وخابت صفقة
الأعشى
وصف النقادُ الأعشى بقولهم: كان إذا
مدح رفع, وإذا هجا وضع! وقال ساخرا متوعدا كسرى قبلَ يومِ ذي قار:
واقعُدْ عليكَ التاجُ معتصباً
به ...
لا تطلبنّ سوامَنا فتُعَبَّدَا
وله المعلقةُ الرائقة وهي من أفحل قصائدِ البَشَرِ:
ودِّعْ هُرَيْرةَ إن الرَّكْب
مُرْتَحِلُ ... وهل تُطيق وَداعاً أيُّها الرجلُ
قالت هريرةُ لمّا جئتُ زائرَها ...
وَيْلِي عليك وويلي منك يا رجلُ
ومنها:
كناطحٍ صخرةً يوماً ليَفْلِقَها ...
فلم يَضِرْها وأَوْهَى قَرْنَه الوَعِلُ
إن تركبوا فركوبُ الخيل عادتُنا ...
أو تنزلون فإنّا معشرٌ نُزُلُ
ومن الذين رفعهم شعرَ الأعشى
المحلَّق، وقد كان أباً لثمانِ بناتٍ رغبت عن خِطبتهن الرجال لفقرهن, فاستضافَهُ
على فقره، فمدحه بقصيدة ذائعة ماتعة، سارت في العرب مسير الشمس، فكان أن تقدم الناس لبنات المحلق..
ومما قال مادحًا نارَ المحلق..
تُشَبُّ لمقرورين يصطليانهما ... وبات على النار النَّدَى والمحلّقُ
أما خبر هلاكه فمؤسف, نعوذ بالله من الخذلان, وعليه بنيت هذه الكلمة، ففي
سنةِ صلحِ الحديبية هَمَّ الأعشى بالإسلام, وأنشأ قصيدة يمدح فيها النبيَّ صلى
الله عليه وسلم, ومنها:
ألم تَغتمضْ عيناكَ ليلةَ أرمدا ...
وبِتَّ كما باتَ السليمُ مُسهَّدا
أَلاَ أَيُّهذا السَّائِلِي أَيْنَ
يَمَّمَتْ ... فإِنَّ لها في أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدا
نبياً يرى ما لا تَرونَ وذكرُهُ ...
أغارَ لَعَمري في البلاد وأَنجدا
أجِدَّك لم تَسمعْ وَصاةَ محمدٍ ...
نبيِّ الإلهِ حين أوصى وأَشهدا
إذا أنت لم ترحلْ بزادٍ من التُّقى
... ولاقَيت بعد الموتِ من قد تزوَّدا
ندمت على ألاَّ تكون كمثلهِ ...
فتُرصِدَ للموت الذي كان أرصَدا
وصَلِّ على حينِ العَشِيَّاتِ
والضُّحَى ... ولا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ, واللّهَ فاعْبُدا
وكان سائراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه القصيدة الجميلة ليُسْلَم.
فلما كان قريباً من مَكة, قال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى، والله لئن أتى
محمداً واتّبعه ليُضرمنَّ عليكم نيران العرب بشعره،(فقد كان الأعشى كقناةِ الجزيرة
حاليّا) فاجمعوا له مئة من الإبل, ففعلوا. فأتوه وقالوا: أين أردت يا أبا بصير؟.
قال: أردت صاحبكم هذا _يعني النبي عليه الصلاة والسلام_ لأُسْلِمَ. فقالوا: إنه
ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق. قال: وما هي؟ قالوا: الزنا والقمار
والربا والخمر. قال: أما الزنا فلقد تركني، وأما القمار فلعلي إن لقيته أن أصيب
منه ما يغنيني عنه، وأما الربا فما دِنت وما أدَنت، وأما الخمر - أَوّه إن في
النفس منها لعُلالات- فأرجع إلى صُبابةٍ قد بقيت في المِهرَاس فأشربُها. فقالوا: هل
لك أن تأخذَ مئةً من الإبلِ وترجعَ إلى بلدك سنتَك هذه، وتنظرَ ما يصيرُ إليه أمرُنا.
فقال: ما أكره ذلك. ففعلوا. فأخذها وانطلق إلى بلده فلما كان قريباً من بلده
منفوحةَ باليمامة رمى به بعيرُه فقتله..
وتأمل عظيم العبرة في قوله:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ..
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
واسأل ربك الثبات على الدين حتى الممات, وليت
شعري ما ذا سيقول غداً؟!
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق