العقائد المسيحية في الميزان (2/ 4)
وفيه:
المبحث الأول :
المبحث الثاني : المبحث الثالث: |
تعريفه ومحاولة فهمه.
أصول التثليث وثنية.
مناقشة عقيدة التثليث.
|
المبحث الأول
تعريفه ومحاولة فهمه
التثليث هو اعتقاد ثلاثة آلهة في ذات واحدة.
وبحسب السياق الزمني لرحلة الشرك والوثنية فتأليه غير الله سابق للتثليث في الأديان الوضعية عامة وهو كذلك في المسيحية المبدلة، وقد وضع البذور الأولى للتثليث المسيحي الكنسي بولس بادّعائه بنوّة المسيح | مما ترتب عليه القول بالطبيعة الثنائية للمسيح ــ اللاهوتية والناسوتية ــ ثم أصّلها وقعدها الفيلسوف الإسكندري القس اثناسيوس وقدمها تحت مسمى قانون الإيمان لمجمع نيقية عام (325م) الذي اعترف بها بسلطة الإمبراطور الوثني قسطنطين، ثم اكتملت أركان التثليث في مجمع القسطنطينية عام (381م) بادعاء ألوهية الروح القدس ــ ردًا على مقالة مكدنيوس ــ وبذلك صار التثليث قانونًا للإيمان في الكنائس المسيحية([1]).
يعتقد المسيحيون أن الله ثالث ثلاثة ــ تعالى عن ذلك وتقدس وتنزه ــ وهم أو هو:
1ــ الله (الأب). 2ــ الله (الابن). 3ـ الله (الروح القدس)
ويزعمون أن هذه الثلاثة الأرباب الآلهة عبارة عن رب واحد وإله واحد! وأن هذه الثلاثة ليست أجزاء لهذا الإله متركب منها! لأن كل واحد من هذه الثلاثة عبارة عن إله متصف بكل صفات الربوبية والألوهية من أزلية وإرادة وقدرة وعلم وكمال مطلق... ونحوها، فكل من هذه الأقانيم الثلاثة إله على حدة، ومع ذلك فالثلاثة إله واحد له ذات واحدة بسيطة غير مركبة!
أما كيف يتحقق ذلك؟! وكيف يُتصور؟! وكيف يُعقل؟! فينخرط القتاد وتنقطع الرقاب دونه وغرف الماء من الشمس أقرب من ذلك لأن المحال لا يجمع مع ضده، وواجب الوجود لا يجتمع مع مستحيل الوجود، والجمع بين النقيضين ورفعهما باطل.
|
كيف يكون ثلاثة آلهة كل قائم بذاته، ومتصف بصفات الربوبية والألوهية اتصافًا كاملاً؟!([2]) ﴿ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹﯺ ﯻ ﯼ ﯽﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤﭥ ﭦﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍﮎ ﮏ ﮐ ﮑ﴾ [الأنبياء: 19ــ 29]، آمل قراءة هذا الوحي القرآني البديع مرة ثانية وثالثة فقد هدم بناء التأليه لغير الله والتثليث من الأساس، فخاطب الفطرة والعقل بلسان الشرع ووضح الحق وأشهره وكشف الباطل وأزهقه، ورغّب وأرهب، ونطق بالحق التام.
|
﴿ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ [ق: 37]، ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ ﭜﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ﴾ [الأنعام: 19ــ 24].
كيف تجتمع ثلاثة آلهة في ذات واحدة؟! كل منها إله كامل بجميع صفات الكمال الربوبي الإلهي؟! ومع ذلك فالثلاثة يتكوّن منها إله واحد، وهذا الإله الواحد المركب من ثلاثة، ذاته بسيطة غير مركبة؟!([3]) حدثوا العقلاء بما يعقلون! قال آينشتاين: «إذا لم تستطع أن تشرح فكرتك لطفل عمره ستة أعوام فأنت لم تفهمها بعد!»([4]).
كيف يكون الثلاثة واحدًا والواحد ثلاثة؟! هذا السؤال الذي طرح منذ ثمانية عشر قرنًا من الزمان ولا زال مستمرًا ملحًا صائحًا في جنبات العقل الحر، منتشرًا في الاتجاهين الزماني والمكاني في المسيحية المبدّلة ولا زال رائجًا في أوساط رعاياها، داقّاً أبواب الكهنوت والخرافة، ومع ذلك فلم ولن يصل الحيارى إلى جواب شاف وقناعة مريحة، بل ولا أنصاف حلول؛ ذلك أن هذا التصور ــ الذهني ــ ممتنع في الخارج، مستحيل في الحقيقة والواقع، فيستحيل على كل ذي ذوق سليم وفكر متجرد ورأي حر أن يُسلّم بقرب هذا التصور من الحقيقة، فضلاً عن أن يكون هو الحق الذي يدين به، ويغامر بآخرته ومصيره من أجله.
ذلك أن التوحيد والشرك لا يجتمعان إلا إذا اجتمع الضدان! والذي ألجأهم إلى هذا المحال والمنافحة عنه مهما امتنعت حقيقته هو أن من أسس وكتب هذه العقيدة «الثالوث الأقدس» أراد أن يجمع وحي الله بوحي الشيطان بين هذه التصورات والعقائد الثالوثية الوثنية الهندية والفارسية والمصرية والإغريقية والرومانية وبين ما جاء في العهدين ــ وبخاصة القديم ــ من تعظيم أمر التوحيد والزجر عن التشريك، فلما سُقط في أيديهم خرجوا بهذا التلفيق المضحك المبكي، فالثلاثة للمشركين والواحد للموحدين ﴿ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ﴾ [فاطر: 8].
وعند إلحاح رعايا الكنيسة عليها بالإجابة على هذا السؤال: كيف يكون توحيد في تثليث؟ فإنها تسلك أحد سبيلين:
الأول: محاولة شرح هذه العقيدة بأسلوب إنشائي، يعتمد على الالتواءات، والتشبيهات، وضرب الأمثال، والأقيسة، والعبارات الإنشائية التي لا مفهوم لها.
فإن لم تجد هذه الوسيلة نفعًا ولم تقنع بدائه العقل وأوليات المنطق؛ فإنها حينئذ تسلك السبيل الثاني وهو الأكثر شيوعًا لديها.
الثاني: اللجوء إلى التفويض والتسليم المطلق، وأن هذه المسائل هي للاعتقاد والإيمان فقط وليست خاضعة للإدراك، ولا داخلة في مجال الفهم والاستيعاب، وليست من مجالات العقل([5]).
خذ مثلاً هذا الشرح لهذه العقيدة المتناقضة:
قال الدكتور يوسف بوست شارحًا لها: «وطبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم([6]) متساوية: الله الآب، الله الابن، الله الروح القدس. فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهية على السواء»([7]).
وأي مسيحي يفسر له الثالوث بمثل هذا الكلام فإنه سيزداد حيرة، وستتعاظم لديه الشكوك، وتكثر الأسئلة المتولدة من هذا الشرح ــ غير المبسط ــ!
وقد يشبه بعضهم الأقانيم بالصفات، فيجابَهُ باللازم: أين الصفات الأخرى للإله الحق كالعلم والحياة والقدرة والقيومية والملك والخلق والتدبير والإرادة... فإن فسر هذه الأقانيم بالذوات لزمه القول بتعدد الآلهة! لذلك فلا مفر له من القول بواحد من ثلاثة أمور:
إما القول بأن هذه الأقانيم صفات أو ذوات أو أنها لا حقيقة لها، والأخير هو الصحيح.
وهناك محاولة أخرى يائسة بائسة لشرح هذا التناقض الثالوثي، قال زكي شنودة: «وقد فهمنا من كلام السيد المسيح([8]) أن الأقانيم الثلاثة الذين في الله، وإن اتحدوا جوهرًا وطبعًا وذاتًا وصاروا واحدًا، إلا أنهم ثلاثة لا واحد من حيث الأقنومية، فالآب ليس هو الابن، والروح القدس ليس هو الآب ولا الابن»([9])وغفل عن لزوم ذلك القول المتهافت وهو أنه يلزم موت الإله على الصليب ــ على روايتهم المفتراة ــ فمن أحياه؟! ويلزم من قوله باتحادهم جوهرًا وطبعًا وذاتًا جواز دعوة المسيح بالروح القدس والروح القدس بالله، والله بالمسيح!! ولا ينفعه ذلك الاستثناء لأنه خلو من برهان فكأنه لم يكن.
|
لذلك فلا تعجب من القول الآخر الصارخ بالحيرة والاضطراب ــ وإن غلّفه بالعاطفة أو ادعاء الفهم ــ الصادر من الأب بولس إلياس اليسوعي: «ولكننا إذا اطلعنا على كنه الله([10]) لا يسعنا إلا القول بالتثليث، فكنه الله محبة، والمحبة هي مصدر سعادة الله([11])، فليكون الإله سعيدًا كان عليه أن يهب ذاته شخصًا آخر يجد فيه سعادته. ويكون بالتالي صورة ناطقة له، ولهذا ولد الله الابن([12])منذ الأزل نتيجة لحبه إياه، وبادل الابن الأب هذه المحبة، وثمرة هذه المحبة المتبادلة كانت الروح القدس، فالله أسرة (!!) مؤلفة من أقانيم ثلاثة تسودها المحبة»([13])، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، ﴿ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ﴾ [الزمر: 67].
|
قال الإمام ابن القيم ‘: «والمسيح الذي أثبته النصارى من أبطل الباطل، ولا يمكن وجوده في عقل ولا فطرة، ويستحيل أن يدخل في الوجود أعظم استحالة. ولو صحّ وجوده؛ لبطلت أدلة العقول، ولم يبق لأحد ثقة بمعقول أصلاً، فإن استحالة وجوده (أي الثالوث) فوق استحالة جميع المحالات»([14]).
وأمام هذا الفشل الذريع ــ الطبيعي ــ في التوفيق بين التوحيد والتثليث لم يطق بعضهم السكوت فصرحوا بالضرورة العقلية وهي أن هذه العقيدة مناقضة لبدهيات العقل وبدئيات المنطق السليم ومن هؤلاء:
العالم اللاهوتي سان أوغسطين حيث قال: «أنا مؤمن لأن ذلك لا يتفق والعقل». وقال كير كجارد: «إن كل محاولة يراد بها جعل المسيحية ديانة معقولة لابد أن تؤدي إلى القضاء عليها».
وقال القس دي جروت في كتابه (التعاليم الكاثوليكية): «إن الثالوث الأقدس هو لغز بمعنى الكلمة، والعقل لا يستطيع أن يهضم وجود إله مثلث، ولكن هذا ما علمناه الوحي».
وقال القس أنيس شروش: «واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد، سرّ ليس عليكم أن تفهموه، بل عليكم أن تقبلوه»([15]).
فإذا ألحّ العقل المتجرد في استقصاء حقيقة التثليث طلبًا للإيضاح وكشف الحيرة أتاه الجواب القامع الحاسم المتكرر: إن ذلك سر لا يستطيع العقل إدراكه! وهذه ماهيّة الأسرار الكنسية أي إحالة متناقضات عقائد الكنيسة إلى الأسرار المقدسة، فيُغلق عليها في ذلك الصندوق المتحجر بطلاسمه الشيطانية.
|
إن رجال الكنيسة لم ولن يستطيعوا تصوّر الثالوث المقدس! فضلاً عن شرحه وبيانه، وفاقد الشيء لا يعطيه، ويزداد الغبش وتثور التساؤلات ويتكاثف الغبار حينما يلجوا بحر المستحيل محاولين أخذ قبس من حقيقة لا وجود لها إلا في الممتنع والمعدوم، فالغالب أن من حاول شرح هذه العقيدة فإنه يقع في شرّ مما هرب منه وينغمس في الحيرة حيث أراد اليقين، خذ مثلاً كلام القس دومولو وهو عالم اللاهوت المشهور في تعليقه على (يوحنا 14: 23): «... وإليه نأتي» قال: «حيث يكون الابن يكون هناك بالضرورة أب أيضًا، وكذلك الروح؛ لأن الثلاثة هم واحد، لكونهم صورًا واحدة للوجود والتجلي لنفس الذات الإلهية. توضح هذه القطعة بأن أشخاص الثالوث المقدس لا ينفصلون عن بعضهم البعض([16])ويحل كل واحد منهم في الآخر». ولا يخفى من ذلك لازم القول بموت الثلاثة حين مات المسيح على الصليب ــ على قولهم ــ لذلك لا تعجب حين تقرأ في أدبيات القوم ورواياتهم وأشعارهم من يتغنّى بموت الإله، وأن الله قد مات!!ــ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا وتنزه ربنا وتقدس ـ([17]).
قال توما الأكويني ــ معلنًا اليأس من القدرة على تصور التثليث الموحِّد ـ: «في استطاعة العقل أن يتصور ماهية الله، ولكنه لا يستطيع أن يدرك تثليث الأقانيم»([18]).
ولقائل أن يقول: أليست الأديان كلها ــ بما فيها الإسلام ــ لا تـخلو من مغيبات أو حقائق لا يستطيع العقل إدراكها؟
|
|
والجواب: أن هناك فرقٌ بين ما يحكم العقل باستحالته([19]) كالتثليث، وبين ما يجيزه العقل ويعجز عن إدراكه والإحاطة به. والإسلام لا يمنع من الأخير ــ كحقائق اليوم الآخر ــ لكنه يخلو تمامًا من الأول، فليس في الإسلام ما يحكم العقل السليم باستحالته أبدًا، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية([20]): «الوحي يأتي بما يحيّر العقول لا بما تمنعه وتحيله»([21]).
ﭑﭑﭑ
|
المبحث الثاني
أصول التثليث وثنية
لم تكن عقيدة التثليث معروفة في عصر الحواريين «العصر الرسولي» إنما طرأت لاحقًا بعد دخول الوثنيين في المسيحية الجديدة([22]).
في دائرة المعارف الفرنسية: «إن تلاميذ المسيح الأولين الذين عرفوا شخصه وسمعوا قوله كانوا أبعد الناس عن اعتقاد أنه أحد الأركان الثلاثة المكونة لذات الخلق، وما كان بطرس حواريه([23]) يعتبره أكثر من رجل يوحى إليه من عند الله» وتستشهد على ذلك بأقوال قدماء مؤرخي المسيحية مثل جوستن ماراستر من القرن الثالث الميلادي إذ يصرّح بأنه كان في زمنه في الكنيسة مؤمنون يعتقدون أن عيسى هو المسيح، ويعتقدونه إنسانًا بحتًا، وأنه كان أرقى من غيره من الناس، وحدث بعد ذلك أنه كلما دخل في المسيحية عدد من الوثنيين ظهرت عقائد جديدة لم تكن من قبل([24]).
لقد كانت فكرة التثليث التي أقرها مجمع القسطنطينية عام (381م) انعكاسًا للأفلاطونية الحديثة التي جلبت معظم أفكارها وأصولها من الديانات والأفكار والعقائد الشرقية القديمة، وكان لأفلوطين (270م) أثر بارز على هذا المعتقد المسيحي الجديد، وقد تتلمذ أفلوطين في الإسكندرية ــ بما فيها من بقايا الفرعونية القديمة ــ ثم انتقل إلى فارس ــ منبع الميثراوية ــ ثم الهند ــ منبع الهندوسية والبوذية ــ وبعد ذلك عاد وفي جعبته مزيج ملوّن من ثقافات شرقية وثنية، فأسس مدرسته في الإسكندرية وبث هذه العقائد بعد أن ألبسها لباس الفلسفة الإغريقية، ثم تلقّفها عنه الفلاسفة المسيحيون الجدد «البولسيون» الذين لم تثبت أقدامهم في تراث المسيح الأصيل ولا تعاليمه الحقيقية، فصهروا تلك الأفكار الأفلاطونية مع غيرها في قالب جديد وسمّوه الثالوث الأقدس للديانة المسيحية ــ المبدلة ــ([25]).
ومن أقوال أفلوطين: «إن العالم في تدبيره وتحركه يخضع لثلاثة أمور:
1ــ المنشئ الأزلي الأول.
2ــ العقل.
3ــ الروح التي هي مصدر تتشعب منه الأرواح جميعًا».
وبذلك وضع أفلوطين أساس التثليث وهيأ أرضيته التي أقام عليها تلامذته مقولتهم: إن المنشئ هو الله، والعقل هو الابن، والروح هو الروح القدس. لذلك فلا شك أن عقيدة التثليث متلقفة من الأمم الوثنية وخرافاتها([26]).
فالهنادكة (الهندوس) عندهم ثالوث (براهما ــ فشنو ــ سيفا) وفشنو هذا هو إلههم المخلص الذي يدعونه (كرشنا) الذي قدم نفسه ذبيحة لتـخليص بني آدم من وزر الخطيئة الأصلية! ويصر الهندوس على القول بأن إلههم كرشنا قد صلب وثقبت يداه ورجلاه على خشبة الصليب! ووضع على رأسه إكليل الذهب.
ومع أن عقيدة الهندوس في كرشنا أشبه بعقيدة المسيحيين بالمسيح([27])، إلا أن عقيدة البوذيين أشد شبهًا، حتى إنهم يطلقون عليه اسم «المسيح» «المولود الوحيد» «مخلص العالم» وهو يمثل ــ عندهم ــ «تجسد اللاهوت بالناسوت» وهو من «قدم نفسه ذبيحة للعالم ليكفر خطايا البشر ويخلصهم من ذنوبهم حتى يرثوا الملكوت» فهل كل ذلك مصادفة؟!
كذلك عقيدة الفرس والرومان في معبودهم «ميثرا» ووجود الشبه الشديد بين أسطورته الإلهية وبين أسطورة المسيح الإلهية! وهذا ما دعى الرومان الوثنيين أن يدخلوا في هذا الدين البولسي أفواجًا لاتفاقه مع أصول ديانتهم الأولى ــ خلا تغيير المسميات ــ وهل بعث الله المسيح إلا لحرب هذه العقائد وإزالة تلك الوثنيات؟!
وتأمل ــ معي ــ ما كتبه أحد مؤرخي المسيحية المعاصرة ولنتساءل: من اقتبس عقيدته من الآخر؟
قال زكي شنودة: «كان في معتقدات المصريين ما يجعل فكرة التثليث المسيحية قريبة لفهمهم، فقد كان لكل مدينة هامّة ثالوثٌ من الآلهة تـختص بعبادته والولاء له، ومن أمثلة ذلك ثالوث طيبة ويتكوّن من: آمون (الأب)، موت (الأم)، حنسو (الابن)، وثالوث أبيدوس ويتألف من: أوزوريس (الأب)، إيزيس (الأم)، حوريس (الابن)، وكانوا يعتقدون أنهم وإن كانوا ثلاثة إلا أنهم يعملون معًا.
كما كان في معتقداتهم ما يجعل فكرة ابن الله من عذراء قريبة إلى فهمهم كذلك، كما كانوا يعتقدونه في (حور محب) أنه ابن عذراء.
وكانوا يصورون في يد آلهتهم علامة ترمز إلى الحياة يسمونها (عنخ) وهي قريبة في تكوينها من الصليب الذي اتـخذه المسيحيون شعارًا ورمزًا لهم بعد ذلك.
كما كانوا يستعملون الغسل أو الرش بالماء المقدس، وهو طقس يشبه العماد عند المسيحيين.
وأخيرًا نجد في قصة الإله أوزوريس واستشهاده ثم انتصاره في النهاية على الشر وجلوسه بعد ذلك في السماء ليحاسب الناس...»([28]).
ولا شك أن هذه شهادة شاهد من أهلها، تطلّبت منه شجاعة معنوية وحسية حيث نزع عن طقوس وعقائد المسيحية المبدلة رداءها المزيف وأظهر ما وراءه من إرث فرعوني وثني.
وقال بونويك في كتابه (اعتقاد المصريين): «وأغرب عقيدة عم انتشارها في ديانة المصريين القدماء هي قولهم بلاهوت الكلمة وأن كل شيء صار بواسطتها وأنها منبثقة من الله وأنها الله»!
ولسائل أن يسأل: هل ما رأيناه من التشابه بل الاتحاد أحيانًا بين هذه الوثنيات وبين المسيحية يرجعها إلى ديانة واحدة أم متعددة؟ والجواب: إن المسيحية قد حوت كثيرًا مما تفرق في غيرها مما وافق أهواء أساطينها ومنظريها من الفلاسفة وأتباعهم، كما أن الحضارات الوثنية قد أخذ بعضها من بعض.
والخلاصة أن أصول التثليث وثنية بامتياز، وليس لميراث الأنبياء فيه مثقال ذرة. ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ﴾ [البقرة: 113]، ﴿ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾ [البقرة: 118ــ 120].
ﭑﭑﭑ
المبحث الثالث
مناقشة عقيدة التثليث
بما أن هذه العقيدة مستحيلة الوقوع في الخارج إنما هي في وهم الذهن والخيال فقط، وحيث أنها دخيلة على دين المسيح |، ومناقضة لكلام الأنبياء فلا شك أنها باطلة كل البطلان([29]).
ومن نقوضها الإجمالية:
1ـ استحالتها عقلاً ومعنىً ــ وسبق تفصيل ذلك ــ.
2ـ أنها منحولة ومقتبسة من وثنيات سابقة، وأن جذورها ضاربة في أصول عدد من الوثنيات القديمة ــ وسبق التفصيل ــ.
3ـ أنها لم تنتشر وتشيع إلا بقوة السلطان، وقمع الكنيسة، وتحريق المخالفين، واستئصال المعارضين، فليست فكرًا حرًا قام على أرض القناعة بل بناءٌ شُيّد على جماجم المخالفين.
4ـ أنها عقيدة طارئة حادثة دخيلة على ديانة المسيح الأصلية الأصيلة، وقد بقيت المسيحية الأولى ما يزيد على قرنين من الزمان خلوًا منها.
5ـ لا نسلم بسلامة الأناجيل ـ التي يحاول المثلثة أن يفهموا التثليث من خلالها أو يقيموا عليها عقيدتهم ـ بل قد أثبتنا ـ فيما سبق ـ طروء التحريف والتزوير عليها مع سبق الإصرار والتعمد والتضليل([30]).
6ـ لو سلمنا بسلامة الأناجيل من التحريف والإدراج، فإنا نرى فيها آيات شاهدة بالوحدانية والفردانية لله تعالى وحده([31]).
7ـ وهي مليئة كذلك بالنصوص المثبتة لبشرية وإنسانية المسيح |، وأنه عبد الله رسوله.
8ـ إذا افترضنا ـ جدلاً ـ أن الثالوث حق فكيف يم يُبيَّن هذا الحق ـ المفترى ـ للناس كل هذه الآماد الطويلة والأحقاب السحيقة، ولماذا تركوا يعبدون الله بالوحدانية؟ هل ضلّل الإله ـ المثلث ـ كل أولئك الأمم وأنبياءها وشوّه الحقيقة ورضي أن يعبد بدون حق وترك بيان الحق لفئة لا يعلم عنها تديّن ولا تعظيم له؟! ــ تعالى الله على ذلك علوًا كبيرًا ــ.
9ـ هل كذب كل من سبق المسيح من الرسل عليهم السلام على الله تعالى إذ لم يبينوا ثالوثه؟! ــ حاشاهم عليهم الصلوات والسلام ــ.
([2]) قال البروفسور محمد عمارة: «إذا كانت الثلاثة الأب والابن والروح القدس هم واحد لا ثلاثة، مثل حرارة الشمس وضوئها المتحدان بها ــ كما يحلو لهم التمثيل بذلك في تفسير وحدة الثالوث ــ فإن الضوء وحده لا يقوم بوظيفة الشمس، وكذلك الحرارة وحدها لا تقوم بوظيفة الشمس، وإنما لابد من كل مكونات الشمس؛ الضوء والحرارة وغيرها للقيام بوظائف الشمس، ولكن المسيحيين يجعلون المسيح إلهًا كاملاً يقوم بكل وظائف الإله، حتى لقد جعلوه بديلاً للآب (باصطلاحهم) فهو ــ عندهم ــ خالق كل شيء، وبه كان كل شيء، وبدونه لم يكن شيء، وهو الألف والياء... وبذلك سقط تسويق وحدة الثالوث بالقياس على مكونات الشمس. لقد تجاوز التثليث وتعدد الآلهة في الشرك الذي حل فيه المسيح محل الله الأب». تقرير علمي، د. محمد عمارة ص25.
([12]) ﴿ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ﴾ [مريم: 88ــ 95].
﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ﴾ [البقرة: 116]، ﴿ﮭ ﮮ ﮯ ﮰﮱ ﯓﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [يونس: 68]، ﴿ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ﴾ [الزمر: 4]، ﴿ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ﴾ [الإسراء: 111]، ﴿ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ﴾ [الفرقان: 2].
([20]) يرى الأوروبيون أن هيجل هو أبو العلم، وقالوا هو «إله العلم»ــ تعالى الله عن ذلك ــ وذلك لأن هيجل نقد الفلسفة الإغريقية ونقض بعض مبادئها وصحّح بعض مسلماتها، مع أن هيجل لم يأت إلا بنحو عشر ما أتى به ابن تيمية في كتابه المدهش الذي لم يكتب في التاريخ الإنساني الفلسفي مثله وهو (درء تعارض العقل والنقل) مطبوع في عشر مجلدات، قال عنه ابن القيم: «وإنه لكتاب لم يطرق العالم له نظيرًا في بابه». كذلك في الشذرات التي خطها في مختصره النفيس (الرد على المنطقيين) ومن مشهور كلامه في ذلك: «المنطق الإغريقي لا يحتاجه الذكي ولا يستفيد منه البليد»، وشبهه بقوله: «لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل» نقض المنطق ضمن مجموع الفتاوى، المجلد التاسع.
([21]) انظر: شرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، ص247، العلمانية، د. الحوالي، ص41، درء تعارض العقل والنقل، بتمامه ونص عبارته من (درء التعارض): «ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته» (1/147)، ومعنى محارات: أي ما حارت وعجزت العقول في فهم تفاصيله.
([22]) لما لم تجد الكنيسة نصوصًا مقدسة تسعفها في التثليث عمدت إلى التزوير في نصوص الأناجيل، ففي (رسالة يوحنا (1) 5: 7، 8): «إن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم في الواحد» والمحققون من علماء اللاهوت من أمثال كريسباخ وشولز وآدم كلارك بل حتى بعض المتعصبين مثل هورن يرجحون أن عبارة «إن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس» مقحمة في النص الأصلي من أجل أن تكون دليلاً وتكأة للكنيسة على التثليث، ومما يؤيد قول هؤلاء أن مارتن لوثر زعيم الإصلاحيين البروتستانت لم يترجم هذه العبارة ــ المزورة ــ إلى الألمانية عند ترجمة العهد الجديد إليها.
إظهار الحق، للعلامة رحمة الله الهندي، ص257ــ 260، ولا نعلم كتابًا جامعًا في نقد المسيحية المبدلة أفضل منه بعد كتاب (الجواب الصحيح) لابن تيمية ــ رحمهما الله تعالى ــ.
([23]) كل ما ذكر عن برنابا وبطرس في رسائل بولس فإنما كان قبل الافتراق، إذ كان لتلاميذ بولس من أمثال لوقا ويوحنا دور كبير في إخفاء تاريخ هذين الحواريين الفريدين بعد خلافهما مع بولس وإنكارهما الشديد على منهجه المحدث. وهذا ما أيدته دائرة المعارف البريطانية من أن قوّة نفوذ أتباع بولس أخفت تاريخ كل من يعارض بولس مثل برنابا وبطرس.
([25]) لقد كان الإمبراطور مثلثًا وثنيًا ــ التثليث الروماني ــ لذا فلا عجب أن يستـخدم سلطانه ونفوذه لتبديل الديانة الوليدة المسيحية التي جعلها الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، وقد أكد المؤرخ جيبون تدخل قسطنطين المباشر في قرارات مجمع نيقية، وفرض أهوائه بالقوة والسلطان.
اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، جيبون (1/ 626، 627). وانظر ما ذكرناه سابقًا في الأصول الوثنية للديانة المسيحية.
([30]) لا يوجد بين دفتي الكتاب المقدس إثبات للثالوث إلا في نص واحد فقط: «فإن الذين يشهدون في السماء ثلاثة الأب والكلمة والروح القدس» (يوحنا 5: 7)، وهذه الفقرة لم تضف للإنجيل إلا عام (1522م) أي بعد خمسة عشر قرن من دعوة المسيح |! وقد أدرجها إيرازمس في طبعته الثالثة للإنجيل بعد الضغط عليه، وكان قد رفض سابقًا إدراجها في الطبعتين الأولى والثانية بحجة أنه لم يجدها في أي نص يوناني قديم إنما هي مجرد جملة مقحمة في مخطوطة ترجع إلى القرن العاشر ــ أي بعد ألف سنة من الميلاد ــ ولكن بعد ضغط الكنيسة الكاثوليكية عليه لم يجد بدًا من إدراجها!
وهذه الطبعة الثالثة ــ المحتوية للتزوير ــ هي التي اعتمدت عليها نسخة الملك جيمس الإنجليزي المشهورة، وما بني على باطل فهو باطل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق