وَقَدْ يَجْمَعُ اللهُ الْشَّتِيْتَيْنِ
سِيَاحَةٌ فِي مَرَابِعِ الأَدَبِ.. وَشَيءٌ مِنْ حِكْمَة
المُحِبِّينَ
قَبْلَ الاسْتِهْلَالِ..
المعنى اليتيمُ الأَخَّاذُ, باللفظِ السَّلِسِ
الرَّائقِ, والكَلِم الجزلِ الفاخرِ, إن صادف البال الخليِّ؛ لنفسِ أَدِيبٍ شَذِيّ,
فلا تَسَلْ عن عصفه لفؤادِهِ عصفَ الريح المرسلة, وهزِّهِ لمشاعرِه هَزَّ الرَّاح
المعتّقِ بعنفوان الرحيق المعبَّقِ, وَوُرودِ قلبِه المُرْهَفِ عليه كالنِّيبِ
الهِيم في النَّميرِ العَميم! فحيَّهلاً بك أديباً ذائقاً, ومُحِبّاً وامِقاً..
(المقدمة)
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد
ربي على ترادف نعمائه, وأشكره على تراكم آلائه, لا مستحقّ للحمد على التمام سواه,
خلق فسوّى, وقدّر فهدى, أتمّ علينا النعمة, وألبسنا العافية, ومن كل ما سألناه
أعطانا, فلك الحمد ربنا كما ينبغي لك, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له,
أحقُّ من عُبدَ, وأَولى من أُحِبَّ, وأكرمُ من أُطِيعَ, وأشهد أن محمداً عبد الله
ورسوله وصفيّه وخليله وكليمه, خطيب الخلائق إذا وفدوا, ومبشر الناس إذا يئسوا, الأنبياء
قد سكتوا لنطقه, والأملاك قد اعترفوا بحقه, إمام العابدين, وخاتم المرسلين, وقائد
الغر المحجلين, الرحمة المهداة, والنعمة المسداة. أشهد أن قد كان نبيُّنَا محمدٌ
محمداً في قوله وفعله وخَلْقِهِ وخُلُقِهِ, جامعاً لحذافير كمالات البشر, أرسله
الله بالهدى ودين الحق, السعيدُ من اتّبعه, والشقيُّ من عصاه, جمع الله بيننا
وبينه في أعلى جنته, وأحيانا وتوفانا على سنته, صلى الله وسلم وبارك عليه ما ذرّ
شارق وما درّ بارق, وعلى آله وصحبه ومن اتبعه بإحسان, أما بعد:
فذات مساء ربيعي عَنَّ لي أن أرقُمَ شيئاً من
ذكريات أدبيّة, وتباريح شعريّة, وملحٍ تاريخية, دبَّجَتْها في صدري الليالي
وزخرفتها الأيام, جُلُّها في النَّسِيب, وهل خلا منه قلب نبيل, أو برأت منه نفس كريم؟!
هي مُقطوعات ومنثورات مِسْكِيَّة, كَشَمِّ نسيم الرياحين النديَّةِ, وتنشُّقِ الأزهار
المبلّلة بقطر الهتون الحنون, وكالخزامى المائس بأطراف الصِّبا بأنفاسِ نسائم الصَّبا,
تَضَوَّعَ عبيرُها وفاح نسيمها بأطيب أرج شمَّه أنف عاشق.
جعلتُ طُرَّتَها صدر قيسٍ البائس: وقد يجمع الله
الشتيتين بعدما.. تاركاً لخيال القارئ اللمّاح اتباع الطريدة, والفوز بالخريدة.
فلْتكن في صدرك الطّروب يا صاحِبِي غادةٌ, جمالها فائق وحسنها رائق..
سطرتها على أديم الفؤاد, بمداد
رحيقٍ مباح لا حرام مستباح, وأصل القصة من مأساة صاحبي وبعض أخبار سفرنا صحيح, وما
عدا ذلك فمحض خيال دفَقَتْهُ القريحةُ المُضْناةُ في هذه الطروس, على صورة محاورات
في تضاعيف الرحلة, حتى يستقيم المراد, فما من بدٍّ من تنضيد وتبجيد، وتدبيج
وتنجيد. نظمت عقدها وألبسته جيد النفوس المرهفة، زففتها عروساً مزيّنة, مهداة لمن
يستحقها من أهلها, مِنْ عشّاق الأدب الجزل والألفاظ الرقيقة, فاقبلوها أُهَيْل الرهافة
واللطافة، وجوزوا عنا يا أهل الكثافة، فما لكم عندنا مشرب ومزمع، ولا لنا إليكم
مطمع ومنزع, وليس هذا بعشّك فادْرُجِي, ويا بَعْضِي دَعْ بَعْضاً..
وَلِمَنْ يفتلِ عند ذكر الأدب
شدقه, ويلوي عن محاسنه كشحه: دع قارب أفئدتنا يُبحر رخاءً ويسير هوناً، كمشوق إلى
لقاء مشوقة، وأنثارُ وبل إلى كبد يبابٍ صادي..
وهل تسير قوافل الأدب إلّا على رواحل الخيال؟ وخلف سجف الحقيقة يكمن أبداع
الذائقة, فدعني أُعْنِقُ في خيالي بلا طِوَلٍ, وهل استروح أهل النبل والرهافة إلا
بعد أن كرعوا في ذلك المشرب؟ ومن رام رقَّة الطبع فليأخذ بسبيل ذلك المرتع,
وليتجول بخاطره في ذلك المنتجع، فما لذة اللبانات إلا وصل ما هنالك. إن طيف الخيال
يا عبل يَشفي..
نظمتُ عقده من جواهر الكلم
وروائع المعاني, محاولاً جهدي أن يكون اللفظ خادم المعنى لا أن تسترِقَّ فواتقُ
الألفاظ أبكارَ المعاني, فقد تعاور البلغاء على أن المعنى إمامُ اللفظ، فإن أَمَّ اللفظُ؛ بَطلَ
رونقُ البلاغة, وانتقض نسيج الفصاحة!
رنوت له أن يكون من أسنى ما تحلّت به أجياد الطروس,
رائقاً شائقاً, عبقاً شاهقاً, من ألذ ما سجعت به بلابل الأقلام, وصدحت خلاله خرائدُ
الأفهام, فترتشِفُهُ رقائق الأسماع, وتطربُ لرحيقِ سُلَافِهِ هشاشاتُ القلوب, إذا
جرت نفثاته في الأفهام؛ قالت: أهذه بنت فكرة, أم بنت كرْمة؟!
حاولته لفظاً مشرقاً, على سجية
طبعٍ عربي, بريء من العجمة طاقته, يرنو لنسج حلل قشيبة, وزرابي في رياض الأدب
مبثوثة, عَلَّ رُعاةَ نجع البيان يصدرون ضحىً عن شبعٍ ورواء.
تعمَّدْتُهُ لفظاً رقيق الحاشية
مهدًى لرقيق الحاشية, وكلٌّ حنين لمُشاكِله, وللقلب على القلب دليلٌ حين يلقاهُ, لم
أودع إلا ما حَسن إيداعه, ولطف مساغه وإبداعه, وقد استعرت له شيئاً من نثر
السابقين ودرر الأولين, واختيار الرجل قطعة من عقله, كما لم يخل من افتراع أبكار الأفكار,
وانتقاء أطايب الأنهار. ضَمَّنْتُه فِقَراً منوّعة, دفعاً للسآمة وطلباً للفائدة,
أمّلْتُ نثره كنثر الورد, ونظمه كنظم العقد, ورصّعتُهُ بفرائدِ قلائدِ الأبيات
اللائي لم يبتذلهن الانتشار, بادٍ على محيّاه رونق الطّلاوة, وتحت لسانه رضاب
الحلاوة, وبين ثناياه العذوبة والسلاسة. إن كان وإلا فحاله مع نبلِ ذائقتك كحال
امرئ القيس: أحاول ملكاً أو أموت فأُعذرا..
أَلَا إن الفؤاد تَشْعَفُهُ بعض
الأحايين قواصفٌ من عواصف العواطف، فأغيب عمن حولي فلا أحفل بالزمان والمكان, بل
قد يحدثني الجليس فلا أسمع ركزه وهمسه حتى يصيح بي مروّعاً ملوّعاً!
وذو القلب الحزين وإن تعزّى ...
يهيّج حين يلقى العاشقينا
وما كان عليك يا سليل الأدب _إن
عاتبت محبك في بسط حروفه_ أن يكون للمحب ريحانة يشمّها وثمرة فؤاد يضمُّها؟!
فللأدباء معاذيرهم, ومن لم يَرَ جمال يوسف لم يدر ما الذي أبكى يعقوب عليهما
السلام؟ وهل واطئ الجمر كماشٍ على السندس؟!
واعلم يا رائم الأدب أنّ من
أسباب رقة الطبع؛ بَلُّ شغاف الفؤاد بندى أوصاف المحبين, وأريج أخبار العشاق,
وإشناف الأسماع بآهاتهم, وإمتاع البصر بعذب جواهم. وقد أرقلتِ الهمّة لذلك منذ
سنين, ولكن قد حال همٌّ دون ذلك شاغلُ..
فاصقل يا بن الأكرمين عارضتك باصطباح
هذه الأحرف, وامذق واغتبق, واشرب عللاً بعد نَهَل. وهل يجتمع عطش وريّ؟ إن عرفت
الجواب فأعنق راحلة عينيك ومركوب قلبك, وإلا عُدْ لأخلاطك, فلم تمشِ إلا فراسخ!
..واحذر يا من أَرْقَلْتَ نجيبَتَكَ في ذياّك السبيل من تآكُلِ الرّوحِ بعوامل
التعرية!
وتقبّل
عذري لكريم جنابك من خلل تراه, أو لفظ لا ترضاه, إذ يستحيل خلوُّ إنسان من نسيان, أو
قلم من طغيان, ولكن حسبي رشّ بعض الندى على قلبك, وإرواء لسان كبدك العطشى بفتح
نافذةٍ وشقّ ساقيةٍ على من قد علمت من أهيلِ ذاك الوادي الأفيح, وفي التلميح غناءٌ
عن التصريح. والله المستعان, وعليه اعتمادي والتكلان.
ألا وإن بعض من بَسَطَ المداد في تيك
السابلة, قد جاوز الغاية في التهتك وخلع العِذار, لكن محبّك من خطل ذلك على حذر.
بل شعاره: إن لم يكن الأدب رافد عفاف وموقد شرف فلا كان. و جملة الكلام: لعل
قُصارى هذه الصحائف أن تُذهب عن نفس المُعَنَّى قتامَهَا..
ولا ريب أن من امتلأ قلبه من
محبة الله استغنى عن محبة غيره, ومن أحب غير الله عُذّبَ به, وعلى حسب نقص محبة
الإله الحق في القلب يكون حظّ الخذلان بحب غيره! وكفى بمحبة الله تعالى عن غيرها..
وكفى, ولو لم يكن من ذلك إلا مِدحةَ "يحبّهم ويحبّونه". ولحب الله
ورسوله ودينه سطور قد رقمتُها في كتابِي "تعظيمُ علّام الغيوبِ بتوضيحِ
أعمالِ القلوبِ" ومرادي هنا؛ أَنَّ حديث أهل المرابع النادية من حاضرة وبادية
يسلو بالحزين الكئيب, ويجلو سحائب غمومه, ويذهب كدر أيامه, كما يزيدُ المنشرحَ
انبساطاً وانطلاقاً وبِشْراً, ومُحِبَّ العربية زاداً ومتاعاً وذخراً, وسترى _يا
رعى الله مُحيَّاك ومَحْيَاك_ أخباراً وأسماراً وأنواعاً من العلوم دَبَّجْتُ بها
هذا الرَّقيمَ الموشّى, ومرادي الفائدة والإمتاع, وكلّ خفرة كريمة لن تعدم خاطباً نبيلاً.
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على نبينا محمد وآله عدد أنفاس أهل الجنّة.
إبراهيم بن عبد الرحمن الدميجي
عشيّة
7/ 10/ 1433
aldumaiji@gmail.com