إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

إليكَ.. وإلا لا تُشَدُّ الركائبُ..

الأربعاء، 10 ديسمبر 2025

الطريق إلى سعادة القلب

 

الطريق إلى سعادة القلب

الجمد لله كثيرًا، أما بعد؛ فالسعادة هي ذلك المعنى الذي اتفق جميع البشر وأجمعوا على البحث عنه والتنقيب والتكلف ودخول المهالك والمخاطر وإنفاق طائل الأموال ونفيس الأوقات والأعمار لتحصيله، ومع هذا كله فالقليل منهم قد عثر عليه، وهؤلاء القلة كلّ منهم له من هذا حظ ونصيب على قدر منحة الله تعالى له، فمنهم المقل ومنهم المستكثر، ومهم من لاحت له أنوارها وشام برقها وشم عبيرها، ومنهم من خالطت أنفاسه وامتزجت بدمه وعصبه، فصار في جنة ونعيم، وهو لا يزال مع دار الابتلاء والامتحان، فحلاوة الإيمان ولذيذ المناجاة وطرب القلب وأنسه بربه تعالى وتقدس شيء لا تحيط به العبارة.

قال ابن القيم في بيان حال ذلك القلب الموفق المهتدي: «أصل كل خير وسعادة للعبد ــ بل لكل حي ناطق ــ: كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة الخير كله، قال الله تعالى: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيۡتٗا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورٗا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيۡسَ بِخَارِجٖ مِّنۡهَاۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلۡكَٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٢٢ [الأنعام: 122]، فجمع بين الأصلين: الحياة والنور، فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخلاقه الفاضلة، فكلما قويت حياته قويت هذه الصفات، وإذا ضعفت حياته ضعفت هذه الصفات، وكذلك إذا قوي نوره وإشراقه؛ انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه، فاستبان حُسْن الحَسَن بنوره، وأثره بحياته، قال تعالى: ﴿وَلَٰكِن جَعَلۡنَٰهُ نُورٗا نَّهۡدِي بِهِۦ مَن نَّشَآءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ٥٢﴾  [الشورى: 52] فحياة القلب وإضاءته مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه»([1]).

وحياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون القلب مدركًا للحق مريدًا له، مؤثرًا له على غيره، قال ابن القيم : «لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز، وقوة الإرادة والحب، كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه، ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل.

فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر عليه غيره فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه. وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا يتعطلان من القلب، بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه، وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل؛ وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به؛ وإلا استعملها في ضده، فالإنسان حارث همام بالطبع، كما قال النبي : «أصدق الأسماء حارث وهمّام»([2])، فالحارث: الكاسب العامل، والهمّام: المريد؛ فإن النفس متحركة بالإرادة، فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتُرِده، تصوّرت الباطل وطلبته وأرادته ــ ولابد ــ.

كذلك فلا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون إلهه وفاطره وحده هو معبوده وغاية مطلوبه، وأحب إليه من كل ما سواه»([3]).

القلب الطاهر:

«شرع لنا رسول الله أن نقول عقيب الوضوء: «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين»([4])، فطهارة القلب بالتوحيد والتوبة وطهارة البدن بالماء، فلما اجتمع له الطهران صح للدخول على الله تعالى والوقوف بين يديه ومناجاته.

قال الله تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١ [المائدة: 41] عقيب قوله تعالى: ﴿سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَۖ يُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ مِنۢ بَعۡدِ مَوَاضِعِهِۦۖ [المائدة: 41]، فهؤلاء لم يرد الله أن يطهر قلوبهم؛ فإنها لو طهرت لما أعرضت عن الحق، كما أن المنحرفين من أهل الإرادة لما لم تطهر قلوبهم، تعوّضوا بالسماع الشيطاني عن السماع القرآني الإيماني. وقال عثمان ◙ عنه: «لو طهرت قلوبكم، ما شبعتم من كلام الله عز وجل»([5])، فالقلب الطاهر بكمال حياته ونوره وتخلّصه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن ولا يتغذّى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، ودلت الآية على أن طهارة القلب موقوفة على إرادة الله تعالى وأنه سبحانه لما لم يرد أن يطهر قلوب القائلين بالباطل لم تحصل لها الطهارة»([6]). وبالله التوفيق والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.

إبراهيم الدميجي

 

IIII

 


 



([1])   إغاثة اللهفان (1/ 62ــ 66) باختصار.

([2])   أبو داود (4140)، وصححه الألباني في الصحيحة (904).

([3])   إغاثة اللهفان (1/ 67ــ 70) باختصار.

([4])   مسلم (234).

([5])   الزهد للإمام أحمد (1/ 128)، وفضائل الصحابة له (775).

([6])   الإغاثة (1/ 118، 119) بتصرف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق