أخطاءٌ
في فهم الرضا بالله تعالى أو تطبيقه
الحمد لله، وبعد؛ فإنّ الرضا باب عظيم
من أبواب الدين، وهو من أعمال القلوب الكبار، وداخلٌ في لُبابِ الإسلام، إذ أصلُ
الإسلامِ تسليمٌ واستسلام لله تعالى بتوحيده وطاعته، وعينُ الاستسلام الرضا، فالرضا
هو محض التسليم، وكهف السكينة، وإكسير الانقياد، ومُوقدُ الهمّة للعبادة. ولمّا
كان الرضا بهذه الأهمية؛ كان حتمًا على كل موفّق فهم حدوده للوصول لغاياته، دون
روغان عن جادته، ولا زيغ عن محجّته. والخطأ فيه إما من صادرٌ من باب التصوّر
والعلم والفهم والتنظير، أو من باب العمل والسلوك والتطبيق. والهُدى أن يأخذ الله
بيد عملك وعين بصيرتك فينيرك بالعلم والإيمان، فاللهم اهدنا الصراط المستقيم. فمن
الأخطاء في باب الرضا:
الأول: نقص الفقه في معانيه الشرعية:
ذلك أن ميدان الرضا خصيب بالمعاني التي
تحتملها المفردات المترادفة والمتباينة، فيلزم من أراد فهم الرضا أن يتفقّه في
مقاصد ألفاظ الشرع، حتى لا يقع التباس يُحيل الباطل في عينه لحقّ يتوهّمه؛ فيَضلّ
ويُضلّ، قال ابن القيم رحمه الله: "وكثيرًا ما يشتبه في هذا الباب المحمود الكامل
بالمذموم الناقص، ومن ذلك: اشتباه الرضا عن الله بكل ما يفعل بعبده مما يحبه ويكرهه
بالعزم على ذلك وحديث النفس به، وذلك شيء والحقيقة شيء آخر، كما يحكى عن أبي سليمان
أنه قال: "أرجو أن أكون أُعطيتُ طرفًا من الرضا، لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا".
فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "هذا عزم منه على الرضا وحديث نفس به، ولو
أدخله النار لم يكن من ذلك شيء". وفرق بين العزم على الشيء وبين حقيقته".
(1)
وإن من خفي مكائد الشيطان أن يزيّن في نفس الإنسان التعبد ليشغله عن أفضل
التعبد وهو العلم، حتى إنه زيّن لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم ورموها في البحر.
وهذا قد ورد عن جماعة. وأحسن ظني بهم أن أقول: كان فيها شيء من رأيهم وكلامهم فما أحبّوا
انتشاره. وإلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه؛ كان رميها إضاعة للمال.
وقد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة حتى منعوا من حمل تلامذتهم المحابر،
وهذا من خفي حيل إبليس، (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ)". (2)
وقال أيضًا: "اعلم أن أول تلبيس إبليس عَلى الناس صدّهم عَنِ العلم، لأن العلم نور، فَإذا أطفأ مصابيحهم خبطهم فِي الظلم كيف شاء. وقَدْ دخل عَلى الصوفية فِي هَذا الفن من أبواب:
أحدها: أنه منع جمهورهم من العلم أصلًا، وأراهم أنه يحتاج إلى تعب وكُلَفٍ، فحسّن عندهم الراحة، فلبسوا المراقع، وجلسوا عَلى بساط البطالة! قال الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى: "أُسّس التصوّفُ عَلى الكسل".
ومقصود الإمام بهذا أن مقصود النفس الولايات، وأما استجلاب
الدنيا بالعلوم فإنه يطول ويتعب البدن، وقد يحصل المقصود أو لا يحصل. والصوفية قد
تعجّلوا الولايات، فإنهم يُرَون بعين الزهد واستجلاب الدنيا، فإنها اليهم سريعة.
ومن الصوفية من ذم العلماء، ورأى أن الاشتغال بالعلم بطالة، وقالوا:
إن علومنا بلا واسطة. وإنما رأوا بُعْدَ الطريق فِي طلب العلم، فقصّروا الثياب،
ورقّعوا الجباب، وحملوا الرّكاء، وأظهروا الزهد.
والثاني: أنه قنّع قوم منهم باليسير مِنهُ،
ففاتهم الفضل الكثير فِي كثرته. فاقتنعوا بأطراف الأحاديث، وأوهمهم أن علوّ
الإسناد والجلوس للحديث كلّه رياسة ودنيا، وأن للنفس فِي ذلك لذة.
وكشفُ هَذا التلبيس أنه ما
من مقامٍ عالٍ إلا وله فضيلة وفيه مخاطرة، فَإن الإمارة والقضاء والفتوى كلها
مخاطرة، وللنفس فيه لذة، ولكنها فضيلة عظيمة كالشوك فِي جوار الورد، فينبغي أن تُطلب
الفضائل ويُتّقي ما فِي ضمنها من الآفات. فأما ما فِي الطبع من حب الرياسة فإنه
إنما وُضع لتُجتلب هذه الفضيلة، كَما وضع حب النكاح ليحصل الولد. وبالعلم يُتقوّم
قصدُ العلم، كما قالَ يزيد بن هارون: "طلبنا العلم لغير اللَّه، فأبى إلا أن
يكون لله". (3) ومعناه: أنه دلنا عَلى الإخلاص. ومَن طالب نفسه بقطع ما فِي
طبعه لم يمكنه.
والثالث: أنه أوهم
قومًا منهم أن المقصود العمل، وما فهموا أن التشاغل بالعلم من أوفى الأعمال. ثم إن
العالم وأن قصر سير عمله فإنه عَلى الجادة، والعابد بغير علم عَلى غير الطريق.
والرابع: أنه أرى خلقًا
كثيرًا منهم أن العِلم هو ما اكتُسب من البواطن، حتى إن أحدهم تتخايل لَهُ وسوسةٌ
فيقول: "حَدَّثَنِي قلبي عَن ربي" (4) وكان الشِّبْلِي (5) يَقُول:
إذا طالبوني بعلم الوَرَقِ … برزتُ عليهم بعلم الخِرَقِ
وقد سمّوا علم الشريعة علم الظاهر، وسمّوا هواجس النفوس العلم الباطن..
ومن يترك العلم، ويقول أنه يعتمد عَلى الإلهام والخواطر فليس هَذا بشيء، إذ لولا
العلم النقلي ما عرفنا ما يقع فِي النفس أمن الإلهام للخير أوِ الوسوسة من
الشَّيطان. واعلم أن العلم الإلهامي المُلقى فِي القلوب لا يكفي عَنِ العلم
المنقول، كَما أن العلوم العقلية لا تكفي عَنِ العلوم الشرعية.
وجاء رجل إلى سَهل بن عَبد اللَّهِ وبيده محبرة وكتاب، فَقالَ لسهل:
جئت أن أكتب شيئًا ينفعني اللَّه به، فَقال: "اكتب، إن استطعت أن تلقى اللَّه
وبيدك المحبرة والكتاب فافعل"، قال: يا أبا مُحَمَّد؛ أفدني فائدة. فَقال: "الدنيا
كلّها جهل إلا ما كان علمًا، والعلم كله حجّة إلا ما كان عملًا، والعمل كله موقوف
إلا ما كان مِنهُ عَلى الكتاب والسنة، وتقوم السنة على التقوى". ومن أقواله:
"احفظوا السواد عَلى البياض، فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق". وقال: "ما
من طريق إلى اللَّه أفضل من العلم، فَإن عدلت عَن طريق العلم خطوة؛ تهت فِي الظلام
أربعين صباحًا". وعن أبي بَكر الدقاق قال: سَمِعت أبا سَعِيد الخرّاز يَقُول:
"كل باطن يخالف ظاهرًا فهو باطل". وقَدْ نبه الإمام أبُو حامد الغزالي
فِي كتاب الأحياء فَقال: "من قال إن الحقيقة تخالف الشريعة أوِ الباطن يخالف
الظاهر فهو إلى الكفر أقرب مِنهُ إلى الإيمان". وقال ابن عقيل: "جعلت
الصوفية الشريعة اسمًا، وقالوا: المراد منها الحقيقة. قال: وهذا قبيح، لأن الشريعة
وضعَها الحقُّ لمصالح الخلق وتعبداتهم، فما الحقيقة بعد هَذا سوى شيء واقع فِي
النفس من إلقاء الشياطين، وكل من رام الحقيقة فِي غير الشريعة فمغرور مخدوع".
ولمّا انقسم هؤلاء بين متكاسل عَن طلب العلم (6) وبين ظانّ أن العلم
هو ما يقع فِي النفوس من ثمرات التعبد،
وسمّوا ذلك العلم العلم الباطن؛ ونَهوا عَنِ التشاغل بالعلم الظاهر! قال جعفَر
الخلدي: "لو تركني الصوفية لجئتكم بإسناد الدنيا، (7) لقد مضيت إلى عَبّاس
الدوري وأنا حَدَثٌ (8) فكتبت عنه مجلسًا واحدًا، وخرجت من عنده فلقيني بعض من كنت
أصحبه من الصوفية فَقال: أيش هَذا معك؟ فأريته إياه، فَقال: ويحك، تدع علم الخِرَقِ
وتأخذ علم الورق! ثم خرق الأوراق، فدخل كلامه فِي قلبي فلم أعد إلى عَبّاس". وقال
أبو سَعِيد الكندي: "كنت أنزل رباط الصوفية، وأطلب الحديث فِي خفية بحيث لا
يعلمون، فسقطت الدواة يومًا من كُمّي (9) فَقال لي بعض الصوفية: أستر عورتك! (10) وقال
الحُسَين الصفار: "كان بيدي محبرة، فَقال لي الشبلي: غيّب سوادك عني يكفيني
سواد قلبي".
وإن من أكبر المعاندة لله تعالى
الصد عَن سبيل اللَّه، وأوضحُ سبيل للَّه العلم؛ لأنه دليل عَلى اللَّه وبيان لأحكام اللَّه وشرعه وإيضاح لما يحبه ويكرهه، فالمنع مِنهُ معاداة لله ولشرعه، ولكن الناهين عَنْ ذلك ما تفطنوا لما فعلوا. قال
عَبد اللَّهِ بن خفيف: "اشتغلوا بتعلم العلم، ولا يغرنكم كلام الصوفية، فإني
كنت أخبئ محبرتي فِي جيب مرقعتي، والكاغد فِي حزّة سراويلي، وكنت أذهب خفية إلى
أهل العلم، فَإذا علموا بي خاصموني وقالوا: لا تفلح! ثم احتاجوا إليّ بعد ذلك".
وقَد كان الإمام أحمد بن حنبل يرى المحابر بأيدي طلبة العلم فيقول: "هذه سُرُجُ
الإسلام". وكان هو يحمل المحبرة عَلى كبر سنه، فَقالَ لَهُ رجل: إلى متى يا
أبا عَبد اللَّه؟ فَقال: "مع المحبرة إلى المقبرة". وقال فِي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتِي مَنصُورِينَ، لا يَضَرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتّى
تَقُومَ السّاعَةُ». (11) فَقال أحمد: "إن لم يكونوا
أصحاب الحديث فلا أدري من هم". وقيل له: إن رجلًا قال فِي أصحاب الحديث: إنهم
كانوا قوم سوء! فَقال أحمد: "هو زنديق". وقَد قال الإمام الشافعي رحمه الله: "إذا رأيتُ رجلًا من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلًا من أصحاب رَسُول اللَّهِ ﷺ".
واعلم أن هؤلاء القوم لما تركوا العلم وانفردوا بالرياضات عَلى مقتضى آرائهم؛ لم يصبروا عَن الكلام فِي العلوم، فتكلموا بِواقِعاتهم،
(12) فوقعت الأغاليط القبيحة منهم، فتارة يتكلمون فِي تفسير القرآن، وتارة فِي الحديث، وتارة فِي الفقه، وغير ذلك. ويسوقون العلوم إلى مقتضى علمهم الذي انفردوا به، واللَّه سبحانه لا يُخلي الزمان من
أقوام قُوَّامٌ بشرعه، يردّون عَلى المتخرّصين، ويبينون غلط الغالطين". (13) وقال
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "فإذا جاءت عَصا الشريعةِ المحمدية ابتلعتْ ما
صَنعَه الخارجون عنها من السِّحْر المُفْتَرى، (ولا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أتى)".
(14)
فلا تركننّ أخي إلى العازِفين عن العلم، الراغبين عن التعلّم، فالعلم
وقود العمل، ونور الطريق، ومنار المنهاج، وعملٌ بلا علمٍ وبالٌ وحسرة، وفي أمر
أعمال القلوب ترد على النفوس وساوس لا تنقمع بإذن الله إلا بنور ساطع من علم يجلو
دياجير ظلمات الجهالات، وصدق الله تعالى إذ قال في محكم التنزيل: (قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب).
ولعلّ من حِكَمِ الله تعالى بإفقار كثير من أهل العلم صيانةً لحَرَمِ
العلم، حتى لا يكون تعلّم علم الشرع سُوقًا لطُلّاب الدنيا، بل مُتَّجَرًا
للراغبين في الله والدار الآخرة، فترى الناس تُعطي وتهدي وتوظّف أهل الدنيا دون
كثير من أهل العلم، فنتج عن ذلك ألّا يتّجه للعلم إلا من أحبّ العلم لذاته لأنه
مقرّب إلى الله تعالى، فأحبَّ طلب العلم لله لا للناس، ولو أنّ الناس أعطوا أهل
العلم على علمهم لتصدّر للعلم طُلّاب الدنيا لا الدين، ولأصبح لفتاوى العلماء
أسعار في بورصة البيع والشراء بحسب أهواء المُشترين، لكنّ الحكيم سبحانه صان العلم
عن الطامعين، ولعل هذا من حِكَمِ أنّ الوظائف الدينية كالقضاء والحُسبة والتعليم
ونحوها لا يُعطى أصحابها أجرةً بل رَزْقًا ومكافأة تكفيه من بيت المال ما يقوم
حاله وعياله. وطلب العلم سلاح ذو حدّين، فإن طلبه لله تعالى رفعه وأدناه من ربّه
وأوشك أن يكون مع الصدّيقين، أما إن طلبه للدنيا فقد خاب وخسر. وفي سنن أبي داود
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلّم علمًا مما
يُبتغى به وجه الله، لا يتعلّمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا؛ لم يرح رائحة الجنة
يوم القيامة". (15) والله أعلم. وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى
أخبارًا عن تخبّط الشياطين بخواطر العُباد كيما يفتنوهم عن الاستقامة، فمن ذلك
قوله رحمه الله تعالى: "كما إن كثيرًا من العبّاد يرى الكعبة تطوف به، ويرى
عرشًا عظيمًا وعليه صورة عظيمة، ويرى أشخاصًا تصعد وتنزل فيظنها الملائكة، ويظن أن
تلك الصورة هي الله تعالى وتقدس، ويكون ذلك شيطانًا!
وقد جرت هذه القصة لغير واحد
من الناس، فمنهم من عصمه الله وعرف أنه الشيطان كالشيخ عبد القادر (16) في حكايته
المشهورة، حيث قال: كنت مرّة في العبادة، فرأيت عرشًا عظيمًا، وعليه نور، فقال لي:
يا عبد القادر؛ أنا ربّك، وقد أحللتُ لك ما حرّمت على غيرك. قال: فقلت له: أنت
الله الذي لا إله إلا هو! اخسأ يا عدوّ الله. قال: فتمزّق ذلك النور وصار ظلمة،
وقال: يا عبد القادر؛ نجوت مني بفقهك في دينك وعلمك وبمنازلاتك في أحوالك (17) لقد
فتنتُ بهذه القصة سبعين رجلًا. فقيل له: كيف علمت أنه الشيطان؟ قال: بقوله لي: أحللت
لك ما حرمت على غيرك. وقد علمتُ أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا تُنسخ ولا تُبدّل،
ولأنه قال: أنا ربك. ولم يقدر أن يقول: أنا الله الذي لا إله إلا أنا.
ومن هؤلاء من اعتقد أن
المرئي هو الله، وصار هو وأصحابه يعتقدون أنهم يرون الله تعالى في اليقظة،
ومستندهم ما شاهدوه. وهم صادقون فيما يخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذلك هو
الشيطان. وهذا قد وقع كثيرًا لطوائف من جهال العُبّاد يظن أحدهم أنه يرى الله
تعالى بعينه في الدنيا، لأن كثيرًا منهم رأى ما ظن أنه الله، وإنما هو شيطان".
(18)
الثاني: ترك معونة الناس بحجة الرضا
بالقضاء:
إنّ من المهمات: معرفة أن الرضا محرّك إيجابي، ودافع لإغاثة الملهوف،
وإعانة المحتاج، وإغناء المسكين، ونصر المظلوم، وفكِّ العاني، والقيام لله في ذلك
كله، وليس معناه الإعراض عنهم، والتولّي عند حاجتهم، والإدبار عن نفعهم بحجة
الرضا:
صمتُ الفقير بكاءٌ لا يحُسُّ بهِ ... في
ضجـّة الكون إلا مَن يُعانيهِ
يبكي بُكاءً مريرًا لا دموعَ لهُ ... إذ
أنهُ عن عيون الناس يُخفيهِ
لأنهُ مُعدِمٌ لا مال في يَدهِ ... سوى
التّعفُّف في أسمى معانيهِ
لا يسأل الناس إلحافًا ولا طمعًا ... وفيهِ
من حسرةِ الإملاق ما فيهِ
ذاك الذي يستحق العون فانتبهوا ... ولا تقولوا غناء النفس يكفيهِ
ففتّشوا الآن في الأحياءِ عنهُ ولا ... يستصغِر
الأجرَ عند الله مُعطيهِ
الثالث: تمني البلاء:
من الأخطاء في باب الرضا: تمني البلاء. فيتمنى العبد بلاء كي يرضى
به، وهو منه أصلًا في عافية، ولا يدري عاقبته في نفسه، ولا مدى احتماله له، ولا
يدري عن توفيق الله له بتثبيت عزمه على الرضا، فكم انفسخت في الناس من عزيمة،
وبطلت من همّة، واضمحلّت من إرادة! وليس من سنة الرسل تمني البلاء وإن التذّوا به
حين يقع لعظيم إيمانهم وقوّة علمهم وعصمة الله تعالى لهم، ونبي صلى الله عليه وسلم
كان يسأل ربه العافية، ويوصي أمته بذلك، وكلُّ الهدى في سنته، والسلامة لا يعدلها
شيء. قال المباركفوري رحمه الله تعالى:
"قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله قومًا ابتلاهم". (19):
المقصود الحث على الصبر على البلاء بعد وقوعه، لا الترغيب في طلبه للنهي عنه".(20)
ومما يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "أيها الناس؛ لا تتمنّوا لقاء
العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا". (21) فنهانا عليه الصلاة
والسلام عن تمني البلاء، وأمرنا أن نسأل الله أن يعافيَنا منه كذلك، كما أمرنا بالصبر
عند وقوعه.
وقال عليه الصلاة والسلام: "تعوذوا بالله من جَهْدِ البلاء، ودَرَكِ
الشقاء، وسوءِ القضاء، وشماتة الأعداء". (22) وعن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من جَهْد البلاء، ودَرَك الشقاء،
وسوء القضاء، وشماتة الأعداء". (23) وفي صحيح مسلم (24) عن أنس رضي الله عنه:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من المسلمين قد خَفَتَ (25) فصار مثل الفَرْخ
(26)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله
إيّاه"؟ قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقِبِي به في الآخرة فعجّله لي
في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، لا تطيقه، أو
لا تستطيعه. (27) أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا
عذاب النار"؟ قال: "فدعا الله له فشفاه". ففي هذه الأحاديث وأمثالها
استحباب التعوذ من البلاء، وكراهة تمنّيه. والخطأ ليس في سؤال الله العافية وتمني عدم
البلاء، بل الخطأ في سؤال الله إيّاه وقد عافاه، وتمنّيه وقد نهاه، (ما يفعل الله
بعذابكم). وقد مرّ الكلام عن ذلك.
وتأمل تفسير الحسن البصري لآية الحسنة فقد قال في قوله تعالى: ( ربنا
آتنا في الدنيا حسنة ) هي العلم والعبادة، ( وفي الآخرة حسنة ) هي الجنّة". (28) نسأل الله الكريم من فضله. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "هذا
من أحسن التفسير؛ فإنّ أجلّ حسنات الدنيا العلم النافع والعمل الصالح". (29) وهذا
تفسير للشيء ببعض معناه، أو بالمهمّ من تأويله، وإلا فحسنات الدنيا الشرعية
والدنيوية المباحة لا تُحصى بفضل الله وكرمه، وبالله التوفيق.
الرابع: اشتراط عدم الإحساس بالألم:
ليس من شرط الرضا فقد الإحساس بالمؤلم، فهذا ممتنع على الطبيعة، بل
إن الكمال أن يكون الرضا مع الألم حتى يتجرّد ذلك العمل القلبي الجميل من حظوظ
النفس. وقد مضى الكلام على هذا.
الخامس: تركُ الأسباب بحُجّة الرضا
بالقضاء:
العبدُ دائرٌ في عبوديّته بين مأمور بفعله،
ومحظور بتركه، فوظيفتُه فعل المأمور واجتناب المنهي، وهو بهذا يفعل الأسباب المأمور
بها، ويترك المنهيّ عنها.
ومن الأسباب التي لابد له من فعلها - أي
هو مأمور بها -: ما يحفظ حياته من الطعام، والشراب، واللباس، والمسكن، وكذلك الأسباب
الموجبة لبقاء نوع الإنسان من النكاح، وما يحافظ على عقله، وماله، وغير ذلك من ضرورات
الحياة. وإن تعطيل شيء مِمَّا أمر الله به، أو الوقوع فيما نهى الله عنه يفسد حياته
وآخرته. وفعل الأسباب ليس مانعًا من الرضا، بل ذلك من الرضا بقضاء الله وقدره، ولا
يتحقق الرضا بالقضاء إلا بفعل الأسباب المأمور بها، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزَآؤُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا
رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ }. وقال سبحانه:
{ لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ
حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ
أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيْمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ
مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ
اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }. وغيرهما من الآيات الكثيرة التي تدل على أن فعل الأسباب
من الإيمان والعمل الصالح بكل أنواعه وكيفياته، ومنه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
والحب في الله، والبغض فيه وله، والجهاد في سبيل الله، وابتغاء الرزق الحلال من غير
جشع أو طمع، والإنفاق في وجوه الخير، وغير ذلك من العبادات الواجبات والمسنونات والمستحبات.
وكما قيل: "من أراد أن يبلغ محلّ الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه". (30)
ومن قال أو ظن أو فهم أن الرضا ترك التدبير
أو ترك الأسباب؛ فقد طعن في الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فالله عزّوجل
يقول: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، وقال: (كلوا من رزق ربكم واشكروا له
لبدة طيبة ورب غفور)، وقال: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا }،
والغنيمة: اكتساب. وقال تعالى: { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ
كُلَّ بَنَانٍ } فهذا عمل، وقد هاجر صلى الله عليه وسلم مستخفيًا، كما ظاهر في
الحرب بين درعين وهو أرضى الخلق طرًّا بربهم صلى الله عليه وسلم.
فالرضا والتسليم لله، والإيقان بأنّ قضاءَ
الله ماضٍ نافذ، واتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من
الأسباب، من مطعم ومشرب، وتحرّز من عدو، وإعداد الأسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله
تعالى المعتادة؛ هو الحق والصواب، والخير والفلاح للعبد في ذلك، (31) وبالله التوفيق.
السادس: تركُ الدعاءِ أو الإلحاحِ
فيه بحجّة الرضا:
وهذا باطل، فالدين وِعاءُ الدعاء،
والله يحب أن يُدعى، وقد أمر كثيرًا بالدعاء. والدعاء الملحّ بصلاح أمور الدين
واضح المشروعية مؤكد الاستحباب، أما في أمور الدنيا فمشروع كذلك بشرط سكون القلب
بما قسم الله له. وربنا تعالى يقول: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }، وقال سبحانه:
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ }، وقال: { وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }، وقال عزّ
وجل: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً }، والآيات في هذا كثيرة.
وفي صحيح مسلم (32) بسنده عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه قال: "لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمئة وتسعة عشر رجلًا، فاستقبل نبي الله صلى
الله عليه وسلم القبلة، ثم مدّ يديه، فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما
وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد
في الأرض" فما زال يهتف بربه مادًّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه
عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال:
يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل: (إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) فأمدّه الله
بالملائكة.
وقال
صلى الله عليه وسلم: "من لا يسأل الله يغضب عليه". (33) فإذا كان سؤال الله يرضيه؛ لم يكن الإلحاح
فيه منافيًا لرضاه.
أمَّا سؤال العباد، وإهراق ماء حياة
الوجه تحت لُعَاعتهم، فذلك عيب في صدق التديّن، فإنه يُطفئُ الرضا، ويذهب بهجته، ويبدّل
حلاوته مرارة، ويكدّر صفوه شوبًا دنيئًا.
فإنّ إرَاقَةَ
ماءِ الحَيَاة ... دُونَ إراقَةِ ماءِ المُحَيَّا
ومن قال: إن الدعاء بكشف البلاء يقدح في
الرضا والتسليم. فالجواب عليه: إن الطلب من الله ليس ممنوعًا، بل هو عبادة من أجلِّ
العبادات التي أمر الله بها، وكرّر أمره به وأبدأ فيه وأعاد، لأهميته بل لضرورة
العبد له. كما قال سبحانه وتعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }، وقال سبحانه وتعالى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ
دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ
مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }. (34) ومن مأثور الإمام الشافعي رحمه الله:
أتهزأُ بالدعاء وتزدريه ... وما
تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليل لا تخطي ولكن ... لها
أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ
واعلم أنّ القلوبَ ضعيفةٌ، والشُّبَهَ خطَّافةٌ،
وأن الأفكار والتصوّرات والعلوم لها واردات عقليّة إن لم يكُ صاحبُها مُحَصّنًا
بأَثَارَةٍ من علم الوحي، مُعتصمًا بأَثِرِ الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم،
مُقتفيًا آثَارَ السلف الصالح في معتقده وسلوكه وهديه وسَمْتِه وقصده وقوله وعمله؛
فهو على شفا جُرُفٍ هار، والمحفوظ المُوفّق من حفظه الله ووفقه. فادع الله تعالى
أن يُنجيك من شبكة الشبهات، وادعه دعاء الغرِق لعلّه ينظر إليك نظر رحمة وإجابة
وقبول، فينجيك من شرّ نفسك وشرّ الشيطان وشركه. وتأمل وصيّة ابن المبارك رحمه الله
تعالى ومرّرها على عقلك، واضعًا يدك على قلبك، لَهِجًا بدعاء ربك أن يعصمك من سوء
الفتن. قال رحمه الله تعالى: "إن البُصَراء لا يأمنون من أربع: ذنبٍ قد مضى
لا يُدرى ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعُمرٍ قد بقي لا يُدرى ما فيه من الهلَكة، وفَضْلٍ قد أُعطيَ العبدُ لعله مَكرٌ واستدراج، وضلالةٍ قد زُيّنتْ يراها هُدى، وزيغِ قلبٍ ساعةً، فقد يُسلبُ المرءُ دينَه ولا يشعر»! (35)
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عما ذكر القشيري
في باب الرضا عن الشيخ أبى سليمان أنه قال: "الرضا ألّا يَسأل اللهَ الجنة، ولا
يستعيذ من النار"، فهل هذا الكلام صحيح؟ فأجاب بجواب تأصيلي من جهة التثبت
أوّلًا من نسبة هذا الكلام لمن نُسب إليه، ثم فنّد هذا الباطل بدلائل القرآن
والسنة والبراهين العقليّة، وسألخص مهمّاته مستعينًا بالله تعالى، قال رحمه الله
تعالى: "الحمد لله رب العالمين، الكلام على هذا القول من وجهين: أحدها:
من جهة ثبوته عن الشيخ، والثاني: من جهة صحته في نفسه وفساده.
أما المقام الأول: فينبغي أن يُعلم أن
الأستاذ أبا القاسم (36) لم يذكر هذا عن الشيخ أبي سليمان (37) بإسناد، وإنما ذكره
مرسلًا عنه، وما يذكره أبو القاسم في رسالته فيه الصحيح والضعيف والموضوع كحال
غيره.
وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق
أنبياء الله ورسله وجميعِ أوليائه السابقين المقرّبين وأصحاب اليمين، كما في السنن
أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بعض أصحابه: "كيف تقول في دعائك"؟
قال: أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار. أما إني لا أحسن دندنتك ولا
دندنة معاذ! فقال: "حولهما ندندن". (38) فقد أخبر أنه هو صلى
الله عليه وسلم ومعاذ وهو أفضل الأئمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي صلى الله
عليه وسلم إنما يدندنون حول الجنة، أفيكون قول أحد فوق قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومعاذ ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والأنصار؟!
وقد ثبت في الصحيح (39) عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلّوا عليّ، فإنه
من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرًا. ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في
الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله
لي الوسيلة؛ حلّت عليه شفاعتي يوم القيامة". فقد أخبر أن الوسيلة التي لا
تصلح إلا لعبد واحد من عباد الله، ورجا أن يكون هو ذلك العبد، وهي درجة في الجنة.
فهل بقي بعد الوسيلة شيء أعلى منها يكون خارجًا عن الجنة يصلح للمخلوقين؟!
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "إن لله تعالى ملائكةً يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا
وجدوا قومًا يذكرون الله عز وجل، تنادوا: هلمّوا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم
إلى السماء الدنيا. فيسألهم ربهم - وهو أعلم -: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبّحونك،
ويكبرونك، ويحمدونك، ويُمجّدونك. فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك.
فيقول: كيف لو رأوني؟! قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشدَّ لك
تمجيدًا، وأكثرَ لك تسبيحًا.
فيقول: فماذا يسألون؟ قال: يقولون: يسألونك
الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول:
فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا،
وأعظم فيها رغبة.
قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: يتعوذون من
النار. قال: فيقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. فيقول: كيف لو
رأوها؟! قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافة.
قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم.
قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة. قال: هم الجلساءُ
لا يشقى بهم جليسهم". (40) فهؤلاء الذين هم من أفضل أولياء الله كان مطلوبهم الجنة،
ومهربهم من النار.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما بايع الأنصار
ليلة العقبة، وكان الذين اتبعوه من أفضل السابقين الأولين الذين هم أفضل من هؤلاء
المشايخ كلهم. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اشترطْ لربك ولنفسك ولأصحابك. قال:
"أشترطُ لنفسي أن تنصروني مما تنصرون منه أنفسكم وأهليكم، وأشترطُ لأصحابي أن
تواسوهم". قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: "لكم الجنة".
قالوا: مُدّ يدك، فوالله لا نُقيلك ولا نَستقيلك. (41)
فهؤلاء الذين هم من أعظم خلق الله محبة
لله ورسوله، وبذلًا لنفوسهم وأموالهم في رضا الله ورسوله على وجه لا يلحقهم فيه
أحد من هؤلاء المتأخرين، وقد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة. فلو كان هناك مطلوب أعلى من ذلك لطلبوه، ولكن علموا أن في
الجنة كل محبوب ومطلوب، بل وفي الحقيقة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه، فإن الطلب
والحب والإرادة فرع عن الشعور والإحساس والتصوّر، فما لا يتصوّره الإنسان ولا يحسّه
ولا يشعر به يمتنع أن يطلبه ويحبه ويريده. فالجنة فيها هذا وهذا، (42) كما قال
تعالى: { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد }، وقال: { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ
الأعين}. ففيها ما يشتهون وفيها مزيد على ذلك، وهو ما لم يبلغه علمهم ليشتهوه، كما
قال صلى الله عليه وسلم: "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
بشر". (43) وهذا باب واسع.
فإذا عرفت هذه المقدمة؛ فقول القائل: الرضا أن
لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار، إن أراد بذلك أن لا تسأل الله ما هو
داخل في مسمى الجنة الشرعية، فلا تسأله النظر إليه ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع
الأنبياء والأولياء، وأنك لا تستعيذ به من احتجابه عنك، ولا من تعذيبك في النار؛
فهذا الكلام مع كونه مخالفًا لجميع الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين، فهو متناقض
في نفسه، فاسد في صريح العقول، وذلك أن الرضا الذي لا يُسأل؛ إنما لا يَسأله لرضاه
عن الله، ورضاه عنه إنما هو بعد معرفته به ومحبته له. وإذا لم يبق معه رضا عن الله
ولا محبة لله؛ فكأنه قال: يرضى ألّا يرضى، وهذا جمع بين النقيضين! ولا ريب أنه
كلام مَن لم يتصوّر ما يقول ولا عقَلَه.
يوضح ذلك أن الراضي إنما يحمله على احتمال
المكاره والآلام ما يجده من لذة الرضا وحلاوته، فإذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع
أن يحتمل ألمًا ومرارة، فكيف يُتصوّر أن يكون راضيًا وليس معه من حلاوة الرضا ما
يحمل به مرارة المكاره (44). وإنما هذا من جنس كلام السكران، والفاني الذي وجد في
نفسه حلاوة الرضا فظن أن هذا يبقى معه على أي حال كان، وهذا غلط عظيم منه.
وإن أراد بذلك أن لا يسأل التمتع بالمخلوق، بل
يسأل ما هو أعلى من ذلك؛ فقد غلط من وجهين: من جهة أنه لم يجعل ذلك المطلوب من
الجنة، وهو أعلى نعيم الجنة. ومن جهة أنه أيضًا أثبت أنه طالبٌ مع كونه راضيًا.
فإذا كان الرضا لا ينافي هذا الطلب فلا ينافي طلبًا آخر إذا كان محتاجًا إلى
مطلوبه. ومعلوم أن تمتعه بالنظر لا يتم إلا بسلامته من النار، وبتنعّمه من الجنة
بما هو دون النظر. وما لا يتم المطلوب إلا به فهو مطلوب، فيكون طلبه للنظر طلبًا
للوازمه التي منها النجاة من النار، فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ودفع
المضرة عنه، ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر.
فتبين تناقض قوله.
وأيضًا فإذا لم يسأل الله الجنة ولم يستعذ به من
النار؛ فإما أن يطلب من الله ما هو دون ذلك مما يحتاج إليه من طلب منفعة ودفع مضرة،
وإما ألّا يطلبه. فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك؛ فطلبه للجنة أولى،
واستعاذته من النار أولى.
وإن كان الرضا ألّا يطلب شيئًا قط ولو
كان مضطرًا إليه، ولا يستعيذ من شيء قط وإن كان مضرًّا؛ فلا يخلو: إما أن يكون
ملتفتًا بقلبه إلى الله في أن يفعل به ذلك، وإما أن يكون معرضًا عن ذلك. فإن التفت
بقلبه إلى الله فهو طالب مستعيذ بحاله، ولا فرق بين الطلب بالحال والقال، وهو بهما
أكمل وأتمّ، فلا يعدل عنه. وإن كان معرضًا عن جميع ذلك؛ فمن المعلوم أنه لا يحيا
ويبقى إلا بما يقيم حياته ويدفع مضارّه بذلك. والذي به يحيا من المنافع ودفع
المضار إما أن يحبه ويطلبه ويريده من أحد، أو لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده، فإن
أحبه وطلبه وأراده من غير الله كان مشركًا مذمومًا، فضلًا عن أن يكون محمودًا، وإن
قال: لا أحبه ولا أطلبه ولا أريده لا من الله ولا من خلقه؛ قيل: هذا ممتنع في الحي،
فإن الحي ممتنع عليه ألّا يحب ما به يبقى، وهذا أمر معلوم بالحس. ومن كان بهذه
المثابة امتنع أن يوصف بالرضا، فإن الراضي موصوف بحب وإرادة خاصة، إذ الرضا مستلزم
لذلك، فكيف يسلب عنه ذلك كله. فهذا وأمثاله مما يبين فساد هذا الكلام.
وأما في سبيل الله وطريقه ودينه فمن وجوه:
أحدها: أن يقال: الراضي لا بد أن يفعل ما
يرضاه الله، وإلا فكيف يكون راضيًا عن الله من لا يفعل ما يرضاه الله؟! وكيف يسوغ
رضا ما يكرهه الله ويسخطه ويذمّه وينهى عنه؟! وبيان هذا: أن الرضا المحمود إما أن
يكون الله يحبه ويرضاه، وإما ألّا يحبه ويرضاه، فإن لم يكن يحبه ويرضاه، لم يكن
هذا الرضا مأمورًا به لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب، فإن من الرضا ما هو كفر؛ كرضا
الكفار بالشرك، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه. قال تعالى:
{ ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم }، فمن اتبع ما أسخط
الله برضاه وعمله فقد أسخط الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن
الخطيئة إذا عُملت في الأرض كان من غاب عنها ورضيها كمن حضرها، ومن شهدها وسخطها
كان كمن غاب عنها وأنكرها". (45) وقال صلى الله عليه وسلم: "سيكون
بعدي أمراء تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع".
(46) وقال تعالى: { يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن
القوم الفاسقين }. فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه الله ويرضاه، وهو لا
يرضى عنهم. وقال تعالى: { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا
في الآخرة إلا قليل }، فهذا رضا قد ذمّه الله. وقال تعالى: { إن الذين لا يرجون
لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها }، فهذا أيضًا رضًا مذموم، وسوى هذا
وهذا كثير.
فمن رضي بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره
ومعاصيه ومعاصي غيره؛ فليس هو متّبعًا لرضا الله، ولا هو مؤمن بالله، بل هو مُسخط
لربه، وربه غضبان عليه، لاعنٌ له، ذامّ له، متوعِّدٌ له بالعقاب.
وطريق الله التي يأمر بها المشايخ المهتدون إنما
هي الأمر بطاعة الله، والنهي عن معصيته. فمن أمر، أو استحب، أو مدح الرضا الذي
يكرهه الله ويذمه، وينهى عنه، ويعاقب أصحابه؛ فهو عدوٌّ لله، لا وليّ لله، وهو يصدّ
عن سبيل الله، وطريقه ليس بسالك لطريقه وسبيله. وذلك أن الرضا نوعان:
أحدهما: الرضا بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه،
ويتناول ما أباحه الله من غير تعدّ إلى المحظور كما قال: { والله ورسوله أحق أن
يرضوه }، وقال تعالى: { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله
سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }، وهذا الرضا واجب. ولهذا ذم من
تركه بقوله: { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها
إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله
من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }.
والنوع الثاني: الرضا بالمصائب، كالفقر والمرض والذل؛
فهذا الرضا مستحب في أحد قولي العلماء، وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجب، والصحيح:
أن الواجب هو الصبر، كما قال الحسن: "الرضا غريزة، ولكن الصبر مُعَوَّلُ
المؤمن".
وأما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان؛
فالذي عليه أئمة الدين أنه لا يرضى بذلك، فإن الله لا يرضاه كما قال: { ولا يرضى
لعباده الكفر }، وقال: { والله لا يحب الفساد }، وقال تعالى: { فإن ترضوا عنهم فإن
الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }. فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه، بل
يسخطه ذلك، وهو يسخط عليهم ويغضب عليهم؛ فكيف يُشرع للمؤمن أن يرضى ذلك، وألّا
يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه.
والمقصود هنا أن ما ذكره القشيري عن
النصر آبادي من أحسن الكلام حيث قال: "من أراد أن يبلغ محل الرضا؛ فليلزم ما
جعل الله رضاه فيه"، وكذلك قول الشيخ أبي سليمان: "إذا سلا العبد عن
الشهوات فهو راض". وذلك أن العبد إنما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه
لفضول شهواتها، فإذا لم يحصل سخط، فإذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم الله له من
الرزق. وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض أنه قال لبشر الحافي: "الرضا أفضل من
الزهد في الدنيا، لأن الراضي لا يتمنّى فوق منزلته"، كلام حسن، لكن أشك في
سماع بشر الحافي من الفضيل. وكذلك ما ذكره معلَّقًا قال: "قال الشبلي بين يدي
الجنيد: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقال الجنيد: قولك ذا ضيق الصدر، وضيق الصدر
لترك الرضا بالقضاء". فإن هذا من أحسن الكلام. وكان الجنيد رضي الله عنه سيّد
الطائفة ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا. وذلك أن هذه الكلمة كلمة استعانة
لا كلمة استرجاع. وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع، ويقولها
جزعًا لا صبرًا. فالجنيد أنكر على الشبلي في سبب قوله لها إذ كانت حالًا ينافي
الرضا، ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه. (47)
ومثل ما ذكر القشيري أنه قيل: كتب عمر
بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: "أما بعد؛ فإن الخير كله في
الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر". فهذا الكلام كلام حسن وإن لم يعلم
إسناده. وإذا تبين أن فيما ذكره مسندًا ومرسلًا ومعلّقًا ما هو صحيح وغيره؛ فهذه
الكلمة لم يذكرها عن أبي سليمان إلا مرسلة. وبمثل ذلك لا تثبت عن أبي سليمان
باتفاق الناس، فإنه وإن قال بعض الناس: إن المرسل حجة؛ فهذا لم يعلم أن المرسل هو
مثل الضعيف وغير الضعيف، فأما إذا عرف ذلك فلا يبقى حجة باتفاق العلماء، كمن علم
أنه تارة يحفظ الإسناد وتارة يغلط فيه. والكتب المسندة في أخبار
هؤلاء المشايخ وكلامهم مثل كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم، وطبقات الصوفية لأبي عبد
الرحمن، وصفة الصفوة لابن الجوزي، وأمثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ
أبي سليمان. ألا ترى الذي رواه عنه مسندًا حيث قال: "قال لأحمد بن أبي
الحواري: يا أحمد؛ لقد أوتيتُ من الرضا نصيبًا لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا".
فهذا الكلام مأثور عن أبي سليمان بالإسناد، ولهذا أسنده عنه القشيري من طريق شيخه
أبي عبد الرحمن، بخلاف تلك الكلمة، فإنها لم تُسند عنه، فلا أصل لها عن الشيخ أبي
سليمان.
ثم إن القشيري قرن هذه الكلمة الثانية عن أبي
سليمان بكلمة أحسن منها، فإنه قبل أن يرويها قال: "وسئل أبو عثمان الحيري
النيسابوري عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك الرضا بعد القضاء"
(48)، فقال: "لأن الرضا بعد القضاء هو الرضا". فهذا الذي قاله الشيخ أبو
عثمان كلام حسن سديد. ثم أسند بعد هذا عن الشيخ أبي سليمان أنه قال: "أرجو أن
أكون قد عرفت طرفًا من الرضا؛ لو أنه أدخلني النار لكنت بذلك راضيًا"! فتبين
بذلك أن ما قاله أبو سليمان ليس هو رضا، وإنما هو عزم على الرضا، وإنما الرضا ما
يكون بعد القضاء. وإن كان هذا عزمًا فالعزم قد يدوم، وقد ينفسخ. وما أكثر انفساخ
العزائم، خصوصًا عزائم الصوفية، (49) ولهذا قيل لبعضهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: "بفسخ
العزائم ونقض الهمم". وقد قال تعالى لمن هو أفضل من هؤلاء المشايخ: { ولقد
كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون }، وقال تعالى: { يا
أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا
تفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص }، وفي الترمذي:
أن بعض الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لو علمنا أيّ العمل أحبّ إلى الله
لعملناه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. (50) وقد قال تعالى: { ألم تر إلى الذين قيل
لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم
يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا
إلى أجل قريب }الآية. فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد وأحبّوه؛ فلما
ابتلوا به كرهوه، وفروا منه. وأين ألم الجهاد من ألم النار وعذاب الله الذي لا
طاقة لأحد به؟! ومثل هذا ما يذكرونه عن سمنون
المحب، أنه كان يقول:
وليس لي في سواكَ
حظٌّ ... فكيفما شئتَ فاختبرني
فأخذه الحَسر من ساعته، أي حُصِرَ بولُه، (51) فكان
يدور على المكاتب (52)، ويفرّق الجوز على الصبيان ويقول: ادعوا لعمّكم الكذاب. (53)
وحكى أبو نعيم الأصبهاني أن سمنون قال: يا رب، قد رضيتُ بكل ما تقضيه عليّ. فاحتبس
بوله أربعة عشر يومًا. فكان يتلوى كما تتلوى الحيّة، يتلوى يمينًا وشمالًا، فلما
أطلق بوله قال: رب قد تبتُ إليك.
قال أبو نعيم: فهذا الرضا الذي ادّعى سمنون ظهر
غلطه فيه بأدنى بلوى، مع أن سمنونًا هذا كان يضرب به المثل، وله في المحبة مقام
مشهور. وقد ذكر القشيري في باب الرضا عن رويم المقري رفيق سمنون قال: قال رويم: إن
الراضي لو جعلت جهنم عن يمينه ما سأل الله أن يحوّلها عن يساره! فهذا يشبه قول
سمنون: فكيف ما شئت فامتحني. وإذا لم يطق الصبر على عسر البول أفيطيق أن تكون
النار عن يمينه؟!
والفضيل بن عياض كان أعلى طبقة من
هؤلاء، وابتلي بعسر البول فغلبه الألم حتى قال: بحبّي لك إلّا فرجتَ عني؛ ففرّج
عنه. ورويم وإن كان من رفقاء الجنيد فليس هو عندهم من هذه الطبقة، بل الصوفية
يقولون إنه رجع إلى الدنيا، وترك التصوّف، حتى روي عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد أنه
قال: من أراد أن يتكتم سرًّا فليفعل كما فعل رويم؛ كتم حب الدنيا أربعين سنة، (54)
فقيل: وكيف يتصور ذلك؟ قال: وَلِيَ إسماعيل بن إسحاق القاضي قضاء بغداد، وكان
بينهما مودة أكيدة فجذبه إليه، وجعله وكيلًا على بابه، فترك لبس التصوف، ولبس الخزّ
والقَصَب والديبقي، وأَكَلَ الطيبات (55) وبنى الدور، وإذا هو كان يكتم حبّ الدنيا
ما لم يجدها، فلما وجدها ظهر ما كان يكتم من حبّها. هذا مع أنه رحمه الله كان له
من العبادات ما هو معروف، وكان على مذهب داود.
وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال (56) لم
يفكر في لوازم أقواله وعواقبها، لا تُجعلُ طريقة ولا تُتخذ سبيلًا، ولكن قد يستدل
بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة ونحو ذلك، وما معه من التقصير في معرفة حقوق
الطريق، (57) وما يقدر عليه من التقوى والصبر، والرسل صلوات الله عليهم أعلم بطريق
سبيل الله وأهدى وأنصح، فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصًا مخطئًا محرومًا، وإن
لم يكن عاصيًا (58) أو فاسقًا أو كافرًا.
ويشبه هذا الأعرابي الذي دخل عليه النبي صلى
الله عليه وسلم وهو مريض كالفرخ، فقال: "هل كنت تدعو الله بشيء"؟
(59) قال: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فاجعله في الدنيا. فقال: "سبحان
الله، لا تستطيعه ولا تطيقه، هلّا قلت: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي
الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". (60) فهذا أيضًا حَمَلَه خوفه من عذاب
النار، ومحبته لسلامة عاقبته، على أن يطلب تعجيل ذلك في الدنيا، وكان مخطئًا في
ذلك غالطًا. والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهده
وورعه وكراماته كثير جدًّا، فليس من شرط وليِّ الله أن يكون معصومًا من الخطأ
والغلط، بل ولا من الذنوب، وأفضل أولياء الله بعد الرسل أبو بكر الصديق رضي الله
عنه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له لمّا عَبَرَ الرؤيا: "أصبت
بعضًا وأخطأت بعضًا". (61)
. ويشبه - والله أعلم - أن
أبا سليمان لما قال هذه الكلمة: "لو ألقاني في النار لكنت بذلك راضيًا"،
أن يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى أنه قال: الرضا أن لا تسأل الله الجنة
ولا تستعيذه من النار.
وتلك الكلمة التي قالها أبو سليمان - مع
أنها لا تدل على رضاه بذلك - ولكن تدل على عزمه بالرضا بذلك، فنحن نعلم أن هذا
العزم لا يستمر، بل ينفسخ، وأن هذه الكلمة كان تركها أحسن من قولها (62) وأنها مُستدرَكة،
(63) كما استدركت دعوى سمنون ورويم، وغير ذلك. فإن بين هذه الكلمة وتلك فرقًا عظيمًا؛
فإن تلك الكلمة مضمونها: أن من سأل الجنة واستعاذ من النار لا يكون راضيًا! وفرقٌ
بين من يقول: أنا إذ فعل كذا كنت راضيًا، وبين من يقول: لا يكون راضيًا إلا من لا
يطلب خيرًا، ولا يهرب من شرّ.
وبهذا وغيره يعلم أن الشيخ أبا سليمان كان أجلّ
من أن يقول مثل هذا الكلام، فإن الشيخ أبا سليمان من أجلاء المشايخ وساداتهم، ومن
أتبعهم للشريعة، حتى إنه قال: "إنه لتمرُّ بقلبي النكتة من نكت القوم فلا
أقبلها إلا بشاهدين الكتاب والسنة". (64) فمن لا يقبل نكتة قلبه إلا بشاهدين
يقول مثل هذا الكلام؟! وقال الشيخ أبو سليمان أيضًا: ليس لمن أُلهم شيئًا من الخير
أن يفعله حتى يسمع فيه بأثر، فإذا سمع فيه بأثر كان نورًا على نور، بل صاحبه أحمد
بن أبي الحواري كان من أتبع المشايخ للسنة، فكيف أبو سليمان!
وتمام تزكية أبي سليمان من هذا الكلام
تظهر بالكلام في المقام الثاني؛ وهو قول القائل كائنًا من كان: "الرضا أن لا
تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار". ونقدم قبل ذلك مقدمة نبين بها أصل ما
وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب. وذلك أن قومًا كثيرًا من الناس من
المتفقّهة، والمتصوّفة، والمتكلّمة وغيرهم، ظنّوا أن الجنة هي التنعّم بالمخلوق،
من أكل، وشرب، ونكاح، ولباس، وسماع أصوات طيبة، وشمّ روائح طيبة، ولم يُدخلوا في
مسمى الجنة نعيمًا غير ذلك.
ومذهب سلف الأمة وأئمتها ومشايخ الطريق
إثبات تنعم المؤمنين برؤية ربهم ، كما في الحديث الذي في النسائي (65) وغيره، عن النبي صلى الله عليه
وسلم: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيرًا
لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة،
وأسألك كلمة الحقّ في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا
لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرْدَ العيش بعد الموت،
وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، ولا فتنة
مضلة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين". وفي صحيح
مسلم (66) وغيره، عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل
الجنة الجنة؛ نادى مناد: يا أهل الجنة؛ إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزْكُموه.
فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيّض وجوهنا، ويثقّل موازيننا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من
النار، قال: فيكشف الحجاب، فينظرون إليه. فما أعطاهم شيئا أحبّ إليهم من النظر
إليه". وكلما كان الشيء أحب، كانت اللذة بنيله أعظم. وهذا متفق عليه بين
السلف والأئمة ومشايخ الطريق. كما روي عن الحسن البصري أنه قال: "لو علم
العابدون بأنهم لا يرون ربهم في الآخرة؛ لذابت نفوسهم في الدنيا شوقًا إليه".
وكلامهم في ذلك كثير.
وطوائف من المتصوّفة، والمتفقّرة،
والمتبتّلة وافقوا هؤلاء على أن المحبة ليست إلا هذه الأمور التي يتنعّم فيها
المخلوق، ولكن وافقوا السلف والأئمة على إثبات رؤية الله، والتنعّم بالنظر إليه، وجعلوا
يطلبون هذا النعيم وتسمو إليه همتهم، ويخافون فوته، وصار أحدهم يقول: "ما
عبدتك شوقًا إلى جنتك، أو خوفًا من نارك، ولكن لأنظر إليك، وإجلالًا لك". (67)
وأمثال هذه الكلمات، ومقصودهم بذلك هو أعلى من الأكل والشرب، والتمتع بالمخلوق،
لكن غلطوا في إخراج ذلك من الجنة.
وقد يغلطون أيضًا في ظنهم أنهم يعبدون
الله بلا حظ ولا إرادة، وأن كل ما يطلب منه فهو حظ النفس، وتوهموا أن البشر يعمل
بلا إرادة ولا مطلوب ولا محبوب، وهو سوء معرفة بحقيقة الإيمان والدين والآخرة. وسبب
ذلك أن همّة أحدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تنفيه عن نفسه، حتى لا يشعر
بنفسه وإرادتها، فيظن أنه يفعل لغير مراده، والذي طلب وعلق به همته غاية مراده
ومطلوبه ومحبوبه. وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين، وأرباب الأحوال والمقامات،
يكون لأحدهم وجدٌ صحيح، وذوق سليم، لكن ليس له عبارة تبين كلامه، فيقع في كلامه
غلط وسوء أدب، مع صحة مقصوده، وإن كان من الناس من يقع منه في مراده واعتقاده.
فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام إذا
عنوا به طلب رؤية الله تعالى أصابوا في ذلك، لكن أخطئوا من جهة أنهم جعلوا ذلك
خارجًا عن الجنة، فأسقطوا حرمة اسم الجنة، ولزم من ذلك أمور منكرة، نظير ما ذكره
عن الشبلي رحمه الله أنه سمع قارئًا يقرأ: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد
الآخرة}، فصرخ، وقال: أين مريد الله؟ فيُحمد منه كونه أراد الله، ولكن غلط في ظنه
أن الذين أرادوا الآخرة ما أرادوا الله، وهذه الآية في أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم الذين كانوا معه بأحد، وهم أفضل الخلق، فإن لم يريدوا الله، أفيريد الله من
هو دونهم كالشبلي وأمثاله؟! ومثل ذلك ما أعرفه عن بعض المشايخ أنه سئل مرة عن قوله
تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن
لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون}.(68) قال: فإذا كان الأنفس
والأموال في ثمن الجنة، فالرؤية بم تنال؟ فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال.
والواجب أن يُعلم أن كل ما أعده الله
للأولياء من نعيم بالنظر إليه، وما سوى ذلك هو في الجنة، كما أن كل ما وعد به
أعداءه هو في النار. وقد قال تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء
بما كانوا يعملون}. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول
الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،
بلْهَ (69) ما أطلعتُهُم عليه". (70) وإذا عُلم أن جميع ذلك داخل
في الجنة، فالناس في الجنة على درجات متفاوتة، كما قال: (انظر كيف فضلنا بعضهم على
بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا). وكل مطلوب للعبد بعبادة أو دعاء أو غير ذلك
من مطالب الآخرة هو في الجنة. وطلب الجنة، والاستعاذة من النار، طريق أنبياء الله
ورسله، وجميع أوليائه السابقين المقربين، وأصحاب اليمين". (71)
وبعد؛ فعلى المؤمن ألا يستحسر عن
الدعاء، فهو من أعظم أسباب التوفيق في الدنيا والآخرة، وألّا يزيغ بظن عدم جدواه،
أو أنه معارِضٌ لرضا القلب، بل عليه أن يسأل ربه ما شاء من مطالب الدنيا والآخرة،
وأن يُعلي همته في مطالبه، وألا ينكل عن سؤال ربه ما يؤرق راحته ويكدّر صفوه، فإن
الروح إذا كلّت عميت أو كادت، ورب أمر صغير تُبنى عليه كبريات الأمور، والله
المستعان. فيا نازفًا همَّه بدموعه، ومُرسلًا شجنه بأنينه، وباثًّا شكايته
بزفراته؛ أبشر ببشرى الله لك: (فإني قريب).
السابع: الظن بأن التنعّم بالمباحات
ينقص الرضا.
وهذا ظن باطل، فإن الله تعالى يقول:
(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، والنبي صلى الله عليه
وسلم قد حبب الله إليه النساء والطيب، وكان لا يردّ موجودًا ولا يتكلّف مفقودًا،
وربّ مباح أعان على طاعة وَرَدّ عن شهوة حرام. قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
"ما زال جماعة من المتزهدين يُزرون على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات.
والذي يحملهم على هذا الجهل. فلو كان عندهم فضل علم ما عابوهم. وهذا لأن الطباع لا
تتساوى، فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل
غيره على ما يطيقه هو.
غير أن لنا ضابطًا هو الشرع، فيه الرخصة
وفيه العزيمة. فلا ينبغي أن يُلام من حصر نفسه في ذلك الضابط. ورب رخصة كانت أفضل من
عزائم لتأثير نفعها.
ولو علم المتزهّدون أن العلم يوجب المعرفة
بالله تعالى، فتنبت القلوب من خوفه، وتنحلّ الأجسام للحذر منه؛ فوجب التلطّفُ حفظًا
لقوة الراحلة. ولأن آلة العلم والحفظ القلب والفكر، فإذا رُفّهت الآلة جاد العمل، وهذا
أمر لا يُعلم إلا بالعلم.
فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا،
وظنوا أن المراد إتعاب الأبدان، وإنضاء الرواحل، وما علموا أن الخوف المضني يحتاج إلى
راحةٍ مقاوِمة، كما قال القائل: "روِّحوا القلوب تعي الذكر". (72)
ولكن لا يعني هذا أن تكون الدنيا هي المقصد،
فقد خاب من أولاد آدم من كان سعيه لها دون الدار الحيوان الآخرة، قال تبارك
وتعالى: (مَن كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها نَوَفِّ إلَيْهِمْ
أعْمالَهُمْ فِيها وهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ
فِي الآخِرَةِ إلاَّ النّارُ وحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وباطِلٌ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ). وقال صلى الله عليه وسلم: "تعس
عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط لم يرض".
(73) اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا.
أَظَهَروا
لِلنّاسِ نُسكًا ... وعَلى المَنقوشِ داروا
ولَهُ صاموا
وَصَلّوا ... وَلَهُ حَجّوا وَزاروا
وَلَهُ قاموا
وَقالوا ... وَلَهُ حَلّوا وساروا
لو غَدا فَوقَ
الثُرَيّا ... وَلَهُم ريشٌ لَطاروا
والمقصود؛ أن تنعّم المؤمن فيما آتاه
الله تعالى مما أباحه لا ينافي الرضا ولا ينقصه، وقد كان حال النبي صلى الله عليه
وسلم قائم على القناعة وإحسان سياسة النفس بما تيسّر من الطيّبات، فالموجود لا
يردُّه، والمفقود لا يطلبُه، وكان يحب الطيبات من النساء والطيب والحلواء والعسل
والدبّاء واللحم وغيرها، ولم يهتد به من منع نفسه اللحم ظانًّا أن هذا من هدي
الشريعة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يأكله، بل وذكر حبّه له، ورسول الله لا يحب
إلا طيّبا، ففي حديث جابر رضي الله عنه لما أضافه وقدم له اللحم قال صلى الله عليه
وسلم: "كأنك قد علمتَ حُبّنا للّحم". (74) فإنّ من كماله صلى الله عليه وسلم أنه يحب من الطعام الطيبات
التي يحبها سائر الناس، فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون غذاءُ الآدميين تبعًا
لما تقوم به أجسادهم، فجعلها من مشتهياتهم من الطيبات، فميل النفوس لما يلائمها
مما اقتضته سنة الله تعالى في خلقه هو من الكمالات، وضده نقص، وإنّ من أطيب وأنفع
وأقوى ما يقوم به الجسد اللّحم. وعليه؛ فقد أحبّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
طيّبات اللحم كما أحب العسل والحلواء والدُّبَّاء (75) وغير ذلك مما نقل من محبته
له، ولعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قصد بذكر محبته للحم تطييب قلب جابر
وإدخال السرور عليه لما قدّمه من أيّ طعام كان، خاصة وأن في تقديم اللحم للأضياف
كلفته في ذلك الزمن، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكر المحبة بلفظ الجمع
"حبّنا للحم"، فلعلّ فيه إشعار بأن من معه هم كذلك، وأنه قد أدخل
نفسه معهم في تلك المحبة، كذلك فالبشر على العموم محبون لهذا اللون من الطعام، بل
لعله في رأس السلّم الغذائي في رغائب موائدهم سواء أدركوا حاجتهم منه أم لم
يدركوها، وتأمل تقديمه في الولائم لمن كان قادرًا، كما في أمره صلى الله عليه وسلم
لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما تزوج فقال: "أولم ولو بشاة"،
(76) وكان صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الإبل والغنم والدجاج والصيد والسمك وضحّى
عن نسائه بالبقر، وقد أضاف إبراهيمُ عليه السلام الملائكة عجلًا مشويًّا، وقد ذكر
الله تعالى اللحم طعامًا لأهل الجنة فقال سبحانه: (ولحم طير مما يشتهون)، وأخرج مسلم (77)
من حديث ثوبان رضي الله عنه في سؤالات اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيه: "قال اليهودي: فما تُحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: "زيادة كبد
النون"، قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: "يُنحر لهم ثورُ الجنة،
الذي كان يأكل من أطرافها"،(78) قال: فما شرابهم عليه؟ قال: "من
عين فيها تُسمّى سلسبيلًا".. فذكر الحديث، وفيه: فقال اليهودي: لقد صدقتَ،
وإنّك لنبيٌّ. وانصرف". وروى الشيخان (79) حديثًا عجيبًا عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تكون الأرض يوم
القيامة خبزةً واحدة يتكفَّؤُها الجبار بيده (80) كما يَكْفَأُ أحدكم خبزته
في السفر، (81) نُزُلًا لأهل الجنة"، (82) فأتى رجل من اليهود
فقال: "بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم
القيامة"؟ قال: "بلى"، قال: "تكون الأرض خبزة واحدة".
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا، ثم ضحك
حتى بدت نواجذه، ثم قال (83): "ألا أخبرك بإدامهم"؟ (84) قال: "إدامهم
بَالَامٌ ونُونٌ"، قالوا: وما هذا؟ قال (85): "ثورٌ ونون، يأكل من زائدة
كبدهما سبعون ألفًا". والنون هو الحوت، أما البالام فقد بيّنه حين استفهموه
بأنه الثور. (86) وقد سبق وأخبرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك كما في حديث
ثوبان الآنف، فجاء هذا الحَبْرُ فصدّقه في كل ما قال، وهذا من دلائل نبوّته صلى
الله عليه وسلم، وفيه أنّ الأرض ستصبح بقدرة الله تعالى خبزة واحدة ورغيفًا عظيمًا
وطعامًا طيّبًا نزلًا من الله تعالى لأهل الجنة، فسبحان من بيده أمر كل شيء، وهو
على كل شيء قدير. ولعلّ من حِكم ذلك حتى يوقن أهل الجنة أن لا عودَ إلى الدنيا بعد
فناء الأرض التي أكلتهم أوَّلًا فأكلوها آخرًا، فيزداد نعيمهم بالخلود.
وعلى المؤمن أن
يوقن بصدق كل ما ثبت عن النبي ﷺ، قال الله تعالى (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله
ورسوله ثم لم يرتابوا). أما المراد من الضحك في هذا الحديث فهو كمالُ التبسم،
وإنما ضحك سرورًا بأن شهد له الحبر الإسرائيلي بما في التوراة بتصديق ما أخبر أصحابه
به، كما قال تعالى: (أولم لكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).
وبالجملة؛ ففي هذا إثبات محبته صلى الله عليه وسلم للَّحم على خلاف من
امتنعوا منه قصدًا ممن يُسمّون بالنباتيين الذين خالفوا فطر الناس. قال ابن حجر
رحمه الله تعالى في الفتح (87): "وكان ذلك لقلة الشّيء عندهم فكان حبّهم له
لذلك.. وأمّا ما ورد عن عمر وغيره من السّلف من إيثار أكل غير اللحم على اللحم،
فإمّا لقمع النّفس عن تعاطي الشّهوات والإدمان عليها، وإمّا لكراهة الإسراف
والإسراع في تبذير المال لقلة الشّيء عندهم إذ ذاك". وكفى بهذه الآية الفاذّة
الجامعة، قال سبحانه: (قل
من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة
الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون).
ومن فُتح له باب زهد فليحمد الله تعالى
عليه، ولكن لا يحمل الناس على مذهبه ولا يلزمهم مالم تلزمهم به الشريعة، وكل ميسّر
لما خلق له، فقد يكون من ظاهره الترف أعلى درجة عند الله ممن ظاهره الزهد، فقد
تكون تلك المظاهر معينة له على ضبط إيمانه بسياسة نفس حكيمة وبطرائق مشروعة وله
خبايا لا يعلم بها إلا الله، وقد كان زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله تعالى –
فيما ذكره الذهبي عن ابن إسحاق - يُبخّل، لأنّه كان يُنفق سرًّا ويظن أهله أنه يجمع الدراهم. فما مات فقده أهل
مئة بيت في المدينة لم يكونوا على علم بمن يضع لهم الطعام عند أبوابهم ليلًا حتى
رحل لربه رحمه الله تعالى، ولما غسّلوه وجدوا بظهره أثرًا مما كان ينقل الجُرُبَ
بالليل إلى منازل الأرامل. فالاعتبار ليس بالظاهر، والمقصود؛ أن الزهد عبادة عزيزة
لكنها جارية على الأحكام التكليفية الخمس، فزهد واجب عن الحرام، ومستحبّ عما يشغل
عن الآخرة، ومكروه في حال إشغاله عن عبادة أرجى في الميزان منه، ومباح فيما استوى
طرفاه، ومحرّم فيما لو ترتّب عليه تفريط في واجب أو وقوع في حرام، ونحو ذلك. وبالجملة؛
فليس لأحد ان يحمل الناس على أمرِ شِدّة ولهم فيها سعة في دين الله تعالى، فمِن
الناس من يُلزم أهله وولده وأسرته بأمور من الزهد هي من الفضائل لا من العزائم، بل
قد يقع بعضهم في تحريم حلالٍ بيّنِ الحِلّ، وقد يؤولُ الأمر بهم بسبب الإلزام
لخلاف مقصده الناصح ونيّته الصادقة، لكن إن وُفِّقَ للينٍ وحكمة فعرضها عليهم
عرضًا مُقنعًا مناسبًا لطيفًا رفيقًا كان ذلك أدعى لقبولهم، لكن بلا اخشيشانِ خُلُقٍ،
ولا إلزامٍ بعيشٍ لم يُلزمهم به الدين. وعن عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى قال:
جاء رجل إلى وهيب بن الورد رحمه الله، فجعل كأنه يذكر الزهد، قال: فأقبل عليه وهيب فقال: "لا تحمل سعة الإسلام على ضيقة صدرك". (88) وقال أيوب رحمه
الله تعالى: "إن زَهَدَ رجلٌ فلا يجعلنَّ زُهده عذابًا على الناس". (89)
ولِمَن زُوي عنه شيءٌ يريده من رزق
الله تعالى: أبْشِرْ، فإنّك بعينِ الله تعالى وعلمه، فقد خار لك صالحَك، وسوف يسوق
رزقك المناسب لك في أوانه المناسب لك، فهو القائل: (له مقاليد السماوات والأرض
يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم)، وتدبر عموم (كل شيء) فلا تخفى عليه
خافيتك يا عبدَهُ، فهو عليم بك وبحاجتك ورغبتك وبما يُصلح دينك ودنياك، فاحمد
واشكره وارضَ عنه وأرضِهِ، والحمد لله رب العالمين.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
..............................................
1. مدارج
السالكين (2 / 125) باختصار.
2. صيد
الخاطر (1/31)
3. ورويت
كذلك عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
4. وقد
قيل لبعضهم: ألا ترحل حتى تسمع من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد
الرزاق من يسمع من الخلّاق؟!
5. الشبلي
من أهل القرن الثالث، وكان فقيهًا مالكيًّا فترك التعليم ولبس الخرق وتصوف، وله
أقوال حسنة رائقة، وأخرى قبيحة لا يتابع عليها. قال الذهبي رحمه الله: "صَحِبَ
الشبلي الجُنَيْدَ وغَيْرَهُ، وصارَ مِن شَأْنه ما صارَ. وكانَ فَقِيهًا عارِفًا
بِمَذْهَب مالِك، وكَتَبَ الحَدِيثَ عَنْ طائِفَةٍ. وقال الشِّعرَ، ولَهُ ألْفاظٌ
وحِكَم وحال وتَمَكُّن، لكنَّه كانَ يحصُل لَهُ جفافُ دِماغ وسُكْرٍ، فَيَقُول أشياء
يُعتَذرُ عَنْهُ، فِيها بِأْوٌ – أي كِبْر- لاَ تكُون قدوَة. وكانَ رحمه الله لَهجًا بِالشِّعر الغَزِل والمحبَّة. ولَهُ ذَوْقٌ فِي ذَلِكَ، ولَهُ
مُجاهَداتٌ عَجِيبَةٌ انْحَرَفَ مِنها مِزاجه". سير الأعلام (15/ 365-367)
باختصار وانتقاء. وقال شيخ الإسلام: "يروى عن الشبلي أنه كان يقول:
"الله الله". فقيل له: لم لا تقول لا إله إلا الله؟ فقال: أخاف أن أموت
بين النفي والإثبات. وهذه من زلات الشبلي التي تغفر له لصدق إيمانه وقوة وجده
وغلبة الحال عليه، فإنه كان ربما يُجنّ ويُذهب به إلى المارستان، ويحلق لحيته. وله
أشياء من هذا النمط التي لا يجوز الاقتداء به فيها؛ وإن كان معذورًا أو مأجورًا،
فإن العبد لو أراد أن يقول: "لا إله إلا الله" ومات قبل كمالها لم يضره
ذلك شيئًا، إذ الأعمال بالنيات، بل يكتب له ما نواه". مجموع الفتاوى (10 /
556)
6. ذكر
أهل العلم أن طلب العلم يلزم بالشروع فيه كالجهاد والحج، ولعل هذا مما قصده سفيان
بن عيينة بقوله الشريف: "من طلب العلم فقد بايع الله عز وجل".
اغْتَنِمْ فِي
الفَراغِ شُغْلَ عُلومٍ … فَعَسى أنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَهْ
كَمْ صَحِيحٍ
رَأيتَ مِن غَيرِ سُقْمٍ … ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصحيحةُ فَلْتَه
7. يقصد
علو الإسناد الذي أدركه بكتابته، ثم فاته بإتلاف سنده.
8. أي
يافعٌ صغير السن.
9. وهو
ما يسمى الآن بجيب الثوب، والمُخبا.
10.
والناس أعداءٌ لما جهلوا، (بل كذبوا
بما لم يحيطوا بعلمه).
يُقضى
على المرء في أيّام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ
11.
أحمد (1076) والترمذي (2 / 30) وصححه
الألباني في الصحيحة (1 / 688)
12.
أي:
ماجرياتهم.
13.
تلبيس إبليس (284-291) مختصرًا.
14.
جامع المسائل لابن تيمية، المجموعة
الخامسة (١/٢٢٦)
15.
أبو داود (3664) وابن ماجه (252) وصححه
الألباني. قوله: "لم يرح"؛ قال الكسائي: «هو بضم الياء؛ من قوله:
أرحتُ الشيء، فأنا أريحه إذا وجدتَ ريحه». وقال أبو عمرو: «"لم يَرِح"
بكسر الراء؛ من رُحت أريح إذا وجدتَ الريح». وقال غيرهما: «بفتح الياء والراء،
والمعنى واحد، وهو شم الرائحة». أهـ. من صحيح الترغيب والترهيب (٣/١٥٧). وفي رواية:
"لم يجد عَرْفَ الجنة". قال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "عَرْف
الجنة، الرائحة، مبالغة في تحريم الجنة، لأن من لم يجد ريح الشيء لا يتناوله قطعًا".
عون المعبود (10/98).
16.
وهو الجيلاني رحمه الله تعالى.
17.
أي مجاهدتك نفسك في مراضي الله تعالى.
18.
مجموع الفتاوى (1 / 171)
19.
البخاري 7/109 ( 5470 )، ومسلم 6/174 (
2144 ) ( 23 )
20.
تحفة الأحوذي (7 / 66)
21.
البخاري 4/62 ( 2966 )، ومسلم 5/143 (
1742 )
22.
البخاري 8/157 (6616) ومسلم 8/76
(2707) (53)
23.
البخاري (8/93) ومسلم (8/76)
24.
مسلم (2688)
25.
أي ضَعُف جدًّا. ويقال: خَفَتَ الصوت،
إذا ضعف وسكن.
26.
أي في ضعف ولد الطير.
27.
وهذا من رفقه ورحمته وشفقته ونصحه صلى
الله عليه وسلم.
28.
الطبري في التفسير (٤/ ٢٠٥)، وابن عبد
البر في الجامع (١/ ٢٢٩)، وغيرهما.
29.
مفتاح دار السعادة (١/٣٣٩)
30.
نقلها القشيري في "الرضا" عن
النصر آبادي.
31.
وانظر: المنهاج (٣/ ٩١) وإكمال المعلم (٢/
٩٠٣ - ٩٠٤. ٤) والبحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج لمحمد آدم
الأثيوبي (٥/٥٣٦)
32.
مسلم (1763)
33.
أحمد (9701)، ومسند أبي يعلى (6655) وحسنه حسين سليم
أسد، والترمذي (5 / 456) وحسنه الألباني.
34.
وانظر: الرضا بالقضاء. د. سالم بن محمد
القرني. عن: مجلة جامعة أم القرى (5 /341 - 350)
35.
شعب الإيمان (٢/٢٦٠) وسير أعلام
النبلاء: (٨/ ٣٥٩). ولعله لو قال خمس كان أولى، ولعله قصد أن زيغ القلب مبنيّ على
الضلالة، والله أعلم.
36.
هو القشيري رحمه الله تعالى.
37.
هو الداراني رحمه الله تعالى.
38.
وفي رواية: "حولها
نُدَنْدِن". والحديث عند أحمد (3/474) بسند صحيح، وأبو داود (1 / 292) (792)
وصححه الألباني. وقال العيني في شرح أبي داود (3 / 450): "دندنتك"
الدندنة: قراءة مبهمة، غير مفهومة، والهينمة مثلها، أو نحوها. وقوله: "حولهما"
أي: حول الجنة والنار، "ندندن" أي: في طلبهما، مِن دندن الرجل
إذا اختلف في مكان واحد مجيئًا وذهابًا. وقال ابن رجب في فتح الباري (5 / 189): "حولها
ندندن": وهذا يشعر بأنه يجوز الدعاء بمصالح الآخرة بأي لفظٍ كان. قلت:
وبرواية الإفراد: "حولها" أي الجنة، وهو متضمّن النجاة من النار.
39.
مسلم 2/4 ( 384 ) ( 11 )
40.
البخاري 8/107 (6408) ومسلم 8/68
(2689) (25)
41.
معرفة الصحابة لأبي نعيم (1 / 384)
42.
أي فيها مما هو معروف ومتصوَّر لنا في
الدنيا من المُتع واللذائذ – مع الفارق- وفيها أيضًا ما ليس له جنس في الدنيا من
لذائذ خاصة بالجنة، لا يتصوّرها ولا يتخيّلها البشر، نسأل الله الكريم من فضله.
43.
البخاري 4/143 (3244) ومسلم 8/143
(2824) (2)
44.
كما أُثر عن بلال رضي الله عنه لما سئل
عن احتماله العذاب في مكة قال: مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان ففاقت حلاوة
الإيمان المرارة فاحتملتها. أو نحو هذا.
45.
أبو داود (4345) وحسنه الألباني.
46.
مسلم (3 / 1481) (1854)
47.
فلو قالها من باب طلب معونة الله تعالى
والتقرب إليه بذكره كان قولها مشروعًا محمودًا.
48.
أحمد (18351) والنسائي (1305) وصححه
الألباني في الكلم الطيب (106)
49.
وهو غالب لا مضطرد كما قال، فمنهم من
يثبت في عزيمته كالجبال الرواسي لعظيم إيمانه وقديم دُربته وقوة أطر نفسه على
الاستقامة، وكان فسخها غالبًا لديهم بالخصوص لأن إرادتهم غلبت علمَهم، فعلمهم
بالله تعالى وبشرعه ليس على المستوى المطلوب لإيمانهم، فيبتدئ المريد بقوّةِ
عزيمةٍ رغَبًا ورَهَبًا ومحبّة وشوقًا، لكنها لا تلبث أن تضعف أو تضمحل في ثاني
الحال، لأنها مبنيّة على وهج رغبة وطرفٍ من علم، فعادت دعوى غير مُحقّقة. أما إن
ساعدها علمُ فقيه بطريق الرسول صلى الله عليه وسلم في أعمال الجوارح وأحوال القلوب
وما يصلح لها وما يقيمها وما يقوّيها لاختلف الحال إلا من مانعٍ من خارجٍ كفسادِ
نيّة أو ضعفِ تديّن أو خذلانٍ مقدور، والله أعلم.
50.
الترمذي (5 / 412) (3309) وصححه
الألباني.
51.
كأنه أُصيب بفشل كلوي مؤقت أو حَجَرٍ
سدَّ مسالكَه.
52.
أي طلاب الكتاتيب.
53.
لأنهم لم يُقارفوا ذنوبًا، فعمدُ الطفل
خطأٌ، ومن رحمة الله تعالى بهم أن يحتسب لهم الحسنات دون السيئات.
54.
من غرائز النفوس التي لا تكاد تنفك
عنها حب الدنيا، قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير
المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والحرث)، وقد أرشد سبحانه بعد بيان حالنا
الضعيف مع زينة الدنيا إلى ما ينبغي لنا حقًّا أن نرتقي إليه، فقال تبارك وتعالى:
(قل أؤنبؤكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله). وقال سبحانه مُعَرِّيًا غريزة بني آدم:
(وتحبون المال حبا جما)، وقال سبحانه مبيّنًا حقيقة الدنيا وحال الغافلين معها:
(اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال
والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما)، ثم نقل
الوصف مباشرة للآخرة فقال: (وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله) أي: اختاروا
مصيركم، واحرثوا لآخرتكم، واعملوا لمنازلكم غدًا. وتدبر قوله تعالى ورجمته بنا حين
زوى كثيرًا من ترف الدنيا عنا، فقال سبحانه: ﴿ولَوْلا أنْ يَكُونَ النّاسُ أُمَّةً
واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِن
فِضَّةٍ ومَعارِجَ عَلَيها يَظْهَرُونَ﴾ قال الحسن رحمه الله تعالى: "لولا أن
يكون الناس كفارًا أجمعون، يميلون إلى الدنيا، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال، ثم
قال: والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها، وما فعل ذلك، فكيف لو فعله؟! ذكره الطبري
في تفسيره (٢١/٥٩٨).
وروى أحمد (14037) والنسائي (7/61) بسند جيد أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حُبّب إلي من دنياكم النساء،
والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة". وروى البخاري (٥٤٣١) من حديث عائشة
رضي الله عنها قالت: "كانَ رَسول اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ الحَلْواءَ والعَسَلَ». ونحو
هذا من الطيبات المعينة على عبادة الله تعالى. فحبُّ الدنيا غريزة هذبتها الشريعة،
وأكثرها محتاج لمجاهدة قلب حتى يكتفي منها بالبُلغة للوصول لغايته في الدار
الآخرة، والعاقل هو من لم يُحبّ الدنيا لذاتها بل بما تفضي به إلى مرضاة الله. قال
ابن تيمية رحمه الله في الصفدية (2 / 272): "ليس في الدنيا من اللذات أعظم من
لذة العلم بالله وذكره وعبادته، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "حبب
إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة"، هكذا لفظ
الحديث، لم يقل: حبّب إلي ثلاث، فإن المُحبّب إليه من الدنيا اثنان، وجعلت قرة
عينه في الصلاة، فهي أعظم من ذينك، ولم يجعلها من الدنيا". ومن أمثلة محبة العلم أن ابن هطيل رحمه
الله تعالى كان مُوْلعًا بشرح الرضى على كافية ابن الحاجب، لا يفارقه في أغلب
أوقاته، فلما حضرته الوفاة طلب هذا الشرح، ثم وضعه على صدره، وقال:
تمتَّعْ من شَميمِ
عَرَارِ نجدٍ ... فما بعد العَشيّةِ من عَرَارِ
وبالجملة؛ فلعل مقصودهم بكتمان حبّ
الدنيا: أي حبّ المبالغة في زينتها والتنافس في حطامها الذي يقسّي القلب فيغفل عن
معالي الآخرة. وبما قصدوا – وهذا أظهر-: ترك مظاهر التصوف التي أصّلها المتصوفة
لأنفسهم من غير هدى من الله، (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)، فاشترطوا
زيًّا معينًا من الصوف والخِرَق البالية زعمًا أنه من لوازم الطريق، وما هو من
لوازمه، ولكن من اكتفى به زهدًا في الدنيا بدون شهرة أو تعاظم أو قصد أنها سنّة
متّبعة فحسن، والله أعلم.
55.
لعلّ قصده الترفّه والتنعّم لا مطلق
الطيبات، فقد قال سبحانه: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات
لقوم يعلمون). وفي صحيح البخاري معلقًا (10/264). - وقد وصله النسائي عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده- باب قول الله تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده
}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدّقوا في غير
إسراف ولا مَخْيَلة". وقال ابن عباس: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما
أخطأتك اثنتان: سَرَفٌ أو مخْيَلةٌ". وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (17186)
أن ابن عباس لما ذهب لمناظرة الخوارج قالوا له: مرحبًا بك يا أبا عباس فما هذه الحُلّة؟
قال: قلت: ما تعيبون عليَّ؟! لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما
يكون من الحلل، ونزلت: (قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق).
ولنا في الأنبياء أسوة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «بَيْنا
أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرادٌ مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ
أيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ، فَناداهُ رَبُّهُ: يا أيُّوبُ، ألَمْ أكُنْ
أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرى؟ قالَ: بَلى وعِزَّتِكَ، ولَكِنْ لا غِنى بِي عَنْ
بَرَكَتِكَ». رواه البخاري (٢٧٩) قال القَسطلاّني رحمه الله في إرشاد الساري
لشرح صحيح البخاري (١/٣٣٣): "قوله: "ولكن لا غِنى بي عن بركتك":
أي خيرِك، واستُنبط منه فضل الغِنى لأنه سمّاه بركة، ومُحالٌ أن يكون أيوب صلوات
الله عليه وسلامه أخذ هذا الماء حبًّا للدنيا، وإنما أخذه كما أخبر هو عن نفسه
لأنه بركة من ربه تعالى لأنه قريب العهد بتكوين الله تعالى، أو أنّه نعمة جديدة
خارقة للعادة، فينبغي تلقّيها بالقبول، ففي ذلك شكر لها وتعظيم لشأنها، وفي
الإعراض عنها كفرٌ بها، وفيه جواز الاغتسال عريانًا؛ لأنّ الله تعالى عاتبه على
جمع الجراد، ولم يعاتبه على الاغتسال عريانًا". أهـ. باختصار.
56.
أي: انه استغرق بمشاعر قلبه الدينية
وخواطر روحه الإيمانية بلا قيودِ عقلٍ يحجزه عن تجاوز أو تبيّن حقائق الأمور على
ضوء العلم الشرعي، فهو إحساس وإرادة بلا كفاية علم وبصيرة.
57.
أي حقوق سلوك التنسّك والتعبد، فليس
حِمًا مباحًا لكل من أراد، بل هو مشروط بشروط الشرع، كالإخلاص والاتّباع والعلم
والتوكل والمجاهدة والتثبت ونحوها.
58.
لجهله، ويُعتذر عنه إن كان ثَمَّ
تأويل، ولا يُتابَع على خطئه.
59.
وهذا من فراسته صلى الله عليه وسلم،
ومعرفته بنفوس أصحابه وطبائعهم، أو من وحي الله تعالى له.
60.
مسلم (8/68) وفي رواية: "فقالها،
فشفاه الله".
61.
رواه البخاري (9/43 ، 55) ومسلم (7/55)
من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظُلّةً تنطُف السمن والعسل، فأرى الناس يتكفّفون
منها فالمستكثر والمستقل، وإذا سببٌ واصل من الأرض إلى السماء، فأراك أخذت به
فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر
فانقطع ثم وُصِل.
فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت، والله
لتدعني فأعْبُرها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعبُر" قال:
أما الظُّلَّةُ فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن، حلاوته تنطف
فالمستكثر من القرآن والمستقلّ، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحقّ
الذي أنت عليه؛ تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ
رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به. فأخبرني يا
رسول الله، بأبي أنت، أصبت أم أخطات؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت
بعضًا وأخطأت بعضًا"، قال: فوالله لتحدثني بالذي أخطأت. قال: "لا
تُقسم". قلت: ولعله حدّثه لاحقًا عنها إبرارًا لقسمه، ولم يشهد ابن عباس
ذلك، والله أعلم. والظُّلَّة: هي السحابة تظل من تحتها، وقد يطلق على الجبل، ومنه
قول الله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين ) ومعنى تنطف:
أي تقطر. ومعنى يتكففون، من التكفف وهو مدّ الأيدي للأخذ. والسبب هو الحبل، ومنه
قول الله تعالى: (فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع)، وكل ما يتوصل به إلى ما يتعذر
الوصول إليه ، فهو سبب. وعَبَرَ الرؤيا وعبرتها – بتخفيف الباء وبتشديدها كذلك -:
إذا أخبر بما يؤول إليه أمرها.
62.
إنصاف عظيم ولطف بالغ من هذا الإمام
الجليل. وهذا من حفظ مقامات أهل الفضل، ولا يعرف الفضلَ لأهل الفضلِ إلّا أهلُ الفضل.
قال ابن كثير في البداية والنهاية (10 / 278): "أبو سليمان الداراني عبد
الرحمن بن عطية، أحد أئمة العلماء العاملين، أصله من واسط، سكن قرية غربي دمشق
يقال لها داريا. وقد سمع الحديث من سفيان الثوري وغيره، وروى عنه أحمد بن أبي
الحواري وجماعة". وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (15 / 253): "قال
الجنيد: قال أبو سليمان: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس. وقال: لكل شيء علم، وعلم
الخذلان ترك البكاء، ولكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن. وقال أحمد بن أبي
الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: أصل كل خير الخوف من الله، ومفتاح الدنيا الشبع،
ومفتاح الآخرة الجوع. وقال أبو سليمان: إذا تكلف المتعبدون أن يتكلموا بالإعراب
ذهب الخشوع من قلوبهم. وقال أحمد: رأيت أبا سليمان حين أراد أن يلبّي غشي عليه،
فلما أفاق قال: بلغني أن العبد إذا حج من غير وجهه، فلبى قيل له: لا لبيك ولا
سعديك حتى تطرح ما في يديك، فما يؤمننا أن يقال لنا مثل هذا! ثم لبّى. وقال
الجنيد: شيء يروى عن أبي سليمان أنا أستحسنه كثيرًا، قوله: من اشتغل بنفسه شغل عن
الناس، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس". وقال ابن القيم في روضة
المحبين (1 / 439): "قال ابن أبي الحواري رحمه الله تعالى: سئل أبو سليمان
الداراني رحمه الله وأنا حاضر: ما أقرب ما يُتقرب به إلى الله عز وجل؟ فبكى، ثم
قال: مثلي يسأل عن هذا، أقرب ما يتقرب به إليه أن يطّلع على قلبك وأنت لا تريد من
الدنيا والآخرة إلا هو". وقال (1 / 441): "قال أبو سليمان الداراني: من
صفا صَفَا له، ومن كدر كُدِّرَ عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في
نهاره كوفئ في ليله، ومن ترك لله شهوة من قلبه فالله أكرم أن يعذّب بها قلبه". وقال في المدارج (2 / 22): "قال
أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضا". وبالجملة
فالشيخ أبو سليمان الداراني مشهور بالعلم والعبادة والفضل والوعظ والخير والحروف
النافعة، رحمه الله تعالى.
63.
أي محسوبة من جُمَلِ أخطائه.
64.
وقد استشهد شيخ الإسلام بهذا الحرف
الداراني في مواطن كثيرة في مؤلفاته، ومن أسباب ذلك أنّه من أجلاء المتصوّفة، وله
قبول رحيب لديهم، من باب شاهد الأهل، رحمهما الله تعالى.
65.
سنن النسائي (3 / 54) (1305) وصححه
الألباني.
66.
مسلم (291)
67.
مرويّة عن العابدة رابعة العدوية رحمها
الله تعالى، إن صحّ النقل عنها.
68.
يرد في القرآن العزيز لفظ شرى واشترى
وما تفرع عنهما، والفرق في المعنى أن ما جاءت بحرف التاء (يشتري، اشتراه،
ليشتروا..) فهي الأخذ -وهو المسمى عرفًا بالشراء-، أما ما خلت من التاء (يشري،
شروا، وشروه) فهي بمعنى البيع. ومعنى الآية هنا (ومن الناس من يشري)، أي يبيع
نفسه.
69.
قال الجوهري في الصحاح (6/2227):
"بَلْه: كلمة مبنية على الفتح مثل كيف، ومعناها: دع. قال كعب بن مالك يصف
السيوف:
تذرُ
الجماجم ضاحيًا هاماتها .. بلْه الأكفّ كأنها لم تُخلقِ
70.
البخاري 4/143 (3244) ومسلم 8/143
(2824) (2)
71.
الفتاوى الكبرى (2 / 401- 412) باختصار.
72.
صيد الخاطر (1 / 30)
73.
البخاري 8/114 ( 6435 ) والقطيفة: كساء
له خمل، والخميصة: ثوب خزّ أو صوف معلّم. النهاية (2/81 ، 4/84 )
74.
أحمد في مسنده (15281) وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال
الشيخين غير نبيح العنزي، فقد روى له أصحاب السنن، وهو ثقة.
75.
روى البخاري (٥٤٣١) من حديث عائشة رضي
الله عنها قالت: "كانَ رَسول اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ الحَلْواءَ والعَسَلَ». وروى
أيضًا (٢٠٩٢) عن أنس رضي الله عنه: "أّن خيّاطًا
دعا رسول الله ﷺ لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله ﷺ إلى ذلك الطعام، فقرّبَ
إلى رسول الله ﷺ خبزًا من شعير ومَرَقًا فيه دُبَّاءٌ وقَديد، قال أنس: فرأيت رسول
الله ﷺ يتتبّعُ الدّباء من حوالي الصَّحْفَة، فلم أزل أحبُّ الدُّبّاء من يومئذ".
والدباء هو اليقطين وهو القرع. أما القديد فهو اللحم المُقدَّد المُشرَّح
المُملّح، يقطع طوالًا ويملّح ويجفف في الشمس، وفائدة الملح أن يخرج الرطوبة من
اللحم سريعًا، ويُعلّق في مكان جافٍّ حتى لا تدركه العفونة، وتبقى بعض بكتيريا
نافعة تنضج اللحم على الوقت الطويل. وهي تقنية للطعام قديمة عند أكثر الشعوب.
76.
البخاري ( 5155
) ومسلم ( 1427 )
77.
مسلم (315)
78.
ولعلّه الثور
الوحشي، وهو من أطيب الصيد عند العرب.
79.
البخاري (2792)
ومسلم (2792)
80.
أي يقلّبها
ويميلها بيده لإصلاحها وإنضاجها.
81.
وتسمّى خبزة
الملّة.
82.
أي ضيافة لهم حين
ينزلونها.
83.
أي: اليهودي.
84.
أي: ما يؤكل به
الخبز.
85.
أي: اليهودي.
86.
ولعل الثور وفي مصابيح الجامع للبدر
الدماميني (٩/٤٤٩): "حكى السفاقسي عن الخطابي أنه قال: أما النونُ، فهو
الحوت، وأما بالامٌ، فإنّه شيء مبهَم دلَّ الجوابُ من اليهودي على أنه اسمٌ للثور،
وهو ما لم ينتظم، فيشبه أن يكون اليهودي أرادَ أن يعمِّي الاسمَ بتقطيع الهجاء،
وقدَّمَ أحدَ الحرفين، فقال: بالام، وإنّما هو في حق الترتيب؛ لا با هجاء لأى على
وزن لَعى؛ أي: ثور، فصحَّفَ فيه الرواية: «بالام»، فأشكلَ واستبهمَ. قال: وهذا
أقربُ ما يقع لي فيه، إلّا أن يكون ذلك بغير لسان العرب، فإن المخبِرَ يهوديٌّ،
فلا يبعد أن يكون إنما عَبَّرَ عنه بلسانه". أهـ. قلت: وقد أخبر صلى الله
عليهم وسلم بتحفتهم في حديث ثوبان رضي الله عنه الثابت في مسلم (٣١٥) في سؤالات
اليهودي، وإجابات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: «تحفتهم يوم يدخلون
الجنة زيادةُ كبد النون». قال: ما غذاؤهم على إثرها؟ قال: «يُنحر لهم ثور
الجنة، الذي كان يأكل من أطرافها» قال: فما شرابهم على إثرها؟ قال: «من عين
فيها تسمى سلسبيلًا». ولا يبعد أن يكون الثور هو بقر الوحش الذي يسمّى المها
والوضيحي، فهو من شُرَّدِ الصيد، وتستطيبه العرب جدًّا، وإن كان هو والحوت من
حيوان الجنة الذي ليس في الدنيا منهما سوى الاسم، وبالله التوفيق.
87.
الفتح (9 / 556)
88.
تهذيب الحلية (٣/ ٣٥)
89.
موسوعة ابن أبي الدنيا (٥/ ١٩١)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق