الحمد لله كثيرًا، أما بعد؛ فإن القرآن الكريم متضمن لجميع أدوية أمراض
القلوب:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧﴾ [يونس: 57]، بهذا وصف الله جل وعز كتابه، فهو الشفاء التام والترياق الناجع لكل مرض
نفسي روحاني أو جسدي جثماني، قال شيخ الإسلام ♫: «والقرآن شفاء لما في
الصدور، فمن كان في قلبه أمراض الشبهات والشهوات؛ ففيه من البينات ما يزيل الحق من
الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على
ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها
عبرة ما يوجب صلاح القلب، فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره، فيبقى القلب
محبًّا للرشاد مبغضًا للغي، بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد.
فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة حتى يصلح القلب فتصلح
إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي،
ويغتذي القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويقومه كما يغتذي البدن بما ينميه
ويقومه، فإن زكاة القلب مثل نماء البدن»([1]).
وحتى يكون العلاج ناجعًا فلابد من وضعه على داء القلب بثقة ويقين وإيمان،
واعتقاد أنه المخاطب بهذا القرآن قبل غيره، «وقد كتب سلمان إلى أبي الدرداء ¶: أما
بعد: فقد بلغني أنك قعدت طبيبًا فإياك أن تقتل، والله أنزل كتابه شفاءً لما في
الصدور، قال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا ٨٢﴾ [الإسراء: 82]، وذلك أن الشفاء إنما يحصل لمن يتعمد الدواء وهم المؤمنون، وضعوا دواء
القرآن على داء قلوبهم.
فمرض القلب يكون بالحب والبغض الخارجين عن الاعتدال، وهي الأهواء التي قال
الله فيها: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيۡرِ هُدٗى مِّنَ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥٠﴾ [القصص: 50].
وكما يكون الجسد خارجًا عن الاعتدال إذا فعل ما يشتهيه الجسم بلا قول الطبيب
ويكون لضعف إدراك القلب وقوته حتى لا يستطيع أن يعلم ويريد ما يصلحه وينفعه، وكما
أن المرضى الجهال قد يتناولون ما يشتهون فلا يحتمون ولا يصبرون على الأدوية
الكريهة لما في ذلك من تعجيل نوع من الراحة واللذة، لكن ذلك يعقبهم من الآلام ما
يعظم قدره أو يعجل الهلاك، فكذلك بنو آدم جهال ظلموا أنفسهم: يستعجل أحدهم ما
ترغبه لذته ويترك ما تكرهه نفسه مما هو الأصلح له، فيعقبهم ذلك من الألم
والعقوبات، إما في الدنيا وإما في الآخرة ما فيه عظم العذاب والهلاك الأعظم.
والتقوى هي الاحتماء عما يضره بفعل ما ينفعه، فإن الاحتماء عن الضار يستلزم
استعمال النافع، وأما استعمال النافع فقد يكون معه أيضًا استعمال لضار فلا يكون
صاحبه من المتقين.
والصحة تحفظ بالمثل، وإزالة المرض بالضد، في مرض الجسم الطبيعي ومرض القلب
النفساني الديني الشرعي. قال ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما
تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء»، ثم يقول أبو هريرة ◙:
اقرءوا إن شئتم: ﴿ﯙ
ﯚ ﯛ ﯜ
ﯝ ﯞ﴾ [الروم: 30]([2]).
وقال تعالى: ﴿فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفٗاۚ فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٣٠﴾ [الروم: 30]
فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا، وهو عبادة الله وحده لا شريك له،
فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب، وتركها ظلم عظيم،
ولابد لهذا الفطرة والخلقة ــ وهي صحة الخلقة ــ من قوة وغذاء يمدها بنظير ما فيها
مما فطرت عليه علمًا وعملاً، ولهذا كان من تمام الدين بالفطرة المكملة بالشريعة
المنزلة، وهي مأدبة الله تعالى، كما قال النبي ﷺ في
حديث ابن مسعود: «كل مؤدب يُحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن»([3])، ومثله كماء أنزله الله من السماء كما جرى تمثيله بذلك
في الكتاب والسنة، والمحرفون للفطرة المغيرون للقلب عن استقامته ممرضون للقلوب
مسقمون لها، وقد أنزل الله كتابه شفاء لما في الصدور.
وما يصيب المؤمن في الدنيا من المصائب هي بمنزلة ما تصيب الجسم من الآلام
التي يصح بها الجسم وتزول أخلاطه الفاسدة، كما قال النبي ﷺ: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب
ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر بها خطاياه»([4])، وذلك تحقيق لقول الله تعالى: ﴿ﭰ ﭱ
ﭲ ﭳ ﭴ﴾ [النساء: 123]، ومن لم يطهر في هذه الدنيا من هذه الأمراض فيؤوب صحيحًا؛ وإلا احتاج أن
يطهر منها في الآخرة فيعذبه الله، كالذي اجتمعت فيه أخلاطه، ولم يستعمل الأدوية
لتخفيفها عنه، فتجتمع حتى يكون هلاكه بها، ولهذا جاء في الأثر: «إذا قالوا للمريض:
اللهم ارحمه، يقول الله: كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟»، وقال النبي ﷺ: «المرض حطة يحط الخطايا عن صاحبه
كما تحط الشجرة اليابسة ورقها»([5])([6]).
وقال ابن القيم ♫: «جماع أمراض القلب هي الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين؛ ففيه من
البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل؛ فتزول أمراض الشبه المفسدة
للعلم والتصوّر والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وليس تحت أديم السماء
كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية مثل القرآن؛ فإنه كفيل بذلك كله،
متضمن له على أكمل الوجوه وأحسنها، وأفصحها بيانًا، فهو الشفاء على الحقيقة من
أدواء الشبه والشكوك، ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
فمن رزقه الله ذلك؛ أبصر الحق والباطل عيانًا بقلبه كما يرى الليل والنهار،
وعلم أن ما عداه من كتب الناس وآرائهم ومعقولاتهم، بين علوم لا ثقة بها، وإنما هي
آراء وتقليد، وهي ظنون كاذبة لا تغني من الحق شيئًا، وبين أمور صحيحة لا منفعة
للقلب فيها، وبين علوم صحيحة قد وعّروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في
إثباتها، مع قلة نفعها فهي لحم جمل غَثَّ، على رأس جبل وعْر، لا سهلٌ فيُرتقى ولا
سمينٌ فينتقل، وأحسن ما عند المتكلمين وغيرهم فهو في القرآن العظيم أصح تقريرًا،
وأحسن تفسيرًا، وليس عندهم إلا التكلّف والتطويل والتعقيد.
أما هؤلاء فآخر أمر المتكلمين منهم الشك، وآخر أمر المتصوفة الشطح، والقرآن
يوصلك إلى بر اليقين في أعلى مطالب العباد فهو شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة
للمؤمنين. هذا في شفائه لمرض الشبهات.
أما شفاؤه لمرض الشهوات؛ فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة؛ بالترغيب
والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها
أنواع العبر والاستبصار، فيرغب القلب السليم فيما ينفعه في معاشه ومعاده، ويرغب
عما يضره فيصير محبًّا للرشد، مبغضًا للغي، فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات
الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها، ويزكو
ويكمل»([7]).
وقال ابن رجب ♫: «كان من دعائه ﷺ: «اللهم إني أسألك قلبًا سليمًا»([8])، فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس
فيه سوى محبة الله تعالى وخشيته، وخشية ما يباعد عنه، وفي مسند الإمام أحمد ♫ عن أنس ◙ عن النبي ﷺ قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى
يستقيم قلبه»([9])، والمراد باستقامة إيمانه؛ استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال جوارحه لا
تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب أن يكون ممتلئًا من محبة الله
تعالى، ومحبة طاعته، وكراهة معصيته.
وقال الحسن لرجل: «داو قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم»، يعني أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى يستقر فيها
معرفة الله تعالى وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، ويمتلئ من
ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد وهو معنى لا إله إلا الله، فلا صلاح للقلوب حتى يكون
إلهها الذي تعرفه وتألهه وتحبه وتخشاه هو إله واحد لا شريك له، ولو كان في السموات
والأرض إله يؤله سوى الله لفسدت بذلك السموات والأرض، كما قال تعالى:﴿لَوۡ كَانَ فِيهِمَآ ءَالِهَةٌ إِلَّا ٱللَّهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلۡعَرۡشِ عَمَّا يَصِفُونَ ٢٢﴾ الأنبياء: 22]، فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معًا حتى تكون حركات أهلها
كلها لله، وحركة الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته وإرادته لله
وحده فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله فسد
وفسدت حركات الجسد بحسب فساد حركات القلب»([10]).
«وأما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على
تدبره وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ
ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٩﴾ [ص: 29]، وقال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ ٢٤﴾ [محمد: 24]، وقال تعالى: ﴿أَفَلَمۡ يَدَّبَّرُواْ ٱلۡقَوۡلَ أَمۡ جَآءَهُم مَّا لَمۡ يَأۡتِ ءَابَآءَهُمُ ٱلۡأَوَّلِينَ ٦٨﴾ [المؤمنون: 68]، وقال الحسن: نزل القرآن ليُتدبر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً.
فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة
التأمل، وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر
بحذافيرها، وعلى طرقاتهما، وأسبابهما، وغاياتهما، وثمراتهما، ومآلات أهلهما،
وتَتُلُّ في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في
قلبه، وتشيد بنيانه، وتوطد أركانه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في
قلبه، وتُحضره بين الأمم وتُريه أيام الله فيهم، وتبصّره مواقع العبر، وتشهده عدل
الله وفضله، وتعرّفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطه
الموصل إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرفه
النفس وصفاتها، ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار،
وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتب أهل السعادة، ودركات أهل الشقاوة، وأقسام الخلق
واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وبالجملة تعرفه الرب المدعو إليه، وطريق الوصول إليه، وماله من الكرامة إذا
قدم عليه.
وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى؛ ما يدعو إليه الشيطان، والطريق الموصلة
إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.
فهذه ستة أمور ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها، ومطالعتها، فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى
كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل، كل ما اختلف فيه العالم، فتريه الحق
حقًّا، والباطل باطلاً، وتعطيه فرقانًا ونورًا يفرق به بين الهدى والضلال، والغي
والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه، وحياة وسعة وانشراحًا وبهجة وسرورًا، فيصير في شأن
والناس في شأن آخر.
وإذا غفل المرء عن تدبر آي القرآن سهل على الشيطان
الإيقاع به، وجذب قلبه إليه بالجواذب الشيطانية لما غفل حارسه عن الجواذب القرآنية
الإيمانية، والشيطان يلم بالقلب لما له هناك من جواذب تجذبه، وهي نوعان: صفات
وإرادات، فإن كانت الجواذب صفات قوي سلطانه هناك، واستفحل أمره، ووجد موطنًا
ومقرًّا، فتبقى الأذكار والدعوات والتعوذات التي يأتي بها الإنسان حديث نفس، لا
تدفع سلطان الشيطان لأن مركبه صفة لازمة، فإذا قلع العبد تلك الصفات من قلبه، وعمل
على التطهر منها، بقي للشيطان بالقلب خطرات ووساوس ولمّات من غير استقرار، وذلك يضعّفه
ويقوّي لمّة الملك، فتأتي الأذكار والدعوات والتعوذات، فتدفعه بأسهل شيء.
وإذا أردت لذلك مثالاً مطابقًا؛ فمثله مثل كلب
جائع، شديد الجوع، وبينك وبينه لحم، وهو يتأملك فيراك لا تقاومه وهو قد اقترب منك،
فأنت تزجره وتصيحُ عليه، وهو يأبى إلا الهجوم عليك، والغارة على ما بين يديك.
فالأذكار بمنزلة الصياح عليه، والزجر له، ولكن
مَعْلُومَه ومُراده عندك، وقد قوّيته عليك، فإذا لم يكن بين يديك شيء يصلح له ــ
وقد تأملك فرآك أقوى منه ــ فإنك تزجره فينزجر، وتصيحُ عليه فيذهب. وكذلك القلب
الخالي عن قُوْت الشيطان ينزجر بمجرد الذكر.
وأما القلب الذي فيه تلك الصفات التي هي مَرْكَبُهُ
وموطنه فيقع الذكر في حواشيها وجوانبها، ولا يقوى على إخراج العدو.
ومصداق ذلك تجده في الصلاة، فتأمل الحال وانظر؛ هل
تخرج الصلاة وأذكارُها وقراءتها الشيطان من قلبك، وتفرغه كله لله تعالى، وتقيمه
بين يديه مقبلاً بكليته عليه، أم لا؟ فالله المستعان.
وههنا نكتة([11]) ينبغي التفطن لها، وهي أن القلوب ممتلئة بالأخلاط
الرديئة، والعبادات والأذكار والتعوذات أدوية لتلك الأخلاط، كما يثير الدواء أخلاط
البدن، فإن كان قبل الدواء وبعده حميَةٌ نفع ذلك الدواء، وقلع الداء أو أكثره،
وإلا لم يكن قبله ولا بعده حمية لم يزد الدواء على إثارته، وإن أزال منه شيئًا ما،
فمدار الأمرين على شيئين؛ الحمية واستعمال الأدوية.
وأوّل ما يطرق القلب «الخطرةُ» فإن دفعها استراح
مما بعدها، وإن لم يدفعها قويت فصارت «وسوسة» فكان دفعها أصعب، فإن بادر ودفعها،
وإلا قويت فصارت «شهوة»، فإن عالجها وإلا صارت «إرادة»، فإن عالجها وإلا صارت
«عزيمة»([12])، ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها، واقترن
بها الفعل ولابد، وما يقدر عليه من مقدماته. وحينئذ ينتقل العلاج من مقدماته إلى
أقوى الأدوية وهو الاستفراغ التام بالتوبة النصوح»([13]).
وكتب ♫
كلامًا نفيسًا في سياق حديثه عن عجيب خلق الله تعالى للإنسان وقوله تعالى: ﴿وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ٢١﴾ [الذاريات: 21]: «ثم انزل إلى الصدر ترى معدن العلم، والحلم
والوقار والسكينة، والبر وأضدادها، فتجد صدور العِلْية تغلي بالبر، والخير والعلم،
والإحسان، وصدور السِّفلة تغلي بالفجور، والشر، والإساءة، والحسد، والمكر.
ثم انفد من ساحة الصدر إلى مشاهدة القلب؛ تجد ملكًا
عظيمًا جالسًا على سرير مملكته، يأمر وينهى ويولي ويعزل، وقد حفّ به الأمراء
والوزراء والجند وكلُّهم في خدمته، إن استقام استقاموا وإن زاغ زاغوا، وإن صحّ
صحوا، وإن فسد فسدوا، فعليه المعوّل.
وهو محل نظر الرب تعالى، ومحل معرفته، ومحبته،
وخشيته، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والرضى به وعنه، والعبودية عليه أولاً، وعلى
رعيته وجنده تبعًا.
فأشرف ما في الإنسان قلبه، فهو العالم بالله،
العامل له، الساعي إليه، المحب له، فهو محل الإيمان والعرفان، وهو المخاطب المبعوث
إليه الرسل، المخصوص بأشرف العطايا، وهو الإيمان والعقل.
وإنما الجوارح أتباع للقلب يستخدمها استخدام الملوك
للعبيد، والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنما هي من آثاره، ومع هذا
فهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل([14]) فسبحان مقلب القلوب، ومودِعها ما يشاء من أسرار
الغيوب، الذي يحول بين المرء وقلبه، وكان من دعائه ﷺ: «اللهم
يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك»([15]).
ويطلق القلب على معنيين: أحدهما: أمر حسي، وهو
العضو اللحمي. والثاني: أمر معنوي وهو لطيفة، ربانية رحمانية وروحانية، لها بهذا
العضو تعلق واختصاص وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانية.
وللقلب جندان: جند يرى بالأبصار، وجند يرى
بالبصائر. فأما جنده المشاهدة: فالأعضاء الظاهرة والباطنة، فإذا أمر العين
بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر اللسان بالكلام تكلّم، وإذا أمر اليد بالبطش بطشت،
وكذا جميع الأعضاء وقد ذُلّلت له تذليلاً.
ولما خلق الله القلب للسفر إلى الله تعالى والدار
الآخرة، وجُعل في هذا العالم ليتزود منه؛ افتقر إلى المركب والزاد لسفره، فأُعين
بالأعضاء والقوى لتجلب له ما يوافقه وتدفع عنه ما يضره، فافتقر إلى جنديين: باطن،
وهو الإرادة والشهوة والقوى، وظاهر وهو الأعضاء، فخلق في القلب من الإرادات
والشهوات ما احتاج إليه، وخلقت له الأعضاء التي هي آلة الإرادة. واحتاج لدفع
المضار إلى جنديين: باطن؛ وهو الغضب الذي يدفع المهلكات، وينتقم من الأعداء،
وظاهر؛ وهو الأعضاء التي ينفذ بها غضبه، كالأسلحة للمقاتل. ولا يتم له ذلك إلا
بمعرفته ما يجلب وما يدفع، فأُعين بجند من العلم يكشف له حقائق ما ينفعه ويضره.
ولما سُلّطت عليه الشهوة والغضب والشيطان؛ أُعين
بجند من الملائكة، وجعل له محلاً من الحلال يُنفِذُ فيه شهواته، وجعل بإزائه أعداء
ينفذ فيهم غضبه، فما ابتلي بصفة من الصفات إلا وجُعل له مصرف ومحل ينفذها فيه؛
فلقوة الحسد المنافسة في فعل الخير؛ ولقوة الكبر التكبر على أعداء الله وإهانتهم،
ولقوة الحرص، الحرصُ على ما ينفع([16])، ولقوة الشهوة؛ التزوج بأربع والتسـري بما شاء،
ولحب المال؛ إنفاقه في مرضاته، ولحب الجاه؛ إقامة دين الله ونصر المظلوم وقمع
أعداء الله، ولحب اللعب واللهو؛ لهوه مع امرأته وقوسه وسهمه وترسه.. وكل ما أعان
على الحق فهو من الحق، وكل ما أعان على الباطل فهو من الباطل والضلال.
وهكذا جميع القوى التي رُكّبت فيه، فلا يطلب منه
إزالتها بل تصرف في مجاريها من محلّ إلى محل، فالله تعالى قد ركّبها فيه لمصلحة
اقتضتها حكمته، ومن تأمل هذا الموضع، علم شد الحاجة إليه وعظيم الانتفاع به.
وجماع الطرق والأبواب التي يُصاب منها القلب وجنوده
أربعة، فمن ضبطها وعدّلها وأصلح مجاريها؛ ضُبطت وحفظت جوارحه، وهي: الحرص،
والشهوة، والغضب، والحسد. فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الخير والشر، وكما هي
طرق إلى العذاب السرمدي فهي طرق إلى النعيم الأبدي.
فآدم عليه السلام أبو البشر؛ أُخرج من الجنة
بالحرص، ثم أدخل إليها بالحرص، ولكن فرق بين حرصه الأول وحرصه الثاني.
وأبو الجن([17]) أخرج منها بالحسد، ثم لم يُوفق لمنافسة وحسد يعيده
إليها.
أما الغضب فهو غُولُ العقل، يغتاله كما يغتال الذئب
الشاة، وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته.
فإذا كان حرصه على ما ينفعه، وحسده منافسةٌ في
الخير، وغضبه لله وعلى أعداء الله، وشهوته مستعملة في المباح؛ كان ذلك عونًا له
على ما أُمر به، ولم تضره هذه الأربعة، بل ينتفع بها أعظم الانتفاع»([18]).
ومن أنفع العلاج للقلب: الذكر والاستغفار والتوبة
«ووسواس الشيطان يغشي القلب كطيف الخيال فينسيه ما معه من الإيمان حتى يعمى عن
الحق فيقع في الباطل، فإن كان من المتقين؛ كان كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١﴾ [الأعراف:
201]، فإن الشيطان
مسّهم بطيف منه يغشى القلب، وقد يكون لطيفًا، وقد يكون كثيفًا، إلا أنه غشاوة على
القلب تمنعه من إبصار الحق، قال النبي ﷺ: «إن العبد
إذا أذنب نُكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن زاد زيد
فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: ﴿كَلَّاۖ بَلۡۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ١٤﴾ [المطففين: 14]»([19]).
لكن طيف الشيطان غير رين الذنوب، هذا جزاء على
الذنب، والغين ألطف من ذلك كما في الحديث الصحيح «إنه ليغان على قلبي، وإني
لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة»([20])، فالشيطان يلقي في النفس الشر والملك يلقي الخير،
وفي الصحيح([21]) أن النبي ﷺ
قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن،
قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» وفي
رواية «فلا يأمرني إلا بخير» أي استسلم وانقاد»([22]) والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على محمد
وآله.
إبراهيم الدميجي
IIII
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق