الحمد لله كثيرًا،
أما بعد؛ فإن هذه المضغة الصغيرة عليها مدار الدين، ونهاية الابتلاء، وفيها ميدان
الصراع مع العدو الخفي الماكر الخبيث، وهي محل نظر الرب سبحانه، وهي شديدة
النزاهة، فأقل شائبة تخدش صفاءها، وهي صندوق حفظ كنوز المؤمن ونفيس ذخائره، لهذا
أجلب الخبيث بِخَيْلِهِ ورَجِلِه، وكر عليها، ولا زال بجنوده من الإنس والجان،
وألقى فيها أحابيله وحيله، ولكم أتلف على العباد من أزوادهم التي خزنوها تلك
القلوب، ولكم سرق من نفيس أعمالهم فحبطت بعدما كانت زكية نقية، وكم استغفل حاجب
القلب فدخل سويداءه في صورة ناصح مشفق يطوي على غش وخديعة لسرقة أثمن ما يملكه ذلك
الإنسان المسكين ﴿إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمۡ عَدُوّٞ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا يَدۡعُواْ حِزۡبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنۡ أَصۡحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ ٦﴾ [فاطر: 6]، ﴿۞يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّبِعُواْ
خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ وَمَن يَتَّبِعۡ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۚ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ أَبَدٗا وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ٢١﴾ [النور: 21]، كررها الله تعالى
في كتابه في أربع آيات تنبيهًا لكل ناصحٍ لنفسه حازمٍ لأمره حتى يأخذ عدته ويتأهب
بدرعه وقوسه ونبله، ويستمد من مولاه مدده ولطفه وحمايته.
وشأن القلب عجيب
مدهش، فربما مر في ساعات قليلة بأطواره الثلاثة صحةً أو سقمًا أو موتًا، والموفق
من وفقه مولاه، وكان أكثر دعائه ﷺ كما قالت عائشة ▲: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»([1]).
والقلوب تمرض وتعتل
وتسقم كالأبدان بل أشد وأنكى، قال الله تعالى عن المنافقين: ﴿فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٞ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡذِبُونَ ١٠﴾ [البقرة: 10]، وقال تعالى: ﴿لِّيَجۡعَلَ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ ٥٣﴾ [الحج: 53]، وقال تعالى: ﴿فَلَا تَخۡضَعۡنَ بِٱلۡقَوۡلِ فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ﴾ [الأحزاب: 32].
والله رحيم لطيف،
فلم يترك عبده يصارع عدوه وحده، بل أمده بأمداد وألطاف، منها الملائكة؛ قال الإمام
ابن القيم ♫: «وإذا تأملت حال
القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب؛ فهذا يلم به مرة، وهذا يلم به مرة،
فإذا أَلَمَّ به الملك حدث من لمّته الانفساح والانشراح والنور والرحمة والإخلاص
والإنابة ومحبة الله وقصر الأمل، فلو دامت له هذه الحالة لكان في أهنأ عيش وألذّه
وأطيبه، ولكن تأتيه لمة الشيطان، فتُحدث له من الضيق والظلمة والهمّ والغم والخوف
والسخط على المقدور والشكّ في الحق، والحرص على الدنيا، وعاجلها، والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب
القلب.
ثم للناس في هذه
المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله عز وجل:
فمنهم من تكون
لمّةُ الملك أغلب عليه من لمة الشيطان وأقوى، فإذا ألمّ به الشيطان وجد من الألم
والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب، فيبادر إلى محو تلك اللمة،
ولا يدعها تستحكم فيصعب تداركها، فهو دائم بين اللمّتين، يدال له مرة، ويدال عليه
مرة أخرى، والعاقبة للتقوى.
ومنهم من تكون لمة
الشيطان أغلب عليه من لمة الملك وأقوى، فلا تزال تغلب لمّة الملك حتى تستحكم ويصير
الحكم لها، فيموت القلب، فلا يُحسّ بما ناله الشيطان مع أنه في غاية العذاب،
والألم والضيق والحَصْر، ولكن سُكْرُ الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك المؤلم.
فإذا كُشف عنه بعض
غطائه أدرك سوء حاله، وعلم ما هو فيه، فإن استمر له كَشْفُ الغطاء عاد الأمر كما
كان، حتى يكشف له وقت المفارقة، فتظهر حينئذٍ تلك الآلام والغموم والهموم
والأحزان، وهي لم تتجدّد له، وإنما كانت كامنة فيه، تواريها الشواغل، فلما زالت
الشواغل ظهر ما كان كامنًا، وتجدد له أضعافه»([2]).
عن ابن مسعود ◙
قال: قال رسول الله ﷺ: «إن للشيطان
لمّةً بابن آدم، وللمَلَك لمّةً؛ فأما لمةُ الشيطان فإيعاد بالشر، وتكذيب بالحق،
وأما لمّةُ الملك فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله
فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم»، ثم قرأ: ﴿ٱلشَّيۡطَٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَيَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَآءِۖ﴾ [البقرة: 268]([3])، قال ابن الأثير:
اللمّة هي الهمّة والخطرة تقع في القلب.
وقال ابن القيم ♫ في شرحه لعبارة الهروي ♫ في منزلة الإنابة وهي «الاستقصاء في
رؤية علل الخدمة» فقال: «وذلك هو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس، ولعل أكثرها
أو كلها أن تكون حظًا لنفسك وأنت لا تشعر.
فلا إله إلا الله،
كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه.
وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة، وهو غير خالص لله! ويعمل العمل
والعيون قد استدارت عليه نطاقًا، وهو خالص لوجه الله! ولا يميّز هذا إلا أهل
البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها. فبين العمل وبين القلب مسافة،
وفي تلك المسافة قطّاع تمنع وصول العمل إلى القلب؛ فيكون الرجل كثير العمل وما وصل
منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء، ولا زهد في الدنيا ولا رغبة في الآخرة، ولا
نور يفرّق بين أولياء الله وأعدائه، ولا قوة في أمره، فلو وصل أثر الأعمال إلى
قلبه لاستنار وأشرق، ورأى الحق والباطل، وميّز بين أولياء الله وأعدائه، وأوجب له
ذلك المزيد من الأحوال.
ثم بين القلب وبين
الرب مسافة وعليها قطّاع تمنع وصول العمل إليه، من كبر وإعجاب وإدلال، ورؤية
العمل، ونسيان المنّة، وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب، ومن رحمة الله
تعالى سترها على أكثر العمّال، إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها من
اليأس والقنوط والاستحسار وترك العمل وخمود العزم وفتور الهمة»([4]).
وقال الإمام ابن
تيمية ♫ مبينًا مرض القلب:
«مرض القلب هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره وإرادته، فتصوره بالشبهات التي تعرض
له حتى لا يرى الحق أو يراه على خلاف ما هو عليه، وإرادته بحيث يبغض الحق النافع
ويحب الباطل الضار فلهذا يفسر المرض تارة بالشك والريب كما فُسّر به قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم
مَّرَضٞ﴾ [البقرة: 10]، وتارة يُفسّر
بشهوة الزنا كما فُسّر به قوله تعالى: ﴿فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ﴾ [الأحزاب: 32]، والمرض في الجملة
يُضعف المريض بجعل قوته ضعيفة لا تطيق ما يطيقه القوي، والصحة تحفظ بالمثل وتزال
بالضد، والمرض يقوى بمثل سببه ويزول بضده.
ومرض القلب ألمٌ
يحصل في القلب كالغيظ من عدوٍ استولى عليك، فإن ذلك يؤلم القلب، قال الله تعالى: ﴿وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ ١٤ وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡۗ﴾ [التوبة: 14، 15]، فشفاؤهم بزوال ما
حصل في قلوبهم من الألم، ويقال: فلان شفى غيظه([5])، ونحو ذلك، فهذا
شفاء من الغم والغيظ والحزن، وكل هذه آلام تحصل في النفس.
وكذلك الشك والجهل
يؤلم القلب، قال النبي ﷺ: «هلّا سألوا
إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العيّ السؤال»([6])، والشاك في الشيء
المرتاب فيه يتألم قلبه، حتى يحصل له العلم واليقين، ويقال للعالم الذي أجاب بما
يبين الحق: قد شفاني بالجواب.
والمرض دون الموت،
فالقلب يموت بالجهل المطلق، ويمرض بنوع من الجهل، فله موت ومرض وحياة وشفاء،
وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه، فلهذا مرض
القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوّت مرضه وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب
صلاحه وشفائه. قال تعالى: ﴿لِّيَجۡعَلَ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ﴾ [الحج: 53] لأن ذلك أورث شبهة
عندهم، والقاسية قلوبهم ليبسها، فأولئك قلوبهم ضيقة بالمرض، فصار ما ألقى الشيطان
فتنة لهم، وهؤلاء كانت قلوبهم قاسية عن الإيمان، فصار فتنة لهم.
وقال تعالى: ﴿وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ﴾ [المدثر: 31]، لم تمت قلوبهم
كموت قلوب الكفار والمنافقين، وليست صحيحة صالحة كصلاح قلوب المؤمنين، بل فيها مرض
شبهة وشهوات، وكذلك: ﴿فَيَطۡمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلۡبِهِۦ مَرَضٞ﴾ [الأحزاب: 32]، وهو مرض الشهوة،
فإن القلب الصحيح لو تعرّضت له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف القلب المريض
بالشهوة؛ فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه»([7]).
وقال في موضع آخر: «ما ذكر الله تعالى من مرض القلوب وشفائها بمنزلة ما ذكر
من موتها وحياتها وسمعها وبصرها وعقلها وصممها وبكمها وعماها.
ومرض القلوب نوعان: الأول: فساد
الحس، والثاني: فساد الحركة الطبيعية وما يتصل بها من الإرادية، وكل منهما يحصل
بفقده ألم وعذاب، فكما أنه مع صحة الحس والحركة
الإرادية والطبيعية تحصل اللذة والنعمة، فكذلك بفسادها
يحصل الألم والعذاب؛ ولهذا كانت النعمة من النعيم، وهو ما ينعم اللّه به على عباده
مما يكون فيه لذة ونعيم، فسبب اللذة إحساس الملائم، وسبب الألم إحساس المنافي، ليس
اللذة والألم نفس الإحساس والإدراك، وإنما هو نتيجته وثمرته ومقصوده وغايته، فالمرض فيه ألم لابد منه، وإن كان قد
يسكن أحياناً لمعارض راجح، فالمقتضى له قائم يهيج بأدنى سبب، فلابد في المرض من وجود سبب الألم، وإنما
يزول الألم بوجود المعارض الراجح.
ولذة القلب وألمه أعظم من لذة الجسم وألمه، أعني ألمه ولذته النفسانيتان،
وإن كان قد يحصل فيه من الألم من جنس ما يحصل في سائر البدن بسبب مرض الجسم، فذاك
شيء آخر، فكما أن الضرير إذا أبصر وجد من الراحة والعافية والسرور أمرًا عظيمًا؛
فبصر القلب ورؤيته الحقائق بينه وبين بصر الرأس من التفاوت ما لا يحصيه إلا الله،
وإنما الغرض هنا تشبيه أحد المرضين بالآخر، فطب الأديان يحتذي حذو طب الأبدان»([8]).
وقال طبيب القلوب الرباني وشيخ الإسلام الثاني ابن القيم ♫ في ذكر حقيقة مرض القلب:
«قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧﴾ [يونس: 57]، فهو شفاء لما في الصدور من مرض الجهل والغي، فإن الجهل مرض شفاؤه العلم
والهدى، والغي مرض شفاؤه الرشد، وقد نزه الله تعالى نبيه ﷺ عن هذين الداءين؛ فقال: ﴿وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ ١ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ ٢﴾ [النجم: 1، 2]، ووصف رسولُه خلفاءَهُ بضدهما فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي»([9])، وجعل كلامه موعظة للناس عامة، وهدى ورحمة لمن آمن به خاصة وشفاءً تامًا
لما في الصدور»([10]).
وقال: «كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به، كماله في حصول ذلك الفعل
منه، ومرضه: أن يتعذر عليه الفعل الذي خلق له، حتى لا يصدر منه، أو يصدر مع نوع من
الاضطراب. فمرض اليد أن يتعذر عليها البطش، ومرض العين أن تتعذر عليها النظر، ومرض
اللسان أن يتعذر عليه النطق، ومرض البدن أن يتعذر عليه حركته الطبيعية أو يضعف
عنها.
ومرض القلب: أن يتعذر عليه ما خلق له؛ من المعرفة بالله تعالى ومحبته والشوق
إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوة»([11]). وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله.
إبراهيم بن عبدالرحمن
الدميجي
([1]) الترمذي وحسنه (3522)، وانظر: صحيح ظلال الجنة
(223)، وصحيح الجامع (4801). وعند أبي شيبة في المصنف (9/ 4200): «يا
مثبت القلوب» من حديث أنس ◙.
([3]) أخرجه الترمذي في السنن (2988)، والعلل الكبير (654)، والنسائي في
الكبرى (10985)، وابن حبان في الصحيح (997) وغيرهم، واختلف في وقفه ورفعه وصوّب
محقق التبيان الشيخ عبد الله البطاطي وقفه، وهو قول أبي زرعة وغيره.
([5]) كما روي عن عمر ◙ قال: من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم
يفعل ما يريد، ولولا الآخرة لكان غير ما ترون. حلية الأولياء (8/57).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق