الشمس.. تلك البديعة
المستديرة!
قصدتُ وصاحبي وجهةً رغيبةً في عمق صحرائنا الفريدة، استئناسًا بطيب هوائها وعذيّ
ترابها وبكارة نبتها وخلوها من بني الإنسان.. فضربنا البيداء ولإطارات
السيارة أنينٌ من حيوفِ الأحجار الطاعنة, تطردنا سحابة من غبار أحمر وأصفر كأنها
ذئب أغبر منعطف على طريدته الشاردة.
ومع إعناقنا في تلك
التنوفةٍ الجرداء التي لا نهاية لها على مرأى العين؛ تذكرت بهذه الصحاصح الأماليس
وشجرها العاري مُؤْيِسَةَ معروف الرصافي:
وما المرءُ إلا دَوْحةٌ
في تَنُوفَةٍ ... مُلَوَّحةُ أغصانها بالسمائمِ
لها ورَقٌ قد جفّ إلا
أقلّه ... وعيدانها بين النُّيوب العواجمِ
ولا بد أن تُجْتَثَّ
يوما جُذورُها ... وتَقلعها إحدى الرياح الهواجمِ
وفي مسارب
الصحراء قالت العرباء: قَتَلَتْ أرضٌ جاهلَها وقتلَ أرْضاً عالِمُهَا. ولقد قد كان
صاحبي كما قيل: لا يَضِلّ حتى يضل النجم, ولا يهاب حتى يهاب السيل, وكان خير ما
يكون حين لا تظن نفس بنفس خيراً!
وأصبرُ من عودٍ وأهدى
إذا سرى ... من النجم في داجٍ من الأرض غيهبُ
وبينا
نحن مُجِدّان في ضرب ظهر الأرض بسياط الإطارات؛ لاحت لناظرينا واحةٌ خلّابة، لأهل
الذوق جذابة, فما أن أَمْعَنَّا البصر، وأنعمنا من بعده النظر؛ إلا وقد أزمعنا
النزول, فملنا يسبقنا شوقنا إلى شجرات سرحٍ وطلحاتٍ, كأنهن الأبكار بالزينة
متبرجات, قد نشرن الغدائر, وسرّحن الضفائر, على شاطئ ماءٍ يحكي سلاسل الفضة
واللؤلؤ, كأنه مرآة السماء وسط أرج الربيع, وأَجْمِلْ بالربيع إذا
تفتّق في ظهر البيداء! فنزل صاحبي وهو يشدو مع إسحاق الموصلي:
يا حبَّذا ريحُ الجنوبِ
إذا جَرَتْ ... في الصبحِ وهي ضعيفةُ الأنفاسِ
قدْ حُمِّلتْ بَرْدَ الندى
وتحمَّلتْ ... عَبَقاً من الجَثْجاث والبَسْباسِ
ماذا يَهيج من
الصَّبابةِ والهوى ... للصَّبِّ بعد ذهولهِ والياسِ
نزلنا إلى ظلِّ دوحة راكع طرفها إلى الماء, قد أرسلت فوقنا غصنين كأنهما جديلي
حسناء. قعدنا على حجر نصفه في الماء نلقي صغار الحصا على صفحته البهيجة اللطيفة.
أوّاه, ما أجمل ذلك الماء للمتأمل الساكن, خاصة مع لذعٍ لطيفٍ من برد الصباح
النوفمبري, ماءٌ إذا مسّته يد النسيم حكى سلاسل الفضة, وإذا صافحته راحة الريح
تماوج كارتعاش القلب الرهيف إذا مسه خيال خلّه، يسقيه جدول يمشي على الرضراض، كأنه
دموع من عيونٍ مراض، قد ترقرقت فيه دموع السحائب التي لا تجف جفونها ولا يخف
أنينها.
بادرْتُ القهوة, فجئت بثلاث أثافٍ هيئتها موقدًا, وتخيّرت رقيق العيدان, وجعلت
تحتها الإذخر, وهو ما تسميه العامّة "السّاف" وهو حشيش سريع الاشتعال,
طيب النكهة, عبق الريح, فيه من نَفَس العطور المشرقيّة, ولربما جعله بعض الهواة
بديلاً عن النعناع في الشاي. حتى إذا نفخْتُ الرّمث بعد إيقاد الإذخر علقت النار
بها ولها أرجٌ لذيذ جمع بين خشونة الرمث الكلاسيكية ونعومة الإذخر الرومنسية!
فأصبح المزيج مضاهياً لعود كمبوديا ودهن خشب مليبار.. فانهلي يارئة الصبّ
منها ضوع خلّ كان بالأمس قرينًا.
جئتُ صاحبي بالبُنِّ العذب في الرسلانية المربوبة حديثاً, معها تمر خلاص في صفاء
الزجاجة, حتى إنك لترى القطمير في النواة من خلاله, كأنه زجاجة عسل السّدر
اليماني.. والتفتنا سويّا إلى صوت رعد بعيد، وشِمنا برقه فإذا سحاب ركاميّ مُدبرٌ
كأنه الليل جهة الجنوب, ألا ما أجمل البرق وأروعه.. وأهيبه!
وكانت سماؤنا قد التحفت غيومًا كأنها المحض من البياض، وليست بالثقيلة, ورويداً
بدا حاجبُ الشمس الذهبي, بانقشاع ذوائب السحائب, إلا من قزعات يتهادين نحو
الأُفُق, فكشفت الجاريةُ _ وهي الشمس _ قناعها, ولمع في أجنحة الطير ضياؤها, وذَهَّبَتْ
أطرافَ الماء بسبائكَ مسلسلةٍ متماوجةٍ تتهادى متنافرة متقاربة, في لوحة قشيبةٍ
فارهة فاخرة, فَقد سفَرَت ذُكَاءُ _ وهي الشمس _ سابحة بجلالٍ ووقارٍ تحت قبة الفلك الزرقاء.
أصلحنا شأننا واسترحنا عامة الضحى, وَغَزَالةُ _ وهي شمس الضحى _ترسل
شعاعها, حتى إذا مَتَعَ النهار, وانتعل كلُّ شيءٍ ظِلَّهُ, ورمت بَرَاح _ وهي الشمس _
بجمَراتِ الظهر عبر سهام الطَّيف, غير أن النسيم الوسمي البارد كسر حرّها, لكن الجَوْنَةُ _ وهي الشمس _ أبت بعد
ذلك إلا رِماحاً ماضية, فملنا إلى ظل دوحتنا نجرجر أذيال الاستسلام..
إنها الشمس بفخامتها وجلالها وبهائها وحياتها وكبريائها, سخّرها الله تعالى لخلقه،
وجعلها من جملة رزقه, لكن أكثر الناس ضلوا فلم يهتدوا, وكفروا حيثُ أُمِروا أن
يَشكُرُوا, هي أكثر وثنٍ عُبِد من الله تعالى, وقد تتابعت أمم الأوثان على عبادتها
وتعاورت على تأليهها, فلم تكد تخلُ أُمَّةُ من تأليهها, فقد سمّتها العربُ الإلهة
وعبدتها, وعبّدوا لها أبناءهم فسمّوا عبد شمس, ونحتت لها الصابئةُ الهياكل
وعبدتها, وما من أمة وثنية إلا جعلتها ضمن معبوداتها إن لم تجعلْها الكبرى, وجعلوا
لها يوماً وهو الأحد (sun dy)
أي: يوم الشمس, وأقاموا احتفالات وقرابين يوم اعتدالها الربيعي..
وهكذا استطالت ضروب
الوثنية فيها. وكلما رحل نبي كريم وخَفَتَ نور دعوته ورسالته, استجرت الشياطين
فئاماً من بني آدم إلى عبادة الكواكب, وأعظمها الشمس!
حتى ضرب الخافقين وقرع الأُفُقَيْن ناموس الإسلام ببعثة سيد الأنام عليه الصلوات
والبركات والسلام, بأعظم كتاب أوحاه رب العالمين, فأقام للشمس نطاقها الذي لا
تتجاوزه, فأظهر الله في القرآن أنها عابدة لا معبودة، ومربوبة لا ربّة، مسبِّحةٌ
بحمد ربها، ساجدة له، فقال جل شأنه وعز اسمه: "والشمس والقمر والنجوم مسخرات
بأمره" وقال سبحانه: "والشمس تجري لمستقرٍّ لها ذلك تقدير العزيز
العليم" وقال جل وعز: "هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً لتعلموا
عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون" وقال
سبحانه: "وسخر الشمس والقمر كلٌّ يجري لأجل مسمّى" وقال جل ذكره:
"ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم
والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له
من مكرم إن الله يفعل ما يشاء" وقال سبحانه وبحمده في آية حاسمة: "ومن
آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي
خلقهن إن كنتم إيّاه تعبدون" ثم بيّن نهاياتها وفناءها وخرابها وموتها بقوله
العظيم المزلزل: "إذا الشمس كوّرت" فالحمد لله على نعمة التوحيد, فاثبت
عليه حتى تلقى ربك أيها الحنيف..
إطلالة: لا تطيب الحياة
إلا بالتقوى, فمهما انغمس المرء في لذائذها, وتثنى بين أعطاف مباهجها؛ فسيبقى في
صدره فراغ كبير, لا يسدّه إلا طمأنينته بصحة مساره, وأُنْسُه بقرب خالقه.
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق