيا

يشوّقنى منْ ليس يشتاق رؤيتى   ...   ويذكرنى منْ ليس عنّيَ راضيا

وما ذاكَ عن جُرْمٍ ولكنْ بدأتُهُ   ...   بصَفْوِ ودادٍ لم يكنْ عنه جازيا

ديارٌ وأحبابٌ إذا ما ذكرتُهمْ   ...   شَجِيتُ ولم أمِلكْ دموعي هوامِيا

أوانسُ إنْ نازَعْنَنا القولَ ساعة ً   ...   نثرن على الأسماعِ منه لآليا

ويُحْسَبْنَ من حُسنٍ بهنَّ وزينة ٍ  ...   على أنَّهنّ عاطِلاتٌ حَواليا

    أما البحتري الطائي مالك زمام الوصف بلا منازع, فقد قال _وتلمَّحِ الندى يقطر من ثنايا أبياته_:

فُؤَادٌ مَلاهُ الحُزنُ حتَّى تَصدَّعا   ...   وعَينانِ قال الشَّوقُ جُودَا معاً مَعَا

لِمن طَللٌ جرَّتْ به الريحُ  ذَيْلهاَ   ...   وحنَّتْ عِشارُ المُزنِ فيهِ فأَمرعا

لِلَيْلاكَ إِذ ليْلى تُعِلُّكَ رِيقَهَا   ...   وتَسقيكَ من فيها الرَّحيقَ المُشَعشعا

كأنَّ بهِ التُّفَّاح غَضَّا جنيْتُهُ   ...   ونشْرَ الخُزامَى في الصبَّاح تَضَوَّعا

وهَيَّجَ شوقِي سَاق حُرٍّ أَجابَهُ   ...   هديلٌ علَى غُضْنٍ مِنْ الْباَنِ أفْرَغَا

يُقلِّبُ عَيْنَيْهِ ويوحِي بطَرْفِهِ   ...   إِلى بلحْنٍ يَتْركُ القَلبَ موجعَا

إِذا ما الغَضا يوْماً ترَنَّمَ فرْعُهُ   ...   وحَنَّتْ له الأَرواحُ غَنَّى فأّسمعا

طوتْنِي بَنَاتُ الدَّهر من كُلٍّ جَانِبٍ   ...   وللدَّهر وَقعٌ يترُكُ الرَّأَسَ بلْقَعا

وَقَد كُنتُ وقَّاد الشَّعيلَةِ شارِخاً   ...   أَحدَّ مِن العَضْبِ الحُسام وأَقْطَعا

فأَصْبَحْتُ كالرَّيْحانِ أَذْبلهُ الظَّما   ...   وودَّعْتُ رَيعانَ الشَّبابِ فودَّعا

    قلت: قد أجدت يا عاشق الجمال الفاخر, والحسن الباذخ. قال: لئن قلتَها ملاطفةً لقد صدقتَ لأن عشق الجميلة الأديبة يُثمر الأدب الرفيع, وقد كلفت بصبيّة في سالفِ زماني, حين كان  غُصنُ الشباب رطيب, ورداء الحداثة قشيب, ولم أعقل أنّ وراء الغيب أقفال!

        لا أرى حسن النساء إلا فيها, قد جمع الله في جسدها وروحها ما فرّقه في الغواني, ولا أحسب إلا أنها قطعة من الحور العين! قلت: يا هَنَاه حسبك, أَهَبِلْت؟!

   فوضع يده على قلبه وقال: معاذ الله أن أقصد عصياناً أو طغياناً, لكنه حال المُدْنفين إذا طرأ عليهم من يحبون!

إذا لعب الرجال بكل شيءٍ   ...    رأيت الحبَّ يلعب بالرجالِ

     وإنه ليتراءى بين ناظِريَّ مجنون ليلى أحياناً وإخاله يتبسّم! وإني واصفُها لك فاحكم فيّ يا صفيّ الفؤاد. فأنت مني كما قال الأول: إن كان إخوان الثقة كثيراً؛ فأنت أوَّلهم, وإن كانوا قليلاً؛ فأنت أوثقهم, وإن كانوا واحداً؛ فأنت هو.

    قلت جَذِلاً: يا صاحباه, إني لرؤيتك وحديثك لأطرب من الإبل على الحداء, والثَّمل على الغناء, وإذْ سافرنا في المودّة وبلغنا دارها؛ فقد أَمِنَّا خبايا الضمائر, فحللنا عقد التحفظ في الكلام, ونزعنا ملابس التكلّف في المقال. يا صاحبي قل ما تريد وبُحْ به, فإني لبوحك بالأشواق, والهمّ إذا فرّق بين اثنين خف حِمله, وقد صرنا ثلاثة! فنفّس وبُثَّ شجنك, فليس في الصديق خير إن لم يوجَد وقت الضيق, قل ولا تتتعتع ولا تُقصِر, ففصاحة الشكوى على قدر البلوى, وليس في الشاكي انقباض, ولا بالمشكو إليه إعراض, قُلْ قبل أن لا تَقُلْ, وبُحْ لي بسرك حتى تنشط من عقالك فالصَّدْرُ إذا نَفَثَ برأ، ولابد من شكوى إذا لم يكن صبرُ. وكما أُنشد:

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ  ...  يُواسيك أو يُسْلِيكَ أو يَتَوَجَّعُ

    ومن مقولي:

كفكفي الدمعَ يا عينُ فقد ... حَرَّقَ الخَدَّينِ سَيلُكِ الدفّاقْ

بَضَّتِ الدَّمعةُ كالطَّلِّ وقالتْ ... هَبْنِي كففتُ فكيفَ بالخفّاقْ

       نعم, إن استطعت أن تكتمَ شكواك عن غير مولاك فحسن, كما قال الأول:

وإذا عَرَتْكَ بليّةٌ فاصبرْ لها   ...   صَبْرَ الكريمِ فإنَّهُ بكَ أعلمُ

وإذا شَكوتَ إلى ابن آدم إنما   ...   تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ

    لكن إن خشيت التلف تعيّن على لسانك البوح دفعاً للهلكة, وحفظاً للبقية من العقل الشَّتيت. فلك يا صديقي نصيحة خالصة ومحبة راسخة, وإني لأرى أن قد غشيَكَ من ضَنَى الجَوَى كَمَدٌ وسقم, تحسُّ به في سويداء قلبك, بمثل دبيب النمل ولسع النحل. فجحظت عيناه من إصابة اللفظ لإحساسه الجريح, فتابعتُ مقولي: إيهٍ يا صاحبي, إنَّ لك دالة الصداقة عليّ, فاطّرِحِ الوقارَ والتكلّف, واسترسل على سجيتك في ذكر تفاصيل التفاصيل من قصّتك, علّها تبرد اللوعة, وتسكن الروعة, واعلم أن آخرَ عهدي بخبرك حين تنتهي من آخر حرف, فلا تخش تحفُّظاً أو إحفاظاً.

    وقد قال معاوية لعمرو بن العاص رضي الله عنهما: ما اللذة؟ قال: طرح المروءة. أي عند الثقة الذي لا تتحفّظ منه. وقال سليمان بن عبدالملك: ركبنا الفارِهَ ووطئنا الحسناء ولبسنا الناعم وأكلنا اللذيذ, فما وجدت أحب إلي من جليس أضع عنده مؤنة التحفظ. وقد قال هذا لخطورة الكلام من فم الخليفة.

    وقال المأمون: ما بقيت لي لذة إلا وجودُ أخٍ أضع بيني وبينه مؤنة التحفّظ. وقد قال الجاحظ معلّقاً: صدق عمرو, فما تكون الزَّماتةُ والوقار إلا بحِمْلٍ على النفس شديد, ورياضة متعبة.

    فأطرق صاحبي مليّاً ثم رفع رأسه, وباح من بين دموعه ونشيجه بأمورٍ لا تطيق حملها الجبال الرواسي. وذكر أقواماً لا ستروا له عيباً, ولا حفظوا له غيباً, ولا أقالوا له عثرة, ولا رحموا له عَبْرَة, مع أن له عذر قد سَحَبَ ذيلَه, وأرسل سيله. لكنها النفوس وما أدراك ما النفوس؟!

     فقمت فقبَّلْتُ ما بين عينيه, وقلت مواسياً: بالله لا تحمل همّاً فما في الدنيا مستراحٌ, ومن علم أن الآخرة هي الحيوان سَلَى, ولو تبخرت كل أحلامه ورحل كل أحبابه. فتنفّس ثم تبسَّمَ تبسُّمَ الحيران, ثم أنشد:

لعل انحدارَ الدمعِ يُعقبُ راحةً   ...   من الوجد أو يشفي نجيَّ البلابلِ

     على كلٍّ أيها الوفيّ, كنت قد وعدتك بأن أذكر تفصيل لوعتي وليس ذلك إلا بأن أصف محبوبتي, وَإِذْ فارَقَتِ الدُّنيا فعلَّامَ التحفّظ؟! والوعدُ سحابة, وإنجازه مطرها, ولعينيك ما يلقى الفؤاد المُعَذَّبَا!

     ثم أطرق بحنان, وأغمض عينيه, وخفض صوته كأنما يكلم محبوبته غائباً عن الزمان والمكان قائلاً: صاحبتي هي الأنثى بكل تجليّاتها وغموضها وأسرارها, الجمال الذي يمشي على قدمين, والرقة التي تطير على جناحين, والعقل الذي يزِنُ بلداً, والخُلُق الذي يكفي قبيلة, والعفاف الذي لو فرّق على الغواني لاستراح الرجال, والحياء الذي لو جُسِّد لغطّى السحائب, والصوت الحلو اللذيذ الرائق الذي لو سمعه البلبل لخجل من تغريده, والذوق البديع الذي يحكي لطافة الحس مع كثافة الحزم.

     حوريةٌ غانية حسناء, هيفاء لفّاء غيداء, حوراء نجلاء بيضاء, خالط بياضَها حمرةٌ فصارت زهراء, ذات ثدي ناعم ناهد, وقدّ ميّاسٍ مائد كأنه الخيزران في تعطُّفِهِ وتثنِّيه, أسيلةُ الخدِّ صافية الجبين, لها طَرْفٌ أدعج, وثغرٌ مفلّج, رُوحُها أرقّ من نسائم السَّحر, ذاتُ قَدٍّ تنافست فيه تفاحتان زهراوان, كأن واحدتهما حُقُّ عاجٍ, لؤلؤةٌ رُصِّعتْ بياقوت,, شذاها أرقُّ من لطيف الهواء, وجلدها أصفى من قراح الماء, ووجهها أبهى من بدر السماء, صبوحةُ الوجه, وضيئة البشرة, جميلة الأنف, حلوة العينين, مليحة الفم, ظريفة اللسان, رشيقة القوام, فاحمة الشعر, ساطعة النحر, مهضومة الخصر, لبقة الشمائل. قد جَمَعَتْ ما فرّقه ابن الأعرابي في قوله: العرب تقول: الملاحة في الفم, والحلاوة في العينين, والجمال في الأنف. وفوق ذلك جميلة الروح بحياء يلفُّهَا.

    جمالها أخّاذٌ بارع, وكلُّ جزء من قدّها يسبِّحُ بحمد من سَكَبَهَا في ذلك القالب البديع الساحر! ناعمةُ البشرة, لدنة المفاصل, لطيفة الكفين, ليّنة الأعطاف, نسمةٌ منعشة على قلبي المهيض, نَفَخَتِ الحياةَ في مواته برَوْحِها ورُوحِها, حتى ضَحَّيْتُ بما سواها من مُتَعِ الدنيا على مذبح حبّها. لو قَبِلَتْ مهجتي فديةً دون وعكة تجدها لجُدْتُ بها!

     حبيبتي, لها كتيبةُ حسنٍ لا يُقاوم, ولها صولةُ جمالٍ لا بقاء بعدها, وفوقَ ذلك هي شاعرة أديبة, دَيِّنَةٌ أريبة, رقيقةُ الحس مرهفة المشاعر, كلامها في النهاية من إشراقة ديباجة البيان, والغاية من رقة حاشية اللسان. لنحنُ أحق ببيتي كثيّر وصاحبته إذ يقول, ولعلّه أراد إبهامها باسم غيرها حتى لا تُعرف:

وكنتُ إذا ما جئتُ سُعْدَى بأرضها   ...   أرى الأرضَ تُطْوَى لي ويدنو بعيدُها

من الخَفِراتِ البِيضِ وَدّ جليسُها   ...   إذا ما انقضتْ أُحدوثةٌ لو تُعيدُها

    ومن ابن الرومي وصاحبته إذ قال:

وحديثُهَا السِّحرُ الحلالُ لو أنه   ...   لم يجنِ قتلِ المسلمِ المتحرِّزِ

إن طال لم يملل وإن هي أوجزتْ   ...   وَدَّ المحدَّث أنها لم توجزِ

    إيهاً يا كثيّر لله أبوك إذ قلت:

يقولون سوداءُ العيونِ مريضة   ...   فأقبلت من أهلي إليها أعودُهَا

فو اللّه ما أدري إذا أنا جئتُهَا ...   أَأُبرِئُها من دائها أم أزيدُهَا

إذا جئتُهَا وسط النساءِ منحتُهَا   ... صدوداً كأنَّ النفسَ ليس تُريدُهَا

ولي نظرة بعد الصدودِ من الجوى   ...  كنظرةِ ثكلى قد أُصيبَ وحيدُهَا

    ولقد غبطتُ إدريس بن أبي حفصة إذ يقول:

لها أحاديثُ من ذكراك تشغلُهَا   ...   عن الشرابِ وتُلهيها عن الزادِ

لها بوجهك نورٌ تستضيءُ به   ...   ومن حديثك في أعقابها حادِ

إذا شَكَتْ من كلال السيرِ أُوعِدُها   ...   رَوْحُ اللقاء فتحيا عند ميعادِ

     بادلتني بجوىً كجواي بل أشدّ, لكني على البوح لها أقدر, بيننا مشاكلةٌ في الأروح, تكتفي في عتابي باللمحة الضئيلة, وأكتفي منها في مثل ذلك بالإشارة القليلة، وربما تعاتبنا بالكناية كأننا نتحدث عن غيرنا فنكتفي بذاك المطمع, حتى في عتابنا ما نحن إلا مشتاقة تلقى مشوقاً..

    قد هُرِيقَ في لسان قلبها ماء الفصاحة, فلا يمجّ سمعي كلامَهَا, ولا تستأذن على قلبي معانيها وأوزانها, أدبها مستطرَفٌ, ورقَّةُ طبعها تالدة, قريبةُ القلب من اللسان, حديثُها الديباج الخسرواني, أحلى في نفسي وأشهى في سمعي مما سواها من كُلّ غِرِّيدٍ ومُغَنِّيَة.

    يا صديقي: أَمَا إن رؤية الحبيب وسماعه لتشفي الأحشاء من البُرَحَاءِ, وقد كانت صاحبتي على روحي كالرّاح المُعتّق والسُّلافِ المُعَبّق. بل هي سحر هاروت وماروت بيد أنه حلال!

ترى الدر منثوراً إذا ما تكلمت   ...   وكالدر منظوماً إذا لم تكلمِ

    هي من وجهها في صباح شامس, ومن شعرها في ليل دامس, كأنها فلقة قمر على برج فضة, طِفْلَةٌ طَفْلَةٌ, خُلقها وخَلقها كنسيم الأسحار, يتضوَّعُ منها المسك الأذفر, ويشرق منها الصبح الأنور, بدر التمّ يضيء تحت نقابها, وغصن البان يهتزُّ تحت ثيابها, فاترٌ طرفها, ساحرٌ لفظها, تأخذها العين وتكاد تشربها, ويقبلها القلب ويكاد يأكلها, جرى ماء الشباب في لين عودها, وأثمر ثمر الشباب عن ناعم نهودها, وجهها بماء الحسن مغسول, وريقها بصافي الشهد معسول, وطرْفُها بمرْوَد السِّحر مكحول, يترقرق ماء الجمال في خدِّها, وجوهر الرحيق بين سحْرِهَا ونحْرِهَا, حنونةٌ يتفجّر الحنان من أعطافها كالينبوع العذب السلسال.

     فروعُ هواها في فؤادي باسقة, وعروق دوحات محبتها بين أطباقه راسخة. إذا أصبحت أطلّت عليّ بوجه مشرقٍ كإشراق شمس الربيع المزهر, تناجي بعذوبةِ كلامٍ كعذوبة فِيهَا المُتَبَسِّم, يصبو إليها القلب والطّرْف, ويقطُرُ من مُحيّاها ماءُ الملاحة والظّرف, ثم لا تسلني إذا غنّتْ لي صباحاً بقيثارة غنجها: صباح النُّور والبلّور يا وجه السَّعْدِ والسُّرور..حينها تنقشع عن رأسي سحائب النوم وكتائب النعاس, ويصبح مزاجي من همومي صحواً, وترفع اليقظةُ السعيدة في صدري راية النصر والفرح, وتستفتح محبوبتي صباحي بوجهها المليح وثغرها الحسن. أهٍ, ثم آهٍ, سقى الله أيام الهنا لن تعودا! رعى الله ليال الهوى والسُّعُودا.

    ومن يقدر على ردِّ أمس؟ولمس عين الشمس؟ لَأَنَا لها أسرع من الشعاع لو كان, ولكن ما أنا اليوم إلا كقابض الهواء بكفِّه! ما لك ولي يا الصمّة القشيري إذ قلتَ:

قفا ودّعا نجداً ومن حَلَّ بالحِمَى   ...   وَقَلَّ لنجدٍ عندنا أن يُودَّعا

ولما رأيت البِشْرَ أعرضَ دونَنَا   ...    وجالتْ بناتُ الشوق يحننّ نُزَّعَا

تلفَّتُّ نحوَ الحيِّ حتى وجدتني   ...   وجعتُ من الإصغاء ليتاً وأخدعا

بكتْ عينيَ اليُمنى فلمّا زجرتُها   ...   عن الجهلِ بعد الحلمِ أسبلتا معا

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني   ...   على كبدي من خشيةٍ أن تصَدَّعا

فليستْ عَشِياتِ الحِمى برواجعٍ   ...   عليكَ ولكن خَلِّ عينك تدمَعا

    ثم وضع يمناه على كبده ثم انثنى متمثلاً بالقشيري, ثم أنشد لابن الرومي:

أُعَانِقُهُ والنَّفْسُ بعدُ مشوقة   ...   إليه وهل بعد العِنَاقِ تداني

وألثمُ فاهُ كي تزولَ حرارتي   ...   فيشتدّ ما ألقى من الهَيَمَانِ

ولم يكُ مقدار الذي بي من الهوى   ...   ليرويه ما ترشفُ الشَّفتانِ

كأن فؤادي ليس يشفي غليله   ...   سوى أن يُرى الروحان مجتمعانِ

   في قلبي قد ضرب الشوق لها كَلْكَلاً وجِرَاناً, ووَرَدَ الودُّ وصَدَرَ حتى ضرب بِعَطَنٍ. أحببت فيها حتى كبرياءها, وأحببت من أجلها حتى شقائي.

    يا رفيقُ, لقد مَدَّ الفراقُ علينا الرُّواق, وحَلَّ النِّطاق, ومزّق الأوراق, فأناخ الغمُّ بنوازله, واستقل الهم بأركانه, وأرسى الحزن بكلاكله, حتى تفاقم الأمر وعِيلَ الصبر, فالكرب لازم, والحزن دائم, والتنفسُ صُعُداً, ورغبة فيما لا يُدرك ولا يُحصى!

    وإني لأجد في قلبي لوعةً إن لم أبردها بعبرة خشيت أن تنصدع كبدي كمداً وأسفاً, فقد ودَّعتُها وعبراتي يتحدرن على المآقي, وزفراتي يتصعَّدْنَ من التراقي, وهذه خاتمة التلاقي!

     يا رفيقي, لقد عظمت الرزية حتى غاضت بوادر الدموع, وتتابعت الزفرات حتى أقامت حنايا الضلوع, وما اعتضت من بعدها إلا أَمْنُ المصائب لفقدها, بعد الأجر. وقد جعلت القلب للحزن ضريحاً, فدفنت فيه ما أثمر الغم الطويل صريحاً, واهاً من بُرَحاء الشوق! فاللهم رحماك يا أرحم الراحمين. إلهي خذ بيدي فقد عثرت, واستر عليّ فقد عريتُ. ولك الحمد على كل حال.

    فلمّا زفر صاحبي حُرقته التي كادت تذيب حصى الصوان من حوله؛ أردتُ أن أُخفِّفَ عليه بذكر أحاديث أُخَر, لكنه أشار إليّ وكأنما عرفَ ما هممتُ به قائلاً: بقيت في النفسِ عُلالات. اسمعها ثم شأنك بما سواها, قال الحارثي وتأمل عمق المعنى وصفاءه, ولهما بيتان يُغْنِيَان عن معلَّقةٍ مُذَهَّبَة:

إذا سَمِعَتْ باسم الفراقِ تَقَعْقَعَتْ   ...   مفاصلُها من هولِ ما تَتَحذَّرُ

وليسَ الذي يجري من العينِ ماؤُها   ...   ولكنَّها نفسٌ تذوبُ فتقطرُ

    وسأكفيك عناء تحويل دفّة الحديث, لكن نُجْعتي قريبة من مرابعه, فلذي الوزارتين ابن زيدون المخزومي القرطبي رائعة ماتعةٌ في ولّادة بنت المستكفي الأموية:

أضحى التنائي بديلاً من تدانينَا   ...   ونابَ عن طيبِ دنيانا تجافينا

أَلَا وقد حَان صبح الليل صبَّحَنَا   ...   حَيْنٌ فقام بِنَا للحين ناعينا

من مبلغ الملبسينا بانتزاحِهُمُ   ...   حُزْنًا مع الدهر لا يبلى ويُبلينا

أَنَّ الزَّمان الذي ما زال يُضحكُنا   ...   أُنْساً بقربهم قد عاد يُبكينا

غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا   ...   بأن نغصَّ فقال الدهر آمينا

فانحلَّ ما كان معقوداً بأنفسنا   ...   وانْبَتَّ ما كان موصولاً بأيدينا

بالأمس كُنَّا وما يُخشى تفرّقنا   ...   واليوم نحن وما يُرجى تلاقينا

كُنَّا نرى اليأس تُسلينا عوارضه   ...   وقد يئسنا فما لليأس يغرينا

بِنْتُمْ وَبِنَّا فما ابْتَلَّتْ جوانِحُنَا   ...   شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا

نكاد حين تناجيكم ضمائرُنا   ...   يَقضِي علينا الأسى لولا تأسِّينا

حالت لفقدكمُ أيامُنَا فغدتْ   ...   سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا

ليَسْقِ عهدكمُ عهدُ السرور فما   ...   كنتم لأرواحنا إلا رياحنا

لا تحسبوا نأيكمْ عَنَّا يُغَيِّرُنا   ...   إن طالما غيَّرَ النَّأْيُ المحبِّينا

واللهِ ما طلبت أهواؤُنا بدلاً   ...   منكم ولا انصرفتْ عنكم أمانينا

يا ساري البرقِ غادِ القصرَ فاسقِ به   ...   من كان صِرْفَ الهوى والودِّ يسقينا

واسأل هنالك هل عَنَّى تذكُّرنا   ...   إلفاً تذكّره أمسى يُعنِّينا

ويا نسيمَ الصَّبا بلِّغْ تحيَّتنا   ...   من لو على البعد حيَّا كان يُحْيِيِنَا

كأننا لم نبتْ والوصلُ ثالثُنا   ...   والسَّعْدُ قد غضَّ من أجفانِ واشينا

عليك منِّي سلامُ الله ما بقيتْ   ...   صبابةٌ بك نُخفيها وتُخفينا

    فقلت له: يا صاحبي لأنت حقيقٌ بسمطيّة علقمة بن عبَدَة الفحل إذ قال:

طَحَا بكَ قَلبٌ في الحِسان طروبُ  ...  بُعيْد الشَّبابِ عصرَ حانَ مشيبُ

تُكلِّفُني ليلَى وَقد شَطَّ ولْيُها  ...   وعادتْ عوادٍ بينَنا وخُطُوبُ

   أما وقد ذكرتَ هوَى ابنَ زيدون ولّادة, فثمّ ما يشبهه من الهوى المستخفي, وأعني به هوى المتنبي خولة أخت سيف الدولة الحمداني, إذْ  أضمر المتنبي حُبَّ خولة في حشاشته, فأبت الصَّبابة إلا ظهوراً من بين صدور الشعر وأعجازه, فقد قال مخاطباً معاتباً قلبه الكسير:

وأعلمُ أن البين يُشكيك بَعدَهُ   ...   فلستَ فؤادي إن رأيتك شاكيا

    لكن أبى الفؤاد إلا الافتضاح, إذ قال حين خرج من حلب خروجه الأخير مودّعاً:

رحلتُ فَكَمْ باكٍ بأجفانِ شادنٍ   ...   عليَّ وكم باكٍ بأجفان ضيغمِ

    ثم كانت آخر قصائده على الإطلاق في عضد الدولة, وأظنُّ طيف خولة لم يغب عن القصيدة, فحرارة المشاعر فاضحةٌ للأغطية, وسواء كانت على ظاهرها لأبي شجاع أم كان بعضها للمحبوبة, فهي بحق من درر الوداعيات, ولقد كان نافِثُها في الذروة القصوى والسنام الأعلى للمعنى واللفظ معاً حين صدح بها من بحره الطامي:

أرُوحُ وَقد خَتَمتَ على فُؤادي       ...   بحُبّكَ أنْ يحِلّ بهِ سِوَاكَا

وَقَد حَمّلْتَني شُكْراً طَوِيلاً    ...   ثَقِيلاً لا أُطيقُ بِهِ حَرَاكَا

أُحاذِرُ أن يَشُقّ عَلى المَطَايَا        ...    فَلا تَمْشِي بِنَا إلاّ سِواكَا

لَعَلّ الله يَجْعَلُهُ رَحِيلاً        ...    يُعِينُ على الإقامَةِ في ذَرَاكَا

فلوْ أنّي استَطَعتُ خفَضْتُ طرْفي ...    فَلَمْ أُبْصِرْ به حتى أرَاكَا

أرَى أسَفي وَمَا سِرْنا شَديداً         ...   فكَيفَ إذا غَدا السّيرُ ابترَاكَا

وَهَذا الشّوْقُ قَبلَ البَينِ سَيفٌ        ...   وَهَا أنا ما ضُرِبتُ وَقد أحَاكَا

إذا التّوْديعُ أعرَضَ قالَ قَلبي   ...    عليكَ الصّمتَ لا صاحَبتَ فاكَا

وَلَوْلا أنّ أكْثَرَ مَا تَمَنّى      ...    مُعاوَدَةٌ لَقُلتُ وَلا مُنَاكَا

إذا اسْتَشْفَيْتَ مِنْ داءٍ بِداءٍ   ...    فأقتَلُ مَا أعَلّكَ ما شَفَاكَا

فأستُرُ مِنكَ نَجْوَانَا وَأُخْفي    ...   هُمُوماً قَد أطَلْتُ لَها العِرَاكَا

وَفي الأحبابِ مُخْتَصٌّ بوَجْدٍ        ...    وَآخَرُ يَدّعي مَعَهُ اشْتِرَاكَا

إذا اشْتَبَهَتْ دُموعٌ في خُدودٍ        ...    تَبَيّنَ مَنْ بَكَى مِمّنْ تَباكَى

 

 

*****

 

إبراهيم الدميجي

aldumaiji@gmail.com

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق